فتح القدير - ج ٣

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٣

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٧

التصديق ، والشك والارتياب موضع اليقين والاطمئنان (إِلَّا خَساراً) أي : هلاكا ؛ لأن سماع القرآن يغيظهم ويحنقهم ويدعوهم إلى زيادة ارتكاب القبائح تمرّدا وعنادا ، فعند ذلك يهلكون ؛ وقيل : الخسار : النقص ، كقوله : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) (١) ثم نبّه سبحانه على فتح بعض ما جبل عليه الإنسان من الطبائع المذمومة فقال : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ) أي : على هذا الجنس بالنعم التي توجب الشكر كالصحة والغنى (أَعْرَضَ) عن الشكر لله والذكر له (وَنَأى بِجانِبِهِ) النأي : البعد ، والباء للتعدية أو للمصاحبة ، وهو تأكيد للإعراض ، لأن الإعراض عن الشيء هو أن يوليه عرض وجهه ، أي : ناحيته ، والنأي بالجانب أن يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره ، ولا يبعد أن يراد بالإعراض هنا الإعراض عن الدعاء والابتهال الذي كان يفعله عند نزول البلوى والمحنة به ، ويراد بالنأي بجانبه التكبر والبعد بنفسه عن القيام بحقوق النعم. وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان وأبو جعفر «ناء» مثل باغ بتأخير الهمزة على القلب ، وقرأ حمزة «نئي» بإمالة الفتحتين ، ووافقه الكسائي ، وأمال شعبة والسوسي الهمزة فقط. وقرأ الباقون بالفتح فيهما. (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) من مرض أو فقر (كانَ يَؤُساً) شديد اليأس من رحمة الله ؛ والمعنى : أنه إن فاز بالمطلوب الدنيوي ، وظفر بالمقصود نسي المعبود ، وإن فاته شيء من ذلك استولى عليه الأسف ، وغلب عليه القنوط ، وكلتا الخصلتين قبيحة مذمومة ، ولا ينافي ما في هذه الآية قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) (٢) ونظائره ، فإن ذلك شأن بعض آخر منهم غير البعض المذكور في هذه الآية ، ولا يبعد أن يقال لا منافاة بين الآيتين فقد يكون مع شدة يأسه وكثرة قنوطه كثير الدعاء بلسانه (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) الشاكلة قال الفراء : الطريقة ، وقيل : الناحية ، وقيل : الطبيعة ، وقيل : الدين ، وقيل : النية ، وقيل : الجبلّة ، وهي مأخوذة من الشكل ، يقال : لست على شكلي ولا على شاكلتي ، والشكل : هو المثل والنظير. والمعنى : أن كل إنسان يعمل على ما يشاكل أخلاقه التي ألفها ، وهذا ذمّ للكافر ومدح للمؤمن (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) لأنه الخالق لكم العالم بما جبلتم عليه من الطبائع وما تباينتم فيه من الطرائق ، فهو الذي يميز بين المؤمن الذي لا يعرض عند النعمة ولا ييأس عند المحنة ، وبين الكافر الذي شأنه البطر للنعم والقنوط عند النقم. ثم لما انجرّ الكلام إلى ذكر الإنسان وما جبل عليه ، ذكر سبحانه سؤال السائلين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الروح فقال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) قد اختلف الناس في الروح المسؤول عنه ، فقيل : هو الروح المدبّر للبدن الذي تكون به حياته ، وبهذا قال أكثر المفسرين. قال الفراء : الروح الذي يعيش به الإنسان لم يخبر الله سبحانه به أحدا من خلقه ، ولم يعط علمه أحدا من عباده ، فقال : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) أي : إنكم لا تعملونه ، وقيل : الروح المسؤول عنه جبريل ، وقيل : عيسى ، وقيل : القرآن ، وقيل : ملك من الملائكة عظيم الخلق ، وقيل : خلق كخلق بني آدم ، وقيل غير ذلك مما لا طائل تحته ولا فائدة في إيراده ، والظاهر القول الأوّل ، وسيأتي ذكر سبب نزول هذه الآية ، وبيان السائلين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الروح ، ثم الظاهر أن السؤال عن حقيقة الروح ، لأن معرفة حقيقة الشيء أهمّ وأقدم من معرفة حال من أحواله ، ثم

__________________

(١). التوبة : ١٢٥.

(٢). فصلت : ٥١.

٣٠١

أمره سبحانه أن يجيب على السائلين له عن الروح فقال : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) من بيانية ، والأمر الشأن ، والإضافة للاختصاص ، أي : هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأشياء التي لم يعلم بها عباده ؛ وقيل : معنى (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) من وحيه وكلامه لا من كلام البشر ؛ وفي هذه الآية ما يزجر الخائضين في شأن الرّوح المتكلّفين لبيان ما هيئته وإيضاح حقيقته أبلغ زجر ، ويردعهم أعظم ردع ، وقد أطالوا المقال في هذا البحث بما لا يتمّ له المقام ، وغالبه بل كلّه من الفضول الذي لا يأتي بنفع في دين ولا دنيا.

وقد حكى بعض المحقّقين أنّ أقوال المختلفين في الروح بلغت إلى ثمانية عشر ومائة قول ، فانظر إلى هذا الفضول الفارغ والتعب العاطل عن النفع ، بعد أن علموا أن الله سبحانه قد استأثر بعلمه ، ولم يطلع عليه أنبياءه ، ولا أذن لهم بالسؤال عنه ولا البحث عن حقيقته ، فضلا عن أممهم المقتدين بهم ، فيا لله العجب حيث تبلغ أقوال أهل الفضول إلى هذا الحدّ الذي لم تبلغه ولا بعضه في غير هذه المسألة مما أذن الله بالكلام فيه ، ولم يستأثر بعلمه. ثم ختم سبحانه هذه الآية بقوله سبحانه : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) أي : إن علمكم الذي علمكم الله ، ليس إلا المقدار القليل بالنسبة إلى علم الخالق سبحانه ، وإن أوتي حظا من العلم وافرا ، بل علم الأنبياء عليهم‌السلام ليس هو بالنسبة إلى علم الله سبحانه إلا كما يأخذ الطائر في منقاره من البحر ، كما في حديث موسى والخضر عليهما‌السلام.

وقد أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن ابن مسعود قال : دلوك الشمس غروبها ، تقول العرب إذا غربت الشمس : دلكت الشمس. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي قال : دلوكها : غروبها. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس ، قال : (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) لزوال الشمس ، وأخرج البزار وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دلوك الشمس زوالها» وضعّف السيوطي إسناده. وأخرجه مالك في الموطأ وعبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عمر من قوله. وأخرج عبد الرزاق عنه قال : «دلوك الشمس زياغها بعد نصف النهار». وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير عن ابن عباس قال : دلوكها : زوالها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عنه في قوله : (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) قال : إذا فاء الفيء. وأخرج ابن جرير عن أبي مسعود وعقبة بن عمرو قالا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلّى بي الظهر». وأخرج ابن جرير عن أبي برزة الأسلمي قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي الظهر إذا زالت الشمس ، ثم تلا (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ). وأخرج ابن مردويه من حديث أنس نحوه ، مما يستشهد به على أن الدلوك الزوال وسط النهار ما أخرجه ابن جرير عن جابر قال دعوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن شاء من أصحابه يطعمون عندي ، ثم خرجوا حين زالت الشمس ، فخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «اخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشّمس» ، وفي إسناده رجل مجهول ، ولكنه أخرجه عنه من طريق أخرى عن سهل بن بكار عن أبي عوانة عن الأسود بن قيس عن نبيح العنزي عن جابر فذكر نحوه مرفوعا. وأخرج الطبراني عن

٣٠٢

ابن مسعود في قوله : (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) قال : إلى العشاء الآخرة. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال : (غَسَقِ اللَّيْلِ) اجتماع الليل وظلمته. وأخرج ابن جرير عنه قال : (غَسَقِ اللَّيْلِ) بدوّ الليل. وأخرج عبد الرزاق عن أبي هريرة قال : دلوك الشمس إذا زالت الشمس عن بطن السماء ، وغسق الليل غروب الشمس.

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) قال : صلاة الصبح. وأخرج أحمد ، والترمذي وصحّحه ، والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) قال : «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار تجتمع فيها» ، وهو في الصحيحين عنه مرفوعا بلفظ : «تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر» ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً). وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والطبراني عن ابن مسعود موقوفا نحوه. وأخرج الحكيم الترمذي وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) قال : «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار». وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (نافِلَةً لَكَ) يعني خاصة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أمر بقيام الليل وكتب عليه. وأخرج الطبراني في الأوسط ، والبيهقي في سننه ، عن عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ثلاث هنّ عليّ فرائض وهنّ لكم سنة : الوتر ، والسواك ، وقيام الليل». وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي أمامة في قوله : (نافِلَةً لَكَ) قال : كانت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نافلة ولكم فضيلة ، وفي لفظ : إنما كانت النافلة خاصة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج أحمد ، والترمذي وحسّنه ، وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) وسئل عنه ، قال : «هو المقام المحمود الذي أشفع فيه لأمتي». وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يبعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تلّ ، ويكسوني ربي حلّة خضراء ، ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول ، فذلك المقام المحمود». وأخرج البخاري وغيره عن ابن عمر قال : إن كل أمة يوم القيامة تتبع نبيها ، يقولون : يا فلان اشفع ، يا فلان اشفع ، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذلك يوم يبعثه الله مقاما محمودا. وأخرج عنه نحوه مرفوعا ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدّا ثابتة في الصحيحين وغيرهما فلا نطيل بذكرها ، ومن رام الاستيفاء نظر في أحاديث الشفاعة في الأمهات (١) وغيرها. وأخرج الطبراني في قوله : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) قال : يجلسه فيما بينه وبين جبريل ويشفع لأمته ، فذلك المقام المحمود. وأخرج الديلمي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «(عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) قال : يجلسني معه على السرير» وينبغي الكشف عن إسناد هذين الحديثين.

__________________

(١). الصواب أن يقول : الأمّات.

٣٠٣

وأخرج أحمد ، والترمذي وصحّحه ، وابن جرير وابن المنذر والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي ، والضياء في المختارة ، عن ابن عباس قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ثم أمر بالهجرة ، فأنزل الله (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) وأخرج الحاكم وصحّحه ، والبيهقي في الدلائل ، عن قتادة في قوله : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي) الآية قال : أخرجه الله من مكة مخرج صدق ، وأدخله المدينة مدخل صدق. قال : وعلم نبي الله أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان فسأل سلطانا نصيرا لكتاب الله وحدوده وفرائضه ولإقامة كتاب الله ، فإن السلطان عزة من الله جعلها بين أظهر عباده ، ولو لا ذلك لأغار بعضهم على بعض ، وأكل شديدهم ضعيفهم. وأخرج الخطيب عن عمر بن الخطاب قال : والله لما يزع الله بالسلطان أعظم ممّا يزع بالقرآن. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال : «دخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب ، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)(جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) (١) وفي الباب أحاديث. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (وَنَأى بِجانِبِهِ) قال : تباعد.

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (كانَ يَؤُساً) قال : قنوطا ، وفي قوله : (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) قال : على ناحيته. وأخرج هناد وابن المنذر عن الحسن قال : (عَلى شاكِلَتِهِ) على نيته. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال : «كنت أمشي مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خرب المدينة وهو متكئ على عسيب ، فمرّ بقوم من اليهود فقال بعضهم لبعض : اسألوه عن الروح ، فقال بعضهم : لا تسألوه ، فقالوا : يا محمد ما الروح؟ فما زال متّكئا على العسيب فظننت أنه يوحى إليه ، فقال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)». وأخرج أحمد ، والترمذي وصحّحه ، والنسائي وابن المنذر وابن حبان ، وأبو الشيخ في العظمة ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس قال : قالت قريش لليهود أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل ، قالوا : سلوه عن الروح ، فنزلت (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) قالوا : أوتينا علما كثيرا ، أوتينا التوراة ، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا ، فأنزل الله : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (٢). وفي الباب أحاديث وآثار.

(وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ

__________________

(١). سبأ : ٤٩.

(٢). الكهف : ١٠٩.

٣٠٤

كُفُوراً (٨٩) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣))

لمّا بيّن سبحانه أنه ما آتاهم من العلم إلا قليلا بيّن أنه لو شاء أن يأخذ منهم هذا القليل لفعل ، فقال : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) واللام هي الموطئة ، ولنذهبن جواب القسم سادّ مسد جواب الشرط. قال الزجّاج : معناه لو شئنا لمحوناه من القلوب ومن الكتب حتى لا يوجد له أثر ، انتهى. وعبّر عن القرآن بالموصول تفخيما لشأنه (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ) أي : بالقرآن (عَلَيْنا وَكِيلاً) أي : لا تجد من يتوكل علينا في ردّ شيء منه بعد أن ذهبنا به ، والاستثناء بقوله : (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) إن كان متّصلا فمعناه إلا أن يرحمك ربك فلا نذهب به ، وإن كان منقطعا فمعناه لكن لا يشأ ذلك رحمة من ربك ، أو لكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) حيث جعلك رسولا وأنزل عليك الكتاب وصيّرك سيد ولد آدم ، وأعطاك المقام المحمود وغير ذلك مما أنعم به عليه. ثم احتجّ سبحانه على المشركين بإعجاز القرآن فقال : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) المنزل من عند الله الموصوف بالصفات الجليلة من كمال البلاغة وحسن النظم وجزالة اللفظ (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) أظهر في مقام الإضمار ، ولم يكتف بأن يقول لا يأتون به على أن الضمير راجع إلى المثل المذكور ، لدفع توهّم أن يكون له مثل معين ، وللإشعار بأن المراد نفي المثل على أي صفة كان ، وهو جواب قسم محذوف كما تدلّ عليه اللام الموطئة ، وسادّ مسدّ جواب الشرط ، ثم أوضح سبحانه عجزهم عن المعارضة سواء كان المتصدّي لها كل واحد منهم على الانفراد ، أو كان المتصدّر بها المجموع بالمظاهرة فقال : (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) أي : عونا ونصيرا ، وجواب لو محذوف ، والتقدير : ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا لا يأتون بمثله ، فثبت أنهم لا يأتون بمثله على كل حال ، وقد تقدّم وجه إعجاز القرآن في أوائل سورة البقرة في هذه الآية ردّ لما قاله الكفار : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) (١) وإكذاب لهم. ثم بيّن سبحانه أنّ الكفار مع عجزهم عن المعارضة استمروا على كفرهم وعدم إيمانهم ، فقال : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي : رددنا القول فيه بكلّ مثل يوجب الاعتبار من الآيات والعبر والترغيب والترهيب والأوامر والنواهي وأقاصيص الأوّلين والجنة والنار والقيامة (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) يعني من أهل مكة ، فإنهم جحدوا وأنكروا كون القرآن كلام الله بعد قيام الحجة عليهم ، واقترحوا من الآيات ما ليس لهم ، وأظهر في مقام الإضمار حيث قال : (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ) توكيدا أو توضيحا ، ولما كان أبى مؤوّلا بالنفي ، أي : ما قبل أو لم يرض صحّ الاستثناء منه قوله : (إِلَّا كُفُوراً وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) أي : قال رؤساء مكة كعتبة وشيبة ابني ربيعة

__________________

(١). الأنفال : ٣١.

٣٠٥

وأبي سفيان والنضر بن الحارث ، ثم علّقوا نفي إيمانهم بغاية طلبوها فقالوا : (حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) قرأ حمزة والكسائي وعاصم «حتى تفجر» مخففا مثل تقتل. وقرأ الباقون بالتشديد ، ولم يختلفوا في (فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ) أنها مشدّدة ، ووجّه ذلك أبو حاتم بأن الأولى بعدها ينبوع وهو واحد ، والثانية بعدها الأنهار وهي جمع. وأجيب عنه بأن الينبوع وإن كان واحدا في اللفظ فالمراد به الجمع ، فإن الينبوع العيون التي لا تنضب. ويردّ بأن الينبوع عين الماء والجمع الينابيع ، وإنما يقال للعين ينبوع إذا كانت غزيرة من شأنها النبوع من غير انقطاع ، والياء زائدة كيعبوب من عبّ الماء (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ) أي : بستان تستر أشجاره أرضه. والمعنى : هب أنك لا تفجر الأنهار لأجلنا ففجرها من أجلك بأن تكون لك جنة (مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ) أي : تجريها بقوة (خِلالَها تَفْجِيراً) أي : وسطها تفجيرا كثيرا (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) قرأ مجاهد (أَوْ تُسْقِطَ) مسندا إلى السماء. وقرأ من عداه (أَوْ تُسْقِطَ) على الخطاب ، أي : أو تسقط أنت يا محمد السماء. والكسف بفتح السين جمع كسفة ، وهي قراءة نافع وابن عامر وعاصم ، والكسفة : القطعة. وقرأ الباقون (كِسَفاً) بإسكان السّين. قال الأخفش : من قرأ بإسكان السين جعله واحدا ومن قرأ بفتحها جعله جمعا. قال المهدوي : ويجوز أن يكون على قراءة السكون جمع كسفة ، ويجوز أن يكون مصدرا. قال الجوهري : الكسفة القطعة من الشيء ، يقال : أعطني كسفة من ثوبك ، والجمع كسف وكسف ، ويقال : الكسف والكسفة واحد ، وانتصاب كسفا على الحال ، والكاف في كما زعمت في محل نصب على أنه صفة مصدر محذوف ، أي : إسقاطا مماثلا لما زعمت ، يعنون بذلك قول الله سبحانه : (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) (١). قال أبو علي : الكسف : بالسكون ؛ الشيء المقطوع ، كالطحن للمطحون ، واشتقاقه على ما قال أبو زيد من كسفت الثوب كسفا إذا قطعته. وقال الزجّاج : من كسفت الشيء إذا غطّيته ، كأنه قيل : أو تسقطها طبقا علينا (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً).

اختلف المفسرون في معنى (قَبِيلاً) فقيل : معناه : معاينة ، قاله قتادة وابن جريج ، واختاره أبو علي الفارسي فقال : إذا حملته على المعاينة كان القبيل مصدرا كالنكير والنذير. وقيل : معناه كفيلا ، قاله الضحّاك ، وقيل : شهيدا ، قاله مقاتل ، وقيل : هو جمع القبيلة ، أي : تأتي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة ، قاله مجاهد وعطاء ، وقيل : ضمنا ، وقيل : مقابلا كالعشير والمعاشر (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) أي : من ذهب ، وبه قرأ ابن مسعود ، وأصله الزينة ، والمزخرف : المزيّن ، وزخارف الماء : طرائقه. وقال الزجاج : هو الزينة ، فرجع إلى الأصل معنى الزخرف ، وهو بعيد لأنه يصير المعنى : أو يكون لك بيت من زينة (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) أي : تصعد في معارجها ، يقال : رقيت في السلم إذا صعدت وارتقيت مثله. (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ) أي : لأجل رقيك ، وهو مصدر نحو مضى يمضي مضيا وهوى يهوي هويا (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) أي حتى تنزل علينا من السماء كتابا يصدقك ويدل على نبوّتك نقرؤه جميعا ، أو يقرؤه

__________________

(١). سبأ : ٩.

٣٠٦

كل واحد منا ، وقيل : معناه : كتابا من الله إلى كل واحد منا كما في قوله : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) (١) فأمر سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتي بما يفيد التعجب من قولهم ، والتنزيه للربّ سبحانه عن اقتراحاتهم القبيحة فقال : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي) أي : تنزيها لله عن أن يعجز عن شيء. وقرأ أهل مكة والشام «قال سبحان ربي» يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً) من البشر لا ملكا حتى أصعد السماء (رَسُولاً) مأمورا من الله سبحانه بإبلاغكم ، فهل سمعتم أيها المقترحون لهذه الأمور أن بشرا قدر على شيء منها؟ وإن أردتم أنّي أطلب ذلك من الله سبحانه حتى يظهرها على يدي ، فالرسول إذا أتى بمعجزة واحدة كفاه ذلك ، لأنّ بها يتبيّن صدقه ، ولا ضرورة إلى طلب الزيادة ، وأنا عبد مأمور ليس لي أن أتحكّم على ربي بما ليس بضروري ، ولا دعت إليه حاجة ، ولو لزمتني الإجابة لكل متعنّت لاقترح كلّ معاند في كل وقت اقتراحات ، وطلب لنفسه إظهار آيات ، فتعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا ، وتنزّه عن تعنتاتهم ، وتقدّس عن اقتراحاتهم.

وقد أخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن مسعود قال : إن هذا القرآن سيرفع ، قيل : كيف يرفع وقد أثبته الله في قلوبنا وأثبتناه في المصاحف؟ قال : يسرى عليه في ليلة واحدة فلا يترك منه آية في قلب ولا مصحف إلا رفعت ، فتصبحون وليس فيكم منه شيء ، ثم قرأ : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) وقد روي عنه هذا من طرق. وأخرج ابن عديّ عن أبي هريرة مرفوعا نحوه. وأخرج محمد بن نصر عن عبد الله بن عمرو نحوه موقوفا. وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن معاذ بن جبل مرفوعا نحوه أيضا. وأخرج ابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، عن أبي هريرة موقوفا نحوه أيضا. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن حذيفة بن اليمان مرفوعا نحوه أيضا. وأخرج ابن مردويه عن جابر مرفوعا نحوه أيضا. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن عمر مرفوعا نحوه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : «أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم محمود بن سيحان ونعيمان بن أحي (٢) وبحري بن عمرو وسلام بن مشكم ، فقالوا : أخبرنا يا محمد بهذا الذي جئت به أحق من عند الله ، فإنا لا نراه متناسقا كما تناسق التوراة؟ فقال لهم : والله إنكم لتعرفونه أنه من عند الله ، قالوا : إنا نجيئك بمثل ما تأتي به ، فأنزل الله : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ)» الآية. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب ، ورجلا من بني عبد الدار وأبا البختري أخا بني أسيد والأسود ابن عبد المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيها ومنبها ابني الحجاج السهميين اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ، فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه ، وذكر حديثا طويلا يشتمل على ما سألوه عنه وتعنتوه ، وأن ذلك كان سبب نزول قوله : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) إلى قوله : (بَشَراً رَسُولاً). وإسناده عند

__________________

(١). المدثر : ٥٢.

(٢). كذا في الدر المنثور. وفي ابن جرير : عمر بن أضا.

٣٠٧

ابن جرير هكذا : حدّثنا أبو كريب حدّثنا يونس بن بكير حدّثنا محمد بن إسحاق حدّثني شيخ من أهل مصر ، قدم منذ بضع وأربعين سنة ، عن عكرمة عن ابن عباس فذكره ، ففيه هذا الرجل المجهول.

وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) قال : نزلت في أخي أمّ سلمة عبد الله بن أبي أمية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : (يَنْبُوعاً) قال : عيونا. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال : الينبوع هو النهر الذي يجري من العين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ) يقول : ضيعة. وأخرج ابن جرير عنه (كِسَفاً) قال : قطعا. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا : (قَبِيلاً) قال : عيانا. وأخرج ابن جرير عنه أيضا : (مِنْ زُخْرُفٍ) قال : من ذهب. وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري وأبو نعيم عن مجاهد قال : لم أكن أحسن ما الزخرف؟ حتى سمعتها في قراءة عبد الله أو يكون لك بيت من ذهب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : (كِتاباً نَقْرَؤُهُ) قال : من ربّ العالمين إلى فلان بن فلان. يصبح عند كل رجل صحيفة عند رأسه موضوعة يقرؤها.

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠))

حكى سبحانه عنهم شبهة أخرى ، قد تكرر في الكتاب العزيز التعرّض لإيرادها وردّها في غير موضع ، فقال : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) المراد الناس على العموم ، وقيل : المراد أهل مكة على الخصوص ، أي : ما منعهم الإيمان بالقرآن والنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو المفعول الثاني لمنع ؛ ومعنى (إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) أنه جاءهم الوحي من الله سبحانه على رسوله ، وبيّن ذلك لهم وأرشدهم إليه ، وهو ظرف لمنع أو يؤمنوا ، أي : ما منعهم وقت مجيء الهدى أن يؤمنوا بالقرآن والنبوّة (إِلَّا أَنْ قالُوا) أي : ما منعهم إلا قولهم ، فهو في محل رفع على أنه فاعل منع ، والهمزة في (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) للإنكار منهم أن يكون الرسول بشرا ، والمعنى : أن هذا الاعتقاد الشامل لهم ، وهو إنكار أن يكون الرسول من جنس البشر ، هو الذي منعهم عن

٣٠٨

الإيمان بالكتاب وبالرسول ، وعبّر عنه بالقول للإشعار بأنه ليس إلا مجرد قول قالوه بأفواههم ، ثم أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجيب عن شبهتهم هذه ، فقال : (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ) أي : لو وجد وثبت أن في الأرض بدل من فيها من البشر ملائكة يمشون على الأقدام كما يمشي الإنس مطمئنين مستقرين فيها ساكنين بها. قال الزجّاج : مطمئنين : مستوطنين في الأرض ، ومعنى الطمأنينة السكون ، فالمراد هاهنا المقام والاستيطان ، فإنه يقال سكن البلد فلان إذا أقام فيها وإن كان ماشيا متقلّبا في حاجاته (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) حتى يكون من جنسهم ، وفيه إعلام من الله سبحانه بأن الرسل ينبغي أن تكون من جنس المرسل إليهم ، فكأنّه سبحانه اعتبر في تنزيل الرسول من جنس الملائكة أمرين : الأوّل : كون سكان الأرض ملائكة. والثاني : كونهم ماشين على الأقدام غير قادرين على الطيران بأجنحتهم إلى السماء ، إذ لو كانوا قادرين على ذلك لطاروا إليها ، وسمعوا من أهلها ما يجب معرفته وسماعه ، فلا يكون في بعثة الملائكة إليهم فائدة. وانتصاب بشرا وملكا على أنهما مفعولان للفعلين ، ورسولا في الموضعين وصف لهما. وجوّز صاحب الكشاف أن يكونا حالين في الموضعين من رسولا فيهما وقوّاه صاحب الكشاف ، ولعل وجه ذلك أن الإنكار يتوجه إلى الرسول المتصف بالبشرية في الموضع الأوّل ، فيلزم بحكم التقابل أن يكون الآخر كذلك ، ثم ختم الكلام بما يجري مجرى التهديد ، فقال : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي : قل لهم يا محمد من جهتك كفى بالله وحده شهيدا على إبلاغي إليكم ما أمرني به من أمور الرسالة ، وقال بيني وبينكم ، ولم يقل بيننا ، تحقيقا للمفارقة الكلية ؛ وقيل : إن إظهار المعجزة على وفق دعوى النبيّ شهادة من الله له على الصدق ، ثم علّل كونه سبحانه شهيدا كافيا بقوله : (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) أي : عالما بجميع أحوالهم محيطا بظواهرها وبواطنها بصيرا بما كان منها وما يكون ، ثم بيّن سبحانه أن الإقرار والإنكار مستندان إلى مشيئته فقال : (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) أي : من يرد الله هدايته فهو المهتدي إلى الحق أو إلى كل مطلوب (وَمَنْ يُضْلِلْ) أي : يرد إضلاله (فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ) ينصرونهم (مِنْ دُونِهِ) يعني الله سبحانه ويهدونهم إلى الحق الذي أضلّهم الله عنه أو إلى طريق النجاة ، وقوله : (فَهُوَ الْمُهْتَدِ) حملا على لفظ من ، وقوله : (فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ) حملا على المعنى ، والخطاب في قوله : فلن تجد إما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لكلّ من يصلح له (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) هذا الحشر على الوجوه فيه وجهان للمفسرين : الأوّل : أنه عبارة عن الإسراع بهم إلى جهنم ، من قول العرب : قد مرّ القوم على وجوههم ؛ إذا أسرعوا. الثاني : أنهم يسحبون يوم القيامة على وجوههم حقيقة كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في إهانته وتعذيبه ، وهذا هو الصحيح ، لقوله تعالى : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) (١) ، ولما صحّ في السّنّة كما سيأتي ، ومحل على وجوههم النصب على الحال من ضمير المفعول و (عُمْياً) منتصب على الحال (وَبُكْماً وَصُمًّا) معطوفان عليه ، والأبكم : الذي لا ينطق ، والأصمّ : الذي لا يسمع ، وهذه هيئة يبعثون عليها في أقبح صورة ، وأشنع منظر ، قد جمع الله لهم بين عمى البصر وعدم النطق وعدم السمع مع كونهم مسحوبين على وجوههم ، ثم من وراء ذلك

__________________

(١). القمر : ٤٨.

٣٠٩

(مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) أي : المكان الذي يأوون إليه ، والجملة في محل نصب على الحال أو هي مستأنفة لا محل لها (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) أي : كلما سكن لهبها ، يقال : خبت النار تخبو خبوا : إذا خمدت وسكن لهبها. قال ابن قتيبة : ومعنى (زِدْناهُمْ سَعِيراً) تسعرا ، وهو التلهب. وقد قيل : إن في خبوّ النار تخفيفا لعذاب أهلها ، فكيف يجمع بينه وبين قوله : (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) (١)؟ وأجيب بأن المراد بعدم التخفيف أنه لا يتخلل زمان محسوس بين الخبوّ والتسعر ؛ وقيل : إنها تخبو من غير تخفيف عنهم من عذابها (ذلِكَ) أي : العذاب (جَزاؤُهُمْ) الذي أوجبه الله لهم واستحقوه عنده ، والباء في قوله : (بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا) للسببية ، أي : بسبب كفرهم بها فلم يصدّقوا بالآيات التنزيلية ولا تفكّروا في الآيات التكوينية ، واسم الإشارة مبتدأ وخبره جزاؤهم ، وبأنهم كفروا خبر آخر ، ويجوز أن يكون جزاؤهم مبتدأ ثانيا ، وخبره ما بعده ، والجملة خبر المبتدأ الأوّل (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) الهمزة للإنكار ، وقد تقدّم تفسير الآية في هذه السورة ، وخلقا في قوله : (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) مصدر من غير لفظه أو حال ، أي : مخلوقين. فجاء سبحانه بحجّة تدفعهم عن الإنكار وتردّهم عن الجحود. فقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) أي : من هو قادر على خلق هذا ، فهو على إعادة ما هو أدون منه أقدر ، وقيل : المراد أنه قادر على إفنائهم وإيجاد غيرهم ، وعلى القول الأوّل يكون الخلق بمعنى الإعادة ، وعلى هذا القول هو على حقيقته ، وجملة (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ) عطف على أو لم يروا ، والمعنى : قد علموا بدليل العقل أن من قدر على خلق السموات والأرض فهو قادر على خلق أمثالهم ، لأنهم ليسوا بأشدّ خلقا منهنّ كما قال : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) (٢). (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ) وهو الموت أو القيامة ، ويحتمل أن تكون الواو للاستئناف ، وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، أي : أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ، وجعل لهم أجلا لا ريب فيه ، قادر على أن يخلق مثلهم (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) أي : أبى المشركون إلا جحودا ، وفيه وضع الظاهر موضع المضمر للحكم عليهم بالظلم ومجاوزة الحدّ ؛ ثم لما وقع من هؤلاء الكفار طلب إجراء الأنهار والعيون في أراضيهم لتتّسع معايشهم ، بيّن الله سبحانه أنهم لا يقنعون ، بل يبقون على بخلهم وشحّهم ، فقال : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) أنتم مرتفع على أنه فاعل فعل محذوف يفسره ما بعده ، أي : لو تملكون أنتم تملكون ، على أن الضمير المنفصل مبدل من الضمير المتصل وهو الواو ، وخزائن رحمته سبحانه : هي خزائن الأرزاق. قال الزجّاج : أعلمهم الله أنهم لو ملكوا خزائن الأرزاق لأمسكوا شحّا وبخلا ، وهو خشية الإنفاق ، أي : خشية أن ينفقوا فيفتقروا ، وفي حذف الفعل الذي ارتفع به أنتم ، وإيراد الكلام في صورة المبتدأ والخبر دلالة على أنهم هم المختصّون بالشحّ. قال أهل اللغة : أنفق وأصرم وأعدم وأقتر ؛ بمعنى قلّ ماله ، فيكون المعنى : لأمسكتم خشية قلّ المال (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) أي : بخيلا مضيّقا عليه. يقال : قتر على عياله يقتر ويقتر قترا وقتورا : ضيّق عليهم في النفقة ، ويجوز أن يراد (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) أي : قليل المال ، والظاهر أن المراد المبالغة في وصفه بالشحّ ، لأن الإنسان ليس

__________________

(١). البقرة : ١٦٢.

(٢). النازعات : ٢٧.

٣١٠

بقليل المال على العموم. بل بعضهم كثير المال ، إلا أن يراد أن جميع النوع الإنساني قليل المال بالنسبة إلى خزائن الله وما عنده. وقد اختلف في هذه الآية على قولين : أحدهما : أنها نزلت في المشركين خاصة ، وبه قال الحسن ، والثاني : أنها عامة ، وهو قول الجمهور ، حكاه الماوردي.

وقد أخرج ومسلم وغيرهما عن أنس قال : «قيل : يا رسول الله ؛ كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال : الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم». وأخرج أبو داود ، والترمذي وحسّنه ، وابن جرير وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة. قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف : صنف مشاة ، وصنف ركبانا ، وصنف على وجوههم» ثم ذكر نحو حديث أنس. وفي الباب أحاديث. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، في قوله : (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) قال : يعني أنهم وقودها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عنه في قوله : (كُلَّما خَبَتْ) قال : سكنت. وأخرج هؤلاء عنه أيضا في الآية قال : كلما أحرقتهم سعرتهم حطبا ، فإذا أحرقتهم فلم يبق منهم شيء صارت جمرا تتوهّج فذلك خبوها ، فإذا بدّلوا خلقا جديدا عاودتهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله : (خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) قال : الرزق. وأخرج أيضا عن عكرمة في قوله : (إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) قال : إذا ما أطعمتم أحدا شيئا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) قال : الفقر (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) قال : بخيلا. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة (خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) قال : خشية الفاقة (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) قال : بخيلا ممسكا.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩))

قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ) أي : علامات دالّة على نبوّته. قيل : ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن المعجزات المذكورة كأنها مساوية لتلك الأمور التي اقترحها كفّار قريش ، بل أقوى منها ، فليس عدم الاستجابة لما طلبوه من الآيات إلا لعدم المصلحة في استئصالهم إن لم يؤمنوا بها قال أكثر المفسرين : الآيات التسع : هي الطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والعصا ، واليد ، والسنين ، ونقص الثمرات. وجعل الحسن مكان السنين ونقص الثمرات : البحر والجبل. وقال محمد بن كعب القرظي : هي

٣١١

الخمس التي في الأعراف ، والبحر ، والعصا ، والحجر ، والطمس على أموالهم. وقد تقدم الكلام على هذه الآيات مستوفى ، وسيأتي حديث صفوان بن عسال في تعداد هذه الآيات التسع. (فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) قرأ ابن عباس وابن نهيك «فسئل» على الخبر ، أي : سأل موسى فرعون أن يخلي بني إسرائيل ويطلق سبيلهم ويرسلهم معه ، وقرأ الآخرون (فَسْئَلْ) على الأمر ، أي : سلهم يا محمد حين (جاءَهُمْ) موسى ، والسؤال سؤال استشهاد لمزيد الطمأنينة والإيقان ؛ لأن الأدلة إذا تضافرت كان ذلك أقوى ، والمسؤولون مؤمنو بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وأصحابه (فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) الفاء هي الفصيحة ، أي فأظهر موسى عند فرعون ما آتيناه من الآيات البينات وبلغه ما أرسل به فقال له فرعون. المسحور : الذي سحر فخولط عقله. وقال أبو عبيدة والفراء : هو بمعنى الساحر ، فوضع المفعول موضع الفاعل ، ف (قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ) يعني الآيات التي أظهرها ، وأنزل بمعنى أوجد (إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) أي : دلالات يستدلّ بها على قدرته ووحدانيته ، وانتصاب بصائر على الحال. قرأ الكسائي بضمّ التاء من علمت على أنها لموسى ، وروي ذلك عن عليّ ، وقرأ الباقون بفتحها على الخطاب لفرعون. ووجه القراءة الأولى أن فرعون لم يعلم ذلك ، وإنما علمه موسى. ووجه قراءة الجمهور أن فرعون كان عالما بذلك كما قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (١) قال أبو عبيد : المأخوذ به عندنا فتح التاء ، وهو الأصح للمعنى ، لأن موسى لا يقول علمت أنا وهو الداعي ، وروي نحو هذا عن الزجاج (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) الظنّ هنا بمعنى اليقين ، والثبور : الهلاك والخسران. قال الكميت :

ورأت قضاعة في الأيا

من رأي مثبور وثابر

أي : مخسور وخاسر ، وقيل : المثبور : الملعون ، ومنه قول الشاعر (٢) :

يا قومنا لا تروموا حربنا سفها

إنّ السّفاه وإن البغي مثبور

أي : ملعون ، وقيل : المثبور : ناقص العقل ، وقيل : هو الممنوع من الخير ، يقال : ما ثبرك عن كذا ؛ ما منعك منه ، حكاه أهل اللغة ، وقيل : المسحور (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي : أراد فرعون أن يخرج بني إسرائيل وموسى ويزعجهم من الأرض ، يعني أرض مصر بإبعادهم عنها ، وقيل : أراد أن يقتلهم وعلى هذا يراد بالأرض مطلق الأرض ، وقد تقدم قريبا معنى الاستفزاز (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) فوقع عليه وعليهم الهلاك بالغرق ، ولم يبق منهم أحدا (وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ) أي : من بعد إغراقه ومن معه ، والمراد بالأرض هنا : أرض مصر التي أراد أن يستفزّهم منها (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي : الدار الآخرة وهو القيامة ، أو الكرّة الآخرة ، أو الساعة الآخرة (جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) قال الجوهري : اللفيف ما اجتمع من الناس من قبائل شتى ، يقال : جاء القوم بلّفهم ولفيفهم ، أي : بأخلاطهم ، فالمراد هنا

__________________

(١). النمل : ١٤.

(٢). هو : أبان بن تغلب.

٣١٢

جئنا بكم من قبوركم مختلطين من كل موضع ، قد اختلط المؤمن بالكافر. قال الأصمعي : اللفيف جمع وليس له واحد ، وهو مثل الجمع (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) الضمير يرجع إلى القرآن ، ومعنى (بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) أوحيناه متلبسا بالحق ومعنى (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أنه نزل وفيه الحق ، وقيل : الباء في «وبالحق» الأول بمعنى مع ، أي : مع الحق أنزلناه ، كقولهم : ركب الأمير بسيفه ، أي : مع سيفه (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أي : بمحمد كما تقول نزلت بزيد. وقال أبو علي الفارسي : الباء في الموضعين بمعنى مع ، وقيل : يجوز أن يكون المعنى : وبالحق قدرنا أن ينزل وكذلك نزل ، أو ما أنزلناه من السماء إلا محفوظا ، وما نزل على الرسول إلا محفوظا من تخليط الشياطين ، والتقديم في الموضعين للتخصص (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) أي : مبشرا لمن أطاع بالجنة ونذيرا مخوّفا لمن عصى بالنار (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ) انتصاب قرآنا بفعل مضمر يفسره ما بعده ، قرأ علي وابن عباس وابن مسعود وأبيّ بن كعب وقتادة وأبو رجاء والشعبي (فَرَقْناهُ) بالتشديد ؛ أي : أنزلناه شيئا بعد شيء لا جملة واحدة. وقرأ الجمهور فرقناه بالتخفيف ، أي : بيناه وأوضحناه ، وفرقنا فيه بين الحق والباطل. وقال الزجاج : فرقه في التنزيل ليفهمه الناس. قال أبو عبيد : التخفيف أعجب إليّ ؛ لأن تفسيره بيناه ، وليس للتشديد معنى إلا أنه نزل متفرقا. ويؤيده ما رواه ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال : فرقت مخففا بين الكلام ، وفرقت مشددا بين الأجسام ، ثم ذكر سبحانه العلة لقوله : فرقناه ، فقال : (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) أي : على تطاول في المدّة شيئا بعد شيء على القراءة الأولى ، أو أنزلناه آية آية ، وسورة سورة. ومعناه على القراءة الثانية على مكث ، أي : على ترسل وتمهل في التلاوة ، فإن ذلك أقرب إلى الفهم وأسهل للحفظ. وقد اتفق القراء على ضم الميم في مكث إلا ابن محيصن فإنه قرأ بفتح الميم (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) التأكيد بالمصدر للمبالغة ، والمعنى : أنزلناه منجما مفرّقا لما في ذلك من المصلحة ، ولو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا ولم يطيقوا (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) أمر الله سبحانه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول للكافرين المقترحين للآيات آمنوا به أو لا تؤمنوا ، فسواء إيمانكم به وامتناعكم عنه لا يزيده ذلك ولا ينقصه. وفي هذا وعيد شديد لأمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإعراض عنهم واحتقارهم ، ثم علّل ذلك بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) أي : أن العلماء الذين قرءوا الكتب السابقة قبل إنزال القرآن ، وعرفوا حقيقة الوحي وأمارات النبوّة كزيد ابن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعبد الله بن سلام (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) أي : القرآن (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) أي : يسقطون على وجوههم ساجدين لله سبحانه. وإنما قيد الخرور ، وهو السقوط بكونه للأذقان ، أي : عليها ، لأن الذقن ، وهو مجتمع اللحيين ، أوّل ما يحاذي الأرض. قال الزجّاج : لأنّ الذقن مجتمع اللحيين ، وكما يبتدئ الإنسان بالخرور للسجود ، فأوّل ما يحاذي الأرض به من وجهه الذقن ؛ وقيل : المراد تعفير اللحية في التراب ، فإن ذلك غاية الخضوع ، وإيثار اللام في الأذقان على الدلالة على الاختصاص ، فكأنهم خصّوا أذقانهم بالخرور ، أو خصّوا الخرور بأذقانهم ؛ وقيل : الضمير في قوله : (مِنْ قَبْلِهِ) راجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأولى ما ذكرناه من رجوعه إلى القرآن لدلالة السياق على ذلك ، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وحاصلها أنه إن لم يؤمن به هؤلاء الجهال الذين لا علم عندهم ولا معرفة بكتب الله ولا بأنبيائه ، فلا تبال

٣١٣

بذلك ، فقد آمن به أهل العلم وخشعوا له وخضعوا عند تلاوته عليهم خضوعا ظهر أثره البالغ بكونهم يخرّون على أذقانهم سجدا لله (وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا) أي : يقولون في سجودهم تنزيها لربنا عما يقوله الجاهلون من التكذيب أو تنزيها له عن خلف وعده (إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) إن هذه هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة. ثم ذكر أنهم خروا لأذقانهم باكين فقال : (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ) وكرّر ذكر الخرور للأذقان لاختلاف السبب ، فإن الأول لتعظيم الله سبحانه وتنزيهه ، والثاني للبكاء بتأثير مواعظ القرآن في قلوبهم ومزيد خشوعهم ، ولهذا قال : (وَيَزِيدُهُمْ) أي : سماع القرآن ، أو القرآن بسماعهم له (خُشُوعاً) أي : لين قلب ورطوبة عين.

وقد أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (تِسْعَ آياتٍ) فذكر ما ذكرناه عن أكثر المفسرين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال : يده ، وعصاه ولسانه ، والبحر ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضّفادع ، والدم. وأخرج الطيالسي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأحمد ، والترمذي وصحّحه ، والنسائي وابن ماجة وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن قانع ، والحاكم وصحّحه ، وأبو نعيم والبيهقي وابن مردويه عن صفوان بن عسّال : «أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه : انطلق بنا إلى هذا النبيّ نسأله ، فأتياه فسألاه عن قول الله (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) فقال : لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تزنوا ، ولا تسرفوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا تسرقوا ، ولا تسحروا ، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تقذفوا محصنة. أو قال : لا تفروا من الزحف ـ شك شعبة ـ وعليكم يا يهود خاصة أن لا تعتدوا في السبت ، فقبّلا يديه ورجليه وقالا : نشهد أنك نبيّ الله ، قال : فما يمنعكما أن تسلما؟ قالا : إن داود دعا الله أن يزاد في ذريته نبيّ ، وإنا نخاف إن أسلمنا أن يقتلنا اليهود». وأخرج ابن أبي الدنيا في «ذمّ الغضب» عن أنس بن مالك أنه سئل عن قوله : (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) قال : مخالفا ، وقال : الأنبياء أكرم من أن تلعن أو تسبّ. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس (مَثْبُوراً) قال : ملعونا. وأخرج الشيرازي في الألقاب ، وابن مردويه عنه قال : قليل العقل. وأخرج ابن جرير عنه أيضا لفيفا قال : جميعا. وأخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس أنه قرأ «وقرآنا فرقناه» مثقلا قال : نزل القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر من رمضان جملة واحدة ، فكان المشركون إذا أحدثوا شيئا أحدث الله لهم جوابا ، ففرّقه الله في عشرين سنة. وقد روي نحو هذا عنه من طرق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا (فَرَقْناهُ) قال : فصّلناه على مكث بأمد (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) يقول : للوجوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) قال : كتابهم.

٣١٤

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١))

أراد سبحانه أن يعلم عباده كيفية الدعاء والخشوع فقال : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) ومعناه : أنهما مستويان في جواز الإطلاق وحسن الدعاء بهما ، ولهذا قال : (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) التنوين في «أيّا» عوض عن المضاف إليه ، وما مزيدة لتوكيد الإبهام في أيّا ، والضمير في له راجع إلى المسمّى ، وكان أصل الكلام : أيّا ما تدعوا فهو حسن ، فوضع موضعه فله الأسماء الحسنى للمبالغة ، وللدلالة على أنها إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان ، ومعنى حسن الأسماء استقلالها بنعوت الجلال والإكرام ، ذكر معنى هذا النيسابوري وتبعه أبو السعود. قال الزجاج : أعلمهم الله أن دعاءهم الله ودعاءهم الرحمن يرجعان إلى قول واحد ، وسيأتي ذكر سبب نزول الآية ، وبه يتّضح المراد منها ، ثم ذكر كيفية أخرى للدعاء فقال : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) أي : بقراءة صلاتك على حذف المضاف للعلم بأن الجهر والمخافتة من نعوت الصوت ، لا من نعوت أفعال الصلاة ، فهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء ، يقال : خفت صوته خفوتا ؛ إذا انقطع كلامه وضعف وسكن ، وخفت الزرع إذا ذبل ، وخافت الرجل بقراءته : إذا لم يرفع بها صوته ؛ وقيل : معناه : لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها ، والأوّل أولى (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ) أي : الجهر والمخافتة المدلول عليها بالفعلين (سَبِيلاً) أي : طريقا متوسطا بين الأمرين فلا تكن مجهورة ولا مخافتا بها ، وعلى التفسير الثاني يكون معنى ذلك النهي عن الجهر بقراءة الصلوات كلها ، والنهي عن المخافتة بقراءة الصلوات كلها ، والأمر بجعل البعض منها مجهورا به ، وهو صلاة الليل والمخافتة بصلاة النهار ، وذهب قوم إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) (١) ولما أمر أن لا يذكر ولا ينادى إلا بأسمائه الحسنى نبّه على كيفية الحمد له ، فقال : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) كما تقوله اليهود والنصارى ، ومن قال من المشركين إن الملائكة بنات الله ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) أي : مشارك له في ملكه وربوبيته كما تزعمه الثنوية ونحوهم من الفرق القائلين بتعدد الآلهة (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) أي : لم يحتج إلى موالاة أحد لذلّ يلحقه فهو مستغن عن الوليّ والنصير. قال الزجّاج : أي : لم يحتج أن ينتصر بغيره ، وفي التعرّض في أثناء الحمد لهذه الصفات الجليلة إيذان بأن المستحق للحمد من له هذه الصفات ، لأنّه القادر على الإيجاد وإفاضة النعم لكون الولد مجبنة ومبخلة ، ولأنه أيضا يستلزم حدوث الأب لأنه متولد من جزء من أجزائه ، والمحدث غير قادر على كمال الإنعام ، والشركة في الملك إنما تتصور لمن لا يقدر على الاستقلال به ، ومن لا يقدر على الاستقلال عاجز ، عن تمام ما هو له ، فضلا عن تمام ما هو عليه ، وأيضا الشركة موجبة للتنازع بين الشريكين ، فقد يمنعه الشريك من إفاضة الخير إلى أوليائه ، ومؤدية

__________________

(١). الأعراف : ٥٥.

٣١٥

إلى الفساد : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (١) والمحتاج إلى وليّ يمنعه من الذلّ وينصره على من أراد إذلاله ضعيف لا يقدر على ما يقدر عليه من هو مستغن بنفسه (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) أي : عظّمه تعظيما وصفه بأنه أعظم من كل شيء.

وقد أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال : «صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ذات يوم فقال في دعائه : يا الله يا رحمن ، فقال المشركون : انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن ندعو إلهين ، وهو يدعو إلهين ، فأنزل الله : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) الآية». وأخرج ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي قال : إن اليهود سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الرحمن ، وكان لهم كاهن باليمامة يسمونه الرحمن ، فنزلت الآية. وهو مرسل. وأخرج ابن جرير عن مكحول «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتهجّد بمكة ذات ليلة يقول في سجوده يا رحمن يا رحيم ، فسمعه رجل من المشركين ، فلما أصبح قال لأصحابه : إن ابن أبي كبشة يدعو الليلة الرحمن الذي باليمن ، وكان رجل باليمن يقال له رحمن ، فنزلت». وأخرج البيهقي في الدلائل ، من طريق نهشل بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس قال : «سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قول الله : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا) إلى آخر الآية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هو أمان من السرق» وإن رجلا من المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلاها حيث أخذ مضجعه ، فدخل عليه سارق فجمع ما في البيت وحمله ، والرجل ليس بنائم ، حتى انتهى إلى الباب فوجد الباب مردودا ، فوضع الكارة ، ففعل ذلك ثلاث مرات ، فضحك صاحب الدار ثم قال : إني حصّنت بيتي. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس في قوله : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) الآية قال : نزلت ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متوار ، فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن ، فإذا سمع ذلك المشركون سبّوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به ، فقال الله لنبيه : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) أي : بقراءتك ، فيسمع المشركون ، فيسبّوا القرآن (وَلا تُخافِتْ بِها) عن أصحابك ، فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) يقول : بين الجهر والمخافتة. وأخرج ابن مردويه عنه قال : كان نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجهر بالقراءة بمكة فيؤذى ، فأنزل الله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ). وأخرج ابن أبي شيبة عنه أيضا نحوه. وأخرج أبو داود في ناسخه عنه نحوه. وأخرج الطبراني وابن مردويه عنه أيضا قال : كان مسيلمة الكذاب قد سمّي الرحمن ، فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صلى فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قال المشركون : يذكر إله اليمامة ، فأنزل الله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ). وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر ، والبيهقي في الشعب ، عن محمد بن سيرين قال : نبئت أن أبا بكر كان إذا قرأ خفض ، وكان عمر إذا قرأ جهر ، فقيل لأبي بكر لم تصنع هذا؟ قال : أنا أناجي ربي ، وقد عرف حاجتي ؛ وقيل : لعمر لم تصنع هذا؟ قال : أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان ، فلما نزل (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) قيل لأبي بكر : ارفع شيئا ، وقيل لعمر : اخفض شيئا. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وغيرهم عن عائشة قالت : إنما نزلت هذه الآية : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها)

__________________

(١). الأنبياء : ٢٢.

٣١٦

في الدعاء. وأخرج ابن جرير والحاكم عنها قالت : نزلت في التشهد. وأخرج ابن أبي شيبة وابن منيع وابن جرير ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس مثل حديث عائشة الأوّل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال : إن اليهود والنصارى قالوا : اتخذ الله ولدا ، وقالت العرب : لبيك لا شريك لك إلا شريكا ، هو لك تملكه وما ملك ، وقال الصابئون والمجوس : لو لا أولياء الله لذلّ ، فأنزل الله هذه الآية : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) إلى آخرها.

وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) قال : لم يحالف أحدا ولم يبتغ نصر أحد. وأخرج أحمد والطبراني عن معاذ بن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «آية العزّ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) الآية كلها». وأخرج أبو يعلى وابن السني عن أبي هريرة قال : «خرجت أنا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويده في يدي ، فأتى عليّ رجل رثّ الهيئة فقال : أي فلان ما بلغ بك ما أرى؟ قال : السقم والضرّ ، قال : ألا أعلمك كلمات تذهب عنك السقم والضرّ؟ توكلت على الحيّ الذي لا يموت (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) إلى آخر الآية ، فأتى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد حسنت حاله فقال : ممّ؟ قال : لم أزل أقول الكلمات التي علمتني». وفي لفظ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علّم ذلك أبا هريرة. قال ابن كثير : وإسناده ضعيف ، وفي متنه نكارة. وأخرج ابن جرير عن قتادة قال : «ذكر لنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعلّم أهله هذه الآية (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) إلى آخرها الصغير من أهله والكبير». وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن عبد الكريم بن أبي أمية قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلّم الغلام من بني هاشم إذا أفصح سبع مرّات (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) إلى آخر السورة» وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، من طريق عبد الكريم عن عمرو بن شعيب فذكره. وأخرجه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه.

* * *

٣١٧

سورة الكهف

قال القرطبي : وهي مكية في قول جميع المفسرين. وروي عن فرقة أن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله : (جُرُزاً) والأوّل أصحّ انتهى. ومن القائلين إنها مكية جميعها ابن عباس ، أخرجه عنه النحّاس وابن مردويه ، ومنهم ابن الزبير ، أخرجه عنه ابن مردويه. وقد ورد في فضلها أحاديث : منها ما أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي الدرداء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من حفظ عشر آيات من أوّل سورة الكهف عصم من فتنة الدجّال». وأخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن حبّان عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجّال». وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن البراء قال : «قرأ رجل سورة الكهف وفي الدار دابة ، فجعلت تنفر ، فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته ، فذكر ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : اقرأ فلان ، فإن السكينة نزلت للقرآن» وهذا الذي كان يقرأ هو أسيد بن حضير كما بيّنه الطبراني. وأخرج الترمذي وصحّحه ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ ثلاث آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجّال» وفي قراءة العشر الآيات من أوّلها أو من آخرها أحاديث. وأخرج ابن مردويه ، والضياء في المختارة ، عن عليّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ الكهف يوم الجمعة فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة تكون ، فإن خرج الدجّال عصم منه». وأخرج الطبراني في الأوسط ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه والبيهقي والضياء عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الكهف كانت له نورا من مقامه إلى مكة ، ومن قرأ عشر آيات من آخرها ثم خرج الدجّال لم يضرّه». وأخرج الحاكم وصحّحه ، من حديث أبي سعيد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النّور ما بين الجمعتين». وأخرجه البيهقي أيضا في السنن من هذا الوجه ومن وجه آخر. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء ، يضيء له يوم القيامة ، وغفر له ما بين الجمعتين». وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أخبركم بسورة ملأ عظمتها ما بين السماء والأرض ، ولكاتبها من الأجر مثل ذلك ، ومن قرأها يوم الجمعة غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام ، ومن قرأ الخمس الأواخر منها عند نومه بعثه الله من أيّ الليل شاء؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : سورة أصحاب الكهف». وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن مغفل قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البيت الذي تقرأ فيه سورة الكهف لا يدخله شيطان تلك الليلة» وفي الباب أحاديث وآثار ، وفيما أوردناه كفاية مغنية.

٣١٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨))

علّم عباده كيف يحمدونه على إفاضة نعمه عليهم ، ووصفه بالموصول يشعر بعلية ما في حيز الصلة لما قبله ، ووجه كون إنزال الكتاب ، وهو القرآن ، نعمة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كونه اطلع بواسطته على أسرار التوحيد ، وأحوال الملائكة والأنبياء ، وعلى كيفية الأحكام الشرعية التي تعبّده الله وتعبّد أمته بها ، وكذلك العباد كان إنزال الكتاب على نبيهم نعمة لهم لمثل ما ذكرناه في النبيّ (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) أي : شيئا من العوج بنوع من أنواع الاختلال في اللفظ والمعنى ، والعوج بالكسر في المعاني ، وبالفتح في الأعيان كذا قيل : ويرد عليه قوله سبحانه : (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) (١) يعني الجبال ، وهي من الأعيان. قال الزجاج : المعنى في الآية لم يجعل فيها اختلافا كما قال : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٢). والقيّم : المستقيم الذي لا ميل فيه ، أو القيم بمصالح العباد الدينية والدنيوية ، أو القيم على ما قبله من الكتب السماوية مهيمنا عليها ، وعلى الأوّل يكون تأكيدا لما دل عليه نفي العوج ، فربّ مستقيم في الظاهر لا يخلو عن أدنى عوج في الحقيقة ، وانتصاب قيما بمضمر ، أي : جعله قيما ، ومنع صاحب الكشاف أن يكون حالا من الكتاب ، لأن قوله : (وَلَمْ يَجْعَلْ) معطوف على (أَنْزَلَ) فهو داخل في حيز الصلة ، فجاعله حالا من الكتاب فاصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة. وقال الأصفهاني : هما حالان متواليان إلا أن الأوّل جملة والثاني مفرد ، وهذا صواب لأن قوله : (وَلَمْ يَجْعَلْ) لم يكن معطوفا على ما قبله بل الواو للحال ، فلا فصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة ، وقيل : إن (قَيِّماً) حال من ضمير (لَمْ يَجْعَلْ لَهُ) ، وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا ، ثم أراد سبحانه أن يفصل ما أجمله في قوله قيما فقال : (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً) وحذف المنذر للعلم به مع قصد التعميم ، والمعنى لينذر الكافرين. والبأس العذاب ، ومعنى (مِنْ لَدُنْهُ) صادرا من لدنه نازلا من عنده. روى أبو بكر عن عاصم أنه قرأ من لدنه بإشمام الدال الضمة ، وبكسر النون والهاء. وهي لغة الكلابيين. وروى أبو زيد عن جميع القراء فتح اللام وضم الدال وسكون النون (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) قرئ يبشر بالتشديد والتخفيف ، وأجري الموصول على موصوفه المذكور ، لأنّ مدار قبول الأعمال هو الإيمان (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً

__________________

(١). طه : ١٠٧.

(٢). النساء : ٨٢.

٣١٩

حَسَناً) وهو الجنة حال كونهم (ماكِثِينَ فِيهِ) أي : في ذلك الأجر (أَبَداً) أي : مكثا دائما لا انقطاع له ، وتقديم الإنذار على التبشير لإظهار كمال العناية بزجر الكفار ، ثم كرر الإنذار وذكر المنذر لخصوصه وحذف المنذر به ، وهو البأس الشديد ، لتقدّم ذكره فقال : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) وهم اليهود والنصارى وبعض كفار قريش. القائلون بأن الملائكة بنات الله ، فذكر سبحانه أوّلا قضية كلية ، وهي إنذار عموم الكفار ، ثم عطف عليها قضية خاصة هي بعض جزئيات تلك الكلية ، تنبيها على كونها أعظم جزئيات تلك الكلية. فأفاد ذلك أن نسبة الولد إلى الله سبحانه أقبح أنواع الكفر (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) أي : بالولد ، أو اتّخاذ الله إياه ، ومن مزيدة لتأكيد النفي ، والجملة في محل نصب على الحال أو هي مستأنفة ، والمعنى : ما لهم بذلك علم أصلا (وَلا لِآبائِهِمْ) علم ، بل كانوا في زعمهم هذا على ضلالة ، وقلدهم أبناؤهم فضلوا جميعا (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) انتصاب كلمة على التمييز ، وقرئ بالرفع على الفاعلية. قال الفراء : كبرت تلك الكلمة كلمة. وقال الزجاج : كبرت مقالتهم كلمة ، والمراد بهذه الكلمة هي قولهم اتخذ الله ولدا. ثم وصف الكلمة بقوله : (تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) وفائدة هذا الوصف استعظام اجترائهم على التفوّه بها ، والخارج من الفم وإن كان هو مجرد الهوى ، لكن لما كانت الحروف والأصوات كيفيات قائمة بالهوى أسند إلى الحالّ ما هو من شأن المحل. ثم زاد في تقبيح ما وقع منهم فقال : (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) أي : ما يقولون إلا كذبا لا مجال للصدق فيه بحال ، ثم سلّى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ) قال الأخفش والفراء : البخع : الجهد. وقال الكسائي : بخعت الأرض بالزراعة إذا جعلتها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة ، وبخع الرجل نفسه إذا نهكها. وقال أبو عبيدة : معناه مهلك نفسك ، ومنه قول ذي الرمّة :

ألا أيّهذا الباخع الوجد نفسه (١)

فيكون المعنى على هذه الأقوال لعلك مجهد نفسك أو مضعفها أو مهلكها (عَلى آثارِهِمْ) على فراقهم ومن بعد توليهم وإعراضهم (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ) أي : القرآن ، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله. وقرئ بفتح أن : أي لأن لم يؤمنوا (أَسَفاً) أي غيظا وحزنا وهو مفعول له أو مصدر في موضع الحال كذا قال الزجّاج (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها) هذه الجملة استئناف. والمعنى : إنا جعلنا ما على الأرض ممّا يصلح أن يكون زينة لها من الحيوانات والنبات والجماد كقوله سبحانه : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (٢) وانتصاب زينة على أنها مفعول ثان لجعل ، واللام في (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) متعلّقة بجعلنا ، وهي إما للغرض أو للعاقبة ، والمراد بالابتلاء أنه سبحانه يعاملهم معاملة لو كانت تلك المعاملة من غيره لكانت من قبيل الابتلاء والامتحان. وقال الزجّاج : أيهم رفع بالابتداء إلا أن لفظه لفظ الاستفهام ، والمعنى : لنمتحن أهذا أحسن عملا أم ذاك؟ قال الحسن : أيهم أزهد ، وقال مقاتل : أيّهم أصلح

__________________

(١). وعجزه : لشيء نحته عن يديك المقادر.

(٢). البقرة : ٢٩.

٣٢٠