فتح القدير - ج ٣

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٣

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٧

يقال قوم سامر ، ومنه قول الشاعر :

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا

أنيس ولم يسمر بمكّة سامر

قال الراغب : ويقال سامر وسمار وسمر وسامرون. قرأ الجمهور (تَهْجُرُونَ) بفتح التاء المثناة من فوق وضم الجيم. وقرأ نافع وابن محيصن بضم التاء وكسر الجيم ، من أهجر ، أي : أفحش في منطقه. وقرأ زيد ابن علي وابن محيصن وأبو نهيك بضم التاء وفتح الهاء وكسر الجيم مشدّدة ، مضارع هجر بالتشديد. وقرأ ابن أبي عاصم كالجمهور إلا أنه بالياء التحتية ، وفيه التفات.

وقد أخرج الفريابي وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجة ، وابن أبي الدنيا في نعت الخائفين ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله ، قول الله : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو مع ذلك يخاف الله؟ قال : «لا ، ولكنه الرجل يصوم ويتصدّق ويصلي ، وهو مع ذلك يخاف الله أن لا يتقبل منه». وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير ، وابن الأنباري في المصاحف ، وابن جرير وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قالت عائشة : يا رسول الله ، فذكر نحوه. وأخرج عبد الرزاق عن ابن عباس في قوله : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) قال : يعطون ما أعطوا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) قال : يعملون خائفين. وأخرج الفريابي وابن جرير عن ابن عمر (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) قال : الزكاة. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن عائشة (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) قالت : هم الذين يخشون الله ويطيعونه. وأخرج عبد بن حميد عن ابن أبي مليكة قال : قالت عائشة : لأن تكون هذه الآية كما أقرأ أحبّ إليّ من حمر النعم ، فقال لها ابن عباس : ما هي قالت : (الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) وقد قدّمنا ذكر قراءتها ومعناها. وأخرج سعيد بن منصور وابن مردويه عنها عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قرأ : والذين يأتون ما أتوا مقصورا من المجيء. وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وعبد ابن حميد ، والبخاري في تاريخه ، وابن المنذر وابن أبي شيبة ، وابن الأنباري في المصاحف ، والدارقطني في الأفراد ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن عبيد بن عمير أنه سأل عائشة كيف كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ هذه الآية (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا)؟ قالت : أيتهما أحبّ إليك. قلت : والذي نفسي بيده لأحدهما أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها جميعا ، قالت : أيهما؟ قلت : (الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) فقالت : أشهد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرؤها كذلك ، وكذلك أنزلت ، ولكن الهجاء حرّف. وفي إسناده إسماعيل بن عليّ ، وهو ضعيف. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) قال : سبقت لهم السعادة من الله. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) يعني بالغمرة الكفر والشك (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) يقول : أعمال سيئة دون الشرك (هُمْ لَها عامِلُونَ) قال : لا بدّ لهم أن يعملوها. وأخرج النسائي عنه (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ) قال : هم أهل بدر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن

٥٨١

أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) قال : يستغيثون ، وفي قوله : (فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) قال : تدبرون ، وفي قوله : (سامِراً تَهْجُرُونَ) قال : تسمرون حول البيت وتقولون هجرا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ) قال : بحرم الله أنه لا يظهر عليهم فيه أحد. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضا (سامِراً تَهْجُرُونَ) قال : كانت قريش يتحلّقون حلقا يتحدّثون حول البيت. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ) قال : كان المشركون يهجرون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القول في سمرهم. وأخرج النسائي وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : إنّما كره السمر حين نزلت هذه الآية (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ).

(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣))

قوله : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) بيّن سبحانه أنّ سبب إقدامهم على الكفر هو أحد هذه الأمور الأربعة : الأوّل عدم التدبر في القرآن ، فإنهم لو تدبروا معانيه لظهر لهم صدقه وآمنوا به وبما فيه ، والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدّر ؛ أي : فعلوا ما فعلوا فلم يتدبروا ، والمراد بالقول القرآن ، ومثله : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) (١). والثاني : قوله : (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) «أم» هي المنقطعة ، أي : بل أجاءهم من الكتاب ما لم يأت آباءهم الأوّلين؟ فكان ذلك سببا لاستنكارهم للقرآن ، والمقصود تقرير أنه لم يأت آباءهم الأوّلين رسول ، فلذلك أنكروه ، ومثله قوله : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) (٢) وقيل : إنه أتى آباءهم الأقدمين رسل أرسلهم الله إليهم. كما هي سنة الله سبحانه في إرسال الرسل إلى عباده ، فقد عرف هؤلاء ذلك ، فكيف كذّبوا هذا القرآن. وقيل : المعنى : أم جاءهم من الأمن من عذاب

__________________

(١). النساء : ٨٢.

(٢). يس : ٦.

٥٨٢

الله ما لم يأت آباءهم الأولين كإسماعيل ومن بعده. والثالث : قوله : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) وفي هذا إضراب وانتقال من التوبيخ بما تقدّم إلى التوبيخ بوجه آخر ، أي : بل ألم يعرفوه بالأمانة والصدق فأنكروه ، ومعلوم أنهم قد عرفوه بذلك. والرابع : قوله : (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) وهذا أيضا انتقال من توبيخ إلى توبيخ ، أي : بل أتقولون به جنة ، أي : جنون ، مع أنهم قد علموا أنه أرجح الناس عقلا ، ولكنه جاء بما يخالف هواهم ، فدفعوه وجحدوه تعصّبا وحميّة. ثم أضرب سبحانه عن ذلك كلّه فقال : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) أي : ليس الأمر كما زعموا في حق القرآن والرسول ، بل جاءهم ملتبسا بالحق ، والحق : هو الدين القويم. (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) لما جبلوا عليه من التعصب ، والانحراف عن الصواب ، والبعد عن الحق ، فلذلك كرهوا هذا الحق الواضح الظاهر. وظاهر النظم أن أقلّهم كانوا لا يكرهون الحق ، ولكنهم لم يظهروا الإيمان خوفا من الكارهين له. وجملة (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) مستأنفة مسوقة لبيان أنه لو جاء الحق على ما يهوونه ويريدونه لكان ذلك مستلزما للفساد العظيم ، وخروج نظام العالم عن الصلاح بالكلية ، وهو معنى قوله : (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) قال أبو صالح وابن جريج ومقاتل والسدّي : الحق هو الله ، والمعنى : لو جعل مع نفسه كما يحبون شريكا لفسدت السماوات والأرض. وقال الفرّاء والزّجّاج : يجوز أن يكون المراد بالحق القرآن ، أي : لو نزل القرآن بما يحبون من الشرك لفسد نظام العالم. وقيل : المعنى : ولو كان الحق ما يقولون من اتحاد الآلهة مع الله لاختلفت الآلهة ، ومثل ذلك قوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (١) وقد ذهب إلى القول الأوّل الأكثرون ، ولكنه يرد عليه أن المراد بالحق هنا هو الحق المذكور قبله في قوله : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) ولا يصح أن يكون المراد به هنالك الله سبحانه ، فالأولى تفسير الحق هنا وهناك بالصدق الصحيح من الدين الخالص من شرع الله ، والمعنى : ولو ورد الحق متابعا لأهوائهم موافقا لفاسد مقاصدهم لحصل الفساد. والمراد بقوله : (وَمَنْ فِيهِنَ) من في السماوات والأرض من المخلوقات. وقرأ ابن مسعود «وما بينهما» وسبب فساد المكلّفين من بني آدم ظاهر ، وهو ذنوبهم التي من جملتها الهوى المخالف للحق ، وأما فساد ما عداهم فعلى وجه التبع ؛ لأنهم مدبّرون في الغالب بذوي العقول فلما فسدوا فسدوا. ثم ذكر سبحانه أن نزول القرآن عليهم من جملة الحق فقال : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) والمراد بالذكر هنا القرآن ، أي : بالكتاب الذي هو فخرهم وشرفهم ، ومثله قوله : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (٢) والمعنى : بل أتيناهم بفخرهم وشرفهم الذي كان يجب عليهم أن يقبلوه ، ويقبلوا عليه. وقال قتادة : المعنى بذكرهم الذي ذكر فيه ثوابهم وعقابهم. وقيل : المعنى : بذكر ما لهم به حاجة من أمر الدين. وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر «أتيتهم» بتاء المتكلم. وقرأ أبو حيوة والجحدري «أتيتهم» بتاء الخطاب ، أي : أتيتهم يا محمد. وقرأ عيسى بن عمر «بذكراهم» وقرأ قتادة «نذكرهم» بالنون والتشديد من التذكير ، وتكون الجملة على هذه القراءة في محل نصب على الحال ، وقيل : الذكر : هو الوعظ والتحذير (فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) أي : هم بما فعلوا من الاستكبار والنكوص عن هذا الذكر المختص بهم

__________________

(١). الأنبياء : ٢٢.

(٢). الزخرف : ٤٤.

٥٨٣

معرضون ، لا يلتفتون إليه بحال من الأحوال ، وفي هذا التركيب ما يدلّ على أن إعراضهم مختص بذلك لا يتجاوزه إلى غيره. ثم بيّن سبحانه أن دعوة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليست مشوبة بأطماع الدنيا ، فقال : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً) و «أم» هي المنقطعة ، والمعنى : أم يزعمون أنك تسألهم خرجا تأخذه على الرسالة ، والخرج : الأجر والجعل ، فتركوا الإيمان بك وبما جئت به لأجل ذلك ، مع أنهم يعلمون أنك لم تسألهم ذلك ولا طلبته منهم (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) أي : فرزق ربك الذي يرزقك في الدنيا ، وأجره الذي يعطيكه في الآخرة خير لك مما ذكر. قرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثّاب «أم تسألهم خراجا» وقرأ الباقون «خرجا» ، وكلّهم قرءوا (فَخَراجُ) إلا ابن عامر وأبا حيوة فإنهما قرأ : «فخرج» بغير ألف ، والخرج : هو الذي يكون مقابلا للدخل ، يقال لكل ما تخرجه إلى غيرك خرجا ، والخراج غالب في الضريبة على الأرض. قال المبرد : الخرج المصدر ، والخراج الاسم. قال النضر بن شميل : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الفرق بين الخرج والخراج ، فقال : الخراج : ما لزمك ، والخرج : ما تبرعت به. وروي عنه أنه قال : الخرج من الرّقاب ، والخراج من الأرض. (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) هذه الجملة مقرّرة لما قبلها من كون خراجه سبحانه خير. ثم لما أثبت سبحانه لرسوله من الأدلة الواضحة المقتضية لقبول ما جاء به ، ونفى عنه أضداد ذلك ، قال : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : إلى طريق واضحة تشهد العقول بأنها مستقيمة غير معوجة ، والصراط في اللغة : الطريق ، فسمّي الدين طريقا لأنها تؤدّي إليه. ثم وصفهم سبحانه بأنهم على خلاف ذلك ، فقال : (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) يقال : نكب عن الطريق ينكب نكوبا ؛ إذا عدل عنه ومال إلى غيره ، والنكوب والنكب : العدول والميل ، ومنه النّكباء للريح بين ريحين ، سمّيت بذلك لعدولها عن المهابّ ، و «عن الصراط» متعلّق بناكبون ؛ والمعنى : إن هؤلاء الموصوفين بعدم الإيمان بالآخرة عن ذلك الصراط أو جنس الصراط لعادلون عنه. ثم بيّن سبحانه أنهم مصرّون على الكفر لا يرجعون عنه بحال ، فقال : (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ) أي : من قحط وجدب (لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ) أي : لتمادوا في طغيانهم وضلالهم (يَعْمَهُونَ) يتردّدون ويتذبذبون ويخبطون ، وأصل اللجاج : التمادي في العناد ، ومنه اللجة بالفتح لتردّد الصوت ، ولجة البحر : تردّد أمواجه ، ولجة الليل : تردّد ظلامه. وقيل : المعنى : رددناهم إلى الدنيا ولم ندخلهم النار وامتحناهم للجّوا في طغيانهم (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها. والعذاب : قيل هو الجوع الذي أصابهم في سنّي القحط ، وقيل : المرض ، وقيل : القتل يوم بدر ، واختاره الزجّاج ، وقيل : الموت ، وقيل : المراد من أصابه العذاب من الأمم الخالية (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ) أي : ما خضعوا ولا تذلّلوا ، بل أقاموا على ما كانوا فيه من التمرّد على الله والانهماك في معاصيه (وَما يَتَضَرَّعُونَ) أي : وما يخشعون لله في الشدائد عند إصابتها لهم ، ولا يدعونه لرفع ذلك (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ) قيل : هو عذاب الآخرة ، وقيل : قتلهم يوم بدر بالسيف ، وقيل : القحط الذي أصابهم ، وقيل : فتح مكة (إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي : متحيرون ، لا يدرون ما يصنعون ، والإبلاس : التحير والإياس من كل خير. وقرأ السّلمي مبلسون بفتح اللام

٥٨٤

من أبلسه ، أي : أدخله في الإبلاس. وقد تقدّم في الأنعام. (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) امتنّ عليهم ببعض النعم التي أعطاهم ، وهي نعمة السمع والبصر (وَالْأَفْئِدَةَ) فصارت هذه الأمور معهم ليسمعوا المواعظ ، وينظروا العبر ، ويتفكروا بالأفئدة ، فلم ينتفعوا بشيء من ذلك لإصرارهم على الكفر وبعدهم عن الحق ، ولم يشكروه على ذلك ، ولهذا قال : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي : شكرا قليلا حقيرا غير معتدّ به باعتبار تلك النعم الجليلة. وقيل : المعنى : أنهم لا يشكرونه ألبتة ، لا أن لهم شكرا قليلا. كما يقال لجاحد النعمة : ما أقلّ شكره! أي : لا يشكره ، ومثل هذه الآية قوله : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ) (١). (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : بثّكم فيها كما تبثّ الحبوب لتنبت ، وقد تقدّم تحقيقه (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي : تجمعون يوم القيامة بعد تفرّقكم (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) على جهة الانفراد والاستقلال ، وفي هذا تذكير بنعمة الحياة ، وبيان الانتقال منها إلى الدار الآخرة (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) قال الفراء : هو الذي جعلهما مختلفين يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض ، وقيل : اختلافهما : نقصان أحدهما وزيادة الآخر ، وقيل : تكرّرهما يوما بعد يوم وليلة بعد ليلة (أَفَلا تَعْقِلُونَ) كنه قدرته وتتفكرون في ذلك. ثم بيّن سبحانه أنه لا شبهة لهم في إنكار البعث إلا التشبث بحبل التقليد المبنيّ على مجرد الاستبعاد ، فقال : (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) أي : آباؤهم والموافقون لهم في دينهم. ثم بيّن ما قاله الأوّلون فقال : (قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) فهذا مجرّد استبعاد لم يتعلّقوا فيه بشيء من الشبه ، ثم كملوا ذلك القول بقولهم : (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ) أي : وعدنا هذا البعث ووعده آباؤنا الكائنون من قبلنا فلم نصدّقه كما لم يصدقه من قبلنا ، ثم صرّحوا بالتكذيب وفرّوا إلى مجرد الزعم الباطل ، فقالوا : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي : ما هذا إلا أكاذيب الأوّلين التي سطروها في الكتب ، جمع أسطورة كأحدوثة ، والأساطير : الأباطيل والتّرّهات والكذب.

وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح في قوله : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) قال : عرفوه ولكنهم حسدوه. وفي قوله : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) قال : الحق الله عزوجل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) قال : بيّنّا لهم. وأخرجوا عنه في قوله : (عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) قال : عن الحقّ لحائدون. وأخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس قال : جاء أبو سفيان إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد أنشدك الله والرحم ، فقد أكلنا العلهز ، يعني : الوبر بالدم ، فأنزل الله (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) ، وأصل الحديث في الصحيحين «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا على قريش حين استعصوا فقال : اللهم أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف» الحديث. وأخرج ابن جرير ، وأبو نعيم في المعرفة ، والبيهقي في الدّلائل ، عن ابن عباس أن ابن أثال الحنفي لما أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلم وهو أسير فخلى سبيله لحق باليمامة ، فحال بين أهل مكة وبين الميرة

__________________

(١). الأحقاف : ٢٦.

٥٨٥

من اليمامة حتى أكلت قريش العلهز ، فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أليس تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ قال : بلى. قال : فقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع ، فأنزل الله (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) الآية. وأخرج العسكري في المواعظ ، عن عليّ بن أبي طالب في قوله : (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) قال : أي : لم يتواضعوا في الدعاء ولو يخضعوا ، ولو خضعوا لله لاستجاب لهم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ) قال : قد مضى ، كان يوم بدر.

(قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨))

أمر الله سبحانه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسأل الكفار عن أمور لا عذر لهم من الاعتراف فيها ، ثم أمره أن ينكر عليهم بعد الاعتراف منهم ويوبّخهم ، فقال : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها) أي : قل يا محمد لأهل مكة هذه المقالة ، والمراد بمن في الأرض الخلق جميعا ، وعبّر عنهم بمن تغليبا للعقلاء (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) شيئا من العلم ، وجواب الشرط محذوف ، أي : إن كنتم تعلمون فأخبروني. وفي هذا تلويح بجهلهم وفرط غباوتهم (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) أي : لا بدّ لهم أن يقولوا ذلك ، لأنه معلوم ببديهة العقل ، ثم أمره سبحانه أن يقول لهم بعد اعترافهم (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ترغيبا لهم في التدبّر وإمعان النظر والفكر ، فإن ذلك مما يقودهم إلى اتباع الحق وترك الباطل ، لأن من قدر على ذلك ابتداء قدر على إحياء الموتى (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ـ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) جاء سبحانه باللام نظرا إلى معنى السؤال ، فإن قولك : من ربه ، ولمن هو في معنى واحد ، كقولك : من ربّ هذه الدار؟ فيقال : زيد ، ويقال : لزيد. وقرأ أبو عمرو وأهل العراق : «سيقولون الله» بغير لام نظرا إلى لفظ السؤال ، وهذه القراءة أوضح من قراءة الباقين باللام ، ولكنه يؤيد قراءة الجمهور أنها مكتوبة في جميع المصاحف باللام بدون ألف ، وهكذا قرأ الجمهور في قوله : (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ـ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) باللام نظرا إلى معنى السؤال كما سلف. وقرأ أبو عمرو وأهل العراق بغير لام نظرا إلى لفظ السؤال ، ومثل هذا قول الشاعر :

٥٨٦

إذ قيل من ربّ المزالف والقرى

وربّ الجياد الجرد قلت لخالد

أي : لمن المزالف. والملكوت : الملك ، وزيادة التاء للمبالغة ، ونحو جبروت ورهبوت ، ومعنى (وَهُوَ يُجِيرُ) أنه يغيث غيره إذا شاء ويمنعه (وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) أي : لا يمنع أحدا أحدا من عذاب الله ولا يقدر على نصره وإغاثته ، يقال : أجرت فلانا ؛ إذا استغاث بك فحميته ، وأجرت عليه : إذا حميت عنه (قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) قال الفرّاء والزجّاج : أي : تصرفون عن الحق وتخدعون ، والمعنى : كيف يخيل لكم الحق باطلا والصحيح فاسدا ، والخادع لهم هو الشّيطان أو الهوى أو كلاهما. ثم بيّن سبحانه أنه قد بالغ في الاحتجاج عليهم فقال : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِ) أي : الأمر الواضح الذي يحقّ اتباعه (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما ينسبونه إلى الله سبحانه من الولد والشريك ، ثم نفاهما عن نفسه فقال : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) «من» في الموضعين زائدة لتأكيد النفي. ثم بيّن سبحانه ما يستلزمه ما يدّعيه الكفار من إثبات الشريك ، فقال : (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) وفي الكلام حذف تقديره : لو كان مع الله آلهة لا نفرد كل إله بخلقه ، واستبدّ به ، وامتاز ملكه عن ملك الآخر ، ووقع بينهم التطالب والتحارب والتغالب (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي : غلب القويّ على الضعيف ، وقهره ، وأخذ ملكه ، كعادة الملوك من بني آدم ، وحينئذ فذلك الضعيف المغلوب لا يستحق أن يكون إلها ، وإذا تقرّر عدم إمكان المشاركة في ذلك ، وأنه لا يقوم به إلا واحد ، تعين أن يكون هذا الواحد هو الله سبحانه ، وهذا الدليل كما دلّ على نفي الشريك فإنه يدلّ على نفي الولد ، لأن لله عزوجل (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي : هو مختصّ بعلم الغيب والشهادة ، وأما غيره فهو وإن علم الشهادة لا يعلم الغيب. قرأ نافع وأبو بكر وحمزة والكسائي عالم بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو عالم. وقرأ الباقون بالجرّ على أنه صفة لله أو بدل منه. وروي عن يعقوب أنه كان يخفض إذا وصل ويرفع إذا ابتدأ (فَتَعالى) الله (عَمَّا يُشْرِكُونَ) معطوف على معنى ما تقدّم كأنه قال : علم الغيب فتعالى ، كقولك : زيد شجاع فعظمت منزلته ، أي : شجع فعظمت ، أو يكون على إضمار القول ، أي : أقول فتعالى الله ، والمعنى : أنه سبحانه متعال عن أن يكون له شريك في الملك (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ) أي : إن كان ولا بدّ أن تريني ما يوعدون من العذاب المستأصل لهم (رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي : قل يا ربّ فلا تجعلني. قال الزجاج : أي إن أنزلت بهم النقمة يا ربّ فاجعلني خارجا عنهم ، ومعنى كلامه هذا أن النداء معترض ، و «ما» في «إما» زائدة ، أي : قل ربّ إن تريني ، والجواب : «فلا تجعلني» ، وذكر الربّ مرّتين مرّة قبل الشرط ، ومرّة بعده مبالغة في التضرّع. وأمره الله أن يسأله أن لا يجعله في القوم الظالمين مع أن الأنبياء لا يكونون مع القوم الظالمين أبدا ، تعليما له صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ربه كيف يتواضع. وقيل : يهضم نفسه ، أو لكون شؤم الكفر قد يلحق من لم يكن من أهله كقوله : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (١) ثم لما كان المشركون ينكرون العذاب ويسخرون من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ذكر لهم ذلك ؛ أكد سبحانه وقوعه بقوله : (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ) أي : أن الله سبحانه قادر على أن يري رسوله

__________________

(١). الأنفال : ٢٥.

٥٨٧

عذابهم ، ولكنه يؤخّره لعلمه بأن بعضهم سيؤمن ، أو لكون الله سبحانه لا يعذّبهم والرسول فيهم ، وقيل : قد أراه الله سبحانه ذلك يوم بدر ويوم فتح مكة ، ثم أمره سبحانه بالصبر إلى أن ينقضي الأجل المضروب للعذاب ، فقال : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) أي : ادفع بالخصلة التي هي أحسن من غيرها ، وهي الصفح والإعراض عما يفعله الكافر من الخصلة السيئة ، وهي الشرك. قيل : وهذه الآية منسوخة بآية السيف ، وقيل : هي محكمة في حقّ هذه الأمة فيما بينهم ، منسوخة في حق الكفار (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) أي : ما يصفونك به مما أنت على خلافه ، أو بما يصفون من الشرك والتكذيب ، وفي هذا وعيد لهم بالعقوبة. ثم علّمه سبحانه ما يقوّيه على ما أرشده إليه من العفو والصفح ومقابلة السيئة بالحسنة ، فقال : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) الهمزات جمع همزة ، وهي في اللغة الدفعة باليد أو بغيرها ، وهمزات الشياطين : نزغاتهم ووساوسهم كما قاله المفسرون ، يقال : همزه ولمزه ونخسه ، أي : دفعه ؛ وقيل : الهمز : كلام من وراء القفا ، واللمز : المواجهة ، وفيه إرشاد لهذه الأمة إلى التعوّذ من الشيطان ، ومن همزات الشياطين سورات الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) أمره سبحانه أن يتعوّذ بالله من حضور الشياطين بعد ما أمره أن يتعوّذ من همزاتهم ، والمعنى : وأعوذ بك أن يكونوا معي في حال من الأحوال ، فإنهم إذا حضروا الإنسان لم يكن لهم عمل إلا الوسوسة والإغراء على الشرّ والصرف عن الخير. وفي قراءة أبيّ «وقل ربّ عائذا بك من همزات الشياطين ـ وعائذا بك ربّ أن يحضرون».

وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) قال : خزائن كل شيء. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) يقول : أعرض عن أذاهم إياك. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطاء (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) قال : بالسلام. وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو نعيم في الحلية ، عن أنس في قوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) قال : قول الرجل لأخيه ما ليس فيه ، فيقول : إن كنت كاذبا فأنا أسأل الله أن يغفر لك ، وإن كنت صادقا فأنا أسأل الله أن يغفر لي. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود ، والترمذي وحسّنه ، والنسائي ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلّمنا كلمات نقولهنّ عند النوم من الفزع : بسم الله ، أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشرّ عباده ، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون» قال : فكان عبد الله بن عمرو يعلّمها من بلغ من ولده أن يقولها عند نومه ، ومن كان منهم صغيرا لا يعقل أن يحفظها كتبها له فعلّقها في عنقه. وفي إسناده محمد بن إسحاق ، وفيه مقال معروف. وأخرج أحمد عن خالد بن الوليد أنه قال : «يا رسول الله إني أجد وحشة ، قال : إذا أخذت مضجعك فقل : أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشرّ عباده ، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون ، فإنه لا يحضرك ، وبالحريّ أن لا يضرّك».

٥٨٨

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨))

(حَتَّى) هي الابتدائية ، دخلت على الجملة الشرطية ، وهي مع ذلك غاية لما قبلها ، متعلقة بقوله لكاذبون وقيل بيصفون ، والمراد بمجيء الموت مجيء علاماته (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) أي : قال ذلك الواحد الذي حضره الموت تحسرا وتحزنا على ما فرط منه ربّ ارجعون ، أي : ردّوني إلى الدنيا ، وإنما قال ارجعون بضمير الجماعة لتعظيم المخاطب. وقيل : هو على معنى تكرير الفعل ، أي : ارجعني ارجعني ارجعني ، ومثله قوله : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) (١) قال المازني : معناه ألق ألق ، وهكذا قيل في قول امرئ القيس :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل (٢)

ومنه قول الحجّاج : يا حرسي اضربا عنقه.

ومنه قول الشاعر :

ولو شئت حرمت النساء سواكم

وقول الآخر :

ألا فارحموني يا إله محمد

وقيل : إنهم لما استغاثوا بالله قال قائلهم : ربّ ، ثم رجع إلى مخاطبة الملائكة فقال : (ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) أي : أعمل عملا صالحا في الدنيا إذا رجعت إليها من الإيمان وما يتبعه من أعمال الخير ، ولما تمنى أن يرجع ليعمل ردّ الله عليه ذلك بقوله : (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) فجاء بكلمة الردع والزجر ، والضمير في «إنها» يرجع إلى قوله : (رَبِّ ارْجِعُونِ) أي : إن هذه الكلمة هو قائلها لا محالة ، وليس

__________________

(١). ق : ٢٤.

(٢). وعجزه : بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل.

٥٨٩

الأمر على ما يظنه من أنه يجاب إلى الرجوع إلى الدنيا ، أو المعنى : أنه أجيب إلى ذلك لما حصل منه الوفاء ، كما في قوله : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) (١) وقيل : إن الضمير في «قائلها» يرجع إلى الله ، أي : لا خلف في خبره ، وقد أخبرنا بأنه لا يؤخّر نفسا إذا جاء أجلها (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ) أي : من أمامهم وبين أيديهم ، والبرزخ : هو الحاجز بين الشيئين. قاله الجوهري.

واختلف في معنى الآية ، فقال الضحّاك ومجاهد وابن زيد : حاجز بين الموت والبعث. وقال الكلبي : هو الأجل ما بين النفختين ، وبينهما أربعون سنة. وقال السدّي : هو الأجل ، و (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) هو يوم القيامة (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) قيل : هذه هي النفخة الأولى ، وقيل : الثانية ، وهذا أولى ، وهي النفخة التي تقع بين البعث والنشور ؛ وقيل : المعنى : فإذا نفخ في الأجساد أرواحها ، على أن الصور جمع صورة ، لا القرن ، ويدلّ على هذا قراءة ابن عباس والحسن «الصّور» بفتح الواو مع ضم الصاد ؛ جمع صورة. وقرأ أبو رزين بفتح الصاد والواو. وقرأ الباقون بضم الصاد وسكون الواو ، وهو القرن الذي ينفخ فيه (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ) أي : لا يتفاخرون بالأنساب ويذكرونها لما هم فيه (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ) أي : لا يتفاخرون بالأنساب ويذكرونها لما هم فيه من الحيرة والدهشة (وَلا يَتَساءَلُونَ) أي : لا يسأل بعضهم بعضا ، فإن لهم إذ ذاك شغلا شاغلا ، ومنه قوله تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ـ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ـ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) (٢) ، وقوله : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) (٣) ، ولا ينافي هذا ما في الآية الأخرى من قوله : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) (٤) فإن ذلك محمول على اختلاف المواقف يوم القيامة ، فالإثبات باعتبار بعضها ، والنفي باعتبار بعض آخر كما قررناه في نظائر هذا ، مما أثبت تارة ونفي أخرى (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) أي : موزوناته من أعماله الصالحة (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي : الفائزون بمطالبهم المحبوبة ، النّاجون من الأمور التي يخافونها (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) وهي أعماله الصالحة (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي : ضيعوها وتركوا ما ينفعها (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) هذا بدل من صلة الموصول ، أو خبر ثان لاسم الإشارة ، وقد تقدّم الكلام على هذه الآية مستوفى فلا نعيده. وجملة (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) مستأنفة ، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال ، أو تكون خبرا آخر لأولئك ، واللفح : الإحراق ، يقال : لفحته النار ؛ إذا أحرقته ، ولفحته بالسيف ؛ إذا ضربته (٥) ، وخصّ الوجوه لأنها أشرف الأعضاء. (وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) هذه الجملة في محل نصب على الحال ، والكالح : الذي قد تشمّرت شفتاه وبدت أسنانه ، قاله الزجّاج. ودهر كالح : أي شديد. قال أهل اللغة : الكلوح : تكنيز في عبوس. وجملة (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) هي على إضمار القول ، أي : يقال لهم ذلك توبيخا وتقريعا ، أي : ألم تكن آياتي تتلى عليكم في الدنيا (فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) وجملة (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، أي : غلبت علينا لذّاتنا وشهواتنا ، فسمّي ذلك شقوة ؛ لأنه يؤول إلى الشقاء. قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم (شِقْوَتُنا)

__________________

(١). الأنعام : ٢٨.

(٢). عبس : ٣٤ ـ ٣٦.

(٣). المعارج : ١٠.

(٤). الصافات : ٢٧.

(٥). أي : ضربة خفيفة.

٥٩٠

وقرأ الباقون «شقاوتنا» وهذه القراءة مروية عن ابن مسعود والحسن. (وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) أي : بسبب ذلك ، فإنهم ضلّوا عن الحق بتلك الشقوة. ثم طلبوا ما لا يجابون إليه ، فقالوا : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) أي : فإن عدنا إلى ما كنّا عليه من الكفر وعدم الإيمان فإنا ظالمون لأنفسنا بالعود إلى ذلك ، فأجاب الله عليهم بقوله : (قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) أي : اسكنوا في جهنم. قال المبرّد : الخسء : إبعاد بمكروه ، وقال الزجاج : تباعدوا تباعد سخط وأبعدوا بعد الكلب. فالمعنى على هذا : أبعدوا في جهنم ، كما يقال للكلب اخسأ : أي ابعد ، خسأت الكلب خسأ ؛ طردته ، ولا تكلمون في إخراجكم من النار ورجوعكم إلى الدنيا ، أو في رفع العذاب عنكم ؛ وقيل المعنى : لا تكلمون رأسا. ثم علّل ذلك بقوله : (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ) وهم المؤمنون ، وقيل : الصحابة ، يقولون : (رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) قرأ الجمهور (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ) بكسر إن استئنافا تعليليا ، وقرأ أبيّ بفتحها (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) قرأ نافع وحمزة والكسائي بضمّ السين. وقرأ الباقون بكسرها. وفرّق بينهما أبو عمرو فجعل الكسر من جهة التهزؤ ، والضم من جهة السّخرة. قال النحاس : ولا يعرف هذا الفرق الخليل ولا سيبويه ولا الكسائي ولا الفرّاء ، وحكي الثعلبي عن الكسائي : أن الكسر بمعنى الاستهزاء والسخرية بالقول ، والضم بمعنى التسخير والاستبعاد بالفعل (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) أي : اتخذتموهم سخريا إلى هذه الغاية ، فإنهم نسوا ذكر الله لشدّة اشتغالهم بالاستهزاء (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) في الدنيا ، والمعنى : حتى نسيتم ذكري باشتغالكم بالسخرية والضحك ، فنسب ذلك إلى عباده المؤمنين لكونهم السبب ، وجملة (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) مستأنفة لتقرير ما سبق ، والباء في «بما صبروا» للسببية (أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) قرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة على الاستئناف ، وقرأ الباقون بالفتح ، أي : لأنهم الفائزون ، ويجوز أن يكون منصوبا على أنه المفعول الثاني للفعل (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ) القائل هو الله عزوجل وتذكيرا لهم كم لبثوا؟ لما سألوا الرجوع إلى الدنيا بعد أن أخبرهم بأن ذلك غير كائن كما في قوله : اخسئوا فيها ، والمراد بالأرض هي الأرض التي طلبوا الرجوع إليها ، ويحتمل أن يكون السؤال عن جميع ما لبثوه في الحياة وفي القبور ، وقيل : هو سؤال عن مدة لبثهم في القبور لقوله : «في الأرض» ، ولم يقل على الأرض ، وردّ بمثل قوله تعالى : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) (١) وانتصاب عدد سنين على التمييز ، لما في كم من الإبهام ، وسنين بفتح النون على أنها نون الجمع ، ومن العرب من يخفضها وينوّنها (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) استقصروا مدّة لبثهم لما هم فيه من العذاب الشديد. وقيل : إن العذاب رفع عنهم بين النفختين ، فنسوا ما كانوا فيه من العذاب في قبورهم ؛ وقيل : أنساهم الله ما كانوا فيه من العذاب من النفخة الأولى إلى النفخة الثانية. ثم لما عرفوا ما أصابهم من النسيان لشدّة ما هم فيه من الهول العظيم أحالوا على غيرهم فقالوا : (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) أي : المتمكّنين من معرفة العدد ، وهم الملائكة ؛ لأنهم الحفظة العارفون بأعمال العباد وأعمارهم ، وقيل : المعنى : فاسأل الحاسبين العارفين بالحساب من الناس. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي

__________________

(١). الأعراف ٥٦ و ٨٥.

٥٩١

«قل كم لبثتم في الأرض» على الأمر ، والمعنى : قل يا محمد للكفار ، أو يكون أمرا للملك بسؤالهم ، أو التقدير : قولوا كم لبثتم ، فأخرج الكلام مخرج الأمر للواحد ، والمراد الجماعة. وقرأ الباقون (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ) على أن القائل هو الله عزوجل أو الملك (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) قرأ حمزة والكسائي «قل إن لبثتم» كما في الآية الأولى ، وقرأ الباقون (قال) على الخبر ، وقد تقدّم توجيه القراءتين ، أي : ما لبثتم في الأرض إلا لبثا قليلا (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) شيئا من العلم ، والجواب محذوف ، أي : لو كنتم تعلمون لعلمتم اليوم قلّة لبثكم في الأرض أو في القبور أو فيهما ، فكل ذلك قليل بالنسبة إلى لبثهم. ثم زاد سبحانه في توبيخهم فقال : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) الهمزة للتوبيخ والتقرير ، والفاء للعطف على مقدّر كما تقدّم بيانه في مواضع ، أي : ألم تعلموا شيئا فحسبتم ، وانتصاب عبثا على الحال ، أي : عابثين ، أو على العلة ، أي : للعبث. قال بالأوّل سيبويه وقطرب ، وبالثاني أبو عبيدة. وقال أيضا : يجوز أن يكون منتصبا على المصدرية ، وجملة (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) معطوفة على «أنما خلقناكم عبثا» ، والعبث في اللغة : اللعب ، يقال : عبث يعبث عبثا فهو عابث ، أي : لاعب ، وأصله من قولهم عبثت الأقط : أي خلطته ، والمعنى : أفحسبتم أن خلقنا لكم للإهمال كما خلقت البهائم ولا ثواب ولا عقاب ، وأنكم إلينا لا ترجعون بالبعث والنشور فنجازيكم بأعمالكم. قرأ حمزة والكسائي «ترجعون» بفتح الفوقية وكسر الجيم مبنيا للفاعل ، وقرأ الباقون على البناء للمفعول. وقيل : إنه يجوز عطف وأنكم إلينا لا ترجعون على عبثا ، على معنى : إنما خلقناكم للعبث ولعدم الرجوع. ثم نزّه سبحانه نفسه فقال : (فَتَعالَى اللهُ) أي : تنزّه عن الأولاد والشركاء أو عن أن يخلق شيئا عبثا ، أو عن جميع ذلك ، وهو (الْمَلِكُ) الذي يحقّ له الملك على الإطلاق (الْحَقُ) في جميع أفعاله وأقواله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) فكيف لا يكون إلها وربا ، لما هو دون العرش الكريم من المخلوقات ، ووصف العرش بالكريم لنزول الرحمة والخير منه ، أو باعتبار من استوى عليه ، كما يقال بيت كريم ؛ إذا كان ساكنوه كراما قرأ أبو جعفر وابن محيصن وإسماعيل وأبان بن ثعلب الكريم بالرفع على أنه نعت لربّ ، وقرأ الباقون بالجرّ على أنه نعت للعرش. ثم زيف ما عليه أهل الشرك توبيخا لهم وتقريعا فقال : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) يعبده مع الله أو يعبده وحده ، وجملة (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) في محل نصب صفة لقوله إلها ، وهي صفة لازمة جيء بها للتأكيد ، كقوله : (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) (١) والبرهان : الحجة الواضحة والدليل الواضح ، وجواب الشرط قوله : (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) وجملة لا برهان له به معترضة بين الشرط والجزاء ، كقولك : من أحسن إلى زيد لا أحقّ منه بالإحسان ، فالله مثيبه ، وقيل : إن جواب الشرط قوله : لا برهان له به على حذف فاء الجزاء ، كقول الشاعر :

من يفعل الحسنات الله يشكرها

(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) قرأ الحسن وقتادة بفتح «أن» على التعليل ، وقرأ الباقون بالكسر على الاستئناف ، وقرأ الحسن «لا يفلح» بفتح الياء واللام مضارع فلح بمعنى أفلح. ثم ختم هذه السورة بتعليم

__________________

(١). الأنعام : ٣٨.

٥٩٢

رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدعوه بالمغفرة والرحمة فقال : (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) أمره سبحانه بالاستغفار لتقتدي به أمته ، وقيل : أمره بالاستغفار لأمته. وقد تقدّم بيان كونه أرحم الرّاحمين ، ووجه اتصال هذا بما قبله أنه سبحانه لما شرح أحوال الكفار أمر بالانقطاع إليه والالتجاء إلى غفرانه ورحمته.

وقد أخرج ابن أبي الدنيا في ذكر الموت ، وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : إذا أدخل الكافر في قبره فيرى مقعده من النار (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) أتوب أعمل صالحا ، فيقال له : قد عمّرت ما كنت معمّرا ، فيضيق عليه قبره ، فهو كالمنهوش ينازع (١) ويفزع ، تهوي إليه حيات الأرض وعقاربها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج قال : زعموا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعائشة : إن المؤمن إذا عاين الملائكة قالوا : نرجعك إلى الدنيا ، فيقول : إلى دار الهموم والأحزان ، بل قدما إلى الله ؛ وأما الكافر فيقولون له : نرجعك ، فيقول : (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) هو مرسل. وأخرج الديلمي عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا حضر الإنسان الوفاة يجمع له كل شيء يمنعه عن الحقّ فيجعل بين عينيه ، فعند ذلك يقول : ربّ ارجعون لعلّي أعمل صالحا فيما تركت». وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات ، من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله : (أَعْمَلُ صالِحاً) قال : أقول لا إله إلا الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة قالت : ويل لأهل المعاصي من أهل القبور ، يدخل عليهم في قبورهم حيات سود ، حية عند رأسه ، وحية عند رجليه ، يقرصانه حتى تلتقيا في وسطه ، فذلك العذاب في البرزخ الذي قال الله : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ). وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) قال : حين ينفخ في الصور ، فلا يبقى حيّ إلا الله. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنه سئل عن قوله : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) وقوله : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) (٢) فقال : إنها مواقف ، فأما الموقف الذي لا أنساب بينهم ولا يتساءلون عند الصعقة الأولى لا أنساب بينهم فيها إذا صعقوا ، فإذا كانت النفخة الآخرة فإذا هم قيام يتساءلون. وأخرج ابن جرير ، والحاكم وصحّحه ، عنه أيضا أنه سئل عن الآيتين فقال : أما قوله : (وَلا يَتَساءَلُونَ) فهذا في النفخة الأولى حين لا يبقى على الأرض شيء ، وأما قوله : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) فإنهم لما دخلوا الجنة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون. وأخرج ابن المبارك في الزهد ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم في الحلية ، وابن عساكر عن ابن مسعود قال : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأوّلين والآخرين. وفي لفظ : يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة على رؤوس الأوّلين والآخرين ، ثم ينادي مناد : ألا إن هذا فلان بن فلان ، فمن كان له حق قبله فليأت إلى حقه. وفي لفظ : من كان له مظلمة فليجئ فليأخذ حقه ، فيفرح والله المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته وإن كان صغيرا ، ومصداق ذلك في كتاب الله (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ).

__________________

(١). في الدر المنثور «ينام» (٦ / ١١٤)

(٢). الصافات : ٢٧.

٥٩٣

وأخرج أحمد والطبراني والحاكم ، والبيهقي في سننه ، عن المسور بن مخرمة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري». وأخرج البزار والطبراني وأبو نعيم والحاكم ، والضياء في المختارة ، عن عمر بن الخطاب : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «كلّ سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي». وأخرج ابن عساكر عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري». وأخرج أحمد عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول على المنبر : «ما بال رجال يقولون : إن رحم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينفع قومه؟ بلى والله إن رحمي موصولة في الدنيا والآخرة ، وإني أيها الناس فرط لكم». وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) قال : تنفخ. وأخرج ابن مردويه ، والضياء في صفة النار ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) قال : «تلفحهم لفحة فتسيل لحومهم على أعقابهم». وأخرج أبو نعيم في الحلية ، عن ابن مسعود في الآية قال : لفحتهم لفحة فما أبقت لحما على عظم إلا ألقته على أعقابهم.

وأخرج أحمد وعبد بن حميد ، والترمذي وصحّحه ، وابن أبي الدنيا في صفة النار ، وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، وأبو نعيم في الحلية ، وابن مردويه في قوله : (وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) قال : تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه ، وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرّته. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وهناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، عن ابن مسعود في الآية قال : كلوح الرأس النضيج بدت أسنانهم وتقلّصت شفاههم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (كالِحُونَ) قال : عابسون. وقد ورد في صفة أهل النار وما يقولون وما يقال لهم أحاديث كثيرة معروفة. وأخرج الحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وابن السني في عمل اليوم والليلة ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، عن ابن مسعود : أنه قرأ في أذن مصاب (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) حتى ختم السورة فبرئ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بما ذا قرأت في أذنه؟ فأخبره ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأ بها على جبل لزال». وأخرج ابن السني وابن مندة ، وأبو نعيم في المعرفة ، قال السيوطي : بسند حسن ، من طريق محمد بن إبراهيم التيمي عن أبيه قال : بعثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سرية وأمرنا أن نقول إذا أمسينا وأصبحنا (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) ، فقرأناها فغنمنا وسلمنا ، اه.

* * *

٥٩٤

فهرس الموضوعات

الآيات

الصفحة

الآيات

الصفحة

سورة يوسف (١٢)

تفسير الآيات (٣٦ ـ ٣٩)

١٠٤

تفسير الآيات (١ ـ ٦)

٦

تفسير الآيات (٤٠ ـ ٤٣)

١٠٧

تفسير الآيات (٧ ـ ١٠)

٩

سورة إبراهيم (١٤)

تفسير الآيات (١١ ـ ١٨)

١١

تفسير الآيات (١ ـ ٥)

١١١

تفسير الآيات (١٩ ـ ٢٢)

١٥

تفسير الآيات (٦ ـ ١٢)

١١٤

تفسير الآيات (٢٣ ـ ٢٩)

١٩

تفسير الآيات (١٣ ـ ١٨)

١١٩

تفسير الآيات (٣٠ ـ ٣٤)

٢٥

تفسير الآيات (١٩ ـ ٢٣)

١٢٢

تفسير الآيات (٣٥ ـ ٤٠)

٣٠

تفسير الآيات (٢٤ ـ ٢٧)

١٢٧

تفسير الآيتين (٤١ ـ ٤٢)

٣٥

تفسير الآيات (٢٨ ـ ٣٤)

١٣٠

تفسير الآيات (٤٣ ـ ٤٩)

٣٧

تفسير الآيات (٣٥ ـ ٤١)

١٣٤

تفسير الآيات (٥٠ ـ ٥٧)

٤٠

تفسير الآيات (٤٢ ـ ٤٦)

١٣٧

تفسير الآيات (٥٨ ـ ٦٦)

٤٤

تفسير الآيات (٤٧ ـ ٥٢)

١٤١

تفسير الآيات (٦٧ ـ ٧٦)

٤٨

سورة الحجر (١٥)

تفسير الآيات (٧٧ ـ ٨٢)

٥٣

تفسير الآيات (١ ـ ١٥)

١٤٥

تفسير الآيات (٨٣ ـ ٨٨)

٥٦

تفسير الآيات (١٦ ـ ٢٥)

١٥٠

تفسير الآيات (٨٩ ـ ٩٨)

٦١

تفسير الآيات (٢٦ ـ ٤٤)

١٥٥

تفسير الآيات (٩٩ ـ ١٠١)

٦٧

تفسير الآيات (٤٥ ـ ٦٦)

١٦٠

تفسير الآيات (١٠٢ ـ ١٠٨)

٦٩

تفسير الآيات (٦٧ ـ ٧٧)

١٦٥

تفسير الآيات (١٠٩ ـ ١١١)

٧٢

تفسير الآيات (٧٨ ـ ٨٦)

١٦٨

سورة الرعد (١٣)

تفسير الآيات (٨٧ ـ ٩٩)

١٧٠

تفسير الآيات (١ ـ ٤)

٧٦

سورة النحل (١٦)

تفسير الآيات (٥ ـ ١١)

٨٠

تفسير الآيات (١ ـ ٩)

١٧٦

تفسير الآيات (١٢ ـ ١٨)

٨٦

تفسير الآيات (١٠ ـ ١٩)

١٨١

تفسير الآيات (١٩ ـ ٢٥)

٩٣

تفسير الآيات (٢٠ ـ ٢٧)

١٨٧

تفسير الآيات (٢٦ ـ ٣٠)

٩٦

تفسير الآيات (٢٨ ـ ٣٢)

١٩٠

تفسير الآيات (٣١ ـ ٣٥)

٩٩

٥٩٥

الآيات

الصفحة

الآيات

الصفحة

تفسير الآيات (٣٣ ـ ٤٠)

١٩٢

سورة الكهف (١٨)

تفسير الآيات (٤١ ـ ٥٠)

١٩٦

تفسير الآيات (١ ـ ٨)

٣١٩

تفسير الآيات (٥١ ـ ٦٢)

٢٠١

تفسير الآيات (٩ ـ ١٦)

٣٢٢

تفسير الآيات (٦٣ ـ ٦٩)

٢٠٧

تفسير الآيات (١٧ ـ ٢٠)

٣٢٥

تفسير الآيات (٧٠ ـ ٧٤)

٢١٢

تفسير الآيات (٢١ ـ ٢٦)

٣٢٨

تفسير الآيات (٧٥ ـ ٧٩)

٢١٦

تفسير الآيات (٢٧ ـ ٣١)

٣٣٣

تفسير الآيات (٨٠ ـ ٨٣)

٢٢٠

تفسير الآيات (٣٢ ـ ٤٤)

٣٣٨

تفسير الآيات (٨٤ ـ ٩٠)

٢٢٣

تفسير الآيتين (٤٥ ـ ٤٦)

٣٤٦

تفسير الآيات (٩١ ـ ٩٦)

٢٢٧

تفسير الآيات (٤٧ ـ ٥٣)

٣٤٥

تفسير الآيات (٩٧ ـ ١٠٥)

٢٣٠

تفسير الآيات (٥٤ ـ ٥٩)

٣٤٩

تفسير الآيات (١٠٦ ـ ١١١)

٣٣٤

تفسير الآيات (٦٠ ـ ٧٠)

٣٥١

تفسير الآيات (١١٢ ـ ١١٩)

٢٣٧

تفسير الآيات (٧١ ـ ٨٢)

٣٥٦

تفسير الآيات (١٢٠ ـ ١٢٨)

٢٤١

تفسير الآيات (٨٣ ـ ٩١)

٣٦٢

سورة الإسراء (١٧)

تفسير الآيات (٩٢ ـ ٩٨)

٣٦٧

تفسير الآيات (٤ ـ ١١)

٢٤٨

تفسير الآيات (٩٩ ـ ١٠٨)

٣٧١

تفسير الآيات (١٢ ـ ١٧)

٢٥٢

تفسير الآيتين (١٠٩ ـ ١١٠)

٣٧٤

تفسير الآيات (١٨ ـ ٢٤)

٢٥٧

سورة مريم (١٩)

تفسير الآيات (٢٥ ـ ٣٣)

٢٦٢

تفسير الآيات (١ ـ ١١)

٣٧٨

تفسير الآيات (٣٤ ـ ٤١)

٢٦٩

تفسير الآيات (١٢ ـ ١٥)

٣٨٤

تفسير الآيات (٤٢ ـ ٤٨)

٢٧٣

تفسير الآيات (١٦ ـ ٢٦)

٣٨٦

تفسير الآيات (٤٩ ـ ٥٥)

٢٧٨

تفسير الآيات (٢٧ ـ ٣٣)

٣٩١

تفسير الآيات (٥٦ ـ ٦٠)

٢٨١

تفسير الآيات (٣٤ ـ ٤٠)

٣٩٣

تفسير الآيات (٦١ ـ ٦٥)

٢٨٦

تفسير الآيات (٤١ ـ ٥٠)

٣٩٥

تفسير الآيات (٦٦ ـ ٧٠)

٢٨٨

تفسير الآيات (٥١ ـ ٦٣)

٣٩٨

تفسير الآيات (٧١ ـ ٧٧)

٢٩٢

تفسير الآيات (٦٤ ـ ٧٢)

٤٠٣

تفسير الآيات (٧٨ ـ ٨٥)

٢٩٦

تفسير الآيات (٧٣ ـ ٨٠)

٤٠٩

تفسير الآيات (٨٦ ـ ٩٢)

٣٠٤

تفسير الآيات (٨١ ـ ٩٥)

٤١٣

تفسير الآيات (٩٤ ـ ١٠٠)

٣٠٨

تفسير الآيات (٩٦ ـ ٩٨)

٤١٧

تفسير الآيات (١٠١ ـ ١٠٩)

٣١١

سورة طه (٢٠)

تفسير الآيات (١١٠ ـ ١١١)

٣١٥

تفسير الآيات (١ ـ ١٦)

٤١٩

تفسير الآيات (١٧ ـ ٣٥)

٤٢٧

تفسير الآيات (٣٦ ـ ٤٤)

٤٣٠

٥٩٦

الآيات

الصفحة

الآيات

الصفحة

تفسير الآيات (٤٥ ـ ٥٩)

٤٣٤

تفسير الآيات (٨ ـ ١٦)

٥١٩

تفسير الآيات (٦٠ ـ ٧٠)

٤٣٩

تفسير الآيات (١٧ ـ ٢٤)

٥٢٣

تفسير الآيات (٧١ ـ ٧٦)

٤٤٣

تفسير الآيات (٢٥ ـ ٢٩)

٥٢٧

تفسير الآيات (٧٧ ـ ٩١)

٤٤٦

تفسير الآيات (٣٠ ـ ٣٥)

٥٣٣

تفسير الآيات (٩٢ ـ ١٠١)

٤٥١

تفسير الآيات (٣٦ ـ ٣٧)

٥٣٧

تفسير الآيات (١٠٢ ـ ١١٢)

٤٥٥

تفسير الآيات (٣٨ ـ ٤١)

٥٣٩

تفسير الآيات (١١٣ ـ ١٢٢)

٤٥٩

تفسير الآيات (٤٢ ـ ٥١)

٥٤٢

تفسير الآيات (١٢٣ ـ ١٢٧)

٤٦٢

تفسير الآيات (٤٢ ـ ٥١)

٥٤٢

تفسير الآيات (١٢٨ ـ ١٣٥)

٤٦٣

تفسير الآيات (٥٢ ـ ٥٧)

٥٤٥

سورة الأنبياء (٢١)

تفسير الآيات (٥٨ ـ ٦٦)

٥٤٩

تفسير الآيات (١ ـ ٩)

٤٦٨

تفسير الآيات (٦٧ ـ ٧٢)

٥٥٢

تفسير الآيات (١٠ ـ ٢٥)

٤٧٢

تفسير الآيات (٧٣ ـ ٧٨)

٥٥٤

تفسير الآيات (٢٦ ـ ٣٥)

٤٧٧

سورة المؤمنون (٢٣)

تفسير الآيات (٣٦ ـ ٤٣)

٤٧٩

تفسير الآيات (١ ـ ١١)

٥٦٠

تفسير الآيات (٤٤ ـ ٥٦)

٤٨٣

تفسير الآيات (١٢ ـ ٢٢)

٥٦٤

تفسير الآيات (٥٧ ـ ٧٠)

٤٨٧

تفسير الآيات (٢٣ ـ ٤١)

٥٦٨

تفسير الآيات (٧١ ـ ٧٧)

٤٩١

تفسير الآيات (٤٢ ـ ٥٦)

٥٧٣

تفسير الآيات (٧٨ ـ ٨٨)

٤٩٢

تفسير الآيات (٥٧ ـ ٦٧)

٥٧٧

تفسير الآيات (٨٩ ـ ٩٧)

٥٠١

تفسير الآيات (٦٨ ـ ٨٣)

٥٨٢

تفسير الآيات (٩٨ ـ ١١٢)

٥٠٥

تفسير الآيات (٨٤ ـ ٩٨)

٥٨٦

سورة الحج (٢٢)

تفسير الآيات (٩٩ ـ ١١٨)

٥٨٩

تفسير الآيات (١ ـ ٧)

٥١٣

فهرس الموضوعات

٥٩٥

٥٩٧