فتح القدير - ج ٣

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٣

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٧

فكيف يقال لهم بعد ذلك ادخلوها على قراءة الجمهور؟ فإن الأمر لهم بالدخول يشعر بأنهم لم يكونوا فيها. وأجيب بأن المعنى أنهم لما صاروا في الجنات ، فإذا انتقلوا من بعضها إلى بعض يقال لهم عند الوصول إلى التي أرادوا الانتقال إليها ادخلوها ، ومعنى (بِسَلامٍ آمِنِينَ) بسلامة من الآفات ، وأمن من المخافات ، أو مسلمين على بعضهم بعضا ، أو مسلما عليهم من الملائكة ، أو من الله عزوجل. (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) الغلّ : الحقد والعداوة ، وقد مرّ تفسيره في الأعراف ، وانتصاب (إِخْواناً) على الحال ، أي : إخوة في الدين والتعاطف (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) أي : حال كونهم على سرر ، وعلى صورة مخصوصة وهي التقابل ، ينظر بعضهم إلى وجه بعض ، والسرر جمع سرير ، وقيل : هو المجلس الرفيع المهيّأ للسرور ، ومنه قولهم : سرّ الوادي ؛ لأفضل موضع منه (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) أي : تعب وإعياء ؛ لعدم وجود ما يتسبب عنه ذلك في الجنة ؛ لأنها نعيم خالص ، ولذّة محضة ، تحصل لهم بسهولة ، وتوافيهم مطالبهم بلا كسب ولا جهد ، بل بمجرد خطور شهوة الشيء بقلوبهم يحصل ذلك الشيء عندهم صفوا عفوا (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) أبدا ، وفي هذا الخلود الدائم وعلمهم به تمام اللذة وكمال النعيم ، فإنّ علم من هو في نعمة ولذّة بانقطاعها وعدمها بعد حين موجب لتنغص نعيمه وتكدّر لذّته ، ثم قال سبحانه بعد أن قصّ علينا ما للمتقين عنده من الجزاء العظيم والأجر الجزيل (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي : أخبرهم يا محمد أني أنا الكثير المغفرة لذنوبهم ، الكثير الرحمة لهم ، كما حكمت به على نفسي : «إنّ رحمتي سبقت غضبي». اللهم اجعلنا من عبادك الذين تفضلت عليهم بالمغفرة ، وأدخلتهم تحت واسع الرحمة. ثم إنه سبحانه لما أمر رسوله بأن يخبر عباده بهذه البشارة العظيمة ، أمره بأن يذكر لهم شيئا ممّا يتضمن التخويف والتحذير حتى يجتمع الرجاء والخوف ، ويتقابل التبشير والتحذير ليكونوا راجين خائفين فقال : (وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) أي : الكثير الإيلام ، وعند ما جمع الله لعباده بين هذين الأمرين من التبشير والتحذير صاروا في حالة وسطا بين اليأس والرجاء ، وخير الأمور أوساطها ، وهي القيام على قدمي الرجاء والخوف ، وبين حالتي الأنس والهيبة ، وجملة (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) معطوفة على جملة نبىء عبادي ؛ أي : أخبرهم بما جرى على إبراهيم من الأمر الذي اجتمع فيه له الرجاء والخوف ، والتبشير الذي خالطه نوع من الوجل ليعتبروا بذلك ويعلموا أنها سنّة الله سبحانه في عباده. وأيضا لما اشتملت القصة على إنجاء المؤمنين وإهلاك الظالمين ؛ كان في ذلك تقديرا لكونه الغفور الرحيم وأن عذابه هو العذاب الأليم ، وقد مرّ تفسير هذه القصة في سورة هود ، وانتصاب (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) بفعل مضمر معطوف على (نَبِّئْ عِبادِي) أي : واذكر لهم دخولهم عليه ، أو في محل نصب على الحال ، والضيف في الأصل مصدر ، ولذلك وحّد وإن كانوا جماعة ، وسمي ضيفا لإضافته إلى المضيف (فَقالُوا سَلاماً) أي : سلمنا سلاما (قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) أي : فزعون خائفون ، وإنما قال هذا بعد أن قرّب إليهم العجل فرآهم لا يأكلون منه ، كما تقدم في سورة هود : (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) (١). وقيل : أنكر السلام منهم لأنه لم يكن في بلادهم ، وقيل : أنكر دخولهم عليه بغير استئذان

__________________

(١). هود : ٧٠.

١٦١

(قالُوا لا تَوْجَلْ) أي : قالت الملائكة لا تخف ، وقرئ لا تأجل ولا توجل ؛ من أوجله ، أي : أخافه ، وجملة (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) مستأنفة لتعليل النهي عن الوجل ، والعليم : كثير العلم ، وقيل : هو الحليم كما وقع في موضع آخر من القرآن ؛ وهذا الغلام : هو إسحاق كما تقدّم في هود ، ولم يسمّه هنا ولا ذكر التبشير بيعقوب اكتفاء بما سلف (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي) قرأ الجمهور بألف الاستفهام ، وقرأ الأعمش «بشرتموني» بغير الألف (عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) في محل نصب على الحال ، أي : مع حالة الكبر والهرم (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) استفهام تعجب ، كأنه عجب من حصول الولد له مع ما قد صار إليه من الهرم الذي جرت العادة بأنه لا يولد لمن بلغ إليه ، والمعنى : فبأيّ شيء تبشرون ، فإن البشارة بما لا يكون عادة لا تصحّ. وقرأ نافع «تبشرون» بكسر النون والتخفيف وإبقاء الكسرة لتدلّ على الياء المحذوفة. وقرأ ابن كثير وابن محيصن بكسر النون مشدّدة على إدغام النون في النون ، وأصله تبشرونني. وقرأ الباقون «تبشرون» بفتح النون (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) أي : باليقين الذي لا خلف فيه ، فإن ذلك وعد الله وهو لا يخلف الميعاد ولا يستحيل عليه شيء ، فإنه القادر على كلّ شيء (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) هكذا قرأ الجمهور بإثبات الألف. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثّاب «من القنطين» بغير ألف ، وروي ذلك عن أبي عمرو ، أي : من الآيسين من ذلك الذي بشرناك به (قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) قرئ بفتح النون من يقنط وبكسرها وهما لغتان. وحكي فيه ضم النون. والضالون : المكذبون ، أو المخطئون الذاهبون عن طريق الصواب ، أي : إنما استبعدت الولد لكبر سنّي لا لقنوطي من رحمة ربي ؛ ثم سألهم عمّا لأجله أرسلهم الله سبحانه ف (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) الخطب : الأمر الخطير والشأن العظيم ، أي : فما أمركم وشأنكم وما الذي جئتم به غير ما قد بشرتموني به ، وكأنه قد فهم أن مجيئهم ليس لمجرد البشارة ، بل لهم شأن آخر لأجله أرسلوا (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) أي : إلى قوم لهم إجرام ، فيدخل تحت ذلك الشّرك وما هو دونه ، وهؤلاء القوم : هم قوم لوط ، ثم استثنى منهم من ليسوا مجرمين فقال : (إِلَّا آلَ لُوطٍ) وهو استثناء متصل ؛ لأنه من الضمير في مجرمين ، ولو كان من قوم لكان منقطعا لكونهم قد وصفوا بكونهم مجرمين ، وليس آل لوط مجرمين ، ثم ذكر ما سيختص به آل لوط من الكرامة لعدم دخولهم مع القوم في إجرامهم فقال : (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) أي : آل لوط ، وهم أتباعه وأهل دينه ، وهذه الجملة مستأنفة على تقدير كون الاستثناء متصلا ، كأنه قيل : ماذا يكون حال آل لوط؟ فقال : إنا لمنجوهم أجمعين ، وأما على تقدير كون الاستثناء منقطعا فهي خبر ، أي : لكن آل لوط ناجون من عذابنا. وقرأ حمزة والكسائي (لَمُنَجُّوهُمْ) بالتخفيف من أنجى. وقرأ الباقون بالتشديد من نجّى. واختار هذه القراءة الأخيرة أبو عبيد وأبو حاتم ، والتنجية والإنجاء : التخليص ممّا وقع فيه غيرهم (إِلَّا امْرَأَتَهُ) هذا الاستثناء من الضمير في منجوهم إخراجا لها من التنجية ؛ أي : إلا امرأته فليست ممّن ننجيه بل ممّن نهلكه ؛ وقيل : إن الاستثناء من آل لوط باعتبار ما حكم لهم به من التنجية ، والمعنى : قالوا : إننا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنهلكهم إلا آل لوط إنا لمنجوهم إلا امرأته فإنها من الهالكين ، ومعنى (قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) قضينا وحكمنا أنها من الباقين في العذاب مع الكفرة ، والغابر الباقي ، قال الشاعر (١) :

__________________

(١). هو الحارث بن حلزة.

١٦٢

لا تكسع الشّول بأغبارها

إنّك لا تدري من النّاتج (١)

والإغبار : بقايا اللبن. قال الزجّاج : معنى قدّرنا دبرنا ، وهو قريب من معنى قضينا ، وأصل التقدير : جعل الشيء على مقدار الكفاية. وقرأ عاصم من رواية أبي بكر والمفضل «قدرنا» بالتخفيف ، وقرأ الباقون بالتشديد. قال الهروي : هما بمعنى ، وإنما أسند التقدير إلى الملائكة مع كونه من فعل الله سبحانه لما لهم من القرب عند الله (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ) هذه الجملة مستأنفة لبيان وإهلاك من يستحق الهلاك وتنجية من يستحق النجاة (قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي : قال لوط مخاطبا لهم إنكم قوم منكرون ، أي : لا أعرفكم بل أنكركم (قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي : بالعذاب الذي كانوا يشكون فيه ، فالإضراب هو عن مجيئهم بما ينكره ؛ كأنهم قالوا : ما جئناك بما خطر ببالك من المكروه ، بل جئناك بما فيه سرورك ، وهو عذابهم الذي كنت تحذرهم منه وهم يكذبونك (وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِ) أي : باليقين الذي لا مرية فيه ولا تردّد ، وهو العذاب النازل بهم لا محالة (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) في ذلك الخبر الذي أخبرناك. وقد تقدّم تفسير قوله : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) (٢) في سورة هود : (وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) كن من ورائهم تذودهم لئلا يتخلف منهم أحد فيناله العذاب (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) أي : لا تلتفت أنت ولا يلتفت أحد منهم فيرى ما نزل بهم من العذاب ، فيشتغل بالنظر في ذلك ويتباطأ عن سرعة السير والبعد عن ديار الظالمين ؛ وقيل : معنى لا يلتفت ؛ لا يتخلف (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) أي : إلى الجهة التي أمركم الله سبحانه بالمضيّ إليها ، وهي جهة الشام ، وقيل : مصر ، وقيل : قرية من قرى لوط ، وقيل : أرض الخليل (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ) أي : أوحينا إلى لوط (ذلِكَ الْأَمْرَ) وهو إهلاك قومه ، ثم فسّره بقوله : (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ) قال الزّجّاج : موضع أن نصب ، وهو بدل من ذلك الأمر ، والدابر هو الآخر ، أي : أن آخر من يبقى منهم يهلك وقت الصبح ، وانتصاب (مُصْبِحِينَ) على الحال ، أي : حال كونهم داخلين في وقت الصبح ، ومثله : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا).

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله : (آمِنِينَ) قال : أمنوا الموت فلا يموتون ولا يكبرون ولا يسقمون ولا يعرون ولا يجوعون. وأخرج ابن جرير عن عليّ (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) قال : العداوة. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن الحسن البصري قال : قال عليّ بن أبي طالب : فينا والله أهل الجنة نزلت (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ). وأخرج ابن عساكر وابن مردويه عنه في الآية قال : نزلت في ثلاثة أحياء من العرب : في بني هاشم ، وبني تيم ، وبني عديّ ، فيّ وفي أبي بكر وعمر. وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن كثير النّوّاء. قال : قلت

__________________

(١). «الكسع» : ضرب ضرع الناقة بالماء البارد ليجف لبنها ويترادّ في ظهرها فيكون أقوى لها على الجدب في العام القابل. «الشول» : جمع شائلة ، وهي من الإبل التي أتى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر فخفّ لبنها.

(٢). هود : ٨١.

١٦٣

لأبي جعفر : إن فلانا حدثني عن عليّ بن الحسين أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر وعليّ : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) قال : والله إنها لفيهم أنزلت ؛ وفيمن تنزل إلا فيهم؟ قلت : وأي غلّ هو؟ قال : غلّ الجاهلية ، إن بني تيم وبني عديّ وبني هاشم كان بينهم في الجاهلية ، فلما أسلم هؤلاء القوم تحابّوا ، فأخذت أبا بكر الخاصرة (١) ، فجعل عليّ يسخن يده فيكمد بها خاصرة أبي بكر ، فنزلت هذه الآية. وأخرج سعيد ابن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه عن عليّ من طرق أنه قال لابن طلحة : إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك من الذين قال الله فيهم (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ) الآية ، فقال رجل من همدان : الله أعدل من ذلك ، فصاح عليّ عليه صيحة تداعى لها القصر وقال : فيمن إذن إن لم نكن نحن أولئك. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والطبراني وابن مردويه عن عليّ قال : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان والزبير وطلحة فيمن قال الله : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ). وأخرج ابن مردويه وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في هذه الآية قال : نزلت في عشرة : أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وسعيد ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن مسعود. وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح موقوفا عليه. وأخرج ابن أبي شيبة وهناد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) قال : لا يرى بعضهم قفا بعض. وأخرجه ابن المنذر وابن مردويه عن مجاهد عن ابن عباس. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وأبو القاسم البغوي وابن مردويه وابن عساكر عن زيد بن أبي أوفى قال : «خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتلا هذه الآية (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) قال : المتحابّون في الله في الجنّة ينظر بعضهم إلى بعض». وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) قال : المشقة والأذى. وأخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق عطاء بن أبي رباح عن رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : اطلع علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة فقال : «ألا أراكم تضحكون ، ثم أدبر حتّى إذا كان عند الحجر رجع القهقرى فقال : إني لما خرجت جاء جبريل فقال : يا محمد إن الله عزوجل يقول : لم تقنط عبادي؟ (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ)». وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مصعب بن ثابت قال : مرّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ناس من أصحابه يضحكون فقال : «اذكروا الجنة واذكروا النار ، فنزلت (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)».

وأخرج الطبراني والبزار وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال : مرّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر نحوه. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة ، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة ، فلو يعلم الكافر كل الذي عند الله من رحمته لم بيأس من الرحمة ، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار».

__________________

(١). أي وجع الخاصرة.

١٦٤

وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة (قالُوا لا تَوْجَلْ) لا تخف. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي (مِنَ الْقانِطِينَ) قال : الآيسين. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة (إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) يعني الباقين في عذاب الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) قال : أنكرهم لوط ، وفي قوله : (بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) قال : بعذاب قوم لوط. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة (بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) قال : يشكون. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله : (وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) قال : أمر أن يكون خلف أهله يتبع أدبارهم في آخرهم إذا مشوا. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) قال : أخرجهم الله إلى الشام. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) قال : أوحيناه إليه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ) يعني : استئصالهم وهلاكهم.

(وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧))

ذكر سبحانه ما كان من قوم لوط عند وصول الملائكة إلى قريتهم فقال : (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) أي : أهل مدينة قوم لوط ، وهي سدوم كما سبق ، وجملة يستبشرون في محل نصب على الحال ، أي : مستبشرون بأضياف لوط طمعا في ارتكاب الفاحشة منهم ف (قالَ) لهم لوط (إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي) وحدّ الضيف لأنه مصدر كما تقدّم ، والمراد أضيافي ، وسماهم ضيفا لأنه رآهم على هيئة الأضياف ، وقومه رأوهم مردا حسان الوجوه ، فلذلك طمعوا فيهم (فَلا تَفْضَحُونِ) يقال : فضحه يفضحه فضيحة وفضحا ؛ إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار بإظهاره ، والمعنى : لا تفضحون عندهم بتعرّضكم لهم بالفاحشة فيعلمون أني عاجز عن حماية من نزل بي ، أو لا تفضحون فضيحة ضيفي ، فإن من فعل ما يفضح الضيف فقد فعل ما يفضح المضيف (وَاتَّقُوا اللهَ) في أمرهم (وَلا تُخْزُونِ) يجوز أن تكون من الخزي ؛ وهو الذلّ والهوان ، ويجوز أن يكون من الخزاية وهي الحياء والخجل ، وقد تقدّم تفسير ذلك في هود (قالُوا) أي : قوم لوط مجيبين له (أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) الاستفهام للإنكار ، والواو للعطف على مقدّر ، أي : ألم نتقدّم إليك وننهك عن أن تكلمنا في شأن أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة؟ وقيل : نهوه عن ضيافة الناس ، ويجوز حمل ما في الآية على ما هو أعمّ من هذين الأمرين (قالَ هؤُلاءِ بَناتِي) فتزوّجوهنّ (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) ما عزمتم عليه من فعل الفاحشة بضيفي فهؤلاء بناتي تزوّجوهنّ حلالا ولا ترتكبوا الحرام ؛ وقيل : أراد ببناته نساء قومه ؛ لكون النبيّ بمنزلة الأب لقومه ، وقد تقدّم تفسير هذا في هود (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) العمر والعمر بالفتح والضم واحد ، لكنهم خصّوا القسم بالمفتوح لإيثار الأخف فإنه كثير الدور على ألسنتهم ، ذكر ذلك

١٦٥

الزجاج. قال القاضي عياض : اتفق أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله جلّ جلاله بمدة حياة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذا حكى إجماع المفسرين على هذا المعنى أبو بكر بن العربي فقال : قال المفسرون بأجمعهم : أقسم الله تعالى هاهنا بحياة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشريفا له. قال أبو الجوزاء : ما أقسم الله سبحانه بحياة أحد غير محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه أكرم البرية عنده. قال ابن العربي : ما الذي يمتنع أن يقسم الله سبحانه بحياة لوط ويبلغ به من التشريف ما شاء ، وكلّ ما يعطيه الله تعالى للوط من فضل يؤتي ضعفه من شرف لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه أكرم على الله منه ، أو لا تراه سبحانه أعطى إبراهيم الخلة وموسى التكليم ، وأعطى ذلك لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فإذا أقسم الله سبحانه بحياة لوط فحياة محمد أرفع. قال القرطبي : ما قاله حسن ، فإنه يكون قسمه سبحانه بحياة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلاما معترضا في قصة لوط ، فإن قيل : قد أقسم الله سبحانه بالتين والزيتون وطور سينين ، ونحو ذلك فما فيهما من فضل؟ وأجيب بأنه ما من شيء أقسم الله به إلا وفي ذلك دلالة على فضله على جنسه ، وذكر صاحب الكشاف وأتباعه أن هذا القسم هو من الملائكة على إرادة القول ، أي : قالت الملائكة للوط لعمرك ، ثم قال : وقيل : الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحد قط كرامة له انتهى. وقد كره كثير من العلماء القسم بغير الله سبحانه ، وجاءت بذلك الأحاديث الصحيحة في النهي عن القسم بغير الله ، فليس لعباده أن يقسموا بغيره ، وهو سبحانه يقسم بما شاء من مخلوقاته : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (١) ، وقيل : الإقسام منه سبحانه بالتين والزيتون وطور سينين والنجم والضحى والشمس والليل ونحو ذلك هو على حذف مضاف هو المقسم به ، أي : وخالق التين وكذلك ما بعده ، وفي قوله : (لَعَمْرُكَ) أي : وخالق عمرك ، ومعنى (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) لفي غوايتهم يتحيرون ، جعل الغواية لكونها تذهب بعقل صاحبها كما تذهب به الخمر سكرة ، والضمير لقريش على أن القسم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لقوم لوط على أن القسم للرسول عليه‌السلام (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) العظيمة أو صيحة جبريل حال كونهم (مُشْرِقِينَ) أي : داخلين في وقت الشروق ، يقال : أشرقت الشمس ، أي : أضاءت وشرقت إذا طلعت ، وقيل : هما لغتان بمعنى واحد ، وأشرق القوم إذا دخلوا في وقت شروق الشمس ؛ وقيل : أراد شروق الفجر ؛ وقيل : أوّل العذاب كان عند شروق الفجر وامتدّ إلى طلوع الشمس. والصيحة : العذاب (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) أي : عالي المدينة سافلها (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) من طين متحجّر ، وقد تقدّم الكلام مستوفى على هذا في سورة هود (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : في المذكور من قصّتهم وبيان ما أصابهم (لَآياتٍ) لعلامات يستدلّ بها (لِلْمُتَوَسِّمِينَ) للمتفكرين الناظرين في الأمر ، ومنه قول زهير :

وفيهنّ ملهى للصّديق ومنظر

أنيق لعين النّاظر المتوسّم

وقال آخر (٢) :

أو كلّما وردت عكاظ قبيلة

بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم

__________________

(١). الأنبياء : ٢٣.

(٢). هو طريف بن تميم العنبري.

١٦٦

وقال أبو عبيدة : للمتبصرين ، وقال ثعلب : الواسم الناظر إليك من فرقك إلى قدمك ، والمعنى متقارب. وأصل التوسّم التثبّت والتفكّر ، مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في جلد البعير (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) يعني قرى قوم لوط أو مدينتهم على طريق ثابت ، وهي الطريق من المدينة إلى الشام ؛ فإن السالك في هذه الطريق يمرّ بتلك القرى (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور من المدينة أو القرى (لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) يعتبرون بها فإنّ المؤمنين من العباد هم الذين يعتبرون بما يشاهدونه من الآثار.

وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) قال : استبشروا بأضياف نبيّ الله لوط حين نزلوا به لما أرادوا أن يأتوا إليهم من المنكر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : (أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) قال : يقولون أو لم ننهك أن تضيف أحدا أو تؤويه. (قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أمرهم لوط بتزويج النساء ، وأراد أن يقي أضيافه ببناته. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم عن ابن عباس قال : ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره قال : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) يقول : وحياتك يا محمد وعمرك وبقائك في الدنيا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : (لَعَمْرُكَ) قال : لعيشك. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : ما حلف الله بحياة أحد إلا بحياة محمد قال : (لَعَمْرُكَ) الآية. وأخرج ابن جرير عن إبراهيم النخعي قال : كانوا يكرهون أن يقول الرجل لعمري ، يرونه كقوله وحياتي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي : في ضلالهم يلعبون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الأعمش في الآية : لفي غفلتهم يتردّدون.

وأخرج ابن جرير عنه (مُشْرِقِينَ) قال : حين أشرقت الشمس. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس في قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) قال : علامة أما ترى الرجل يرسل خاتمه إلى أهله ، فيقول : هاتوا كذا وكذا ، فإذا رأوه عرفوا أنه حق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (لِلْمُتَوَسِّمِينَ) قال : للناظرين. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، عن قتادة قال : للمعتبرين. وأخرج ابن جريج وابن المنذر عن مجاهد قال : للمتفرّسين. وأخرج البخاري في التاريخ ، والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن السني وأبو نعيم وابن مردويه والخطيب عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتّقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله ، ثم قرأ : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ)». وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) يقول : لبهلاك. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : لبطريق مقيم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال : لبطريق واضح.

١٦٧

(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦))

قوله : (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) إن هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن المحذوف ، أي : وإن الشأن كان أصحاب الأيكة. والأيكة : الغيضة ، وهي جماع الشجر ، والجمع : الأيك. ويروى أن شجرهم كان دوما ، وهو المقل ، فالمعنى : وإن كان أصحاب الشجر المجتمع ؛ وقيل : الأيكة اسم القرية التي كانوا فيها. قال أبو عبيدة : الأيكة وليكة مدينتهم كمكة وبكّة ، وأصحاب الأيكة هم قوم شعيب ، وقد تقدّم خبرهم ، واقتصر الله سبحانه هنا على وصفهم بالظلم ، وقد فصّل ذلك الظلم فيما سبق ، والضمير في (وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) يرجع إلى مدينة قوم لوط ، ومكان أصحاب الأيكة أي : وإن المكانين لبطريق واضح ، والإمام اسم لما يؤتمّ به ، ومن جملة ذلك الطريق التي تسلك. قال الفراء والزجاج : سمّي الطريق إماما لأنه يؤتمّ ويتبع. وقال ابن قتيبة : لأن المسافر يأتمّ به حتى يصل إلى الموضع الذي يريده ؛ وقيل : الضمير للأيكة ومدين لأن شعيبا كان ينسب إليهما. ثم إنّ الله سبحانه ختم القصص بقصة ثمود فقال : (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) الحجر : اسم لديار ثمود. قاله الأزهري ، وهي ما بين مكة وتبوك. وقال ابن جرير : هي أرض بين الحجاز والشام. وقال : المرسلين ، ولم يرسل إليهم إلا صالح ، لأنّ من كذّب واحدا من الرسل فقد كذب الباقين ؛ لكونهم متفقين في الدعوة إلى الله ؛ وقيل : كذّبوا صالحا ومن تقدّمه من الأنبياء ، وقيل : كذّبوا صالحا ومن معه من المؤمنين (وَآتَيْناهُمْ آياتِنا) أي : الآيات المنزلة على نبيهم ، ومن جملتها الناقة ؛ فإن فيها آيات جمة كخروجها من الصخرة ودنوّ نتاجها عند خروجها وعظمها وكثرة لبنها (فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) أي : غير معتبرين ، ولهذا عقروا الناقة وخالفوا ما أمرهم به نبيّهم (وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) النحت في كلام العرب : البري والنجر ، نحته ينحته بالكسر نحتا ، أي : براه ، وفي التنزيل : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) (١) أي : تنجرون ، وكانوا يتّخذون لأنفسهم من الجبال بيوتا ؛ أي : يخرقونها في الجبال ، وانتصاب (آمِنِينَ) على الجر ، قال الفراء : آمنين من أن يقع عليهم ، وقيل : آمنين من الموت ، وقيل : من العذاب ، ركونا منهم على قوّتها ووثاقتها (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) أي : داخلين في وقت الصبح ، وقد تقدم ذكر الصيحة في الأعراف وفي هود ، وتقدم أيضا قريبا (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي : لم يدفع عنهم شيئا من عذاب الله ما كانوا يكسبون من الأموال والحصون في الجبال (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) أي : متلبّسة بالحق ، وهو ما فيهما من الفوائد والمصالح ، وقيل : المراد بالحق مجازاة المحسن بإحسانه والمسيئ بإساءته ، كما في قوله سبحانه : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ

__________________

(١). الصافات : ٩٥.

١٦٨

وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (١) ، وقيل : المراد بالحق الزوال لأنها مخلوقة وكلّ مخلوق زائل (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) وعند إتيانها ينتقم الله ممن يستحق العذاب ، ويحسن إلى من يستحق الإحسان ، وفيه وعيد للعصاة وتهديد ، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يصفح عن قومه ، فقال : (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) أي : تجاوز عنهم واعف عفوا حسنا ؛ وقيل : فأعرض عنهم إعراضا جميلا ولا تعجل عليهم ، وعاملهم معاملة الصفوح الحليم. قيل : وهذا منسوخ بآية السيف (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) أي : الخالق للخلق جميعا العليم بأحوالهم وبالصالح والطالح منهم.

وقد أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ مدين وأصحاب الأيكة أمّتان بعث الله إليهما شعيبا». وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال : أصحاب الأيكة هم قوم شعيب ، والأيكة ذات آجام وشجر كانوا فيها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الأيكة الغيضة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : أصحاب الأيكة أهل مدين ، والأيكة : الملتفة من الشجر. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : الأيكة : مجمع الشيء. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال في قوله : (وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) طريق ظاهر. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في أصحاب الحجر قال : أصحاب الوادي. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : كان أصحاب الحجر : ثمود وقوم صالح. وأخرج البخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحاب الحجر (٢) : «لا تدخلوا على هؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم». وأخرج ابن مردويه عنه قال : نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام غزوة تبوك بالحجر عند بيوت ثمود ، فاستقى الناس من مياه الآبار التي كانت تشرب منها ثمود وعجنوا منها ونصبوا القدور باللحم ، فأمرهم بإهراق القدور ، وعلفوا العجين الإبل ، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذّبوا ، فقال : «إني أخشى أن يصيبكم مثل الذي أصابهم فلا تدخلوا عليهم». وأخرج ابن مردويه عن سبرة بن معبد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال بالحجر لأصحابه : «من عمل من هذا الماء شيئا فليلقه». قال : ومنهم من عجن العجين ، ومنهم من حاس الحيس. وأخرج ابن مردويه وابن النجار عن عليّ في قوله : (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) قال : الرضا بغير عتاب. وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال : هذه الآية قبل القتال. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة مثله.

__________________

(١). النجم : ٣١.

(٢). قال في فتح الباري في شرح الحديث (٤٤٢٠) : اللام في قوله : لأصحاب الحجر بمعنى : عن ، وحذف المقول لهم ليعم كل سامع ، والتقدير : قال لأمته عن أصحاب الحجر ، وهم ثمود.

١٦٩

(وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩))

اختلف أهل العلم في السبع المثاني ماذا هي؟ فقال جمهور المفسرين : إنها الفاتحة. قال الواحدي وأكثر المفسرين على أنها فاتحة الكتاب ، وهو قول عمر وعليّ وابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة والربيع والكلبي. وزاد القرطبي أبا هريرة وأبا العالية ، وزاد النيسابوري الضحّاك وسعيد بن جبير. وقد روي ذلك من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما سيأتي بيانه فتعيّن المصير إليه. وقيل : هي السبع الطوال : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف. والسابعة الأنفال والتوبة ، لأنها كسورة واحدة إذ ليس بينهما تسمية ، روي هذا القول عن ابن عباس. وقيل : المراد بالمثاني السبعة الأحزاب فإنها سبع صحائف ، والمثاني جمع مثناة من التثنية أو جمع مثنية. وقال الزجاج : تثنى بما يقرأ بعدها معها. فعلى القول الأوّل يكون وجه تسمية الفاتحة مثاني أنها تثنى ، أي : تكرّر في كل صلاة ، وعلى القول بأنها السبع الطوال فوجه التسمية إن العبر والأحكام والحدود كررت فيها ، وعلى القول بأنها السبعة الأحزاب يكون وجه التسمية هو تكرير ما في القرآن من القصص ونحوها. وقد ذهب إلى أن المراد بالسبع المثاني القرآن كله الضحّاك وطاوس وأبو مالك ، وهو رواية عن ابن عباس ، واستدلوا بقوله تعالى : (كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) (١). وقيل : المراد بالسبع المثاني أقسام القرآن ؛ وهي الأمر ، والنهي ، والتبشير ، والإنذار ، وضرب الأمثال ، وتعريف النعم ، وأنباء قرون ماضية. قاله زياد ابن أبي مريم ، ولا يخفى عليك أن تسمية الفاتحة مثاني لا تستلزم نفي تسمية غيرها بهذا الاسم ، وقد تقرّر أنها المرادة بهذه الآية ، فلا يقدح في ذلك صدق وصف المثاني على غيرها (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) معطوف على (سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) ويكون من عطف العام على الخاص ؛ لأن الفاتحة بعض من القرآن ، وكذلك إن أريد بالسبع المثاني السبع الطوال لأنّها بعض من القرآن ، وأما إذا أريد بها السبعة الأحزاب أو جميع القرآن أو أقسامه ، فيكون من باب عطف أحد الوصفين على الآخر ، كما قيل في قول الشاعر :

إلى الملك القرم وابن الهمام (٢)

ومما يقوّي كون السبع المثاني هي الفاتحة أن هذه السورة مكية ، وأكثر السبع الطوال مدنية ، وكذلك أكثر القرآن وأكثر أقسامه ، وظاهر قوله : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) أنه قد تقدّم إيتاء السبع على

__________________

(١). الزمر : ٢٣.

(٢). وعجزه : وليث الكتيبة في المزدحم.

١٧٠

نزول هذه الآية ، و «من» في من المثاني للتبعيض أو البيان على اختلاف الأقوال ، ذكر معنى ذلك الزجاج فقال : هي للتبعيض إذا أردت بالسبع الفاتحة أو الطوال ، وللبيان إذا أردت الأسباع. ثم لمّا بيّن لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أنعم به عليه من هذه النعمة الدينية نفره عن اللذات العاجلة الزائلة فقال : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) أي : لا تطمح ببصرك إلى زخارف الدنيا طموح رغبة فيها وتمنّ لها ، والأزواج الأصناف ، قاله ابن قتيبة. وقال الجوهري : الأزواج : القرناء. قال الواحدي : إنما يكون مادا عينيه إلى الشيء إذا أدام النظر نحوه ، وإدامة النظر إليه تدلّ على استحسانه وتمنيه. وقال بعضهم : معنى الآية لا تحسدنّ أحدا على ما أوتي من الدنيا ، وردّ بأن الحسد منهي عنه مطلقا ، وإنما قال في هذه السورة لا تمدنّ بغير واو ، لأنه لم يسبقه طلب بخلاف ما في سورة طه ، ثم لما نهاه عن الالتفات إلى أموالهم وأمتعتهم نهاه عن الالتفات إليهم ، فقال : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) حيث لم يؤمنوا وصمّموا على الكفر والعناد ؛ وقيل : المعنى : لا تحزن على ما متعوا به في الدنيا فلك الآخرة ، والأوّل أولى ، ثم لما نهاه عن أن يمدّ عينيه إلى أموال الكفار ولا يحزن عليهم. وكان ذلك يستلزم التهاون بهم وبما معهم أمره أن يتواضع للمؤمنين ، فقال : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) وخفض الجناح كناية عن التواضح ولين الجانب ، ومنه قوله سبحانه : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ) ، وقول الكميت :

خفضت لهم مني جناحي مودّة

إلى كنف عطفاه أهل ومرحب

وأصله أن الطائر إذا ضمّ فرخه إلى نفسه بسط جناحه ، ثم قبضه على الفرخ ، فجعل ذلك وصفا لتواضع الإنسان لأتباعه ؛ ويقال : فلان خافض الجناح ، أي : وقور ساكن ، والجناحان من ابن آدم جانباه ، ومنه : (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) ومنه قول الشاعر :

وحسبك فتية لزعيم قوم

يمدّ على أخي سقم جناحا

(وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) أي : المنذر المظهر لقومه ما يصيبهم من عذاب الله (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) قيل : المفعول محذوف ، أي : مفعول أنزلنا ، والتقدير : كما أنزلنا على المقتسمين عذابا ، فيكون المعنى : إني أنا النذير المبين لكم من عذاب مثل عذاب المقتسمين الذي أنزلناه عليهم ، كقوله تعالى : (أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) (١) ، وقيل : إن الكاف زائدة ، والتقدير : إني أنا النذير المبين أنذرتكم ما أنزلنا على المقتسمين من العذاب ؛ وقيل : هو متعلّق بقوله : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ) ، أي : أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون ، والأولى أن يتعلّق بقوله : (إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) لأنه في قوّة الأمر بالإنذار. وقد اختلف في المقتسمين من هم؟ فقال الفراء : هم ستة عشر رجلا ، بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم ، فاقتسموا أنقاب مكة وفجاجها يقولون لمن دخلها : لا تغترّوا بهذا الخارج فينا فإنه مجنون ، وربما قالوا ساحر ، وربما قالوا شاعر ، وربما قالوا كاهن ، فقيل لهم مقتسمين لأنهم اقتسموا هذه الطرق. وقيل :

__________________

(١). فصلت : ١٣.

١٧١

إنهم قوم من قريش اقتسموا كتاب الله ، فجعلوا بعضه شعرا ، وبعضه سحرا ، وبعضه كهانة ، وبعضه أساطير الأوّلين. قاله قتادة ، وقيل : هم أهل الكتاب ، وسمّوا مقتسمين لأنهم كانوا يقتسمون القرآن استهزاء ، فيقول بعضهم هذه السورة لي وهذه لك ، روي هذا عن ابن عباس. وقيل : إنهم قسموا كتابهم وفرّقوه وبدّدوه وحرّفوه ؛ وقيل : المراد قوم صالح تقاسموا على قتله قسموا مقتسمين كما قال تعالى : (تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) (١) ، وقيل : تقاسموا أيمانا تحالفوا عليها ، قاله الأخفش ؛ وقيل : إنهم العاص بن وائل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام والنضر بن الحارث وأمية بن خلف ومنبه بن الحجاج ؛ ذكره الماوردي. (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) جمع عضة ، وأصلها عضوة فعلة من عضى الشاة إذا جعلها أجزاء ، فيكون المعنى على هذا : الذين جعلوا القرآن أجزاء متفرّقة ، بعضه شعر ، وبعضه سحر ، وبعضه كهانة ونحو ذلك ؛ وقيل : هو مأخوذ من عضهه إذا بهته ، فالمحذوف منه الهاء لا الواو ، وجمعت العضة على المعنيين جمع العقلاء لما لحقها من الحذف فجعلوا ذلك عوضا عما لحقها من الحذف ؛ وقيل : معنى عضين : إيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم ببعض ، وممّا يؤيد أن معنى عضين التفريق ، قول رؤبة :

وليس دين الله بالعضين (٢)

أي : بالمفرّق ، وقيل : العضة والعضين في لغة قريش السحر ؛ وهم يقولون للساحر عاضه ، وللساحرة عاضهة ، ومنه قول الشاعر :

أعوذ بربّي من النافثا

ت في عقد العاضه المعضه

وفي الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعن العاضهة والمستعضهة ، وفسّر بالساحرة والمستسحرة ، والمعنى : أنهم أكثروا البهت على القرآن ، وسمّوه سحرا وكذبا وأساطير الأوّلين ، ونظير عضة في النقصان شفة ، والأصل شفهة ، وكذلك سنة ، والأصل سنهة ، قال الكسائي : العضة الكذب والبهتان ، وجمعها عضون. وقال الفراء : إنه مأخوذ من العضاء ، وهي شجر يؤذي ويجرح كالشّوك ، ويجوز أن يراد بالقرآن التوراة والإنجيل لكونهما مما يقرأ ، ويراد بالمقتسمين هم اليهود والنصارى ، أي : جعلوهما أجزاء متفرّقة ، وهو أحد الأقوال المتقدّمة (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) أي : لنسألنّ هؤلاء الكفرة أجمعين يوم القيامة عمّا كانوا يعملون في الدنيا من الأعمال التي يحاسبون عليها ويسألون عنها ؛ وقيل : إن المراد سؤالهم عن كلمة التوحيد ، والعموم في عمّا كانوا يعملون ، يفيد ما هو أوسع من ذلك ؛ وقيل : إن المسؤولين هاهنا هم جميع المؤمنين والعصاة والكفار ، ويدلّ عليه قوله : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (٣) ، وقوله : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (٤) ، وقوله : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ـ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) (٥) ، ويمكن أن يقال : إن قصر هذا السؤال على المذكورين في السياق وصرف العموم إليهم لا ينافي سؤال غيرهم (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) قال الزجّاج : يقول أظهر ما

__________________

(١). النمل : ٤٩.

(٢). في تفسير القرطبي (١٠ / ٥٩) : بالمعضّى.

(٣). التكاثر : ٨.

(٤). الصافات : ٢٤.

(٥). الغاشية : ٢٥ و ٢٦.

١٧٢

تؤمر به ، أخذ من الصديع وهو الصبح انتهى. وأصل الصّدع الفرق والشق ، يقال : صدعته فانصدع ؛ أي : انشق ، وتصدّع القوم ، أي : تفرّقوا ، ومنه : (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) (١) أي : يتفرّقون. قال الفراء : أراد فاصدع بالأمر ؛ أي : أظهر دينك فما مع الفعل على هذا بمنزلة المصدر ، وقال ابن الأعرابي : معنى اصدع بما تؤمر ؛ أي : اقصد ؛ وقيل : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) أي : فرق جمعهم وكلمتهم بأن تدعوهم إلى التوحيد فإنهم يتفرّقون ، والأولى أن الصدع الإظهار ، كما قاله الزجّاج والفراء وغيرهم. قال النحويون : المعنى بما تؤمر به من الشرائع ، وجوّزوا أن تكون مصدرية ، أي : يأمرك وشأنك. قال الواحدي : قال المفسرون : أي : اجهر بالأمر. أي : بأمرك بعد إظهار الدعوة ، وما زال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستخفيا حتى نزلت هذه الآية ، ثم أمره سبحانه بعد أمره بالصدع بالإعراض وعدم الالتفات إلى المشركين ، فقال : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) أي : لا تبال بهم ولا تلتفت إليهم إذا لاموك على إظهار الدعوة ، ثم أكّد هذا الأمر وثبّت قلب رسوله بقوله : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) مع كونهم كانوا من أكابر الكفار ، وأهل الشوكة فيهم ، فإذا كفاه الله أمرهم بقمعهم وتدميرهم كفاه أمر من هو دونهم بالأولى ، وهؤلاء المستهزئون كانوا خمسة من رؤساء أهل مكة : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن المطلب بن الحارث بن زمعة ، والأسود بن عبد يغوث ، والحارث بن الطلاطلة. كذا قال القرطبي ووافقه غيره من المفسرين. وقد أهلكهم الله جميعا ، وكفاه أمرهم في يوم واحد ، ثم وصف هؤلاء المستهزئين بالشرك فقال : (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) فلم يكن ذنبهم مجرّد الاستهزاء ، بل لهم ذنب آخر وهو الشرك بالله سبحانه ، ثم توعدهم فقال : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) كيف عاقبتهم في الآخرة وما يصيبهم من عقوبة الله سبحانه ، ثم ذكر تسلية أخرى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد التسلية الأولى بكفايته شرهم ودفعه لمكرهم فقال : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) من الأقوال الكفرية المتضمنة للطعن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسحر والجنون والكهان والكذب ، وقد كان يحصل ذلك مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمقتضى الجبلة البشرية والمزاج الإنساني ، ثم أمره سبحانه بأن يفزع لكشف ما نابه من ضيق الصدر إلى تسبيح الله سبحانه وحمده فقال : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي : متلبّسا بحمده ؛ أي : افعل التسبيح المتلبس بالحمد (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أي : المصلّين ، فإنك إذا فعلت ذلك كشف الله همك وأذهب غمك وشرح صدرك ، ثم أمره بعبادة ربه ، أي : بالدوام عليها إلى غاية هي قوله (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أي : الموت. قال الواحدي. قال جماعة المفسرين : يعني الموت لأنه موقن به. قال الزّجّاج : المعنى اعبد ربك أبدا ؛ لأنه لو قيل اعبد ربك بغير توقيت لجاز إذا عبد الإنسان مرّة أن يكون مطيعا ، فإذا قال حتى يأتيك اليقين ، فقد أمره بالإقامة على العبادة أبدا ما دام حيا.

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عمر في قوله : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) قال : السبع المثاني فاتحة الكتاب. وأخرجه سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني وابن مردويه والبيهقي من طرق عن علىّ بمثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن مسعود مثله وزاد : والقرآن العظيم

__________________

(١). الروم : ٤٣.

١٧٣

سائر القرآن. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس في الآية قال : فاتحة الكتاب استثناها الله لأمة محمد ، فرفعها في أمّ الكتاب فادّخرها لهم حتى أخرجها ولم يعطها أحد قبل ؛ وقيل : فأين الآية السابعة؟ قال : بسم الله الرحمن الرحيم. وروي عنه نحو هذا من طرق. وأخرج ابن الضّريس وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة قال : السبع المثاني فاتحة الكتاب. وأخرج ابن جرير عن أبيّ بن كعب قال : السبع المثاني الحمد لله رب العالمين. وروي نحو قول هؤلاء الصحابة عن جماعة من التابعين. وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد بن المعلى أنه قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أعلّمك أفضل سورة قبل أن أخرج من المسجد؟ فذهب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليخرج فذكرته ، فقال : الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم».

وأخرج البخاري أيضا من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمّ القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم» فوجب بهذا المصير إلى القول بأنها فاتحة الكتاب ، ولكن تسميتها بذلك لا ينافي تسمية غيرها به كما قدّمنا. وأخرج الفريابي وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال في الآية : هي السبع الطوال. وأخرج الدارمي وابن مردويه عن أبيّ بن كعب مثله. وروي نحو ذلك عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن مردويه من طريق سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال : هي فاتحة الكتاب والسبع الطوال. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : ما ثني من القرآن ، ألم تسمع لقول الله : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) (١). وأخرج ابن جرير عن الضحّاك قال : المثاني القرآن يذكر الله القصة الواحدة مرارا. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن زياد بن أبي مريم في الآية قال : أعطيتك سبعة أجزاء. مر ، وانه ، وبشّر ، وأنذر ، واضرب الأمثال ، واعدد النعم ، واتل نبأ القرآن.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) قال : نهى الرجل أن يتمنّى مال صاحبه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : (أَزْواجاً مِنْهُمْ) قال : الأغنياء ، والأمثال ، والأشباه. وأخرج ابن المنذر عن سفيان بن عيينة قال : من أعطي القرآن فمدّ عينه إلى شيء منها فقد صغر القرآن أي : فقد خالف القرآن ، ألم يسمع إلى قوله : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) وإلى قوله : (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى). وقد فسّر ابن عيينة أيضا الحديث الصحيح : «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن» فقال : إن المعنى يستغني به.

وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ) قال : اخضع. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور والبخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله : (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) الآية قال : هم أهل الكتاب جزّءوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا

__________________

(١). الزمر : ٢٣.

١٧٤

ببعضه. وأخرج ابن جرير من طريق عليّ بن أبي طلحة عنه قال : عضين : فرقا. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس أنها نزلت في نفر من قريش كانوا يصدّون الناس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم الوليد بن المغيرة. وأخرج الترمذي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) قال : «عن قول لا إله إلا الله». وأخرجه ابن أبي شيبة والترمذي وابن جرير وابن المنذر من وجه آخر عن أنس موقوفا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) فامضه ، وفي عليّ بن أبي طلحة مقال معروف. وأخرج ابن جرير عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال : ما زال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستخفيا حتى نزل (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) فخرج هو وأصحابه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : هذا أمر من الله لنبيه بتبليغ رسالته قومه وجميع من أرسل إليه. وأخرج ابن المنذر عنه (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) قال : أعلن بما تؤمر. وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) قال : نسخه قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) (١).

وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه وأبو نعيم ، والضياء في المختارة ، عن ابن عباس في قوله : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) قال : المستهزئون : الوليد بن المغيرة ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب ، والحارث بن عيطل السهمي ، والعاص بن وائل ، وذكر قصة هلاكهم. وقد روي هذا عن جماعة من الصّحابة مع زيادة في عددهم ونقص على طول في ذلك. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر ، والحاكم في التّاريخ ، وابن مردويه والديلمي عن أبي مسلم الخولاني قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أوحي إليّ أن أجمع المال وأكن من التّاجرين ، ولكن أوحي إليّ أن سبّح بحمد ربك وكن من السّاجدين ، واعبد ربّك حتى يأتيك اليقين». وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعا مثله. وأخرج ابن مردويه والديلمي عن أبي الدرداء مرفوعا نحوه. وأخرج الخطيب في المتفق والمفترق من طريق عبيد الله بن أبان بن عثمان بن حذيفة بن أوس الطائفي قال : حدّني أبان بن عثمان عن أبيه عن جدّه يرفعه مثل حديث أبي مسلم الخولاني. وأخرج ابن أبي شيبة عن سالم بن عبد الله بن عمر (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) قال الموت. وأخرج ابن المبارك عن الحسن مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد مثله.

* * *

__________________

(١). التوبة : ٥.

١٧٥

سورة النّحل

وهي مكية كلّها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ، ورواه ابن مردويه عن ابن عباس وعن أبي الزبير. وأخرج النحّاس من طريق مجاهد عن ابن عباس قال : سورة النحل نزلت بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحد ، وقيل : وهي قوله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) (١) الآية ، وقوله : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) (٢) في شأن التّمثيل بحمزة وقتلى أحد ، وقوله : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا) (٣) الآية ، وقيل : الثالثة : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) إلى قوله : (بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٤) وتسمّى هذه السورة سورة النّعم ؛ بسبب ما عدّد الله فيها.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩))

قوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) أي : عقابه للمشركين ، وقال جماعة من المفسّرين : القيامة. قال الزجّاج : هو ما وعدهم به من المجازاة على كفرهم ، وعبّر عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيها على تحقّق وقوعه ؛ وقيل : إن المراد بأمر الله حكمه بذلك ، وقد وقع وأتى ، فأما المحكوم به فإنه لم يقع ؛ لأنه سبحانه حكم بوقوعه في وقت معين ، فقبل مجيء ذلك الوقت لا يخرج إلى الوجود ؛ وقيل : إن المراد بإتيانه إتيان مباديه ومقدّماته (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) نهاهم عن استعجاله ، أي : فلا تطلبوا حضوره قبل ذلك الوقت ، وقد كان المشركون يستعجلون عذاب الله كما قال النّضر بن الحارث : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) (٥) الآية ، والمعنى : قرب أمر الله فلا تستعجلوه ، وقد كان استعجالهم له على طريقة الاستهزاء من دون استعجال على الحقيقة ،

__________________

(١). النحل : ١٢٦.

(٢). النحل : ١٢٧.

(٣). النحل : ١١٠.

(٤). النحل : ٩٥ و ٩٦.

(٥). الأنفال : ٣٢.

١٧٦

وفي نهيهم عن الاستعجال تهكّم بهم (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : تنزّه وترفّع عن إشراكهم ، أو عن أن يكون له شريك ، وشركهم هاهنا هو ما وقع منهم من استعجال العذاب ، أو قيام الساعة استهزاء وتكذيبا ، فإنّه يتضمّن وصفهم له سبحانه بأنه لا يقدر على ذلك ، وأنه عاجز عنه والعجز وعدم القدرة من صفات المخلوق لا من صفات الخالق ، فكان ذلك شركا (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) قرأ المفضّل عن عاصم : تنزّل الملائكة ، والأصل تتنزل ، فالفعل مسند إلى الملائكة. وقرأ الأعمش تنزّل على البناء للمفعول ، وقرأ الجعفيّ عن أبي بكر عن عاصم «ننزّل» بالنون ، والفاعل هو الله سبحانه. وقرأ الباقون «ينزّل الملائكة» بالياء التحتية ، إلا أن ابن كثير وأبا عمرو يسكنان النون ، والفاعل هو الله سبحانه ؛ ووجه اتّصال هذه الجملة بما قبلها أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أخبرهم عن الله أنه قد قرب أمره ، ونهاهم عن الاستعجال تردّدوا في الطريق التي علم بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، فأخبر أنه علم بها بالوحي على ألسن رسل الله سبحانه من ملائكته ، والروح : الوحي ، ومثله : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) (١) وسمّي الوحي روحا لأنه يحيي قلوب المؤمنين ، فإن من جملة الوحي القرآن ، وهو نازل من الدين منزلة الروح من الجسد ؛ وقيل : المراد أرواح الخلائق ؛ وقيل : الروح الرحمة ، وقيل : الهداية لأنها تحيا بها القلوب كما تحيا الأبدان بالأرواح. قال الزجّاج : الروح ما كان فيه من الله حياة بالإرشاد إلى أمره. وقال أبو عبيد : الروح هنا جبريل ، وتكون الباء على هذا بمعنى مع ، «ومن» في «من أمره» بيانية ، أي : بأشياء أو مبتدأ من أمره أو صفة للروح ، أو متعلّق بينزل ، ومعنى (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) على من اختصّه بذلك ، وهم الأنبياء (أَنْ أَنْذِرُوا) قال الزجّاج : (أَنْ أَنْذِرُوا) بدل من الروح ، أي : ينزلهم بأن أنذروا ، وأن إما مفسرة لأن تنزل الوحي فيه معنى القول ، وإما مخففة من الثقيلة وضمير الشأن مقدّر ، أي : بأن الشأن أقول لكم أنذروا ، أي : أعلموا الناس (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) أي : مروهم بتوحيدي وأعلموهم ذلك مع تخويفهم ؛ لأن في الإنذار تخويفا وتهديدا ، والضمير في أنه للشأن (فَاتَّقُونِ) الخطاب للمستعجلين على طريق الالتفات ، وهو تحذير لهم من الشرك بالله ، ثم إنّ الله سبحانه لما أرشدهم إلى توحيده ذكر دلائل التوحيد فقال : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي : أوجدهما على هذه الصفة التي هما عليها بالحق ؛ أي : للدلالة على قدرته ووحدانيته ؛ وقيل : المراد بالحق هنا الفناء والزوال (تَعالى) الله (عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : ترفّع وتقدّس عن إشراكهم أو عن شركة الذي يجعلونه شريكا له. ثم لما كان نوع الإنسان أشرف أنواع المخلوقات السفلية قدّمه وخصّه بالذكر ، فقال : (خَلَقَ الْإِنْسانَ) وهو اسم لجنس هذا النوع (مِنْ نُطْفَةٍ) من جماد يخرج من حيوان ، وهو المنيّ (٢) ، فنقله أطوارا إلى أن كملت صورته ، ونفخ فيه الروح وأخرجه من بطن أمه إلى هذه الدار فعاش

__________________

(١). غافر : ١٥.

(٢). المنيّ : هو مجموع المواد المفرزة من الجهاز التناسلي الذكري أثناء الدفق من القضيب ، ويشمل : النطاف من الخصية ومفرزات الغدد الجنسية اللاحقة ، ويحتوي كل ١ سم ٣ منه على (٥٠ ـ ٣٥٠) مليون نطفة ، وعدد المتحركة فيها : (٦٠ ـ ٧٥) والنطاف المتوسطة الحركة (١٥) وغير المتحركة (١٠)

١٧٧

فيها (فَإِذا هُوَ) بعد خلقه على هذه الصفة (خَصِيمٌ) أي : كثير الخصومة والمجادلة ، والمعنى : أنه كالمخاصم لله سبحانه في قدرته ، ومعنى (مُبِينٌ) ظاهر الخصومة واضحها ، وقيل : يبين عن نفسه ما يخاصم به من الباطل ، والمبين هو المفصح عمّا في ضميره بمنطقه ، ومثله قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (١) ، عقب ذكر خلق الإنسان بخلق الأنعام لما فيها من النفع لهذا النوع ، فالامتنان بها أكمل من الامتنان بغيرها ، فقال : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ) وهي الإبل والبقر والغنم ، وأكثر ما يقال نعم وأنعام للإبل ، ويقال للمجموع ، ولا يقال للغنم مفردة ، ومنه قول حسّان :

وكانت لا يزال بها أنيس

خلال مروجها نعم وشاء

فعطف الشاء على النعم ، وهي هنا الإبل خاصة. قال الجوهري : والنّعم واحد الأنعام ، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل. ثم لما أخبر سبحانه بأنه خلقها لبني آدم بين المنفعة التي فيها لهم فقال : (فِيها دِفْءٌ) الدفء : السخانة ، وهو ما استدفئ به من أصوافها وأوبارها وأشعارها ، والجملة في محلّ النصب على الحال (وَمَنافِعُ) معطوف على دفء ، وهي درّها وركوبها ونتاجها والحراثة بها ونحو ذلك. وقد قيل : إن الدفء : النتاج واللبن. قال في الصّحاح : الدفء نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها ، ثم قال : والدفء أيضا السّخونة ، وعلى هذا فإن أريد بالدفء المعنى الأوّل ، فلا بدّ من حمل المنافع على ما عداه مما ينتفع به منها ، وإن حمل على المعنى الثاني كان تفسير المنافع بما ذكرناه واضحا ؛ وقيل : المراد بالمنافع النتاج خاصة ؛ وقيل : الركوب (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي : من لحومها وشحومها ؛ وخصّ هذه المنفعة بالذكر مع دخولها تحت المنافع لأنها أعظمها ؛ وقيل : خصّها لأن الانتفاع بلحمها وشحمها تعدم عنده عينها بخلاف غيره من المنافع التي فيها ، وتقديم الظرف المؤذن بالاختصاص للإشارة إلى أن الأكل منها هو الأصل ، وغيره نادر (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) أي : لكم فيها مع ما تقدّم ذكره جمال ، والجمال : ما يتجمّل به ويتزين ، والجمال : الحسن ، والمعنى هنا : لكم فيها تجمل وتزين عند الناظرين إليها (حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) أي : في هذين الوقتين ، وهما وقت ردّها من مراعيها ، ووقت تسريحها إليها ، فالرواح رجوعها بالعشيّ من المراعي ؛ والسراح : مسيرها إلى مراعيها بالغداة ، يقال : سرحت الإبل أسرحها سرحا وسروحا ؛ إذا غدوت بها إلى المرعى ، وقدّم الإراحة على التسريح لأن منظرها عند الإراحة أجمل ، وذواتها أحسن لكونها في تلك الحالة قد نالت حاجتها من الأكل والشرب ، فعظمت بطونها وانتفخت ضروعها ، وخصّ هذين الوقتين لأنهما وقت نظر الناظرين إليها لأنها عند استقرارها في الحظائر لا يراها أحد ، وعند كونها في مراعيها هي متفرّقة غير مجتمعة كل واحد منها يرعى في جانب (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) الأثقال : جمع ثقل ، وهو متاع المسافر من طعام وغيره ، وسمّي ثقلا لأنه يثقل الإنسان حمله ؛ وقيل : المراد أبدانهم (إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) أي : لم تكونوا واصلين إليه لو لم يكن معكم إبل تحمل أثقالكم إلا بشق الأنفس لبعده عنكم ، وعدم وجود ما يحمل ما لا بدّ لكم منه في السفر. وظاهره يتناول كل بلد بعيدة من غير تعيين ؛ وقيل : المراد بالبلد مكة ،

__________________

(١). يس : ٧٧.

١٧٨

وقيل : اليمن ومصر والشام لأنها متاجر العرب ، وشق الأنفس : مشقتها. قرأ الجمهور بكسر الشين ، وقرأ أبو جعفر بفتحها. قال الجوهري : والشق : المشقة ، ومنه قوله : (لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) وحكى أبو عبيدة بفتح الشين ، وهما بمعنى ؛ ويجوز أن يكون المفتوح مصدرا من شققت عليه أشقّ شقّا ، والمكسور بمعنى النصف ، يقال : أخذت شقّ الشاة وشقّة الشاة ، ويكون المعنى على هذا في الآية : لم تكونوا بالغيه إلا بذهاب نصف الأنفس من التعب ، وقد امتنّ الله سبحانه على عباده بخلق الأنعام على العموم ، ثم خصّ الإبل بالذكر لما فيها من نعمة حمل الأثقال دون البقر والغنم ، والاستثناء من أعمّ العام ، أي : لم تكونوا بالغيه بشيء من الأشياء إلا بشقّ الأنفس (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ) بالنصب عطفا على الأنعام ؛ أي : وخلق لكم هذه الثلاثة الأصناف ، وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع فيها كلها ؛ وسميت الخيل خيلا لاختيالها في مشيها ، وواحد الخيل خائل كضائن واحد الضأن ، وقيل : لا واحد له. ثم علّل سبحانه خلق هذه الثلاثة الأنواع بقوله : (لِتَرْكَبُوها) وهذه العلة هي باعتبار معظم منافعها لأن الانتفاع بها في غير الركوب معلوم كالتحميل عليها (وَ) عطف (زِينَةً) على محل (لِتَرْكَبُوها) لأنه في محل نصب على أنه علة لخلقها ولم يقل لتتزينوا بها حتى يطابق لتركبوها ؛ لأن الركوب فعل المخاطبين ، والزينة فعل الزائن وهو الخالق ، والتحقيق فيه أن الركوب هو المعتبر في المقصود ، بخلاف الزينة فإنه لا يلتفت إليه أهل الهمم العالية لأنه يورث العجب ، فكأنه سبحانه قال : خلقتها لتركبوها فتدفعوا عن أنفسكم بواسطتها ضرر الإعياء والمشقة ، وأما التزين بها فهو حاصل في نفس الأمر ولكنه غير مقصود بالذات. وقد استدلّ بهذه الآية القائلون بتحريم لحوم الخيل قائلين بأن التعليل بالركوب يدلّ على أنها مخلوقة لهذه المصلحة دون غيرها. قالوا : ويؤيد ذلك إفراد هذه الأنواع الثلاثة بالذكر وإخراجها عن الأنعام فيفيد ذلك اتحاد حكمها في تحريم الأكل. قالوا : ولو كان أكل الخيل جائزا لكان ذكره والامتنان به أولى من ذكر الركوب ، لأنه أعظم فائدة منه ، وقد ذهب إلى هذا مالك وأبو حنيفة وأصحابهما والأوزاعي ومجاهد وأبو عبيد وغيرهم. وذهب الجمهور من الفقهاء والمحدّثين وغيرهم إلى حلّ لحوم الخيل ، ولا حجة لأهل القول الأوّل في التعليل : (لِتَرْكَبُوها) لأن ذكر ما هو الأغلب من منافعها لا ينافي غيره ، ولا نسلم أن الأكل أكثر فائدة من الركوب حتى يذكر ويكون ذكره أقدم من ذكر الركوب ، وأيضا لو كانت هذه الآية تدلّ على تحريم الخيل لدلت على تحريم الحمر الأهلية ، وحينئذ لا يكون ثم حاجة لتحديد التحريم لها عام خيبر ، وقد قدّمنا أن هذه السورة مكية. والحاصل أن الأدلة الصحيحة قد دلت على حلّ أكل لحوم الخيل ، فلو سلمنا أن في هذه الآية متمسكا للقائلين بالتحريم لكانت السنة المطهرة الثابتة رافعة لهذا الاحتمال ، ودافعة لهذا الاستدلال ، وقد أوضحنا هذه المسألة في مؤلفاتنا بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) أي : يخلق ما لا يحيط علمكم به من المخلوقات غير ما قد عدّده هاهنا ؛ وقيل : المراد من أنواع الحشرات والهوامّ في أسافل الأرض ، وفي البحر ممّا لم يره البشر ولم يسمعوا به ؛ وقيل : هو ما أعدّ الله لعباده في الجنة وفي النار ممّا لم تره عين ، ولم تسمع به أذن ، ولا خطر على قلب بشر ؛ وقيل : هو خلق السوس في النبات والدود في الفواكه ؛ وقيل : عين تحت العرش ؛ وقيل : نهر من النور ؛ وقيل : أرض بيضاء ، ولا

١٧٩

وجه للاقتصار في تفسير هذه الآية على نوع من هذه الأنواع ، بل المراد أنه سبحانه يخلق ما لا يعلم به العباد ، فيشمل كل شيء لا يحيط علمهم به ، والتعبير هنا بلفظ المستقبل لاستحضار الصورة ؛ لأنه سبحانه قد خلق ما لا يعلم به العباد (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) القصد مصدر بمعنى الفاعل ، فالمعنى وعلى الله قاصد السّبيل ؛ أي : هداية قاصد الطريق المستقيم بموجب وعده المحتوم وتفضله الواسع ؛ وقيل : هو على حذف مضاف ، والتقدير : وعلى الله بيان قصد السبيل ، والسبيل : الإسلام ، وبيانه بإرسال الرسل وإقامة الحجج والبراهين ، والقصد في السبيل هو كونه موصلا إلى المطلوب ، فالمعنى : وعلى الله بيان الطريق الموصل إلى المطلوب (وَمِنْها جائِرٌ) الضمير في «منها» راجع إلى السبيل بمعنى الطريق ، لأنها تذكر وتؤنث ؛ وقيل : راجع إليها بتقدير مضاف ، أي : ومن جنس السبيل جائر مائل عن الحق عادل منه ، فلا يهتدى به ، ومنه قول امرئ القيس :

ومن الطريقة جائر وهدى

قصد السبيل منه ذو دخل (١)

وقيل : إن الطريق كناية عن صاحبها ، والمعنى : ومنهم جائر عن سبيل الحق ؛ أي : عادل عنه ، فلا يهتدي إليه قيل وهم أهل الأهواء المختلفة ، وقيل : أهل الملل الكفرية ، وفي مصحف عبد الله : «ومنكم جائر» وكذا قرأ عليّ (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أي : ولو شاء أن يهديكم جميعا إلى الطريق الصحيح ، والمنهج الحق لفعل ذلك ، ولكنه لم يشأ ، بل اقتضت مشيئته سبحانه إراءة الطريق والدلالة عليها : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) ، وأما الإيصال إليها بالفعل فذلك يستلزم أن لا يوجد في العباد كافر ، ولا من يستحق النار من المسلمين ، وقد اقتضت المشيئة الربانية أنه يكون البعض مؤمنا والبعض كافرا ، كما نطق بذلك القرآن في غير موضع.

وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : «لما نزل (أَتى أَمْرُ اللهِ) ذعر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نزلت (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) فسكنوا». وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي بكر بن حفص قال : «لما نزلت (أَتى أَمْرُ اللهِ) قاموا ، فنزلت (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ)». وأخرج ابن مردويه من طريق الضحّاك عن ابن عباس (أَتى أَمْرُ اللهِ) قال : خروج محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج قال : «لما نزلت هذه الآية (أَتى أَمْرُ اللهِ) قال رجال من المنافقين بعضهم لبعض : إن هذا يزعم أن أمر الله أتى ، فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى تنظروا ما هو كائن ، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا : ما نراه نزل شيء ، فنزلت : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) (٢) ، فقالوا : إن هذا يزعم مثلها أيضا ، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا : ما نراه نزل شيء ، فنزلت : (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) الآية» (٣). وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحّاك في قوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) قال : الأحكام والحدود والفرائض. وأخرج هؤلاء عن ابن عباس في قوله : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ) قال : بالوحي. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه والبيهقي عنه قال الروح : أمر من أمر الله وخلق من خلق الله ، وصورهم على صورة بني آدم ، وما ينزل من السماء

__________________

(١). «دخل» : أي : فساد.

(٢). الأنبياء : ١.

(٣). هود : ٨.

١٨٠