فتح القدير - ج ٣

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٣

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٧

جرير وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ) قال : في سورة الأنعام. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة مثله ، وقال حيث يقول : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا) إلى قوله : (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (١)

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨))

لما فرغ سبحانه من دفع شبه المشركين وإبطال مطاعنهم ، وكان إبراهيم عليه‌السلام من الموحّدين ، وهو قدوة كثير من النبيين ، ذكره الله في آخر هذه السورة فقال : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) قال ابن الأعرابيّ : يقال للرجل العالم أمة ، والأمة : الرجل الجامع للخير. قال الواحدي : قال أكثر أهل التفسير : أي : معلّما للخير ، وعلى هذا فمعنى كون إبراهيم كان أمة أنه كان معلما للخير ، أو جامعا لخصال الخير ، أو عالما بما علّمه الله من الشرائع ؛ وقيل : أمة بمعنى مأموم ، أي : يؤمه الناس ليأخذوا منه الخير ، كما قال سبحانه : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) (٢). والقانت : المطيع ، وقد تقدّم بيان معاني القنوت في البقرة. والحنيف : المائل عن الأديان الباطلة إلى دين الحق ، وقد تقدم بيانه في الأنعام (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بالله كما تزعمه كفار قريش أنه كان على دينهم الباطل (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ) التي أنعم الله بها عليه ، وإن كانت قليلة ، كما يدلّ عليه جمع القلة ، فهو شاكر لما كثر منها بالأولى (اجْتَباهُ) أي : اختاره للنبوة ، واختصّه بها (وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو ملّة الإسلام ودين الحق (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) أي : خصلة حسنة أو حالة حسنة ، وقيل : هي الولد الصالح ، وقيل : الثناء الحسن ، وقيل : النبوّة ، وقيل : الصلاة منا عليه في التشهد ، وقيل : هي أنه يتولاه جميع أهل الأديان ، ولا مانع أن يكون ما آتاه الله شاملا لذلك كلّه ولما عداه من خصال الخير (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) حسبما وقع منه السؤال لربه حيث قال : (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ـ وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ـ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) (٣). (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) يا محمّد مع علوّ درجتك وسموّ منزلتك وكونك سيد ولد آدم (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) وأصل الملة : اسم لما شرعه الله لعباده على لسان نبيّ من أنبيائه ، قيل : والمراد هنا اتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لملة إبراهيم في التوحيد والدعوة إليه. وقال ابن جرير :

__________________

(١). الأنعام : ١٤٦.

(٢). البقرة : ١٢٤.

(٣). الشعراء : ٨٣ ـ ٨٥.

٢٤١

في التبرّي من الأوثان والتديّن بدين الإسلام ؛ وقيل : في مناسك الحج ؛ وقيل : في الأصول دون الفروع ؛ وقيل : في جميع شريعته إلا ما نسخ منها ، وهذا هو الظاهر. وقد أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاقتداء بالأنبياء مع كونه سيدهم ، فقال تعالى : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (١) ، وانتصاب (حَنِيفاً) على الحال من إبراهيم ، وجاز مجيء الحال منه ؛ لأنّ الملّة كالجزء منه ، وقد تقرّر في علم النحو أن الحال من المضاف إليه جائز ، إذا كان يقتضي المضاف العمل في المضاف إليه ، أو كان جزءا منه ، أو كالجزء (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وهو تكرير لما سبق للنكتة التي ذكرناها (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي : إنما جعل وبال السبت ، وهو المسخ ، على الذين اختلفوا فيه ، أو إنما جعل فرض تعظيم السبت وترك الصيد فيه على الذين اختلفوا فيه لا على غيرهم من الأمم.

وقد اختلف العلماء في كيفية الاختلاف الكائن بينهم في السبت ، فقالت طائفة : إن موسى أمرهم بيوم الجمعة ، وعيّنه لهم ، وأخبرهم بفضيلته على غيره ، فخالفوه ، وقالوا : إن السبت أفضل ، فقال الله له : دعهم وما اختاروا لأنفسهم. وقيل : إن الله سبحانه أمرهم بتعظيم يوم في الأسبوع ، فاختلف اجتهادهم فيه ، فعينت اليهود السبت لأن الله سبحانه فرغ فيه من الخلق ، وعينت النصارى يوم الأحد لأن الله بدأ فيه الخلق ، فألزم الله كلا منهم ما أدّى إليه اجتهاده ، وعين لهذه الأمة الجمعة من غير أن يكلهم إلى اجتهادهم فضلا منه ونعمة. ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن اليهود كانوا يزعمون أن السبت من شرائع إبراهيم ، فأخبر الله سبحانه أنه إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه ولم يجعله على إبراهيم ولا على غيره (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أي : بين المختلفين فيه (يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فيجازي كلا فيه بما يستحقه ثوابا وعقابا ، كما وقع منه سبحانه من المسخ لطائفة منهم والتنجية لأخرى ، ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يدعو أمّته إلى الإسلام فقال : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) وحذف المفعول للتعميم ؛ لكونه بعث إلى الناس كافة ، وسبيل الله هو الإسلام (بِالْحِكْمَةِ) أي : بالمقالة المحكمة الصحيحة ، قيل : وهي الحجج القطعية المفيدة لليقين (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) وهي المقالة المشتملة على الموعظة الحسنة التي يستحسنها السامع ، وتكون في نفسها حسنة باعتبار انتفاع السامع بها. قيل : وهي الحجج الظنية الإقناعية الموجبة للتصديق بمقدّمات مقبولة ، قيل : وليس للدعوة إلا هاتان الطريقتان ، ولكن الداعي قد يحتاج مع الخصم الألدّ إلى استعمال المعارضة والمناقضة ونحو ذلك من الجدل ، ولهذا قال سبحانه : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي : بالطريق التي هي أحسن طرق المجادلة ، وإنما أمر سبحانه بالمجادلة الحسنة لكون الداعي محقّا وغرضه صحيحا ، وكان خصمه مبطلا وغرضه فاسدا (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) لما حثّ سبحانه على الدعوة بالطرق المذكورة ؛ بيّن أن الرشد والهداية ليس إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما ذلك إليه تعالى ، فقال : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ) أي : هو العالم بمن يضلّ ومن يهتدي (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي : بمن يبصر الحقّ فيقصده غير متعنت ، وإنما شرع لك الدعوة وأمرك بها قطعا للمعذرة وتتميما للحجة وإزاحة للشبهة ، وليس عليك غير ذلك ، ثم لما كانت الدعوة تتضمّن تكليف

__________________

(١). الأنعام : ٩٠.

٢٤٢

المدعوّين بالرجوع إلى الحق فإن أبوا قوتلوا ، أمر الداعي بأن يعدل في العقوبة فقال : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) أي : أردتم المعاقبة (فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) أي : بمثل ما فعل بكم لا تجاوزوا ذلك. قال ابن جرير : أنزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة أن لا ينال من ظالمه إذا تمكن إلا مثل ظلامته لا يتعدّاها إلى غيرها ، وهذا صواب ؛ لأن الآية وإن قيل إن لها سببا خاصا كما سيأتي ، فالاعتبار بعموم اللفظ ، وعمومه يؤدّي هذا المعنى الذي ذكره ، وسمّى سبحانه الفعل الأوّل الذي هو فعل البادئ بالشرّ عقوبة ، مع أن العقوبة ليست إلا فعل الثاني وهو المجازي للمشاكلة ، وهي باب معروف وقع في كثير من الكتاب العزيز. ثم حثّ سبحانه على العفو فقال : (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) أي : لئن صبرتم عن المعاقبة بالمثل فالصبر خير لكم من الانتصاف ، ووضع الصابرين موضع الضمير ، ثناء من الله عليهم بأنهم صابرون على الشدائد. وقد ذهب الجمهور إلى أن هذه الآية محكمة لأنها واردة في الصبر عن المعاقبة والثناء على الصابرين على العموم ؛ وقيل : هي منسوخة بآيات القتال ، ولا وجه لذلك. ثم أمر الله سبحانه رسوله بالصبر فقال : (وَاصْبِرْ) على ما أصابك من صنوف الأذى (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) أي : بتوفيقه وتثبيته ، والاستثناء مفرغ من أعمّ الأشياء ، أي : وما صبرك مصحوبا بشيء من الأشياء إلا بتوفيقه لك ، وفيه تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم نهاه عن الحزن فقال : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي : على الكافرين في إعراضهم عنك ، أو لا تحزن على قتلى أحد ، فإنهم قد أفضوا إلى رحمة الله (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) قرأ الجمهور بفتح الضاد ، وقرأ ابن كثير بكسرها. قال ابن السّكّيت : هما سواء ، يعني المفتوح والمكسور. وقال الفراء : الضّيق بالفتح ما ضاق عنه صدرك ، والضّيق بالكسر ما يكون في الذي يتسع مثل الدار والثوب ، وكذا قال الأخفش ، وهو من الكلام المقلوب ؛ لأنّ الضّيق وصف للإنسان يكون فيه ولا يكون الإنسان فيه ، وكأنه أراد وصف الضيق بالعظم حتى صار كالشيء المحيط بالإنسان من جميع جوانبه ؛ ومعنى (مِمَّا يَمْكُرُونَ) من مكرهم لك فيما يستقبل من الزمان. ثم ختم هذه السورة بآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات فقال : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي : اتقوا المعاصي على اختلاف أنواعها (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) بتأدية الطاعات والقيام بما أمروا بها منها ؛ وقيل : المعنى : إن الله مع الذين اتقوا الزيادة في العقوبة ، والذين هم محسنون في أصل الانتقام ، فيكون الأوّل إشارة إلى قوله : (فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) والثاني إشارة إلى قوله : (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) وقيل : (الَّذِينَ اتَّقَوْا) إشارة إلى التعظيم لأمر الله (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) إشارة إلى الشفقة على عباد الله تعالى.

وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن ابن مسعود : أنه سئل عن الأمة ما هي؟ فقال : الذي يعلّم الناس الخير ، قالوا : فما القانت؟ قال : الذي يطيع الله ورسوله. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ) قال : كان على الإسلام ، ولم يكن في زمانه من قومه أحد على الإسلام غيره ، فلذلك قال الله : (كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ). وأخرج ابن المنذر عند في قوله : (كانَ أُمَّةً) قال : إماما في الخير (قانِتاً) قال : مطيعا. وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من عبد

٢٤٣

تشهد له أمة إلا قبل الله شهادتهم» ، والأمة : الرجل فما فوقه ، إن الله يقول : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) والأمة : الرجل فما فوقه. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي عن ابن عمرو قال : صلى جبريل بإبراهيم الظهر والعصر بعرفات ، ثم وقف حتى إذا غابت الشمس دفع به ، ثم صلى المغرب والعشاء بجمع ، ثم صلى الفجر به كأسرع ما يصلي أحدكم من المسلمين ، ثم وقف به حتى إذا كان كأبطأ ما يصلي أحد من المسلمين دفع به ، ثم رمى الجمرة ثم ذبح ثم حلق ثم أفاض به إلى البيت فطاف به ، فقال الله لنبيه : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً). وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) قال : أراد الجمعة فأخذوا السبت مكانها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق السدّي عن أبي مالك وسعيد ابن جبير في الآية قال : باستحلالهم إياه ؛ رأى موسى رجلا يحمل حطبا يوم السبت فضرب عنقه. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن الآخرون السّابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم : يعني الجمعة ، فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس فيه لنا تبع ، اليهود غدا والنصارى بعد غد». وأخرج مسلم وغيره من حديث حذيفة نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) قال : أعرض عن أذاهم إياك. وأخرج الترمذي وحسّنه ، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وابن خزيمة في الفوائد ، وابن حبان والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، والضياء في المختارة ، عن أبيّ بن كعب قال : لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلا ، ومن المهاجرين ستة منهم حمزة فمثّلوا بهم ، فقالت الأنصار : لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربينّ عليهم ، فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله تعالى (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نصبر ولا نعاقب ، كفّوا عن القوم إلا أربعة». وأخرج ابن سعد والبزار وابن المنذر والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، وأبو نعيم في المعرفة ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن أبي هريرة : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف على حمزة حيث استشهد ، فنظر إلى منظر لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه ، ونظر إليه قد مثّل به ، فقال : «رحمة الله عليك ، فإنك كنت ما علمت وصولا للرحم ، فعولا للخير ، ولو لا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من أرواح شتى ، أما والله لأمثلنّ بسبعين منهم مكانك» فنزل جبريل والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقف بخواتيم سورة النحل (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) الآية ، فكفّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن يمينه ، وأمسك عن الذي أراد وصبر. وأخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس مرفوعا نحوه. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) الآية ، قال : هذا حين أمر الله نبيه أن يقاتل من قاتله ، ثم نزلت براءة وانسلاخ الأشهر الحرم ، فهذا منسوخ. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) قال : اتقوا فيما حرّم عليهم ، وأحسنوا فيما افترض عليهم.

٢٤٤

سورة الإسراء

آياتها مائة وإحدى عشرة آية ، وهي مكية إلا ثلاث آيات : قوله عزوجل : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ) نزلت حين جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد ثقيف ، وحين قالت اليهود : ليست هذه بأرض الأنبياء ، وقوله : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) ، وقوله : (إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) وزاد مقاتل قوله : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ). وأخرج النحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة بني إسرائيل بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج البخاري وابن الضريس وابن مردويه عن ابن مسعود قال في بني إسرائيل والكهف ومريم : إنهنّ من العتاق الأول ، وهنّ من تلادي (١). وأخرج أحمد والترمذي وحسّنه ، والنسائي والحاكم وابن مردويه عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر. وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي عمرو الشيباني قال : صلى بنا عبد الله الفجر فقرأ السورتين الآخرة منهما بنو إسرائيل.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣))

قوله : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) هو مصدر سبّح ، يقال سبّح يسبّح تسبيحا وسبحانا ، مثل كفّر اليمين تكفيرا وكفرانا ، ومعناه : التنزيه والبراءة لله من كل نقص. وقال سيبويه : العامل فيه فعل [من معناه] (٢) لا من لفظه ، والتقدير : أنزّه الله تنزيها ، فوقع سبحان مكان تنزيها ، فهو على هذا مثل قعد القرفصاء واشتمل الصّمّاء (٣) ؛ وقيل : هو علم للتسبيح كعثمان للرجل ، وانتصابه بفعل مضمر متروك إظهاره تقديره أسبح الله سبحان ، ثم نزل منزلة الفعل وسدّ مسدّه ، وقد قدّمنا في قوله : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) (٤) طرفا من الكلام المتعلق بسبحان. والإسراء قيل : هو سير الليل ، يقال : سرى وأسرى ؛

__________________

(١). العتاق : هو كل ما بلغ الغاية في الجودة. والتلاد : يريد أن هذه السور من أول ما تعلم من القرآن ، وأن لهنّ فضلا لما فيهن من القصص وأخبار الأنبياء والأمم.

(٢). من تفسير القرطبي (١٠ / ٢٠٤)

(٣). هو أن يردّ الكساء من قبل يمينه على يده اليسرى وعاتقه الأيسر ، ثم يرده ثانية من خلفه على يده اليمنى وعاتقه الأيمن ، فيغطيهما جميعا.

(٤). البقرة : ٣٢.

٢٤٥

كسقى وأسقى لغتان ، وقد جمع بينهما الشاعر (١) في قوله :

حيّ النّضيرة ربّة الخدر

أسرت إليّ ولم تكن تسري

وقيل : هو سير أوّل الليل خاصة ، وإذا كان الإسراء لا يكون إلا في الليل فلا بدّ للتصريح بذكر الليل بعده من فائدة ، فقيل : أراد بقوله ليلا تقليل مدّة الإسراء ، وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسافة أربعين ليلة. ووجه دلالة ليلا على تقليل المدّة ما فيه من التنكير الدالّ على البعضية ، بخلاف ما إذا قلت سريت الليل فإنه يفيد استيعاب السير له جميعا. وقد استدلّ صاحب الكشاف على إفادة ليلا للبعضية بقراءة عبد الله وحذيفة «من الليل». وقال الزجّاج : معنى (أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) سيّر عبده يعني محمدا ليلا ، وعلى هذا فيكون معنى أسرى معنى سير ؛ فيكون للتقييد بالليل فائدة ، وقال بعبده ولم يقل بنبيه أو رسوله أو بمحمد تشريفا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال أهل العلم : لو كان غير هذا الاسم أشرف منه لسمّاه الله سبحانه به في هذا المقام العظيم والحالة العلية :

لا تدعني إلا بياعبدها

فإنه أشرف أسمائي

ادعاء بأسماء نبزا في قبائلها

كأن أسماء أضحت بعض أسمائي

(مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) قال الحسن وقتادة : يعني المسجد نفسه ، وهو ظاهر القرآن. وقال عامة المفسرين : أسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من دار أم هانئ ، فحملوا المسجد الحرام على مكة أو الحرم لإحاطة كل واحد منهما بالمسجد الحرام ، أو لأن الحرم كله مسجد. ثم ذكر سبحانه الغاية التي أسرى برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليها فقال : (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) وهو بيت المقدس ، وسمّي الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام ، ولم يكن حينئذ وراءه مسجد ، ثم وصف المسجد الأقصى بقوله : (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) بالثمار والأنهار والأنبياء والصالحين ، فقد بارك الله سبحانه حول المسجد الأقصى ببركات الدنيا والآخرة ، وفي باركنا بعد قوله أسرى التفات من الغيبة إلى التكلم. ثم ذكر العلّة التي أسرى به لأجلها فقال : (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) أي : ما أراه الله سبحانه في تلك الليلة من العجائب التي من جملتها قطع هذه المسافة الطويلة في جزء من الليل (إِنَّهُ) سبحانه (هُوَ السَّمِيعُ) بكل مسموع ، ومن جملة ذلك قول رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (الْبَصِيرُ) بكل مبصر ، ومن جملة ذلك ذات رسوله وأفعاله.

وقد اختلف أهل العلم هل كان الإسراء بجسده صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع روحه أو بروحه فقط؟ فذهب معظم السلف والخلف إلى الأوّل. وذهب إلى الثاني طائفة من أهل العلم منهم عائشة ومعاوية والحسن وابن إسحاق ، وحكاه ابن جرير عن حذيفة بن اليمان. وذهبت طائفة إلى التفصيل فقالوا : كان الإسراء بجسده يقظة إلى بيت المقدس ، وإلى السماء بالروح ، واستدلّوا على هذا التفصيل بقوله إلى المسجد الأقصى ، فجعله غاية للإسراء بذاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلو كان الإسراء من بيت المقدس إلى السماء وقع بذاته لذكره ، والذي دلّت عليه الأحاديث الصحيحة الكثيرة

__________________

(١). هو حسان بن ثابت.

٢٤٦

هو ما ذهب إليه معظم السلف والخلف من أن الإسراء بجسده وروحه يقظه إلى بيت المقدس ، ثم إلى السموات ، ولا حاجة إلى التأويل وصرف هذا النظم القرآني وما يماثله من ألفاظ الأحاديث إلى ما يخالف الحقيقة ، ولا مقتضى لذلك إلا مجرد الاستبعاد وتحكيم محض العقول القاصرة عن فهم ما هو معلوم من أنه لا يستحيل عليه سبحانه شيء ، ولو كان مجرد رؤيا كما يقوله من زعم أن الإسراء كان بالروح فقط ، وأن رؤيا الأنبياء حق لم يقع التكذيب من الكفرة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند إخباره لهم بذلك حتى ارتدّ من ارتدّ ممّن لم يشرح بالإيمان صدرا ، فإن الإنسان قد يرى في نومه ما هو مستبعد ، بل ما هو محال ولا ينكر ذلك أحد ؛ وأما التمسك لمن قال بأن هذا الإسراء إنما كان بالروح على سبيل الرؤيا بقوله : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) (١) فعلى تسليم أن المراد بهذه الرؤيا هو هذا الإسراء ، فالتّصريح الواقع هنا بقوله : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) والتصريح في الأحاديث الصحيحة الكثيرة بأنه أسري به لا تقصر عن الاستدلال بها على تأويل هذه الرؤيا الواقعة في الآية برؤية العين ، فإنه قد يقال لرؤية العين رؤيا ، وكيف يصحّ حمل هذا الإسراء على الرؤيا مع تصريح الأحاديث الصحيحة بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركب البراق؟ وكيف يصحّ وصف الروح بالركوب؟ وهكذا كيف يصح حمل هذا الإسراء على الرؤيا مع تصريحه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه كان عند ما أسري به بين النائم واليقظان؟.

وقد اختلف أيضا في تاريخ الإسراء ، فروي أن ذلك كان قبل الهجرة إلى المدينة بسنة. وروي أن الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام. ووجه ذلك أن خديجة صلّت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد ماتت قبل الهجرة بخمس سنين ، وقيل : بثلاث ، وقيل : بأربع ، ولم تفرض الصلاة إلا ليلة الإسراء. وقد استدل بهذا ابن عبد البرّ على ذلك ، وقد اختلفت الرواية عن الزهري. وممّن قال بأن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة الزهري في رواية عنه ، وكذلك الحربي فإنه قال : أسري بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة سبع وعشرين من ربيع الأوّل قبل الهجرة بسنة. وقال ابن القاسم في تاريخه : كان الإسراء بعد مبعثه بثمانية عشر شهرا. قال ابن عبد البرّ : لا أعلم أحدا من أهل السير قال بمثل هذا. وروي عن الزهري أنه أسري به قبل مبعثه بسبعة أعوام ، وروي عنه أنه قال : كان قبل مبعثه بخمس سنين. وروى يونس عن عروة عن عائشة أنها قالت : توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة.

(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي : التوراة ، قيل : والمعنى : كرّمنا محمدا بالمعراج وأكرمنا موسى بالكتاب (وَجَعَلْناهُ) أي : ذلك الكتاب ، وقيل : موسى (هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) يهتدون به (أَلَّا تَتَّخِذُوا). قرأ أبو عمرو بالياء التحتية ، وقرأ الباقون بالفوقية ، أي : لئلا يتخذوا. والمعنى : آتيناه الكتاب لهداية بني إسرائيل لئلا يتخذوا (مِنْ دُونِي وَكِيلاً) قال الفراء : أي : كفيلا بأمورهم ، وروي عنه أنه قال : كافيا ؛ وقيل : معناه : أي : متوكلون عليه في أمورهم ؛ وقيل : شريكا ، ومعنى الوكيل في اللغة : من توكل إليه الأمور (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) نصب على الاختصاص أو النداء ، ذكرهم سبحانه إنعامه عليهم في ضمن إنجاء آبائهم من الغرق ، ويجوز أن يكون المفعول الأوّل لقوله (أَلَّا تَتَّخِذُوا) أي : لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلا ، كقوله : (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) (٢). وقرئ بالرفع

__________________

(١). الإسراء : ٦٠.

(٢). آل عمران : ٨٠.

٢٤٧

على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أو بدل من فاعل تتخذوا. وقرأ مجاهد بفتح الذال. وقرأ زيد بن ثابت بكسرها ، والمراد بالذرية هنا جميع من في الأرض لأنهم من ذرية من كان في السفينة ، وقيل : موسى وقومه من بني إسرائيل ، وهذا هو المناسب لقراءة النصب على النداء والنصب على الاختصاص ، والرفع على البدل وعلى الخبر ؛ فإنها كلها راجعة إلى بني إسرائيل المذكورين ، وأما على جعل النصب على أن ذرية هي المفعول الأوّل لقوله : (أَلَّا تَتَّخِذُوا) فالأولى تفسير الذرية بجميع من في الأرض من بني آدم (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) أي : نوحا ، وصفه الله بكثرة الشكر ، وجعله كالعلة لما قبله إيذانا بكون الشكر من أعظم أسباب الخير ، ومن أفضل الطاعات ، حثّا لذريته على شكر الله سبحانه.

وقد أخرج ابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه ، قال : أسري بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول قبل الهجرة بسنة. وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن شهاب قال : أسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بسنة. وأخرج البيهقي عن عروة مثله. وأخرج البيهقي أيضا عن السدّي قال : أسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل مهاجرته بستة عشر شهرا. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) قال : أنبتنا حوله الشجر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) قال : جعله الله هدى يخرجهم من الظلمات إلى النور ، وجعله رحمة لهم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً) قال : شريكا. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) قال : هو على النداء : يا ذرية من حملنا مع نوح. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن زيد الأنصاري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «(ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) ما كان مع نوح إلا أربعة أولاد : حام ، وسام ، ويافث ، وكوش ، فذلك أربعة أولاد انتسلوا هذا الخلق». واعلم أنه قد أطال كثير من المفسرين كابن كثير والسيوطي وغيرهما في هذا الموضع بذكر الأحاديث الواردة في الإسراء على اختلاف ألفاظها ، وليس في ذلك كثير فائدة ، فهي معروفة في موضعها من كتب الحديث ، وهكذا أطالوا بذكر فضائل المسجد الحرام والمسجد الأقصى ، وهو مبحث آخر ، والمقصود في كتب التفسير ما يتعلّق بتفسير ألفاظ الكتاب العزيز ، وذكر أسباب النزول ، وبيان ما يؤخذ منه من المسائل الشرعية ، وما عدا ذلك فهو فضلة لا تدعو إليه حاجة.

(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ

٢٤٨

لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١))

قوله : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) أي : أعلمنا وأخبرنا ، أو حكمنا وأتممنا ؛ وأصل القضاء : الإحكام للشيء والفراغ منه ؛ وقيل : أوحينا ، ويدلّ عليه قوله : (إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) ولو كان بمعنى الإعلام والإخبار لقال : قضينا بني إسرائيل ، ولو كان بمعنى حكمنا لقال : على بني إسرائيل ، ولو كان بمعنى أتممنا : لقال لبني إسرائيل ؛ والمراد بالكتاب : التوراة ، ويكون إنزالها على نبيهم موسى كإنزالها عليهم لكونهم قومه ؛ وقيل : المراد بالكتاب اللوح المحفوظ. وقرأ أبو العالية وسعيد بن جبير «في الكتب». وقرأ عيسى الثقفي (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ) بفتح المثناة ، ومعنى هذه القراءة قريب من معنى قراءة الجمهور ، لأنهم إذا أفسدوا فسدوا في نفوسهم ، والمراد بالفساد : مخالفة ما شرعه الله لهم في التوراة ، والمراد بالأرض : أرض الشام وبيت المقدس ، وقيل : أرض مصر ، واللام في (لَتُفْسِدُنَ) جواب قسم محذوف. قال النيسابوري : أو أجري القضاء المبتوت مجرى القسم ، كأنه قيل : وأقسمنا لتفسدنّ وانتصاب (مَرَّتَيْنِ) على أنه صفة مصدر محذوف ، أو على أنه في نفسه مصدر عمل فيه ما هو من غير جنسه ، والمرة الأولى قتل شعياء ، أو حبس أرمياء ، أو مخالفة أحكام التوراة ، والثانية قتل يحيى بن زكريا والعزم على قتل عيسى (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) هذه اللام كاللام التي قبلها ، أي : لتستكبرنّ عن طاعة الله ، ولتستعلنّ على الناس بالظلم والبغي مجاوزين للحدّ في ذلك (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) أي : أولى المرتين المذكورتين (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي : قوّة في الحروب وبطش عند اللقاء. قيل : هو بختنصر وجنوده ، وقيل : جالوت ، وقيل : جند من فارس ، وقيل : جند من بابل (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) أي : عاثوا وتردّدوا ، يقال : جاسوا وهاسوا وداسوا بمعنى ، ذكره ابن عزيز والقتبي. قال الزجاج : معناه طافوا خلال الديار هل بقي أحد لم يقتلوه؟ قال : والجوس : طلب الشيء باستقصاء. قال الجوهري : الجوس مصدر قولك جاسوا خلال الديار ؛ أي : تخلّلوها كما يجوس الرجل للأخبار ؛ أي : يطلبها ، وكذا قال أبو عبيدة. وقال : ابن جرير : معنى جاسوا طافوا بين الديار يطلبونهم ويقتلونهم ذاهبين وجائين. وقال الفراء : معناه قتلوهم بين بيوتهم ، وأنشد لحسان :

ومنّا الذي لاقى بسيف محمد

فجاس به الأعداء عرض العساكر

وقال قطرب : معناه نزلوا ، وأنشد قول الشاعر :

فجسنا ديارهم عنوة

وأبنا بساداتهم موثّقينا

وقرأ ابن عباس «فحاسوا» بالحاء المهملة. قال أبو زيد : الحوس والجوس والعوس والهوس : الطوف بالليل. وقيل : الطوف بالليل هو الجوسان محركا ، كذا قال أبو عبيدة. وقرئ «خلل الديار» ومعناه معنى خلال وهو وسط الديار (وَكانَ) ذلك (وَعْداً مَفْعُولاً) أي : كائنا لا محالة (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) أي : الدولة والغلبة والرجعة وذلك عند توبتهم. قيل : وذلك حين قتل داود جالوت ، وقيل : حين

٢٤٩

قتل بختنصر (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) بعد نهب أموالكم وسبي أبنائكم حتى عاد أمركم كما كان (وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) قال أبو عبيدة : النفير العدد من الرجال ؛ فالمعنى : أكثر رجالا من عدوكم. والنفير : من ينفر مع الرجل من عشيرته ، يقال : نفير ونافر مثل قدير وقادر ، ويجوز أن يكون النفير جمع نفر (إِنْ أَحْسَنْتُمْ) أي : أفعالكم وأقوالكم على الوجه المطلوب منكم (أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) لأن ثواب ذلك عائد إليكم (وَإِنْ أَسَأْتُمْ) أفعالكم وأقوالكم فأوقعتموها لا على الوجه المطلوب منكم (فَلَها) أي : فعليها. ومثله قول الشاعر :

فخرّ صريعا لليدين وللفم (١)

أي : على اليدين وعلى الفم. قال ابن جرير : اللام بمعنى إلى ، أي : فإليها ترجع الإساءة كقوله تعالى : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) أي : إليها ؛ وقيل : المعنى : فلها الجزاء أو العقاب. وقال الحسين بن الفضل : فلها ربّ يغفر الإساءة. وهذا الخطاب قيل : هو لبني إسرائيل الملابثين لما ذكر في هذه الآيات ؛ وقيل : لبني إسرائيل الكائنين في زمن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ ومعناه : إعلامهم ما حلّ بسلفهم فليرتقبوا مثل ذلك ، وقيل : هو خطاب لمشركي قريش (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي : حضر وقت ما وعدوا من عقوبة المرة الآخرة ، والمرة الآخرة هي قتلهم يحيى بن زكريا كما سبق ، وقصة قتله مستوفاة في الإنجيل واسمه فيه يوحنا ، قتله ملك من ملوكهم بسبب امرأة حملته على قتله ، واسم الملك لاخت قاله ابن قتيبة. وقال ابن جرير : هيردوس ، وجواب إذا محذوف تقديره : بعثناهم لدلالة جواب إذا الأولى عليه ، و (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) متعلّق بهذا الجواب المحذوف ، أي : ليفعلوا بكم ما يسوء وجوهكم حتى تظهر عليكم آثار المساءة وتتبين في وجوهكم الكآبة ؛ وقيل : المراد بالوجوه السادة منهم. وقرأ الكسائي «لنسوء» بالنون ؛ على أن الضمير لله سبحانه. وقرأ أبيّ «لنسوءن» بنون التأكيد. وقرأ أبو بكر والأعمش وابن وثاب وحمزة وابن عامر «ليسوء» بالتحتية والإفراد. قال الزجاج : كلّ شيء كسرته وفتنه فقد تبرته ، والضمير لله أو الوعد (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ) معطوف على ليسوءوا (كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا) أي : يدمروا ويهلكوا ، وقال قطرب : يهدموا ، ومنه قول الشاعر :

فما الناس إلا عاملان فعامل

يتبّر ما يبني وآخر رافع

وقرأ الباقون بالتحتية وضم الهمزة وإثبات واو بعدها على أن الفاعل عباد لنا (ما عَلَوْا) أي : ما غلبوا عليه من بلادكم أو مدة علوهم (تَتْبِيراً) أي : تدميرا ، ذكر المصدر إزالة للشك وتحقيقا للخبر (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) يا بني إسرائيل بعد انتقامه منكم في المرة الثانية (وَإِنْ عُدْتُمْ) للثالثة (عُدْنا) إلى عقوبتكم. قال أهل السير : ثم إنهم عادوا إلا ما لا ينبغي ، وهو تكذيب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتمان ما ورد في

__________________

(١). وصدره : وهتكت بالرمح الطويل إهانة. والبيت لربيعة بن مكدم.

٢٥٠

بعثه في التوراة والإنجيل ، فعاد الله إلى عقوبتهم على أيدي العرب ، فجرى على بني قريظة والنضير وبني قينقاع وخيبر ما جرى من القتل والسبي والإجلاء وضرب الجزية على من بقي منهم ، وضرب الذلة والمسكنة (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) وهو المحبس ، فهو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول. والمعنى : أنهم محبوسون في جهنّم لا يتخلّصون عنها أبدا. قال الجوهري : حصره يحصره حصرا ؛ ضيق عليه وأحاط به ، وقيل : فراشا ومهادا ، وأراد على هذا بالحصير الحصير الذي يفرشه الناس (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) يعني القرآن يهدي الناس الطريقة التي هي أقوم من غيرها من الطرق وهي ملّة الإسلام ، فالتي هي أقوم صفة لموصوف محذوف وهي الطريق. وقال الزجّاج : للحال التي هي أقوم الحالات ، وهي توحيد الله والإيمان برسله ، وكذا قال الفراء (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ) قرأ حمزة والكسائي «يبشر» بفتح الياء وضم الشين. وقرأ الباقون بضم الياء وكسر الشين من التبشير ؛ أي : يبشر بما اشتمل عليه من الوعد بالخير آجلا وعاجلا للمؤمنين (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) التي أرشد إلى عملها القرآن (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) أي : بأنّ لهم (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) وأحكامها المبينة في القرآن (أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) وهو عذاب النار ، وهذه الجملة معطوفة على جملة يبشر بتقدير يخبر ، أي : ويخبر بأن الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وقيل : معطوفة على قوله : (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) ويراد بالتبشير مطلق الإخبار ، أو يكون المراد منه معناه الحقيقي ، ويكون الكلام مشتملا على تبشير المؤمنين ببشارتين : الأولى : ما لهم من الثواب ، والثانية : ما لأعدائهم من العقاب (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ) المراد بالإنسان هنا الجنس لوقوع هذا الدعاء من بعض أفراده وهو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما لا يحب أن يستجاب له (دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) أي : مثل دعائه لربه بالخير لنفسه ولأهله كطلب العافية والرزق ونحوهما ، فلو استجاب الله دعاءه على نفسه بالشرّ هلك ، لكنه لم يستجب تفضلا منه ورحمة ، ومثل ذلك : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) (١) وقد تقدّم ؛ وقيل : المراد بالإنسان هنا القائل هذه المقالة هو الكافر يدعو لنفسه بالشرّ ، وهو استعجال العذاب دعاءه بالخير كقول القائل : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٢). وقيل : هو أن يدعو في طلب المحظور كدعائه في طلب المباح ، وحذفت الواو من ويدع الإنسان في رسم المصحف لعدم التلفظ بها لوقوع اللام الساكنة بعدها كقوله : (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) (٣) ، (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) (٤) ، (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ) (٥) ونحو ذلك (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) أي : مطبوعا على العجلة ، ومن عجلته أنه يسأل الشرّ كما يسأل الخير ؛ وقيل : إشارته إلى آدم عليه‌السلام حين نهض قبل أن تكمل فيه الروح ، والمناسب للسّياق هو الأول.

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) قال : أعلمناهم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : أخبرناهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا قضينا

__________________

(١). يونس : ١١.

(٢). الأنفال : ٣٢.

(٣). العلق : ١٨.

(٤). الشورى : ٢٤.

(٥). النساء : ١٤٦.

٢٥١

إلى بني إسرائيل : قضينا عليهم. وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن عليّ في قوله : (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) قال : الأولى قتل زكريا ، والآخرة قتل يحيى. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في الآية قال : كان أوّل الفساد قتل زكريا ، فبعث الله عليهم ملك النبط ، ثم إن بني إسرائيل تجهزوا فغزوا النبط فأصابوا منهم ، فذلك قوله : (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : بعث الله عليهم في الأولى جالوت ، وبعث عليهم في المرة الأخرى بختنصر ، فعادوا فسلط الله عليهم المؤمنين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه (فَجاسُوا) قال : فمشوا. وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : (تَتْبِيراً) تدميرا. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحّاك في قوله : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) قال : كانت الرحمة التي وعدهم بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) قال : فعادوا فبعث الله سبحانه عليهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. واعلم أنها قد اختلفت الروايات في تعيين الواقع منهم في المرّتين ، وفي تعيين من سلّطه الله عليهم ، وفي كيفية الانتقام منهم ، ولا يتعلّق بذلك كثير فائدة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) قال : سجنا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه. قال : معنى (حَصِيراً) جعل الله مأواهم فيها. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : (حَصِيراً) قال : فراشا ومهادا. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) قال : للتي هي أصوب. وأخرج الحاكم عن ابن مسعود أنه كان يتلو كثيرا (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ) بالتخفيف. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) يعني قول الإنسان : اللهم العنه واغضب عليه. وأخرج ابن جرير عنه في قوله : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) قال : ضجرا لا صبر له على سرّاء ولا ضرّاء. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر عن سلمان الفارسي قال : أوّل ما خلق الله من آدم رأسه ، فجعل ينظر وهو يخلق وبقيت رجلاه ، فلما كان بعد العصر قال : يا ربّ أعجل قبل الليل ، فذلك قوله : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً).

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧))

٢٥٢

لمّا ذكر سبحانه دلائل النبوة والتوحيد أكّدها بدليل آخر من عجائب صنعه وبدائع خلقه ، فقال : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) وذلك لما فيهما من الإظلام والإنارة مع تعاقبهما وسائر ما اشتملا عليه من العجائب التي تحارّ في وصفها الأفهام ، ومعنى كونهما آيتين أنهما يدلّان على وجود الصانع وقدرته ، وقدّم الليل على النهار لكونه الأصل (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) أي : طمسنا نورها ، وقد كان القمر كالشّمس في الإنارة والضوء. قيل : ومن آثار المحو السواد الذي يرى في القمر ، وقيل : المراد بمحوها أنه سبحانه خلقها ممحوة الضوء مطموسة ، وليس المراد أنه محاها بعد أن لم تكن كذلك (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) أي جعل سبحانه شمسه مضيئة تبصر فيها الأشياء. قال أبو عمرو بن العلاء والكسائي : هو من قول العرب : أبصر النهار ؛ إذا صار بحالة يبصر بها ؛ وقيل : مبصرة للناس من قوله أبصره فبصر. فالأوّل وصف لها بحال أهلها ، والثاني وصف لها بحال نفسها ، وإضافة آية إلى الليل والنهار بيانية ، أي : فمحونا الآية التي هي الليل والآية التي هي النهار كقولهم نفس الشيء وذاته (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) أي : لتتوصلوا ببياض النهار إلى التصرّف في وجوه المعاش ، واللام متعلّق بقوله : (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) أي : جعلناها (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) أي : رزقا ، إذ غالب تحصيل الأرزاق وقضاء الحوائج يكون بالنهار ، ولم يذكر هنا السّكون في الليل اكتفاء بما قاله في موضع آخر : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) (١) ، ثم ذكر مصلحة أخرى في ذلك الجعل فقال : (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) وهذا متعلّق بالفعلين جميعا ، أعني محونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لا بأحدهما فقط كالأوّل ، إذ لا يكون علم عدد السنين والحساب ، إلا باختلاف الجديدين (٢) ومعرفة الأيام والشهور والسنين. والفرق بين العدد والحساب أن العدد إحصاء ما له كمية بتكرير أمثاله من غير أن يتحصّل منه شيء ، والحساب إحصاء ماله كمية بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة منها حدّ معين منه له اسم خاص ؛ فالسنة مثلا إن وقع النظر إليها من حيث عدد أيامها فذلك هو العدد ؛ وإن وقع النظر إليها من حيث تحققها وتحصلها من عدّة أشهر ، قد يحصل كل شهر من عدّة أيام ، قد يحصل كل يوم من عدّة ساعات ، قد تحصلت كلّ ساعة من عدّة دقائق ، فذلك هو الحساب (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) أي : كل ما تفتقرون إليه في أمر دينكم ودنياكم بيّناه تبيينا واضحا لا يلتبس ، وعند ذلك تنزاح العلل وتزول الأعذار : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) (٣) ، ولهذا قال : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) قال أبو عبيدة : الطائر عند العرب الحظ ، ويقال له البخت ، فالطائر ما وقع للشخص في الأزل بما هو نصيبه من العقل والعمل والعمر والرزق والسعادة والشقاوة ، كأنّ طائرا يطير إليه من وكر الأزل وظلمات عالم الغيب طيرانا لا نهاية له ولا غاية إلى أن انتهى إلى ذلك الشخص في وقته المقدّر من غير خلاص ولا مناص. وقال الأزهري : الأصل في هذا أن الله سبحانه لما خلق آدم علم المطيع من ذريته والعاصي ، فكتب ما علمه منهم أجمعين ، وقضى سعادة من علمه مطيعا وشقاوة من علمه عاصيا ، فطار لكل منهم ما هو صائر إليه عند خلقه وإنشائه ، وذلك قوله : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) أي : ما طار له في علم الله ، وفي عنقه

__________________

(١). يونس : ٦٧.

(٢). الجديدان والأجدّان : الليل والنهار.

(٣). الأنفال : ٤٢.

٢٥٣

عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة العنق من بين ما يلبس. قال الزجاج : ذكر العنق عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة العنق (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) قرأ ابن عباس والحسن ومجاهد وابن محيصن وأبو جعفر ويعقوب «ويخرج» بالمثناة التحتية المفتوحة وبالراء المضمومة على معنى : ويخرج له الطائر ، وكتابا منصوب على الحال ، ويجوز أن يكون المعنى : يخرج له الطائر فيصير كتابا. وقرأ يحيى بن وثّاب «يخرج» بضم الياء وكسر الراء : أي يخرج الله. وقرأ شيبة ومحمد بن السّميقع. وروي أيضا عن أبي جعفر «يخرج» بضم الياء وفتح الراء على البناء للمفعول ، أي : ويخرج له الطائر كتابا. وقرأ الباقون «ونخرج» بالنون على أن المخرج هو الله سبحانه وكتابا مفعول به ، واحتج أبو عمرو لهذه القراءة بقوله تعالى : (أَلْزَمْناهُ). وقرأ أبو جعفر والحسن وابن عامر يلقاه بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف. وقرأ الباقون بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف ، وإنما قال سبحانه (يَلْقاهُ مَنْشُوراً) تعجيلا للبشرى بالحسنة وللتوبيخ على السيئة (اقْرَأْ كِتابَكَ) أي : نقول له : اقرأ كتابك ، أو قائلين له ، قيل : يقرأ ذلك الكتاب من كان قارئا ، ومن لم يكن قارئا. (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) الباء في (بِنَفْسِكَ) زائدة و (حَسِيباً) تمييز ؛ أي : حاسبا. قال سيبويه : ضريب القداح بمعنى ضاربها ، وصريم بمعنى صارم ، ويجوز أن يكون الحسيب بمعنى الكافي ، ثم وضع موضع الشهيد فعدّي بعلى ، والنفس بمعنى الشخص ، ويجوز أن يكون الحسيب بمعنى المحاسب ؛ كالشريك والجليس. (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) بيّن سبحانه أنّ ثواب العمل الصالح وعقاب ضدّه يختصان بفاعلهما لا يتعدان منه إلى غيره ، فمن اهتدى بفعل ما أمره الله به وترك ما نهاه الله عنه ، فإنما تعود منفعة ذلك إلى نفسه (وَمَنْ ضَلَ) عن طريق الحق فلم يفعل ما أمر به ، ولم يترك ما نهي عنه (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي : فإن وبال ضلاله واقع على نفسه لا يجاوزها ، فكل أحد محاسب عن نفسه ، مجزيّ بطاعته ، معاقب بمعصيته ، ثم أكّد هذا الكلام بأبلغ تأكيد فقال : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) والوزر : الإثم ، يقال : وزر يزر وزرا ووزرة. أي : إثما ، والجمع أوزار ، والوزر : الثقل. ومنه : (يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) (١) أي : أثقال ذنوبهم. ومعنى الآية : لا تحمل نفس حاملة للوزر وزر نفس أخرى حتى تخلص الأخرى عن وزرها وتؤخذ به الأولى ، وقد تقدّم مثل هذا في الأنعام. قال الزجاج في تفسير هذه الآية : إن الآثم والمذنب لا يؤاخذ بذنب غيره (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) لما ذكر سبحانه اختصاص المهتدي بهدايته والضالّ بضلاله ، وعدم مؤاخذة الإنسان بجناية غيره ، ذكر أنه لا يعذب عباده إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال رسله ، وإنزال كتبه ، فبيّن سبحانه أنه لم يتركهم سدى ، ولا يؤاخذهم قبل إقامة الحجّة عليهم ، والظاهر أنه لا يعذّبهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال الرسل ، وبه قالت طائفة من أهل العلم. وذهب الجمهور إلى أن المنفي هنا هو عذاب الدنيا لا عذاب الآخرة (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا) اختلف المفسرون في معنى أمرنا على قولين : الأوّل : أن المراد به الأمر الذي هو نقيض النهي ، وعلى هذا اختلفوا في المأمور به ، فالأكثر على أنه الطاعة والخير. وقال في الكشاف : معناه أمرناهم

__________________

(١). الأنعام : ٣١.

٢٥٤

بالفسق ففسقوا ، وأطال الكلام في تقرير هذا وتبعه المقتدون به في التفسير ، وما ذكره هو ومن تابعه معارض بمثل قول القائل أمرته فعصاني ، فإن كل من يعرف اللغة العربية يفهم من هذا أن المأمور به شيء غير المعصية ، لأن المعصية منافية للأمر مناقضة له ، فكذلك أمرته ففسق يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق ، لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به ، فكونه فسقا ينافي كونه مأمورا به ويناقضه. القول الثاني : أن معنى (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) أكثرنا فسّاقها. قال الواحدي : تقول العرب : أمر القوم إذا كثروا ، وأمرهم الله إذا أكثرهم. وقد قرأ أبو عثمان النهدي وأبو رجاء وأبو العالية والربيع ومجاهد والحسن (أَمَرْنا) بتشديد الميم ، أي : جعلناهم أمراء مسلّطين. وقرأ الحسن أيضا وقتادة وأبو حيوة الشامي ويعقوب وخارجة عن نافع وحماد بن سلمة عن ابن كثير وعليّ وابن عباس «آمرنا» بالمدّ والتخفيف ، أي : أكثرنا جبابرتها وأمراءها ، قاله الكسائي. وقال أبو عبيدة : آمرته بالمدّ وأمرته لغتان بمعنى كثرته ، ومنه الحديث : «خير المال مهرة مأمورة» أي : كثيرة النتاج والنسل ، وكذا قال ابن عزيز. وقرأ الحسن أيضا ويحيى بن يعمر «أمرنا» بالقصر وكسر الميم على معنى فعلنا ، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس. قال قتادة والحسن : المعنى أكثرنا. وحكى نحوه أبو زيد وأبو عبيد ، وأنكره الكسائي وقال : لا يقال من الكثرة إلا آمرنا بالمدّ. قال في الصحاح : وقال أبو الحسن : أمر ماله ـ بالكسر ـ أي : كثر ، وأمر القوم : أي كثروا ، ومنه قول لبيد :

إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا

يوما يصيروا للهلك والنّكد (١)

وقرأ الجمهور (أَمَرْنا) من الأمر ، ومعناه ما قدّمنا في القول الأوّل ، ومعنى (مُتْرَفِيها) المنعمون الذين قد أبطرتهم النعمة وسعة العيش ، والمفسرون يقولون في تفسير المترفين : إنهم الجبارون المتسلطون والملوك الجائرون ، قالوا : وإنما خصّوا بالذكر لأن من عداهم أتباع لهم ، ومعنى (فَفَسَقُوا فِيها) خرجوا عن الطاعة ، وتمردوا في كفرهم ؛ لأن الفسوق الخروج إلى ما هو أفحش (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) أي : ثبت وتحقق عليهم العذاب بعد ظهور فسقهم (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) أي : تدميرا عظيما لا يوقف على كنهه لشدته وعظم موقعه ؛ وقد قيل في تأويل أمرنا بأنه مجاز عن الأمر الحامل لهم على الفسق ، وهو إدرار النعم عليهم ؛ وقيل أيضا : إن المراد بأردنا أن نهلك قرية أنه قرب إهلاك قرية ، وهو عدول عن الظاهر بدون ملجئ إليه. ثم ذكر سبحانه أن هذه عادته الجارية مع القرون الخالية ، فقال : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ) أي : كثيرا ما أهلكنا منهم ، ف «كم» مفعول «أهلكنا» ، و «من القرون» بيان ل «كم» وتمييز له ، أي : كم من قوم كفروا من بعد نوح كعاد وثمود ، فحلّ بهم البوار ، ونزل بهم سوط العذاب ، وفيه تخويف لكفار مكة. ثم خاطب رسوله بما هو ردع للناس كافة فقال : (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) قال الفراء : إنما يجوز إدخال الباء في المرفوع إذا كان يمدح به صاحبه أو يذمّ به ، كقولك : كفاك ، وأكرم به رجلا ، وطاب بطعامك طعاما ، ولا يقال قام بأخيك وأنت تريد قام أخوك. وفي الآية بشارة عظيمة لأهل الطاعة ، وتخويف شديد لأهل

__________________

(١). في المطبوع : يوما يكن للهلاك والفند. والمثبت من الديوان ص (١٦٠). «يهبطوا» ـ هنا ـ : يموتوا.

٢٥٥

المعصية ؛ لأن العلم التام والخبرة الكاملة والبصيرة النافذة تقتضي إيصال الجزاء إلى مستحقّه بحسب استحقاقه ، ولا ينافيه مزيد التفضّل على من هو أهل لذلك ، والمراد بكونه سبحانه خبيرا بصيرا أنه محيط بحقائق الأشياء ظاهرا وباطنا ، لا تخفى عليه منها خافية.

وقد أخرج البيهقي في دلائل النبوّة ، وابن عساكر عن سعيد المقبري «أن عبد الله بن سلام سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن السواد الذي في القمر ؛ فقال : كانا شمسين ، قال الله : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) فالسواد الذي رأيت هو المحو». وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معنى هذا بأطول منه. قال السيوطي : وإسناده واه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في المصاحف ، عن عليّ في قوله : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) قال : هو السواد الذي في القمر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) قال : منيرة (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) قال : جعل لكم سبحا طويلا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَصَّلْناهُ) قال : بيّناه. وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير بسند حسن عن جابر : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «طائر كلّ إنسان في عنقه». وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) قال : سعادته وشقاوته ، وما قدّر الله له وعليه ، لازمه أينما كان. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أنس في قوله : (طائِرَهُ) قال : كتابه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : عمله : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) قال : هو عمله الذي أحصي عليه ، فأخرج له يوم القيامة ما كتب له من العمل فقرأه منشورا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (اقْرَأْ كِتابَكَ) قال : سيقرأ يومئذ من لم يكن قارئا في الدنيا. وأخرج ابن عبد البرّ في «التمهيد» عن عائشة في قوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) قال : سألت خديجة (١) عن أولاد المشركين فقال : «هم مع آبائهم» ، ثم سألته بعد ذلك فقال : «الله أعلم بما كانوا عاملين» ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام ، فنزلت : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) فقال : «هم على الفطرة ، أو قال ، في الجنة». قال السيوطي : وسنده ضعيف. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل فقيل له : يا رسول الله إنّا نصيب في البيات من ذراري المشركين ، قال : «هم منهم» (٢) وفي ذلك أحاديث كثيرة وبحث طويل. وقد ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية غالب الأحاديث الواردة في أطفال المشركين ، ثم نقل كلام أهل العلم في المسألة فليرجع إليه. وأخرج إسحاق بن راهويه وأحمد وابن حبان ، وأبو نعيم في المعرفة ، والطبراني وابن مردويه ، والبيهقي في كتاب الاعتقاد ، عن الأسود بن سريع

__________________

(١). يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢). «البيات» : أن يغار على المشركين بالليل حيث لا يعرف الرجل من المرأة والصبي.

«هم منهم» : أي في الحكم ، وليس المراد إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم ، بل المراد إذا لم يمكن الوصول إلى الآباء إلا بوطء الذرية ـ أي بالأرجل ـ ، فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم ، جاز قتلهم.

٢٥٦

أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أربعة يحتجّون يوم القيامة : رجل أصمّ لا يسمع شيئا ، ورجل أحمق ، ورجل هرم ، ورجل مات في الفترة ... ثم قال : فيأخذ الله مواثيقهم ليطيعنه ، ويرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار ، قال : فو الذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما ، ومن لم يدخلها يسحب إليها» وإسناده عند أحمد هكذا : حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن أبي قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع. وأخرج نحوه إسحاق بن راهويه وأحمد وابن مردويه عن أبي هريرة ، وهو عند أحمد بالإسناد المذكور عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة. وأخرج قاسم بن أصبغ والبزار وأبو يعلى ، وابن عبد البرّ في التمهيد ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكره نحوه ، وجعل مكان الأحمق المعتوه. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والطبراني وأبو نعيم عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يؤتى يوم القيامة بالممسوح عقلا ، وبالهالك في الفترة ، وبالهالك صغيرا» فذكر معناه مطولا. وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن ابن عباس في قوله : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) قال : بطاعة الله فعصوا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن شهر بن حوشب قال : سمعت ابن عباس يقول في الآية : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) بحقّ فخالفوه ، فحق عليهم بذلك التدمير. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عنه في الآية قال : سلطنا شرارها فعصوا ، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم بالعذاب. وهو كقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) (١). وأخرج البخاري وابن مردويه عن ابن مسعود قال : كنا نقول للحي إذا كثروا في الجاهلية : قد أمر بنو فلان.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١) لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤))

قوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) هذا تأكيد لما سلف من جملة (كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ) ومن جملة (مَنِ اهْتَدى) والمراد بالعاجلة : المنفعة العاجلة أو الدار العاجلة. والمعنى : من كان يريد بأعمال البرّ أو بأعمال الآخرة ذلك ، فيدخل تحته الكفرة والفسقة والمراؤون والمنافقون (عَجَّلْنا لَهُ) أي : عجلنا لذلك المريد (فِيها) أي : في تلك العاجلة ، ثم قيّد المعجل بقيدين : الأوّل : قوله : (ما نَشاءُ) أي : ما يشاء الله سبحانه تعجيله له منها ، لا ما يشاؤه ذلك المريد ، ولهذا ترى كثيرا من هؤلاء المريدين للعاجلة يريدون

__________________

(١). الأنعام : ١٢٣.

٢٥٧

من الدنيا ما لا ينالون ، ويتمنون ما لا يصلون إليه ؛ والقيد الثاني : قوله : (لِمَنْ نُرِيدُ) أي : لمن نريد التعجيل له منهم ما اقتضته مشيئتنا ، وجملة (لِمَنْ نُرِيدُ) بدل من الضمير في له بإعادة الجار ؛ بدل البعض من الكل ؛ لأن الضمير يرجع إلى «من» وهو للعموم ، وهذه الآية تقيد الآيات المطلقة ، كقوله سبحانه : (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) (١). (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) (٢). وقد قيل : إنه قرئ «ما يشاء» بالياء التحتية ، ولا ندري من قرأ بذلك من أهل الشواذّ ، وعلى هذه القراءة قيل : الضمير لله سبحانه ، أي : ما يشاؤه الله ، فيكون معناها معنى القراءة بالنون ، وفيه بعد لمخالفته لما قبله ، وهو عجلنا وما بعده وهو لمن نريد ؛ وقيل : الضمير راجع إلى من في قوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ) فيكون ذلك مقيدا بقوله : (لِمَنْ نُرِيدُ) ؛ أي : عجلنا له ما يشاؤه ، لكن بحسب إرادتنا فلا يحصل لمن أراد العاجلة ما يشاؤه إلا إذا أراد الله له ذلك ، ثم بعد هذا كله فمن وراء هذه الطلبة الفارغة التي لا تأثير لها إلا بالقيدين المذكورين عذاب الآخرة الدائم ، ولهذا قال : (ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ) أي : جعلنا له بسبب تركه لما أمر به من العمل للآخرة وإخلاصه عن الشوائب عذاب جهنم على اختلاف أنواعه (يَصْلاها) في محل نصب على الحال ، أي : يدخلها (مَذْمُوماً مَدْحُوراً) أي : مطرودا من رحمة الله مبعدا عنها ، فهذه عقوبته في الآخرة مع أنه لا ينال من الدنيا إلا ما قدره الله سبحانه له ، فأين حال هذا الشقيّ من حال المؤمن التقيّ؟ فإنه ينال من الدنيا ما قدّره الله له وأراده بلا هلع منه ولا جزع ، مع سكون نفسه واطمئنان قلبه وثقته بربه ، وهو مع ذلك عامل للآخرة منتظر للجزاء من الله سبحانه ، وهو الجنة ، ولهذا قال : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ) أي : أراد بأعماله الدار الآخرة (وَسَعى لَها سَعْيَها) أي : السعي الحقيق بها اللائق بطالبها ، وهو الإتيان بما أمر به وترك ما نهى عنه خالصا لله غير مشوب ، وكان الإتيان به على القانون الشرعي من دون ابتداع ولا هوى (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) بالله إيمانا صحيحا ، لأن العمل الصالح لا يستحق صاحبه الجزاء عليه إلا إذا كان من المؤمنين (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (٣) والجملة في محل نصب على الحال ، والإشارة بقوله : (فَأُولئِكَ) إلى المريدين للآخرة الساعين لها سعيها وخبره (كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) عند الله ، أي : مقبولا غير مردود ؛ وقيل : مضاعفا إلى أضعاف كثيرة ، فقد اعتبر سبحانه في كون السعي مشكورا أمورا ثلاثة : الأول : إرادة الآخرة. الثاني : أن يسعى لها السعي الذي يحقّ لها. والثالث : أن يكون مؤمنا. ثم بيّن سبحانه كمال رأفته وشمول رحمته ، فقال : (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) التنوين في كلا عوض عن المضاف إليه ، والتقدير : كل واحد من الفريقين نمدّ ، أي : نزيده من عطائنا على تلاحق من غير انقطاع ، نرزق المؤمنين والكفار وأهل الطاعة وأهل المعصية ، لا تؤثر معصية العاصي في قطع رزقه ، وما به الإمداد : هو ما عجله لمن يريد الدنيا ، وما أنعم به في الأولى والأخرى على من يريد الآخرة ، وفي قوله : (مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) إشارة إلى أن ذلك بمحض التفضل ، وهو متعلق بنمدّ (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) أي : ممنوعا ، يقال : حظره يحظره حظرا ؛ منعه ، وكل ما حال بينك وبين شيء فقد حظره عليك ، و (هؤُلاءِ)

__________________

(١). الشورى : ٢٠.

(٢). هود : ١٥.

(٣). المائدة : ٢٧.

٢٥٨

بدل من (كُلًّا) و (هؤُلاءِ) معطوف على البدل. قال الزجاج : أعلم الله سبحانه أنه يعطي المسلم والكافر وأنه يرزقهما جميعا الفريقين ، فقال : (هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) الخطاب لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويحتمل أن يكون لكل من له أهلية النظر والاعتبار ، وهذه الجملة مقررة لما مرّ من الإمداد وموضحة له ؛ والمعنى : انظر كيف فضّلنا في العطايا العاجلة بعض العباد على بعض ، فمن غنيّ وفقير ، وقوي وضعيف ، وصحيح ومريض وعاقل وأحمق وذلك لحكمة بالغة تقصر العقول عن إدراكها (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) وذلك لأن نسبة التفاضل في درجات الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا. وقيل : المراد أن المؤمنين يدخلون الجنة والكافرين يدخلون النار فتظهر فضيلة المؤمنين على الكافرين. وحاصل المعنى أن التفاضل في الآخرة ودرجاتها فوق التفاضل في الدنيا ومراتب أهلها فيها من بسط وقبض ونحوهما. ثم لما أجمل سبحانه أعمال البرّ في قوله : (وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ) أخذ في تفصيل ذلك مبتدئا بأشرفها الذي هو التوحيد فقال : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد به أمته تهييجا وإلهابا ، أو لكل متأهل له صالح لتوجيهه إليه ؛ وقيل : هو على إضمار القول ، والتقدير : قل لكل مكلّف لا تجعل ، وانتصاب تقعد على جواب النهي ، والتقدير : لا يكن منك جعل فقعود ؛ ومعنى تقعد تصير ، من قولهم : شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها خربة ، وليس المراد حقيقة القعود المقابل للقيام ؛ وقيل : هو كناية عن عدم القدرة على تحصيل الخيرات ، فإن السعي فيه إنما يتأتّى بالقيام ، والعجز عنه يلزمه أن يكون قاعدا عن الطلب ؛ وقيل : إن من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادما مفكرا على ما فرط منه ، فالقعود على هذا حقيقة ، وانتصاب (مَذْمُوماً مَخْذُولاً) على خبرية تقعد أو على الحال ، أي : فتصير جامعا بين الأمرين الذمّ لك من الله ومن ملائكته ، ومن صالحي عباده ، والخذلان لك منه سبحانه ، أو حال كونك جامعا بين الأمرين. ثم لما ذكر ما هو الركن الأعظم وهو التوحيد أتبعه سائر الشعائر والشرائع فقال : (وَقَضى رَبُّكَ) أي : أمر أمرا جزما ، وحكما قطعا ، وحتما مبرما (أَلَّا تَعْبُدُوا) أي : بأن لا تعبدوا ، فتكون أن ناصبة ، ويجوز أن تكون مفسرة ولا نهي. وقرئ ووصّى ربك أي : وصّى عباده بعبادته وحده ، ثم أردفه بالأمر ببرّ الوالدين فقال : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي : وقضى بأن تحسنوا بالوالدين إحسانا ، أو وأحسنوا بهما إحسانا ، ولا يجوز أن يتعلّق بالوالدين بإحسانا ، لأن المصدر لا يتقدّم عليه ما هو متعلّق به. قيل : ووجه ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد عبادة الله سبحانه أنهما السبب الظاهر في وجود المتولّد بينهما ، وفي جعل الإحسان إلى الأبوين قرينا لتوحيد الله وعبادته من الإعلان بتأكد حقّهما والعناية بشأنهما ما لا يخفى ، وهكذا جعل سبحانه في آية أخرى شكرهما مقترنا بشكره فقال : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) (١) ، ثم خصّ سبحانه حالة الكبر بالذّكر لكونها إلى البرّ من الولد أحوج من غيرها فقال : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) إما مركبة من إن الشرطية وما الإبهامية لتأكيد معنى الشرط ، ثم أدخلت نون التوكيد في الفعل لزيادة التقرير كأنه قيل : إن هذا الشرط مما سيقع البتة عادة (٢). قال النحويون : إن الشرط يشبه النهي من

__________________

(١). لقمان : ١٤.

(٢). قال الرازي في تفسيره : المراد أن هذا الحكم المتقرر المتأكد إما أن يقع وإما ألا يقع.

٢٥٩

حيث الجزم وعدم الثبوت ، فلهذا صحّ دخول النون المؤكدة عليه. وقرأ حمزة والكسائي «يبلغانّ» قال الفراء : ثنّى لأن الوالدين قد ذكرا قبله فصار الفعل على عددهما ، ثم قال : (أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) على الاستئناف ، وأما على قراءة (يَبْلُغَنَ) فأحدهما فاعل بالاستقلال وقوله : (أَوْ كِلاهُما) فاعل أيضا لكن لا بالاستقلال بل بتبعية العطف ، والأولى أن يكون أحدهما على قراءة «يبلغان» بدل من الضمير الراجع إلى الوالدين في الفعل ويكون كلاهما عطفا على البدل ، ولا يصحّ جعل كلاهما تأكيدا للضمير لاستلزام العطف المشاركة ، ومعنى عندك في كنفك وكفالتك ، وتوحيد الضمير في عندك ولا تقل وما بعدهما للإشعار بأن كل فرد من الأفراد منهيّ بما فيه النهي ، ومأمور بما فيه الأمر ، ومعنى (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) لا تقل لواحد منهما في حالتي الاجتماع والانفراد ، وليس المراد حالة الاجتماع فقط ؛ وفي أفّ لغات : ضم الهمزة مع الحركات الثلاث في الفاء ، وبالتنوين وعدمه ، وبكسر الهمز والفاء بلا تنوين ، وأفّي ممالا (١) ، وأفّه بالهاء. قال الفراء : تقول العرب : فلان يتأفف من ريح وجدها ، أي : يقول أف أف. وقال الأصمعي : الأف : وسخ الأذن ، والتّف : وسخ الأظفار ، يقال ذلك عند استقذار الشيء ، ثم كثر حتى استعملوه في كل ما يتأذون به. وروى ثعلب عن ابن الأعرابيّ أن الأف الضجر ، وقال القتبي : أصله أنه إذا سقط عليه تراب ونحوه نفخ فيه ليزيله ، فالصوت الحاصل عند تلك النفخة هو قول القائل : أفّ ، ثم توسّعوا فذكروه عند كل مكروه يصل إليهم. وقال الزجاج : معناه النتن. وقال أبو عمرو بن العلاء : الأف وسخ بين الأظفار والتّف قلامتها. والحاصل أنه اسم فعل ينبئ عن التضجر والاستثقال ، أو صوت ينبئ عن ذلك ، فنهي الولد عن أن يظهر منه ما يدل على التضجر من أبويه أو الاستثقال لهما ، وبهذا النهي يفهم النهي عن سائر ما يؤذيهما بفحوى الخطاب أو بلحنه كما هو متقرّر في الأصول (وَلا تَنْهَرْهُما) النهر : الزجر والغلظة ، يقال : نهره وانتهره ؛ إذا استقبله بكلام يزجره ، قال الزجاج : معناه لا تكلّمهما ضجرا صائحا في وجوههما (وَقُلْ لَهُما) بدل التأفيف والنهر (قَوْلاً كَرِيماً) أي : لينا لطيفا أحسن ما يمكن التعبير عنه من لطف القول وكرامته مع التأدب والحياء والاحتشام (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) ذكر القفال في معنى خفض الجناح وجهين : الأوّل : أن الطائر إذا أراد ضم فراخه إليه للتربية خفض لها جناحه ، فلهذا صار خفض الجناح كناية عن حسن التدبير ، فكأنه قال للولد : اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك في حال صغرك. والثاني : أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه ، وإذا أراد النزول خفض جناحه ، فصار خفض الجناح كناية عن التواضع وترك الارتفاع. وفي إضافة الجناح إلى الذلّ وجهان : الأوّل : أنها كإضافة حاتم إلى الجود في قولك حاتم الجود ، فالأصل فيه الجناح الذليل ، والثاني : سلوك سبيل الاستعارة ، كأنه تخيل للذلّ جناحا ، ثم أثبت لذلك الجناح خفضا. وقرأ الجمهور الذلّ بضم الذال من ذلّ يذلّ ذلا وذلة ومذلة فهو ذليل. وقرأ سعيد بن جبير وعروة بن الزبير بكسر الذال ، وروي ذلك عن ابن عباس وعاصم ، من قولهم دابة ذلول بيّنة الذّلّ ؛ أي : منقادة سهلة لا صعوبة فيها ، ومن الرحمة فيه معنى التعليل ، أي : من أجل فرط الشفقة والعطف

__________________

(١). قراءة على الإمالة.

٢٦٠