فتح القدير - ج ٣

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٣

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٧

وقيل : بشم من كثرة الأكل. قال ابن قتيبة : أكل آدم من الشجرة التي نهي عنها باستزلال إبليس وخدائعه إياه ، والقسم له بالله إنه لمن الناصحين ، حتى دلّاه بغرور ، ولم يكن ذنبه عن اعتقاد متقدّم ونية صحيحة ، فنحن نقول : عصى آدم ربه فغوى ، انتهى. قال القاضي أبو بكر بن العربي : لا يجوز لأحد أن يخبر اليوم بذلك عن آدم. قلت : لا مانع من هذا بعد أن أخبرنا الله في كتابه بأنه عصاه ، وكما يقال : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وممّا قلته في هذا المعنى :

عصى أبو العالم وهو الذي

من طينة صوّره الله

وأسجد الأملاك من أجله

وصيّر الجنة مأواه

أغواه إبليس فمن ذا أنا المس

كين إن إبليس أغواه

(ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ) أي : اصطفاه وقرّبه. قال ابن فورك : كانت المعصية من آدم قبل النبوّة بدليل ما في هذه الآية ، فإنه ذكر الاجتباء والهداية بعد ذكر المعصية ، وإذا كانت المعصية قبل النبوّة فجائز عليهم الذنوب وجها واحدا (فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) أي : تاب عليه من معصيته ، وهداه إلى الثبات على التوبة. قيل : وكانت توبة الله عليه قبل أن يتوب هو وحواء بقولهما : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (١) وقد مرّ وجه تخصيص آدم بالذكر دون حواء.

وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ) أي : القرآن (ذِكْراً) قال : جدّا وورعا. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ) يقول : لا تعجل حتى نبينه لك. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن قال : لطم رجل امرأته ، فجاءت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تطلب قصاصا ، فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهما القصاص ، فأنزل الله (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ) الآية ، فوقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نزلت : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) (٢) الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (وَلا تَعْجَلْ) الآية قال : لا تتله على أحد حتى نتمه لك. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وابن مندة في التوحيد ، والطبراني في الصغير وصحّحه ، عن ابن عباس قال : إنما سمّي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي. وأخرج عبد الغني بن سعيد عن ابن عباس (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ) أن لا تقرب الشجرة (فَنَسِيَ) : فترك عهدي (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) قال : حفظا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (فَنَسِيَ) فترك (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) يقول : لم نجعل له عزما. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا : (أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) قال : لا يصيبك فيها عطش ولا حرّ. وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ، وهي شجرة الخلد». وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «حاجّ

__________________

(١). الأعراف : ٢٣.

(٢). النساء : ٣٤.

٤٦١

آدم موسى قال له : أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم بمعصيتك ، قال آدم : يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه ، أتلومني على أمر كتبه الله عليّ قبل أن يخلقني ، أو قدّره عليّ قبل أن يخلقني؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فحجّ آدم موسى».

(قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧))

قوله : (قالَ اهْبِطا) قد مرّ تفسيره في البقرة ، أي : انزلا من الجنة إلى الأرض ، خصّهما الله سبحانه بالهبوط لأنهما أصل البشر ، ثم عمّم الخطاب لهما ولذرّيتهما فقال : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) والجملة في محل نصب على الحال ، ويجوز أن يقال خاطبهما في هذا وما بعده خطاب الجمع ؛ لأنهما منشأ الأولاد. ومعنى (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) تعاديهم في أمر المعاش ونحوه ، فيحدث بسبب ذلك القتال والخصام (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) بإرسال الرسل وإنزال الكتب (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) أي : لا يضل في الدنيا ، ولا يشقى في الآخرة (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) أي : عن ديني ، وتلاوة كتابي ، والعمل بما فيه ، ولم يتبع هداي (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) أي : فإن له في هذه الدنيا معيشة ضنكا ، أي : عيشا ضيقا. يقال : منزل ضنك وعيش ضنك ، مصدر يستوي فيه الواحد وما فوقه والمذكر والمؤنث ، قال عنترة :

إنّ المنيّة لو تمثّل مثّلت

مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل

وقرئ ضنكى بضم الضاد على فعلى. ومعنى الآية : إن الله عزوجل جعل لمن اتبع هداه وتمسّك بدينه أن يعيش في الدنيا عيشا هنيا غير مهموم ولا مغموم ولا متعب نفسه ، كما قال سبحانه : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) (١) ، وجعل لمن لم يتبع هداه وأعرض عن دينه أن يعيش عيشا ضيقا وفي تعب ونصب ، ومع ما يصيبه في هذه الدنيا من المتاعب ، فهو في الأخرى أشدّ تعبا وأعظم ضيقا وأكثر نصبا ، وذلك معنى (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) أي : مسلوب البصر ، وقيل : المراد العمى عن الحجة ، وقيل : أعمى عن جهات الخير لا يهتدي إلى شيء منها ، وقد قيل : إن المراد بالمعيشة الضنكى عذاب القبر ، وسيأتي ما يرجّح هذا ويقوّيه (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) في الدنيا (قالَ كَذلِكَ) أي : مثل ذلك فعلت أنت ، ثم فسّره بقوله : (أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها) أي : أعرضت عنها ، وتركتها ، ولم تنظر فيها (وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) أي : مثل ذلك النسيان الذي كنت فعلته في الدنيا تنسى ، أي : تترك في العمى والعذاب في النار ، قال الفراء : يقال : إنه يخرج بصيرا من قبره فيعمى في حشره (وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ) أي : مثل

__________________

(١). النحل : ٩٧.

٤٦٢

ذلك الجزاء نجزيه ، والإسراف : الانهماك في الشهوات ، وقيل : الشرك (وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ) بل كذّب بها (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ) أي : أفظع من المعيشة الضنكى (وَأَبْقى) أي : أدوم وأثبت ؛ لأنه لا ينقطع.

وقد أخرج ابن أبي شيبة والطبراني ، وأبو نعيم في الحلية ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من اتّبع كتاب الله هداه الله من الضّلالة في الدنيا ، ووقاه سوء الحساب يوم القيامة» وذلك أن الله يقول : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى). وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم ؛ والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في الشعب ، من طرق عن ابن عباس قال : أجار الله تابع القرآن من أن يضلّ في الدنيا أو يشقى في الآخرة ، ثم قرأ : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) قال : لا يضلّ في الدنيا ، ولا يشقى في الآخرة. وأخرج عبد الرزاق وسعيد ابن منصور ، ومسدّد في مسنده ، وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا في قوله : (مَعِيشَةً ضَنْكاً) قال : «عذاب القبر». ولفظ عبد الرزاق قال : «يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه». ولفظ ابن أبي حاتم قال : «ضمة القبر». وفي إسناده ابن لهيعة ، وفيه مقال معروف. وقد روي موقوفا. قال ابن كثير : الموقوف أصح. وأخرج البزار وابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) قال : «المعيشة الضّنكى : أن يسلّط عليه تسعة وتسعون حية ينهشون لحمه حتى تقوم الساعة». وأخرج ابن أبي الدنيا والحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا نحوه بأطول منه. قال ابن كثير : رفعه منكر جدا. وأخرج ابن أبي شيبة والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) قال : «عذاب القبر». قال ابن كثير بعد إخراجه : إسناد جيد. وأخرج هناد وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني والبيهقي عن ابن مسعود في قوله : (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) قال : عذاب القبر ، ومجموع ما ذكرنا هنا يرجّح تفسير المعيشة الضنكى بعذاب القبر. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في كتاب «عذاب القبر» عن ابن مسعود أنه فسر المعيشة الضنكى بالشقاء. وأخرج هناد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) قال : عمي عليه كل شيء إلا جهنم ، وفي لفظ : لا يبصر إلا النار. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان في قوله : (وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ) قال : من أشرك بالله.

(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ

٤٦٣

نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢) وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥))

قوله : (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، والفاء للعطف على مقدّر ، كما مرّ غير مرّة ، والجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها ، وفاعل يهد هو الجملة المذكورة بعدها ، والمفعول محذوف ، وأنكر البصريون مثل هذا لأن الجمل لا تقع فاعلا ، وجوّزه غيرهم. قال القفال : جعل كثرة ما أهلك من القرون مبينا لهم. قال النحاس : وهذا خطأ لأن كم استفهام ، فلا يعمل فيها ما قبلها. وقال الزجاج : المعنى أو لم يهد لهم الأمر بإهلاكنا من أهلكناه ، وحقيقته تدلّ على الهدى ، فالفاعل هو الهدى ، وقال : (كَمْ) في موضع نصب بأهلكنا ، وقيل : إن فاعل يهد ضمير لله أو للرسول ، والجملة بعده تفسّره ، ومعنى الآية على ما هو الظاهر : أفلم يتبين لأهل مكة خبر من (أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) حال كون القرون (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) ويتقلّبون في ديارهم ، أو حال كون هؤلاء يمشون في مساكن القرون الذي أهلكناهم عند خروجهم للتجارة وطلب المعيشة ؛ فيرون بلاد الأمم الماضية ؛ والقرون الخالية خاوية خاربة من أصحاب الحجر وثمود وقرى قوم لوط ؛ فإنّ ذلك ممّا يوجب اعتبارهم لئلا يحلّ بهم مثل ما حلّ بأولئك. وقرأ ابن عباس والسّلمي نهد بالنون ، والمعنى على هذه القراءة واضح ، وجملة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) تعليل للإنكار وتقرير للهداية ، والإشارة بقوله ذلك إلى مضمون كم أهلكنا إلى آخره. والنهى : جمع نهية ، وهي العقل : أي لذوي العقول التي تنهى أربابها عن القبيح (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) أي : ولو لا الكلمة السابقة ، وهي وعد الله سبحانه بتأخير عذاب هذه الأمة إلى الدار الآخرة (لَكانَ) عقاب ذنوبهم (لِزاماً) أي : لازما لهم ، لا ينفكّ عنهم بحال ولا يتأخّر. وقوله : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) معطوف على كلمة ، قاله الزجّاج وغيره ؛ والأجل المسمى : هو يوم القيامة ، أو يوم بدر ؛ واللزام مصدر لازم ، قيل : ويجوز عطف «وأجل مسمى» على الضمير المستتر في كان العائد ؛ إلى الأخذ العاجل المفهوم من السياق ، تنزيلا للفصل بالخبر منزلة التأكيد ، أي : لكان الأخذ العاجل (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) لازمين لهم كما كانا لازمين لعاد وثمود ، وفيه تعسّف ظاهر. ثم لمّا بيّن الله سبحانه أنه لا يهلكهم بعذاب الاستئصال أمره بالصبر فقال : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) من أنك ساحر كذّاب ، ونحو ذلك من مطاعنهم الباطلة ، والمعنى : لا تحتفل بهم ؛ فإن لعذابهم وقتا مضروبا لا يتقدّم ولا يتأخّر. وقيل : هذا منسوخ بآية القتال (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي : متلبّسا بحمده ، قال أكثر المفسرين : والمراد الصلوات الخمس كما يفيد قوله : (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) فإنه إشارة إلى صلاة الفجر (وَقَبْلَ غُرُوبِها) فإنه إشارة إلى صلاة العصر (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ) العتمة ، والمراد بالآناء : الساعات ، وهي جمع إنّى بالكسر والقصر ، وهو الساعة ، ومعنى (فَسَبِّحْ) أي : فصلّ (وَأَطْرافَ النَّهارِ) أي : المغرب والظهر ؛ لأن الظهر في آخر طرف النهار الأوّل ، وأوّل طرف النهار الآخر. وقيل : إن الإشارة إلى

٤٦٤

صلاة الظهر هي بقوله : (وَقَبْلَ غُرُوبِها) لأنها هي وصلاة العصر قبل غروب الشمس ، وقيل : المراد بالآية صلاة التطوّع ، ولو قيل : ليس في الآية إشارة إلى الصلاة ، بل المراد التسبيح في هذه الأوقات ، أي : قول القائل سبحان الله ، لم يكن ذلك بعيدا من الصواب ، والتسبيح وإن كان يطلق على الصلاة ولكنه مجاز ، والحقيقة أولى إلا لقرينة تصرف ذلك إلى المعنى المجازي ، وجملة (لَعَلَّكَ تَرْضى) متعلقة بقوله فسبح ، أي : سبّح في هذه الأوقات رجاء أن تنال عند الله سبحانه ما ترضى به نفسك ، هذا على قراءة الجمهور. وقرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم ترضى بضم التاء مبنيا للمفعول ؛ أي : يرتضيك ربك (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) قد تقدّم تفسير هذه الآية في الحجر (١). والمعنى : لا تطل نظر عينيك ، و (أَزْواجاً) مفعول «متعنا» ، و «زهرة» منصوبة على الحال ، أو بفعل محذوف ، أي : جعلنا أو أعطينا ، ذكر معنى هذا الزّجّاج. وقيل : هي بدل من الهاء في «به» باعتبار محلّه ، وهو النصب لا باعتبار لفظه ، فإنه مجرور كما تقول : مررت به أخاك. ورجّح الفرّاء النصب على الحال ، ويجوز أن تكون بدلا ، ويجوز أن تكون منتصبة على المصدر ، مثل «صبغة الله» و «وعد الله» و (زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) : زينتها وبهجتها بالنبات وغيره. وقرأ عيسى بن عمر (زَهْرَةَ) بفتح الهاء ، وهي نور النبات ، واللام في (لِنَفْتِنَهُمْ) فيه متعلق بمتعنا ، أي : لنجعل ذلك فتنة لهم وضلالة ، ابتلاء منّا لهم ، كقوله : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ) (٢) ، وقيل : لنعذبنهم ، وقيل : لنشدّد عليهم في التكليف (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) أي : ثواب الله ، وما ادّخر لصالحي عباده في الآخرة خير ممّا رزقهم في الدّنيا على كل حال ، وأيضا فإن ذلك لا ينقطع ، وهذا ينقطع ، وهو معنى : (وَأَبْقى). وقيل : المراد بهذا الرزق ما يفتح الله على المؤمنين من الغنائم ونحوها. والأوّل أولى ؛ لأنّ الخيرية المحقّقة والدوام الذي لا ينقطع إنّما يتحقّقان في الرّزق الأخروي لا الدنيوي ، وإن كان حلالا طيبا : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) (٣). (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) أمره الله سبحانه بأن يأمر أهله بالصلاة ، والمراد بهم أهل بيته ، وقيل : جميع أمته ، ولم يذكر هاهنا الأمر من الله له بالصلاة ، بل قصر الأمر على أهله ، إما لكون إقامته لها أمرا معلوما ، أو لكون أمره بها قد تقدّم في قوله : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) إلى آخر الآية ، أو لكون أمره بالأمر لأهله أمرا له ، ولهذا قال : (وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) أي : اصبر على الصلاة ، ولا تشتغل عنها بشيء من أمور الدنيا (لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً) أي : لا نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك ، وتشتغل بذلك عن الصلاة (نَحْنُ نَرْزُقُكَ) ونرزقهم ولا نكلّفك ذلك (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) أي : العاقبة المحمودة ، وهي الجنة لأهل التقوى على حذف المضاف كما قال الأخفش ، وفيه دليل على أنّ التّقوى هي ملاك الأمر ، وعليها تدور دوائر الخير (وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) أي : قال كفار مكة : هلّا يأتينا محمد بآية من آيات ربه ، كما كان يأتي بها من قبله من الأنبياء؟ وذلك كالناقة والعصا ، أو هلّا يأتينا بآية من الآيات التي قد اقترحناها عليه؟ فأجاب الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) يريد بالصحف

__________________

(١). الحجر : ٨٨.

(٢). الكهف : ٧.

(٣). النحل : ٩٦.

٤٦٥

الأولى التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب المنزلة ، وفيها التصريح بنبوّته والتبشير به ، وذلك يكفي ، فإن هذه الكتب المنزلة هم معترفون بصدقها وصحتها ، وفيها ما يدفع إنكارهم لنبوّته ، ويبطل تعنّتاتهم وتعسّفاتهم. وقيل : المعنى : أو لم يأتهم إهلاكنا للأمم الذين كفروا واقترحوا الآيات ، فما يؤمنهم إن أتتهم الآيات التي اقترحوها أن يكون حالهم كحالهم. وقيل : المراد أو لم تأتهم آية هي أمّ الآيات وأعظمها في باب الإعجاز يعني القرآن ، فإنه برهان لما في سائر الكتب المنزلة. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو ويعقوب وابن أبي إسحاق وحفص (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ) بالتاء الفوقية ، وقرأ الباقون بالتحتية ؛ لأن معنى البينة البيان والبرهان ، فذكروا الفعل اعتبارا بمعنى البينة ، واختار هذه القراءة ابن عبيد وأبو حاتم. قال الكسائي : ويجوز «بينة» بالتنوين. قال النحاس : إذا نوّنت بينة ورفعت جعلت «ما» بدلا منها ، وإذا نصبت فعلى الحال. والمعنى : أو لم يأتهم ما في الصحف الأولى مبيّنا ، وهذا على ما يقتضيه الجواز النحوي وإن لم تقع القراءة به (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ) أي : من قبل بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو من قبل إتيان البينة لنزول القرآن (لَقالُوا) يوم القيامة (رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) أي : هلّا أرسلت إلينا رسولا في الدنيا (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) التي يأتي بها الرسول (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَ) بالعذاب في الدنيا (وَنَخْزى) بدخول النار ، وقرئ (نَذِلَّ ، وَنَخْزى) على البناء للمفعول ، وقد قطع الله معذرة هؤلاء الكفرة بإرسال الرسول إليهم قبل إهلاكهم ، ولهذا حكى الله عنهم أنهم : (قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) (١). (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا) أي : قل لهم يا محمد كل واحد منا ومنكم متربّص ، أي : منتظر لما يؤول إليه الأمر ، فتربصوا أنتم (فَسَتَعْلَمُونَ) عن قريب (مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ) أي : فستعلمون بالنصر والعاقبة من هو من أصحاب الصراط المستقيم (وَمَنِ اهْتَدى) من الضلالة ونزع عن الغواية ، و «من» في الموضعين في محل رفع بالابتداء. قال النحاس : والفراء يذهب إلى أن معنى (مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ) من لم يضلّ ، وإلى أن معنى (مَنِ اهْتَدى) من ضلّ ثم اهتدى ، وقيل : «من» في الموضعين في محل نصب ، وكذا قال الفراء. وحكي عن الزجّاج أنه قال : هذا خطأ ؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. وقرأ أبو رافع «فسوف تعلمون» ، وقرأ يحيى بن يعمر وعاصم الجحدري (السَّوِيِ) على فعلى ، وردّت هذه القراءة بأن تأنيث الصراط شاذ ، وقيل : هي بمعنى الوسط والعدل ، اه.

وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) ألم نبين لهم (كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) نحو عاد وثمود ومن أهلك من الأمم ، وفي قوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى) يقول : هذا من مقاديم الكلام ، يقول : لو لا كلمة وأجل مسمى لكان لزاما. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي نحوه. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال : الأجل المسمّى : الكلمة التي سبقت من ربك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (لَكانَ لِزاماً) قال : موتا. وأخرج الفريابي وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : (وَسَبِّحْ

__________________

(١). الملك : ٩.

٤٦٦

بِحَمْدِ رَبِّكَ) الآية قال : هي الصلاة المكتوبة. وأخرج الطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن جرير عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) قال : «قبل طلوع الشمس صلاة الصبح ، وقبل غروبها صلاة العصر». وفي الصحيحين وغيرهما من حديث جرير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ، وقرأ : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها)». وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي عن عمارة بن رؤبة سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لن يلج النار أحد صلّى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها». وأخرج ابن أبي شيبة وابن راهويه والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والخرائطي وأبو نعيم عن أبي رافع قال : «أضاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضيفا ، ولم يكن عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يصلحه ، فأرسلني إلى رجل من اليهود أن بعنا أو سلفنا دقيقا إلى هلال رجب ، فقال : لا ؛ إلا برهن ، فأتيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته ، فقال : أما والله إني لأمين في السماء ، أمين في الأرض ، ولئن أسلفني أو باعني لأدّيت إليه ، اذهب بدرعي الجديد ، فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ)» كأنه يعزّيه عن الدنيا. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا ، قالوا : وما زهرة الدنيا يا رسول الله؟ قال : بركات الأرض». وأخرج ابن مردويه وابن عساكر وابن النجار عن أبي سعيد الخدريّ قال : لما نزلت : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجيء إلى باب عليّ صلاة الغداة ثمانية أشهر يقول : «الصلاة رحمكم الله» : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (١). وأخرج ابن مردويه عن أبي الحمراء نحوه. وأخرج أحمد في الزهد ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب ، عن ثابت ، قال : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أصابت أهله خصاصة نادى أهله : يا أهلاه صلّوا صلّوا» قال ثابت : وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة. وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن المنذر والطبراني في الأوسط ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في الشعب ، بإسناد قال السيوطي : صحيح ، عن عبد الله بن سلام قال : «كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزلت بأهله شدّة أو ضيق أمرهم بالصّلاة ، وقرأ : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) الآية.

* * *

__________________

(١). الأحزاب : ٣٣.

٤٦٧

سورة الأنبياء

وهي مكية ، قال القرطبي : في قول الجميع. وهي مائة واثنتا عشرة آية.

وأخرج البخاري وغيره عن ابن مسعود قال : بنو إسرائيل والكهف ومريم والأنبياء هنّ من العتاق الأول ، وهنّ من تلادي (١). وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن عامر بن ربيعة : أنه نزل به رجل من العرب ، فأكرم عامر مثواه ، وكلّم فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاءه الرجل فقال : إني استقطعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واديا ما في العرب واد أفضل منه ، وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك ، فقال عامر : لا حاجة لي في قطعتك ، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا. (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ).

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩))

يقال : قرب الشيء واقترب ، وقد اقترب الحساب : أي قرب الوقت الذي يحاسبون فيه. قال الزجاج : المعنى (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ) وقت (حِسابُهُمْ) أي : القيامة ، كما في قوله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) (٢). واللام في للناس متعلقة بالفعل ، وتقديمها هي ومجرورها على الفاعل لإدخال الروعة ، ومعنى اقتراب وقت الحساب : دنوّه منهم ؛ لأنه في كل ساعة أقرب إليهم من الساعة التي قبلها. وقيل : لأنّ كلّ ما هو آت قريب ، وموت كلّ إنسان قيام ساعته ، والقيامة أيضا قريبة بالإضافة إلى ما مضى من الزمان ، فما بقي من الدنيا أقلّ مما مضى ، والمراد بالناس : العموم. وقيل : المشركون مطلقا ، وقيل : كفّار مكة ، وعلى هذا الوجه قيل : المراد بالحساب : عذابهم يوم بدر ، وجملة (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) في محل نصب على الحال ، أي : هم في

__________________

(١). قال القرطبي : يريد من قديم ما كسب وحفظ من القرآن ، كالمال التّلاد.

(٢). القمر : ١.

٤٦٨

غفلة بالدنيا معرضون عن الآخرة ، غير متأهبين بما يجب عليهم من الإيمان بالله ، والقيام بفرائضه ، والانزجار عن مناهيه (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) من لابتداء الغاية ، وقد استدلّ بوصف الذكر لكونه محدثا على أن القرآن محدث ؛ لأن الذكر هنا هو القرآن. وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث المركب من الأصوات والحروف ؛ لأنه متجدد في النزول. فالمعنى محدث تنزيله ، وإنما النزاع في الكلام النفسي ، وهذه المسألة : أعني قدم القرآن وحدوثه قد ابتلي بها كثير من أهل العلم والفضل في الدولة المأمونية والمعتصمية والواثقية ، وجرى للإمام أحمد بن حنبل ما جرى من الضرب الشديد والحبس الطويل ، وضرب بسببها عنق محمد بن نصر الخزاعي ، وصارت فتنة عظيمة في ذلك الوقت وما بعده ، والقصة أشهر من أن تذكر ، ومن أحبّ الوقوف على حقيقتها طالع ترجمة الإمام أحمد بن حنبل في كتاب «النبلاء» لمؤرخ الإسلام الذهبي. ولقد أصاب أئمة السنة بامتناعهم من الإجابة إلى القول بخلق القرآن وحدوثه ، وحفظ الله بهم أمة نبيه عن الابتداع ، ولكنهم رحمهم‌الله جاوزوا ذلك إلى الجزم بقدمه ولم يقتصروا على ذلك حتى كفّروا من قال بالحدوث ، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من قال لفظي : القرآن مخلوق ، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من وقف ، وليتهم لم يجاوزوا حد الوقف وإرجاع العلم إلى علام الغيوب ، فإنه لم يسمع من السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى وقت قيام المحنة وظهور القول في هذه المسألة شيء من الكلام ، ولا نقل عنهم كلمة في ذلك ، فكان الامتناع من الإجابة إلى ما دعوا إليه ، والتمسّك بأذيال الوقف ، وإرجاع علم ذلك إلى عالمه هو الطريقة المثلى ، وفيه السلامة والخلوص من تكفير طوائف من عباد الله ، والأمر لله سبحانه. وقوله : (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ) استثناء مفرغ في محل نصب على الحال ، وجملة (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) في محل نصب على الحال أيضا من فاعل استمعوه ، و (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) حال أيضا ، والمعنى : ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث في حال من الأحوال إلا في الاستماع مع اللعب والاستهزاء ولهوة القلوب ، وقرئ «لاهية» بالرفع ، كما قرئ «محدث» بالرفع (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) النجوى : اسم من التناجي ، والتناجي لا يكون إلا سرّا ، فمعنى إسرار النجوى : المبالغة في الإخفاء. وقد اختلف في محل الموصول على أقوال ، فقيل : إنه في محل رفع بدل من الواو في (أَسَرُّوا) ، قاله المبرد وغيره ؛ وقيل : هو في محل رفع على الذمّ ؛ وقيل : هو فاعل لفعل محذوف ، والتقدير : يقول الذين ظلموا ، واختار هذا النحاس ؛ وقيل : في محل نصب بتقدير أعني ، وقيل : في محل خفض على أنه بدل من الناس ذكر ذلك المبرد ؛ وقيل : هو في محل رفع على أنه فاعل «أسرّوا» على لغة من يجوّز الجمع بين فاعلين ، كقولهم : أكلوني البراغيث ، ذكر ذلك الأخفش ، ومثله (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) ومنه قول الشاعر :

فاهتدين النّبال للأغراض (١)

__________________

(١). وصدره : بك نال النّضال دون المساعي.

٤٦٩

وقول الآخر (١) :

ولكن ديافيّ أبوه وأمّه

بحوران يعصرن السّليط أقاربه (٢)

وقال الكسائي : فيه تقديم وتأخير ؛ أي : والذين ظلموا أسرّوا النجوى. قال أبو عبيدة : أسرّوا هنا من الأضداد ، يحتمل أن يكون بمعنى أخفوا كلامهم ، ويحتمل أن يكون بمعنى أظهروه وأعلنوه (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) هذه الجملة بتقدير القول قبلها ، أي : قالوا هل هذا الرسول إلا بشر مثلكم لا يتميز عنكم بشيء؟ ويجوز أن تكون هذه الجملة بدلا من النجوى ، وهل بمعنى النفي ، أي : وأسرّوا هذا الحديث ، والهمزة في (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ) للإنكار ، والفاء للعطف على مقدّر كنظائره ، وجملة (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) في محل نصب على الحال. والمعنى : إذا كان بشرا مثلكم ، وكان الذي جاء به سحرا ، فكيف تجيبونه إليه وتتبعونه ، فأطلع الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما تناجوا به ، وأمره الله سبحانه أن يجيب عليهم فقال : قل (رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي : لا يخفى عليه شيء ممّا يقال فيهما ، وفي مصاحف أهل الكوفة «قال ربّي» أي : قال محمد : ربي يعلم القول ، فهو عالم بما تناجيتم به. قيل : القراءة الأولى أولى ؛ لأنهم أسرّوا هذا القول ، فأطلع الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك ، وأمره أن يقول لهم هذا. قال النحاس : والقراءتان صحيحتان ، وهما بمنزلة آيتين (وَهُوَ السَّمِيعُ) لكل ما يسمع (الْعَلِيمُ) بكل معلوم ، فيدخل في ذلك ما أسرّوا دخولا أوليا (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) قال الزجّاج : أي : قالوا الذي تأتي به أضغاث أحلام. قال القتبي : أضغاث الأحلام : الرؤيا الكاذبة. وقال اليزيدي : الأضغاث : ما لم يكن له تأويل ، وهذا إضراب من جهة الله سبحانه حكاية لما وقع منهم ، وانتقال من حكاية قولهم السابق إلى حكاية هذا القول. ثم حكى سبحانه إضرابهم عن قولهم : أضغاث أحلام ، قال : (بَلِ افْتَراهُ) أي : بل قالوا افتراه من تلقاء نفسه من غير أن يكون له أصل. ثم حكى سبحانه عنهم أنهم أضربوا عن هذا ، وقالوا : (بَلْ هُوَ شاعِرٌ) وما أتى به من جنس الشعر ، وفي هذا الاضطراب منهم ، والتلوّن والتردّد أعظم دليل على أنهم جاهلون بحقيقة ما جاء به ، لا يدرون ما هو ولا يعرفون كنهه؟ أو كانوا قد علموا أنه حقّ ، وأنه من عند الله ، ولكن أرادوا أن يدفعوه بالصدر ، ويرموه بكل حجر ومدر ، وهذا شأن من غلبته الحجة وقهره البرهان. ثم بعد هذا كله ، قالوا : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ) وهذا جواب شرط محذوف ، أي : إن لم يكن كما قلنا فليأتنا بآية (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) أي : كما أرسل موسى بالعصا وغيرها ، وصالح بالناقة ، ومحل الكاف الجرّ صفة لآية ، ويجوز أن يكون نعت مصدر محذوف ، وكان سؤالهم هذا سؤال تعنّت ؛ لأن الله سبحانه قد أعطاهم من الآيات ما يكفي ، ولو علم الله سبحانه أنهم يؤمنون إذا أعطاهم ما يقترحوه لأعطاهم ذلك ، كما قال : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٣). قال الزّجّاج : اقترحوا الآيات التي لا يقع معها إمهال ، فقال الله مجيبا لهم : (ما آمَنَتْ

__________________

(١). هو الفرزدق.

(٢). «دياف» : موضع بالجزيرة ، وهم نبط الشام. «السليط» : الزيت.

(٣). الأنفال : ٢٢.

٤٧٠

قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي : قبل مشركي مكة. ومعنى (مِنْ قَرْيَةٍ) من أهل قرية ، ووصف القرية بقوله :

(أَهْلَكْناها) أي : أهلكنا أهلها ، أو أهلكناها بإهلاك أهلها ، وفيه بيان سنّة الله في الأمم السالفة أن المقترحين إذا أعطوا ما اقترحوه ، ثم لم يؤمنوا نزل بهم عذاب الاستئصال لا محالة ، و «من» في (مِنْ قَرْيَةٍ) مزيدة للتأكيد. والمعنى : ما آمنت قرية من القرى التي أهلكناها بسبب اقتراحهم قبل هؤلاء ، فكيف نعطيهم ما يقترحون ، وهم أسوة من قبلهم. والهمزة في (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) للتقريع والتوبيخ ، والمعنى : إن لم تؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوا ، فكيف يؤمن هؤلاء لو أعطوا ما اقترحوا ، ثم أجاب سبحانه عن قولهم : «هل هذا إلا بشر مثلكم» بقوله : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) أي : لم نرسل قبلك إلى الأمم السابقة إلا رجالا من البشر ، ولم نرسل إليهم ملائكة ، كما قال سبحانه : (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) (١) وجملة (نُوحِي إِلَيْهِمْ) مستأنفة لبيان كيفية الإرسال ، ويجوز أن تكون صفة ل «رجالا» ، أي : متّصفين بصفة الإيحاء إليهم. قرأ حفص وحمزة والكسائي (نُوحِي) بالنون ، وقرأ الباقون بالياء «يوحى». ثم أمرهم الله بأن يسألوا أهل الذكر إن كانوا يجهلون هذا ، فقال : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وأهل الذكر هم أهل الكتابين : اليهود والنصارى ، ومعنى (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) : إن كنتم لا تعلمون أنّ رسل الله من البشر ، كذا قال أكثر المفسرين. وقد كان اليهود والنصارى لا يجهلون ذلك ولا ينكرونه ، وتقدير الكلام : إن كنتم لا تعلمون ما ذكر فاسألوا أهل الذكر. وقد استدل بالآية على أن التقليد جائز ، وهو خطأ ، ولو سلم لكان المعنى سؤالهم عن النصوص من الكتاب والسنة ، لا عن الرأي البحت ، وليس التقليد إلا قبول قول الغير دون حجته. وقد أوضحنا هذا في رسالة بسيطة سمّيناها «القول المفيد في حكم التقليد». ثم لما فرغ سبحانه من الجواب عن شبهتهم أكّد كون الرسل من جنس البشر فقال : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) أي : أن الرسل أسوة لسائر أفراد بني آدم في حكم الطبيعة ، يأكلون كما يأكلون ، ويشربون كما يشربون ، والجسد جسم الإنسان. قال الزجاج : هو واحد ، يعني الجسد ينبئ عن جماعة ، أي : وما جعلناهم ذوي أجساد لا يأكلون الطعام ، فجملة «لا يأكلون الطعام» صفة ل «جسدا» ، أي : وما جعلناهم جسدا مستغنيا عن الأكل ، بل هو محتاج إلى ذلك (وَما كانُوا خالِدِينَ) بل يموتون كما يموت غيرهم من البشر ، وقد كانوا يعتقدون أن الرسل لا يموتون ، فأجاب الله عليهم بهذا ، وجملة (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) معطوفة على جملة يدلّ عليها السياق ، والتقدير : أوحينا إليهم ما أوحينا ، ثم صدقناهم الوعد ، أي : أنجزنا وعدهم الذي وعدناهم بإنجائهم وإهلاك من كذبهم ، ولهذا قال سبحانه : (فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ) من عبادنا المؤمنين ، والمراد إنجاؤهم من العذاب وإهلاك من كفر بالعذاب الدنيوي ، والمراد ب (الْمُسْرِفِينَ) المجاوزون للحدّ في الكفر والمعاصي ، وهم المشركون.

__________________

(١). الإسراء : ٩٥.

٤٧١

وقد أخرج النّسائي عن أبي سعيد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) قال : «في الدنيا». وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآية قال : «من أمر الدنيا». وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) أي : فعل الأحلام إنما هي رؤيا رآها (بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ) كل هذا قد كان منه (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) كما جاء عيسى وموسى بالبينات والرسل (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) أي : أن الرسل كانوا إذا جاءوا قومهم بالبينات فلم يؤمنوا لم ينظروا. وأخرج ابن جرير عن قتادة قال : قال أهل مكة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا كان ما تقوله حقا ، ويسرّك أن نؤمن ، فحوّل لنا الصفا ذهبا ، فأتاه جبريل فقال : إن شئت كان الذي سألك قومك ، ولكنه إن كان ، ثم لم يؤمنوا لم ينظروا ، وإن شئت استأنيت بقومك ، قال : «بل أستأني بقومي» ، فأنزل الله (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ) الآية. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) يقول : لم نجعلهم جسدا ليس يأكلون الطعام ، إنما جعلناهم جسدا يأكلون الطعام.

(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥))

نبّه عباده على عظيم نعمته عليهم بقوله : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً) يعني القرآن (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) صفة ل «كتابا» ، والمراد بالذكر هنا الشرف ، أي : فيه شرفكم ، كقوله : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (١) وقيل : فيه ذكركم ، أي : ذكر أمر دينكم ، وأحكام شرعكم وما تصيرون إليه من ثواب أو عقاب ، وقيل : فيه حديثكم. قاله مجاهد. وقيل : مكارم أخلاقكم ومحاسن أعمالكم. وقيل : فيه العمل بما فيه حياتكم. قاله سهل بن عبد الله. وقيل : فيه موعظتكم ، والاستفهام في (أَفَلا تَعْقِلُونَ) للتوبيخ والتقريع ، أي : أفلا تعقلون أن الأمر كذلك ، أو لا تعقلون شيئا من الأشياء التي من جملتها ما ذكر ، ثم أوعدهم وحذّرهم ما

__________________

(١). الزخرف : ٤٤.

٤٧٢

جرى على الأمم المكذّبة ، فقال : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً كَمْ) في محل نصب على أنها مفعول قصمنا ، وهي الخبرية المفيدة للتكثير ، والقصم : كسر الشيء ودقّه ، يقال : قصمت ظهر فلان إذا كسرته ، وانقصمت سنّه إذا انكسرت. والمعنى هنا : الإهلاك والعذاب ، وأما الفصم بالفاء فهو الصدع في الشيء من غير بينونة ، وجملة (كانَتْ ظالِمَةً) في محل جرّ صفة لقرية ، وفي الكلام مضاف محذوف ، أي : وكم قصمنا من أهل قرية كانوا ظالمين ، أي : كافرين بالله مكذّبين بآياته ، والظلم في الأصل : وضع الشيء في غير موضعه ، وهم وضعوا الكفر في موضع الإيمان (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) أي : أوجدنا وأحدثنا بعد إهلاك أهلها قوما ليسوا منهم (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) أي : أدركوا ، أو رأوا عذابنا ، وقال الأخفش : خافوا وتوقّعوا ، والبأس : العذاب الشديد. (إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) الركض : الفرار والهرب والانهزام ، وأصله من ركض الرجل الدابة برجليه ، يقال : ركض الفرس إذا كدّه بساقيه ، ثم كثر حتى قيل : ركض الفرس إذا عدا ، ومنه : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) (١). والمعنى : أنهم يهربون منها راكضين دوابهم ، فقيل لهم : (لا تَرْكُضُوا) أي : لا تهربوا. قيل : إن الملائكة نادتهم بذلك عند فرارهم. وقيل : إن القائل لهم ذلك هم من هنالك من المؤمنين استهزاء بهم وسخرية منهم (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) أي : إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم وكفركم ، والمترف : المنعم ، يقال : أترف على فلان ، أي : وسّع عليه في معاشه. (وَمَساكِنِكُمْ) أي : وارجعوا إلى مساكنكم التي كنتم تسكنونها وتفتخرون بها (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) أي : تقصدون للسؤال والتشاور والتدبير في المهمات ، وهذا على طريقة التهكّم بهم والتوبيخ لهم. وقيل : المعنى : لعلكم تسألون عمّا نزل بكم من العقوبة فتخبرون به. وقيل : لعلكم تسألون أن تؤمنوا كما كنتم تسألون ذلك قبل نزول العذاب بكم. قال المفسرون وأهل الأخبار : إنّ المراد بهذه الآية أهل حضور من اليمن ، وكان الله سبحانه قد بعث إليهم نبيا اسمه شعيب بن مهدم ، وقبره بجبل من جبال اليمن يقال له ضين ، وبينه وبين حضور نحو يريد ، قالوا : وليس هو شعيبا صاحب مدين. قلت : وآثار القبر بجبل ضين موجودة ، وو العامة من أهل تلك الناحية يزعمون أنه قبر قدم بن قادم (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي : قالوا لما قالت لهم الملائكة لا تركضوا : يا ويلنا ، أي : بإهلاكنا إنّا كنّا ظالمين لأنفسنا ، مستوجبين العذاب بما قدّمنا ، فاعترفوا على أنفسهم بالظّلم الموجب للعذاب (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) أي : ما زالت هذه الكلمة دعواهم ، أي : دعوتهم ، والكلمة : هي قولهم يا ويلنا ، أي : يدعون بها ويردّدونها (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً) أي : بالسيوف كما يحصد الزرع بالمنجل ، والحصيد هنا بمعنى المحصود ، ومعنى (خامِدِينَ) أنهم ميتون ، من خمدت إذا طفئت ، فشبّه خمود الحياة بخمود النار ، كما يقال لمن مات قد طفئ (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) أي : لم نخلقهما عبثا ولا باطلا ، بل للتنبيه على أن لهما خالقا قادرا يجب امتثال أمره ، وفيه إشارة إجمالية إلى تكوين العالم ، والمراد بما بينهما سائر المخلوقات الكائنة بين السماء والأرض على اختلاف أنواعها وتباين أجناسها (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) اللهو : ما يتلهّى به ، قيل : اللهو ، الزوجة والولد ،

__________________

(١). ص : ٤٢.

٤٧٣

وقيل : الزوجة فقط ، وقيل : الولد فقط. قال الجوهري : قد يكنّى باللهو عن الجماع ، ويدلّ على ما قاله قول امرئ القيس :

ألا زعمت بسباسة اليوم أنّني

كبرت وألّا يحسن اللهو أمثالي

ومنه قول الآخر (١) :

وفيهنّ ملهى للصديق ومنظر (٢)

والجملة مستأنفة لتقرير مضمون ما قبلها ، وجواب لقوله : (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) أي : من عندنا ومن جهة قدرتنا لا من عندكم. قال المفسرون : أي : من الحور العين ، وفي هذا ردّ على من قال بإضافة الصاحبة والولد إلى الله ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. وقيل : أراد الردّ على من قال : الأصنام أو الملائكة بنات الله. وقال ابن قتيبة : الآية ردّ على النصارى (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) قال الواحدي : قال المفسرون : ما كنّا فاعلين. قال الفرّاء والمبرّد والزجّاج : يجوز أن تكون «إن» للنفي كما ذكره المفسرون ، أي : ما فعلنا ذلك ولم نتّخذ صاحبة ولا ولدا ؛ ويجوز أن تكون للشرط ، أي : إن كنا ممّن يفعل ذلك لاتّخذناه من لدنا. قال الفراء : وهذا أشبه الوجهين بمذهب العربية (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ) هذا إضراب عن اتخاذ اللهو ، أي : دع ذلك الذي قالوا فإنه كذب وباطل ، بل شأننا أن نرمي بالحق على الباطل (فَيَدْمَغُهُ) أي : يقهره ، وأصل الدمغ شجّ الرأس حتى يبلغ الدماغ ، ومنه الدامغة. قال الزجاج : المعنى نذهبه ذهاب الصغار والإذلال ، وذلك أن أصله إصابة الدماغ بالضرب. قيل : أراد بالحق الحجة وبالباطل شبههم اه. وقيل : الحق المواعظ ، والباطل المعاصي ، وقيل : الباطل الشيطان. وقيل : كذبهم. ووصفهم الله سبحانه بغير صفاته (فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) أي : زائل ذاهب ، وقيل : هالك تالف ، والمعنى متقارب ، وإذا هي الفجائية (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) أي : العذاب في الآخرة بسبب وصفكم لله بما لا يجوز عليه. وقيل : الويل واد في جهنم ، وهو وعيد لقريش بأن لهم من العذاب مثل الذي لأولئك ؛ ومن هي التعليلية (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) عبيدا وملكا ، وهو خالقهم ورازقهم ومالكهم ، فكيف يجوز أن يكون له بعض مخلوقاته شريكا يعبد كما يعبد ، وهذه الجملة مقررة لما قبلها (وَمَنْ عِنْدَهُ) يعني الملائكة ، وفيه رد على القائلين بأن الملائكة بنات الله ، وفي التعبير عنهم بكونهم عنده إشارة إلى تشريفهم وكرامتهم ، وأنهم بمنزلة المقرّبين عند الملوك ، ثم وصفهم بقوله : (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) أي : لا يتعاظمون ولا يأنفون عن عبادة الله سبحانه والتذلّل له (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) أي : لا يعيون ، مأخوذ من الحسير ، وهو البعير المنقطع بالإعياء والتعب ، يقال : حسر البعير يحسر حسورا أعيا وكلّ ، واستحسر وتحسر مثله ، وحسرته أنا حسرا ، يتعدى ولا يتعدى. قال أبو زيد : لا يكلّون (٣) ، وقال ابن الأعرابي : لا يفشلون. قال الزجاج : معنى الآية أن هؤلاء الذين ذكرتم أنهم أولاد

__________________

(١). هو زهير بن أبي سلمى.

(٢). وعجزه : أنيق لعين النّاظر المتوسّم.

(٣). في تفسير القرطبي (١١ / ٢٧٨) : لا يملون.

٤٧٤

الله عباد الله لا يأنفون عن عبادته ولا يتعظمون عنها ، كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) (١) وقيل : المعنى : لا ينقطعون عن عبادته. وهذه المعاني متقاربة (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) أي : ينزّهون الله سبحانه دائما لا يضعفون عن ذلك ولا يسأمون ، وقيل : يصلون الليل والنهار. قال الزجّاج : مجرى التسبيح منهم كمجرى النفس منا لا يشغلنا عن النفس شيء ، فكذلك تسبيحهم دائم ، وهذه الجملة إما مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، أو في محل نصب على الحال (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ) قال المفضل : مقصود هذا الاستفهام الجحد ، أي : لم يتّخذوا آلهة تقدر على الإحياء ، و «أم» هي المنقطعة ، والهمزة لإنكار الوقوع. قال المبرد : إن «أم» هنا بمعنى هل ، أي : هل اتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض يحيون الموتى ، ولا تكون «أم» هنا بمعنى بل ؛ لأن ذلك يوجب لهم إنشاء الموتى إلا أن تقدّر أم مع الاستفهام ، فتكون «أم» المنقطعة ، فيصحّ المعنى ، و «من الأرض» متعلّق باتخذوا ، أو بمحذوف هو صفة لآلهة ، ومعنى (هُمْ يُنْشِرُونَ) هم يبعثون الموتى ، والجملة صفة لآلهة ، وهذه الجملة هي التي يدور عليها الإنكار والتجهيل ، لا نفس الاتخاذ ، فإنه واقع منهم لا محالة. والمعنى : بل اتخذوا آلهة من الأرض هن خاصة مع حقارتهم ينشرون الموتى ، وليس الأمر كذلك ، فإن ما اتّخذوها آلهة بمعزل عن ذلك. قرأ الجمهور (يُنْشِرُونَ) بضم الياء وكسر الشين من أنشره ، أي : أحياه ، وقرأ الحسن بفتح الياء ، أي : يحيون ولا يموتون ، ثم إنه سبحانه أقام البرهان على بطلان تعدّد الآلهة ، فقال : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) أي : لو كان في السماوات والأرض آلهة معبودون غير الله لفسدتا ، أي : لبطلتا ، يعني السماوات والأرض بما فيهما من المخلوقات. قال الكسائي وسيبويه والأخفش والزجاج وجمهور النحاة : إن «إلا» هنا ليست للاستثناء ، بل بمعنى غير صفة لآلهة ، ولذلك ارتفع الاسم الذي بعدها ، وظهر فيه إعراب غير التي جاءت إلا بمعناها ، ومنه قول الشاعر :

وكلّ أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلّا الفرقدان

وقال الفرّاء : إنّ «إلا» هنا بمعنى سوى ، والمعنى : لو كان فيهما آلهة سوى الله لفسدتا ، ووجه الفساد أن كون مع الله إلها آخر يستلزم أن يكون كل واحد منهما قادرا على الاستبداد بالتصرف ، فيقع عند ذلك التنازع والاختلاف ، ويحدث بسببه الفساد ، اه. (فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ثبوت الوحدانية بالبرهان ، أي : تنزّه عزوجل عمّا لا يليق به من ثبوت الشريك له ، وفيه إرشاد للعباد أن ينزّهوا الربّ سبحانه عمّا لا يليق به (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) هذه الجملة مستأنفة مبينة أنه سبحانه لقوّة سلطانه وعظيم جلاله لا يسأله أحد من خلقه عن شيء من قضائه وقدره (وَهُمْ) أي : العباد (يُسْئَلُونَ) عمّا يفعلون ، أي : يسألهم الله عن ذلك لأنهم عبيده. وقيل : إن المعنى أنه سبحانه لا يؤاخذ عل أفعاله وهم يؤاخذون. قيل : والمراد بذلك أنه سبحانه بين لعباده أن من يسأل عن أعماله كالمسيح والملائكة لا يصلح لأن يكون إلها (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) أي : بل اتخذوا ، وفيه إضراب وانتقال من

__________________

(١). الأعراف : ٢٠٦.

٤٧٥

إظهار بطلان كونها آلهة بالبرهان السابق إلى إظهار بطلان اتخاذها آلهة مع توبيخهم بطلب البرهان منهم ، ولهذا قال : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على دعوى أنها آلهة ، أو على جواز اتخاذ آلهة سوى الله ، ولا سبيل لهم إلى شيء من ذلك ، لا من عقل ولا نقل ؛ لأنّ دليل العقل قد مرّ بيانه ، وأما دليل النقل فقد أشار إليه بقوله : (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) أي : هذا الوحي الوارد في شأن التوحيد المتضمن للبرهان القاطع ذكر أمتي وذكر الأمم السالفة ، وقد أقمته عليكم وأوضحته لكم ، فأقيموا أنتم برهانكم. وقيل المعنى : هذا القرآن وهذه الكتب التي أنزلت قبلي ، فانظروا هل في واحد منها أن الله أمر باتّخاذ إله سواه. قال الزجّاج : قيل لهم هاتوا برهانكم بأن رسولا من الرسل أنبأ أمته بأن لهم إلها غير الله ، فهل في ذكر من معي وذكر من قبلي إلا توحيد الله؟ وقيل : معنى الكلام والوعيد والتهديد ، أي : افعلوا ما شئتم فعن قريب ينكشف الغطاء. وحكى أبو حاتم أن يحيى بن يعمر وطلحة بن مصرّف قرأ : «هذا ذكر من معى وذكر من قبلي» بالتنوين وكسر الميم ، وزعم أنه لا وجه لهذه القراءة. وقال الزجّاج في توجيه هذه القراءة : إن المعنى هذا ذكر مما أنزل إليّ ومما هو معي وذكر من قبلي. وقيل : ذكر كائن من قبلي ، أي : جئت بما جاءت به الأنبياء من قبلي. ثم لمّا توجهت الحجة عليهم ذمّهم بالجهل بمواضع الحق فقال : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ) وهذا إضراب من جهته سبحانه وانتقال من تبكيتهم بمطالبتهم بالبرهان إلى بيان أنه لا يؤثر فيهم إقامة البرهان لكونهم جاهلين للحق لا يميزون بينه وبين الباطل. وقرأ ابن محيصن والحسن الحق بالرفع على معنى هذا الحق ، أو هو الحق ، وجملة (فَهُمْ مُعْرِضُونَ) تعليل لما قبله من كون أكثرهم لا يعلمون ، أي : فهم لأجل هذا الجهل المستولي على أكثرهم معرضون عن قبول الحق مستمرّون على الإعراض عن التوحيد واتباع الرسول ، فلا يتأمّلون حجّة ، ولا يتدبّرون في برهان ، ولا يتفكّرون في دليل (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ) قرأ حفص وحمزة والكسائي (نُوحِي) بالنون ، وقرأ الباقون بالياء ، أي : نوحي إليه (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) وفي هذا تقرير لأمر التوحيد وتأكيد لما تقدّم من قوله : (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) وختم الآية بالأمر لعباده بعبادته ، فقال (فَاعْبُدُونِ) فقد اتّضح لكم دليل العقل ، ودليل النقل ، وقامت عليكم حجة الله.

وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عباس في قوله : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) قال : شرفكم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال : فيه حديثكم. وفي رواية عنه قال : فيه دينكم. وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : بعث الله نبيا من حمير يقال له شعيب ، فوثب إليه عبد فضربه بعصا ، فسار إليهم بختنصر فقاتلهم فقتلهم حتى لم يبق منهم شيء ، وفيهم أنزل الله : (وَكَمْ قَصَمْنا) إلى قوله : (خامِدِينَ). وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن الكلبي في قوله : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ) قال : هي حضور بني أزد ، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) قال : ارجعوا إلى دوركم وأموالكم. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) قال : هم أهل حضور كانوا قتلوا نبيهم ، فأرسل الله عليهم بختنصر فقتلهم ،

٤٧٦

وفي قوله : (جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) قال : بالسيف ضرب الملائكة وجوههم حتى رجعوا إلى مساكنهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن وهب قال حدّثني رجل من الجزريين قال : كان اليمن قريتان ، يقال لإحداهما حضور وللأخرى قلابة ، فبطروا وأترفوا حتى ما كانوا يغلقون أبوابهم ، فلما أترفوا بعث الله إليهم نبيا فدعاهم فقتلوه ، فألقى الله في قلب بختنصر أن يغزوهم ، فجهز لهم جيشا ، فقاتلوهم فهزموا جيشه فرجعوا منهزمين إليه ، فجهز إليهم جيشا آخر أكثف من الأوّل ، فهزموهم أيضا ؛ فلما رأى بختنصر ذلك غزاهم هو بنفسه ، فقاتلوهم فهزمهم حتى خرجوا منها يركضون ، فسمعوا مناديا يقول : (لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ) فرجعوا ، فسمعوا صوتا مناديا يقول : يا لثارات النبيّ فقتلوا بالسيف ، فهي التي قال الله : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ) إلى قوله : (خامِدِينَ). قلت : وقرى حضور معروفة الآن بينها وبين مدينة صنعاء نحو بريد (١) في جهة الغرب منها. وأخرج ابن بالمنذر عن ابن عباس في قوله : (حَصِيداً خامِدِينَ) قال : كخمود النار إذا طفئت. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) قال : اللهو : الولد. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن في قوله : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) قال : النساء. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) يقول : لا يرجعون. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) قال : بعباده (وَهُمْ يُسْئَلُونَ) قال : عن أعمالهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحّاك نحوه. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن عباس قال : ما في الأرض قوم أبغض إليّ من القدرية ، وما ذلك إلا لأنهم لا يعلمون قدرة الله ، قال الله : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ).

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣) وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥))

قوله : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) هؤلاء القائلون هم خزاعة ، فإنهم قالوا : الملائكة بنات الله ، وقيل : هم اليهود ، ويصحّ حمل الآية على كلّ من جعل لله ولدا. وقد قالت اليهود : عزير ابن الله ، وقالت

__________________

(١). البريد : يساوي نحو (٢٠) كم تقريبا على بعض التقديرات.

٤٧٧

النصارى : المسيح ابن الله ، وقالت طائفة من العرب : الملائكة بنات الله. ثم نزّه عزوجل نفسه. فقال : (سُبْحانَهُ) أي : تنزيها له عن ذلك ، وهو مقول على ألسنة العباد. ثم أضرب عن قولهم وأبطله فقال : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) أي : ليسوا كما قالوا ، بل هم عباد الله سبحانه مكرمون بكرامته لهم ، مقرّبون عنده. وقرئ (مُكْرَمُونَ) بالتشديد ، وأجاز الزجاج والفراء نصب عباد على معنى : بل اتخذ عبادا ، ثم وصفهم بصفة أخرى فقال : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) أي : لا يقولون شيئا حتى يقوله أو يأمرهم به. كذا قال ابن قتيبة وغيره ، وفي هذا دليل على كمال طاعتهم وانقيادهم. وقرئ «لا يسبقونه» بضم الباء من سبقته أسبقه (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) أي : هم العاملون بما يأمرهم الله به ، التابعون له المطيعون لربهم (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) هذه الجملة تعليل لما قبلها ، أي : يعلم ما عملوا وما هم عاملون ، أو يعلم ما بين أيديهم وهو الآخرة ، وما خلفهم وهو الدنيا ، ووجه التعليل أنهم إذا علموا بأنه عالم بما قدّموا وأخروا ، لم يعملوا عملا ولم يقولوا قولا إلا بأمره (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) أي : يشفع الشافعون له ، وهو من رضي عنه ، وقيل : هم أهل لا إله إلا الله ، وقد ثبت في الصحيح أن الملائكة يشفعون في الدار الآخرة. (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) أي : من خشيتهم منه ، فالمصدر مضاف إلى المفعول ، والخشية : الخوف مع التعظيم ، والإشفاق : الخوف مع التوقع والحذر ، أي : لا يأمنون مكر الله (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) أي : من يقل من الملائكة إني إله من دون الله. قال المفسرون : عنى بهذا إبليس ؛ لأنه لم يقل أحد من الملائكة إني إله إلا إبليس ، وقيل : الإشارة إلى جميع الأنبياء (فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) أي : فذلك القائل ، على سبيل الفرض والتقدير ، نجزيه جهنم بسبب هذا القول الذي قاله ، كما نجزي غيره من المجرمين (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الظالمين ، أو مثل ما جعلنا جزاء هذا القائل جهنم ، فكذلك نجزي الظالمين الواضعين الإلهية والعبادة في غير موضعها ، والمراد بالظالمين المشركون (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الهمزة للإنكار ، والواو للعطف على مقدّر ، والرؤية هي القلبية ، أي : لم يتفكروا ولم يعلموا (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً) قال الأخفش : إنما قال كانتا ، لأنهما صنفان ، أي : جماعتا السماوات والأرضين ، كما قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) (١) وقال الزجاج : إنما قال كانتا لأنه يعبر عن السماوات بلفظ الواحد ، لأن السماوات كانت سماء واحدة ، وكذلك الأرضون ، والرتق : السدّ ، ضدّ الفتق ، يقال : رتقت الفتق أرتقه فارتتق ، أي : التأم ، ومنه الرتقاء للمنضمة الفرج ، يعني : أنهما كانتا شيئا واحدا ملتزقتين ففصل الله بينهما ، وقال رتقا ولم يقل رتقين لأنه مصدر ، والتقدير : كانتا ذواتي رتق ، ومعنى (فَفَتَقْناهُما) ففصلناهما ؛ أي : فصلنا بعضهما من بعض ، فرفعنا السماء ، وأبقينا الأرض مكانها (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) أي : أحيينا بالماء الذي ننزله من السماء كل شيء ، فيشمل الحيوان والنبات ، والمعنى أن الماء سبب حياة كل شيء. وقيل : المراد بالماء هنا النطفة ، وبه قال أكثر المفسرين ، وهذا احتجاج على المشركين بقدرة الله سبحانه وبديع صنعه ، وقد تقدّم تفسير هذه الآية ، والهمزة في (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) للإنكار

__________________

(١). فاطر : ٤١.

٤٧٨

عليهم ، حيث لم يؤمنوا مع وجود ما يقتضيه من الآيات الربانية. (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي : جبالا ثوابت (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) الميد : التحرّك والدوران ، أي : لئلا تتحرك وتدور بهم ، أو كراهة ذلك ، وقد تقدّم تفسير ذلك في النحل مستوفى. (وَجَعَلْنا فِيها) أي : في الرواسي ، أو في الأرض (فِجاجاً) ، قال أبو عبيدة : هي المسالك. وقال الزجّاج : كلّ مخترق بين جبلين فهو فج و (سُبُلاً) تفسير للفجاج ؛ لأنّ الفجّ قد لا يكون طريقا نافذا مسلوكا (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) إلى مصالح معاشهم ، وما تدعو إليه حاجاتهم (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) عن أن يقع ويسقط على الأرض ، كقوله : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) (١) وقال الفراء : محفوظا بالنجوم من الشيطان ، كقوله : (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) (٢) وقيل : محفوظا لا يحتاج إلى عماد ، وقيل : المراد بالمحفوظ هنا المرفوع ، وقيل : محفوظا عن الشرك والمعاصي ، وقيل : محفوظا عن الهدم والنقض (وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) أضاف الآيات إلى السماء ؛ لأنها مجعولة فيها ، وذلك كالشمس والقمر ونحوهما ، ومعنى الإعراض أنهم لا يتدبرون فيها ، ولا يتفكرون فيما توجبه من الإيمان (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) هذا تذكير لهم بنعمة أخرى مما أنعم به عليهم ، وذلك بأنه خلق لهم الليل ليسكنوا فيه ، والنهار ليتصرفوا فيه في معايشهم ، وخلق الشمس والقمر ، أي : جعل الشمس آية النهار ، والقمر آية الليل ، ليعلموا عدد الشهور والحساب كما تقدّم بيانه في سبحان (٣).(كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي : كل واحد من الشمس والقمر والنجوم في فلك يسبحون ، أي : يجرون في وسط الفلك ، ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء ، والجمع في الفعل باعتبار المطالع ، قال سيبويه : إنه لما أخبر عنهنّ بفعل من يعقل ، وجعلهنّ في الطاعة بمنزلة من يعقل ، جعل الضمير عنهنّ ضمير العقلاء ، ولم يقل يسبحن أو تسبح ، وكذا قال الفراء. وقال الكسائي : إنما قال يسبحون لأنه رأس آية ، والفلك واحد أفلاك النجوم ، وأصل الكلمة من الدوران ، ومنه فلكة المغزل لاستدارتها (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) أي : دوام البقاء في الدنيا (أَفَإِنْ مِتَ) بأجلك المحتوم (فَهُمُ الْخالِدُونَ) أي : أفهم الخالدون. قال الفراء : جاء بالفاء لتدل على الشرط لأنه جواب قولهم سيموت. قال : ويجوز حذف الفاء وإضمارها ، والمعنى : إن متّ فهم يموتون أيضا ، فلا شماتة في الموت. وقرئ (مِتَ) بكسر الميم وضمها لغتان ، وكان سبب نزول هذه الآية قول المشركين فيما حكاه الله عنهم : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) (٤). (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي : ذائقة مفارقة جسدها ، فلا يبقى أحد من ذوات الأنفس المخلوقة كائنا ما كان (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) أي : نختبركم بالشدّة والرخاء ، لننظر كيف شكركم وصبركم. والمراد أنه سبحانه يعاملهم معاملة من يبلوهم ، وفتنة مصدر لنبلوكم من غير لفظه (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) لا إلى غيرنا فنجازيكم بأعمالكم إن خيرا فخير ، وإن شرا فشرّ.

وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : قالت اليهود إن الله عزوجل صاهر الجنّ فكانت بنيهم الملائكة ، فقال الله تكذيبا لهم (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) أي : الملائكة ليس كما قالوا ، بل عباد أكرمهم بعبادته

__________________

(١). الحج : ٦٥.

(٢). الحجر : ١٧.

(٣). أي سورة الإسراء.

(٤). الطور : ٣٠.

٤٧٩

(لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) يثني عليهم (وَلا يَشْفَعُونَ) قال : لا تشفع الملائكة يوم القيامة (إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) قال : لأهل التوحيد لمن رضي عنه. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن في الآية قال : قول لا إله إلا الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث ، عن ابن عباس في الآية قال : الذين ارتضاهم لشهادة أن لا إله إلا الله. وأخرج الحاكم وصحّحه ، والبيهقي في البعث ، عن جابر «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا قوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) قال : إنّ شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي». وأخرج الفريابي وعبد بن حميد ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن ابن عباس في قوله : (كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) قال : فتقت السماء بالغيث ، وفتقت الأرض بالنبات. وأخرج ابن أبي حاتم عنه (كانَتا رَتْقاً) قال : لا يخرج منهما شيء ، وذكر مثل ما تقدم. وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم في الحلية ، عنه أيضا من طريق أخرى. وأخرج ابن جرير عنه (كانَتا رَتْقاً) قال : ملتصقتين. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن أبي العالية في قوله : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) قال : نطفة الرجل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس (وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً) قال : بين الجبال. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) قال : دوران (يَسْبَحُونَ) قال : يجرون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، عنه (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) قال : فلك كفلكة المغزل (يَسْبَحُونَ) قال : يدورون في أبواب السماء. كما تدور الفلكة في المغزل. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : هو فلك السماء. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن عائشة قالت : دخل أبو بكر على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد مات فقبله وقال : وا نبياه وا خليلاه وا صفياه ، ثم تلا (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) الآية ، وقوله : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (١). وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) قال : نبتليكم بالشدة والرخاء ، والصّحة والسّقم ، والغنى والفقر ، والحلال والحرام ، والطاعة والمعصية ، والهدى والضلالة.

(وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣))

__________________

(١). الزمر : ٣٠.

٤٨٠