فتح القدير - ج ٣

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٣

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٧

أي : ألم تعلموا ، فمعنى الآية على هذا : أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا من غير أن يشاهدوا الآيات ؛ وقيل : إن الإياس على معناه الحقيقي ، أي : أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء الكفار ، لعلمهم أن الله تعالى لو أراد هدايتهم لهداهم ؛ لأن المؤمنين تمنّوا نزول الآيات التي اقترحها الكفار طمعا في إيمانهم (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ) هذا وعيد للكفار على العموم أو لكفار مكة على الخصوص ، أي : لا يزال الذين كفروا تصيبهم بسبب ما صنعوا من الكفر والتكذيب للرسل قارعة ، أي : داهية تفجؤهم ، يقال : قرعه الأمر إذا أصابه ، والجمع قوارع ، والأصل في القرع الضرب. قال الشاعر (١) :

أفنى تلادي وما جمّعت من نشب

قرع القواقيز أفواه الأباريق (٢)

والمعنى : أن الكفار لا يزالون كذلك حتى تصيبهم داهية مهلكة من قتل أو أسر أو جدب أو نحو ذلك من العذاب ؛ وقد قيل : إن القارعة : النكبة ، وقيل : الطلائع والسرايا ، ولا يخفى أن القارعة تطلق على ما هو أعمّ من ذلك (أَوْ تَحُلُ) أي : القارعة (قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) فيفزعون منها ويشاهدون من آثارها ما ترجف له قلوبهم وترعد منه بوادرهم (٣) ، وقيل : إن الضمير في (تَحُلُ) للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمعنى : أو تحل أنت يا محمد قريبا من دارهم محاصرا لهم آخذا بمخانقهم كما وقع منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأهل الطائف (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) وهو موتهم ، أو قيام الساعة عليهم ، فإنه إذا جاء وعد الله المحتوم حلّ بهم من عذابه ما هو الغاية في الشدّة ؛ وقيل : المراد بوعد الله هنا الإذن منه بقتال الكفار ، والأوّل أولى (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) فما جرى به وعده فهو كائن لا محالة (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) التنكير في رسل للتكثير ، أي : يرسل كثيرة ، والإملاء : الإمهال ، وقد مرّ تحقيقه في الأعراف (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) بالعذاب الذي أنزلته بهم (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) الاستفهام للتقريع والتهديد ، أي : فكيف كان عقابي لهؤلاء الكفار الذي استهزءوا بالرسل ، فأمليت لهم ثم أخذتم ، ثم استفهم سبحانه استفهاما آخر للتوبيخ والتقريب يجري مجرى الحجاج للكفار واستركاك صنعهم والإزراء عليهم ، فقال (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ) القائم الحفيظ والمتولّي للأمور ، وأراد سبحانه نفسه ، فإنّه المتولي لأمور خلقه المدبر لأحوالهم بالآجال والأرزاق ، وإحصاء الأعمال على كل نفس من الأنفس كائنة ما كانت ، والجواب محذوف ، أي : أفمن هو بهذه الصفة كمن ليس بهذه الصفة من معبوداتكم التي لا تنفع ولا تضرّ. قال الفراء : كأنه في المعنى أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كشركائهم الذين اتخذوهم من دون الله ، والمراد من الآية إنكار المماثلة بينهما ؛ وقيل : المراد بمن هو قائم على كل نفس الملائكة الموكّلون ببني آدم ، والأوّل أولى ، وجملة (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) معطوفة على الجواب المقدّر مبينة له أو حالية بتقدير قد ، أي : وقد جعلوا ، أو معطوفة على (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ)

__________________

(١). هو الأقيشر الأسدي.

(٢). «نشب» : هو الضياع والبساتين. «القواقيز» : جمع قاقوزة ، وهي أوان يشرب بها الخمر.

(٣). بوادرهم : بادرة السيف : شباته ؛ أي : طرفه وحدّه.

١٠١

أي استهزءوا وجعلوا (قُلْ سَمُّوهُمْ) أي : قل يا محمد جعلتم له شركاء فسموهم من هم؟ وفي هذا تبكيت لهم وتوبيخ ، لأنه إنما يقال هكذا في الشيء المستحقر الذي لا يستحقّ أن يلتفت إليه ، فيقال : سمّه إن شئت ، يعني أنه أحقر من أن يسمى ؛ وقيل : إن المعنى سمّوهم بالآلهة كما تزعمون ، فيكون ذلك تهديدا لهم (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ) أي : بل أتنبئون الله (بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) من الشركاء الذين تعبدونهم مع كونه العالم بما في السموات والأرض (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) أي : بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن تكون له حقيقة ؛ وقيل : المعنى : قل لهم أتنبئون الله بباطن لا يعلمه أم بظاهر يعلمه؟ فإن قالوا بباطن لا يعلمه فقد جاءوا بدعوى باطلة ، وإن قالوا بظاهر يعلمه فقل لهم سمّوهم ، فإذا سمّوا اللات والعزى ونحوهما ، فقل لهم إن الله لا يعلم لنفسه شريكا ، وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها ، وإن لم يكن له شريك في غير الأرض ، لأنهم ادّعوا له شريكا في الأرض ؛ وقيل : معنى : (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) أم بزائل من القول باطل ، ومنه قول الشاعر :

أعيّرتنا ألبانها ولحومها

وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر

أي : زائل باطل ، وقيل : بكذب من القول ، وقيل معنى بظاهر من القول بحجة من القول ظاهرة على زعمهم (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) أي ليس لله شريك ، بل زين للذين كفروا مكرهم. وقرأ ابن عباس «زين» على البناء للفاعل على أن الذي زين لهم ذلك هو مكرهم. وقرأ من عداه بالبناء للمفعول ، والمزين هو الله سبحانه ، أو الشيطان ويجوز أن يسمّى المكر كفرا ، لأنّ مكرهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان كفرا ، وأما معناه الحقيقي فهو الكيد ، أو التمويه بالأباطيل (وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ) قرأ حمزة والكسائي وعاصم (صُدُّوا) على البناء للمفعول أي : صدّهم الله ، أو صدّهم الشيطان. وقرأ الباقون على البناء للفاعل أي : صدّوا غيرهم ، واختار هذه القراءة أبو حاتم وقرأ يحيى بن وثّاب بكسر الصاد (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي يجعله ضالا وتقتضي مشيئته إضلاله ، فما له من هاد يهديه إلى الخير. قرأ الجمهور (هادٍ) من دون إثبات الياء على اللغة الكثيرة الفصيحة. وقرئ بإثباتها على اللغة القليلة ، ثم بيّن سبحانه ما يستحقّونه ، فقال : (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بما يصابون به من القتل والأسر وغير ذلك (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ) عليهم من عذاب الحياة الدنيا (وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) يقيهم عذابه ، ولا عاصم يعصمهم منه ، ثم لما ذكر سبحانه ما يستحقه الكفار من العذاب في الأولى والآخرة ، ذكر ما أعدّه للمؤمنين ، فقال : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي صفتها العجيبة الشأن التي هي في الغرابة كالمثل ، قال ابن قتيبة : المثل الشبه في أصل اللغة ، ثم قد يصير بمعنى صورة الشيء وصفته ، يقال : مثلت لك كذا ، أي : صوّرته ووصفته ، فأراد هنا بمثل الجنة صورتها وصفتها ، ثم ذكرها ، فقال : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وهو كالتفسير للمثل. قال سيبويه : وتقديره فيما قصصنا عليك مثل الجنة. وقال الخليل وغيره : إن مثل الجنة مبتدأ والخبر تجري. وقال الزجاج : إنه تمثيل للغائب بالشاهد ، ومعناه مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار ؛ وقيل إن فائدة الخبر ترجع إلى (أُكُلُها دائِمٌ) أي لا ينقطع ، ومثله قوله سبحانه : (لا مَقْطُوعَةٍ

١٠٢

وَلا مَمْنُوعَةٍ) (١) وقال الفراء : المثل مقحم للتأكيد ، والمعنى : الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار ، والعرب تفعل ذلك كثيرا (وَظِلُّها) أي : كذلك دائم لا يتقلص ولا تنسخه الشمس ، والإشارة بقوله : (تِلْكَ) إلى الجنة الموصوفة بالصفات المتقدّمة ، وهو مبتدأ خبره (عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي : عاقبة الذين اتقوا المعاصي ، ومنتهى أمرهم (وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) ليس لهم عاقبة ولا منتهى إلا ذلك.

وقد أخرج الطبراني وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : «قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن كان كما تقول فأرنا أشياخنا الأول من الموتى نكلّمهم ، وافسح لنا هذه الجبال جبال مكة التي قد ضمتنا ، فنزلت (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ)» الآية. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عطية العوفي قال : قالوا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو سيّرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها ، أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح ، أو أحييت لنا الموتى كما كان يحيي عيسى الموتى لقومه ، فأنزل الله (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) الآية إلى قوله : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) قال : أفلم يتبيّن الذين آمنوا ، قالوا هل تروي هذا الحديث عن أحد من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرجه أيضا ابن أبي حاتم قال : حدّثنا أبو زرعة حدّثنا منجاب بن الحرث ، أخبرنا بشر بن عمارة ، حدّثنا عمر بن حسان ، عن عطية العوفي فذكره. وأخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس نحوه مختصرا. وأخرج أبو يعلى ، وأبو نعيم في الدلائل ، وابن مردويه عن الزبير بن العوام في ذكر سبب نزول الآية نحو ما تقدّم مطوّلا. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) لا يصنع من ذلك إلا ما يشاء ولم يكن ليفعل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (أَفَلَمْ يَيْأَسِ) يقول : يعلم. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ من طريق أخرى عنه نحوه. وأخرج أبو الشيخ عن ابن زيد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي العالية (أَفَلَمْ يَيْأَسِ) قال : قد يئس الذين آمنوا أن يهدوا ولو شاء الله لهدى الناس جميعا. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ) قال : السرايا. وأخرج الطيالسي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عنه نحوه ، وزاد (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) قال : أنت يا محمد حتى يأتي وعد الله ، قال : فتح مكة. وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (قارِعَةٌ) قال : نكبة. وأخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق العوفي عنه قارعة قال : عذاب من السماء ، أو تحلّ قريبا من دارهم : يعني نزول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهم وقتاله آباءهم. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أيضا في قوله : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) قال : يعني بذلك نفسه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) قال : الظاهر من القول هو الباطل. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة في قوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ)

__________________

(١). الواقعة : ٣٣.

١٠٣

قال : نعت الجنة ، ليس للجنة مثل. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن إبراهيم التيمي في قوله : (أُكُلُها دائِمٌ) قال : لذاتها دائمة في أفواههم.

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩))

اختلف المفسرون في تفسير الكتاب المذكور ، فقيل : هو التوراة والإنجيل ، والذين يفرحون بما أنزل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هم من أسلم من اليهود والنصارى. وقيل : الذين يفرحون هم أهل الكتابين لكون ذلك موافقا لما في كتبهم مصدّقا له ، فعلى الأوّل يكون المراد بقوله : (وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) من لم يسلم من اليهود والنصارى ، وعلى الثاني يكون المراد به المشركين من أهل مكة ومن يماثلهم ، أو يكون المراد به البعض من أهل الكتابين ، أي : من أحزابهما ، فإنهم أنكروه لما يشتمل عليه من كونه ناسخا لشرائعهم فيتوجه فرح من فرح به منهم إلى ما هو موافق لما في الكتابين ، وإنكار من أنكر منهم إلى ما خالفهما ، وقيل : المراد بالكتاب القرآن ، والمراد بمن يفرح به المسلمون ، والمراد بالأحزاب المتحزّبون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المشركين واليهود والنصارى ، والمراد بالبعض الذي أنكروه ما خالف ما يعتقدونه على اختلاف اعتقادهم. واعترض على هذا بأنّ فرح المسلمين بنزول القرآن معلوم فلا فائدة من ذكره. وأجيب عنه بأن المراد زيادة الفرح والاستبشار. وقال كثير من المفسرين : إن عبد الله بن سلام والذين آمنوا معه من أهل الكتاب ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة ، فأنزل الله (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) (١) ففرحوا بذلك ، ثم لما بيّن ما يحصل بنزول القرآن من الفرح للبعض والإنكار للبعض صرّح بما عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمره أن يقول لهم ذلك ، فقال (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ) أي لا أشرك به بوجه من الوجوه ؛ أي : قل لهم يا محمد إلزاما للحجة وردّا للإنكار إنما أمرت فيما أنزل إليّ بعبادة الله وتوحيده ، وهذا أمر اتفقت عليه الشرائع وتطابقت على عدم إنكاره جميع الملل المقتدية بالرسل ، وقد اتفق القرّاء على نصب (وَلا أُشْرِكَ بِهِ) عطفا على (أَعْبُدَ) وقرأ أبو خليد بالرفع على الاستئناف ، وروى هذه القراءة عن نافع (إِلَيْهِ أَدْعُوا) أي : إلى الله لا إلى غيره أو إلى ما أمرت به وهو عبادة الله وحده ، والأوّل أولى لقوله : (وَإِلَيْهِ مَآبِ) فإن الضمير لله سبحانه ؛ أي : إليه وحده لا إلى غيره مرجعي. ثم ذكر بعض فضائل القرآن ، وأوعد على الإعراض عن اتباعه مع التعرّض لردّ ما أنكروه من اشتماله على نسخ بعض شرائعهم فقال : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ

__________________

(١). الإسراء : ١١٠.

١٠٤

حُكْماً عَرَبِيًّا) أي مثل ذلك الإنزال البديع أنزلنا القرآن مشتملا على أصول الشرائع وفروعها ؛ وقيل : المعنى : وكما أنزلنا الكتب على الرسل بلغاتهم كذلك أنزلنا عليك القرآن بلسان العرب ، ويريد بالحكم ما فيه من الأحكام أو حكمة عربية مترجمة بلسان العرب ، وانتصاب حكما على الحال (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) التي يطلبون منك موافقتهم عليها كالاستمرار منك على التوجه إلى قبلتهم وعدم مخالفتك لشيء ممّا يعتقدونه (بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) الذي علّمك الله إياه (ما لَكَ مِنَ اللهِ) أي : من جنابه (مِنْ وَلِيٍ) يلي أمرك وينصرك (وَلا واقٍ) يقيك من عذابه ، والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعريض لأمته ، واللام في (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ) هي الموطئة للقسم ، وما لك سادّ مسدّ جواب القسم والشرط (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) أي : إن الرسل الذين أرسلناهم قبلك هم من جنس البشر لهم أزواج من النساء ولهم ذرّية توالدوا منهم ومن أزواجهم ، ولم نرسل الرسل من الملائكة الذين لا يتزوّجون ولا يكون لهم ذرّية. وفي هذا ردّ على من كان ينكر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوّجه بالنساء ؛ أي : إن هذا شأن رسل الله المرسلين قبل هذا الرسول فما بالكم تنكرون عليه ما كانوا عليه (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي : لم يكن لرسول من الرسل أن يأتي بآية من الآيات ، ومن جملتها ما اقترحه عليه الكفار إلا بإذن الله سبحانه. وفيه ردّ على الكفار حيث اقترحوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الآيات ما اقترحوا بما سبق ذكره (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) أي : لكل أمر ممّا قضاه الله ، أو لكل وقت من الأوقات التي قضى الله بوقوع أمر فيها كتاب عند الله يكتبه على عباده ويحكم به فيهم. وقال الفراء : فيه تقديم وتأخير. والمعنى : لكلّ كتاب أجل ، أي : لكل أمر كتبه الله أجل مؤجل ووقت معلوم كقوله سبحانه : (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) (١) ، وليس الأمر على حسب إرادة الكفار واقتراحاتهم ، بل على حسب ما يشاؤه ويختاره (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) أي : يمحو من ذلك الكتاب ويثبت ما يشاء منه ، يقال : محوت الكتاب محوا إذا أذهبت أثره. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم «ويثبت» بالتخفيف. وقرأ الباقون بالتشديد ، واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد. وظاهر النظم القرآني العموم في كل شيء مما في الكتاب فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر أو خير أو شرّ ، ويبدل هذا بهذا ، ويجعل هذا مكان هذا و (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٢) ، وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وابن عباس وأبو وائل وقتادة والضحّاك وابن جريج وغيرهم. وقيل : الآية خاصة بالسّعادة والشّقاوة ؛ وقيل : يمحو ما يشاء من ديوان الحفظة ، وهو ما ليس فيه ثواب ولا عقاب ويثبت ما فيه الثواب والعقاب ؛ وقيل : يمحو ما يشاء من الرزق ، وقيل : يمحو من الأجل ؛ وقيل : يمحو ما يشاء من الشرائع فينسخه ويثبت ما يشاء فلا ينسخه ؛ وقيل : يمحو ما يشاء من ذنوب عباده ويترك ما يشاء ؛ وقيل : يمحو ما يشاء من الذنوب بالتوبة ويترك ما يشاء منها مع عدم التوبة ؛ وقيل : يمحو الآباء ويثبت الأبناء ؛ وقيل : يمحو القمر ويثبت الشمس كقوله : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) (٣) وقيل : يمحو ما يشاء من الأرواح التي يقبضها حال النوم فيميت صاحبه ويثبت ما يشاء فيردّه إلى صاحبه ؛ وقيل : يمحو ما يشاء

__________________

(١). الأنعام : ٦٧.

(٢). الأنبياء : ٢٣.

(٣). الإسراء : ١٢.

١٠٥

من القرون ويثبت ما يشاء منها ؛ وقيل : يمحو الدنيا ويثبت الآخرة ؛ وقيل غير ذلك ممّا لا حاجة إلى ذكره ، والأوّل أولى كما تفيده ما في قوله (ما يَشاءُ) من العموم مع تقدم ذكر الكتاب في قوله : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) ومع قوله : (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) أي : أصله ، وهو اللوح المحفوظ ، فالمراد من الآية أنه يمحو ما يشاء مما في اللوح المحفوظ فيكون كالعدم ، ويثبت ما يشاء مما فيه فيجري فيه قضاؤه وقدره على حسب ما تقتضيه مشيئته ، وهذا لا ينافي ما ثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله : «جفّ القلم» وذلك لأن المحو والإثبات هو من جملة ما قضاه الله سبحانه ؛ وقيل : إن أم الكتاب هو علم الله تعالى بما خلق وما هو خالق.

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) قال : أولئك أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرحوا بكتاب الله وبرسوله وصدّقوا به (وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) يعني اليهود والنصارى والمجوس. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد في الآية ، قال : هؤلاء من آمن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل الكتاب يفرحون بذلك ، ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به (وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) قال : الأحزاب الأمم اليهود والنصارى والمجوس. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (وَإِلَيْهِ مَآبِ) قال : إليه مصير كل عبد. وأخرج ابن ماجة وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه من طريق قتادة عن الحسن عن سمرة قال : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التّبتّل». وقرأ قتادة (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ) الآية.

وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعد بن هشام قال : دخلت على عائشة فقلت : إني أريد أن أتبتل ، قالت : لا تفعل ، أما سمعت الله يقول : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً). وقد ورد في النهي عن التبتل والترغيب في النكاح ما هو معروف. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : قالت قريش حين أنزل (ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ما نراك يا محمد تملك من شيء ، ولقد فرغ من الأمر ، فأنزل هذه الآية تخويفا لهم ووعيدا لهم (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) إنا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا شيئا ، ويحدث الله في كل رمضان فيمحو ما يشاء ويثبت من أرزاق الناس ومصائبهم وما يعطيهم وما يقسم لهم. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشّعب ، عن ابن عباس في قوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) قال : ينزل الله في كلّ شهر رمضان إلى سماء الدّنيا ، فيدبّر أمر السنة إلى السنة فيمحو ما يشاء ويثبت إلا الشقاوة والسعادة والحياة والموت.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : هو الرجل يعمل الزمان بطاعة الله ، ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة ، فهو الذي يمحو ، والذي يثبت الرجل يعمل بمعصية الله وقد سبق له خير حتى يموت على طاعة الله. وأخرج ابن جرير ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وصحّحه ، عنه أيضا في الآية قال : هما كتابان يمحو الله ما يشاء من أحدهما ويثبت (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) أي : جملة الكتاب. وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال : «إنّ لله لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام من درّة بيضاء له دفتان من ياقوت ،

١٠٦

والدفتان لوحان : لله كل يوم ثلاث وستون لحظة يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب». وإسناده عند ابن جرير : هكذا حدّثنا محمد بن شهر بن عسكر حدّثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس فذكره. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ينزل في ثلاث ساعات يبقين من الليل فيفتح الذكر في الساعة الأولى منها ينظر في الذكر الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو الله ما يشاء ويثبت» الحديث. وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه ، بإسناد ، قال السّيوطي : ضعيف ، عن ابن عمر سمعت رسول الله يقول : «يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا الشقاوة والسعادة والحياة والممات». وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعا نحوه. وأخرج الحاكم وصحّحه ، عن ابن عباس قال : «لا ينفع الحذر من القدر ، ولكنّ الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر». وأخرج ابن جرير عن قيس بن عباد قال : «العاشر من رجب وهو يوم يمحو الله فيه ما يشاء». وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب ، عنه نحوه بأطول منه.

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه قال وهو يطوف بالبيت : اللهمّ إن كنت كتبت عليّ شقوة أو ذنبا فامحه ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت ، وعندك أمّ الكتاب ، فاجعله سعادة ومغفرة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والطبراني عن ابن مسعود نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في المدخل ، عن ابن عباس في قوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) قال : يبدّل الله ما يشاء من القرآن فينسخه ، ويثبت ما يشاء فلا يبدّله (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) يقول : وجملة ذلك عنده في أمّ الكتاب : الناسخ والمنسوخ ، ما يبدّل وما يثبت ، كل ذلك في كتاب. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) قال : الذكر. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد مثله. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن يسار عن ابن عباس أنه سأل كعبا عن أمّ الكتاب؟ فقال : علم الله ما هو خالق ، وما خلقه عاملون ، فقال لعلمه كن كتابا ، فكان كتابا.

(وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣))

(وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ) ما زائدة ، وأصله : وإن نرك (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) من العذاب كما وعدناهم بذلك بقولنا : (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ، وبقولنا : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ) ، والمراد أريناك بعض ما نعدهم قبل موتك ، أو توفيناك قبل إراءتك لذلك (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) أي : فليس عليك إلّا تبليغ أحكام الرسالة ، ولا يلزمك حصول الإجابة منهم لما بلغته إليهم (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) أي : محاسبتهم بأعمالهم ومجازاتهم عليها ، وليس ذلك عليك ، وهذا تسلية من الله سبحانه لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإخبار له

١٠٧

أنه قد فعل ما أمره الله به ، وليس عليه غيره ، وأن من لم يجب دعوته ، ويصدّق نبوّته فالله سبحانه محاسبة على ما اجترم واجترأ عليه من ذلك (أَوَلَمْ يَرَوْا) يعني أهل مكة ، والاستفهام للإنكار ، أي أو لم ينظروا (أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) أي : نأتي أرض الكفر كمكة ننقصها من أطرافها بالفتوح على المسلمين منها شيئا فشيئا. قال الزجاج : أعلم الله أن بيان ما وعد المشركين من قهرهم قد ظهر ، يقول : أو لم يروا أنا فتحنا على المسلمين من الأرض ما قد تبين لهم ، فكيف لا يعتبرون؟ وقيل : إن معنى الآية : موت العلماء والصلحاء. قال القشيري : وعلى هذا فالأطراف الأشراف ، وقد قال ابن الأعرابي : الطرف : الرجل الكريم. قال القرطبي : وهذا القول بعيد ؛ لأنّ مقصود الآية : أنا أريناهم النقصان في أمرهم ليعلموا أن تأخير العقاب عنهم ليس عن عجز إلا أن يحمل على موت أحبار اليهود والنصارى. وقيل : المراد من الآية : خراب الأرض المعمورة حتى يكون العمران في ناحية منها ؛ وقيل : المراد بالآية : هلاك من هلك من الأمم ؛ وقيل : المراد : نقص ثمرات الأرض ؛ وقيل : المراد : جور ولاتها حتى تنقص (وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) أي : يحكم ما يشاء في خلقه ، فيرفع هذا ويضع هذا ، ويحيي هذا ويميت هذا ، ويغني هذا ويفقر هذا ، وقد حكم بعزّة الإسلام وعلوّه على الأديان ، وجملة (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) في محل نصب على الحال ، وقيل : معترضة. والمعقب : الذي يكرّ على الشيء فيبطله ، وحقيقته الذي يقفيه بالردّ والإبطال. قال الفراء : معناه لا رادّ لحكمه. قال : والمعقب الذي يتبع الشيء فيستدركه ، ولا يستدرك أحد عليه ، والمراد من الآية أنه لا يتعقب أحد حكم الله سبحانه بنقص ولا تغيير (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته على السرعة (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) أي : قد مكر الكفار الذين من قبل كفار مكة بمن أرسله الله إليهم من الرسل فكادوهم وكفروا بهم ، وهذا تسلية من الله سبحانه لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أخبره أن هذا ديدن الكفار من قديم الزمان مع رسل الله سبحانه ، ثم أخبره بأن مكرهم هذا كالعدم ، وأن المكر كلّه لله. فقال (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) لا اعتداد بمكر غيره ، ثم فسّر سبحانه هذا المكر الثابت له دون غيره ، فقال : (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) من خير وشرّ فيجازيها على ذلك ، ومن علم ما تكسب كل نفس وأعدّ لها جزاءها كان المكر كله له ، لأنه يأتيهم من حيث لا يشعرون. وقال الواحدي : إنّ مكر الماكرين مخلوق فلا يضرّ إلا بإرادته ؛ وقيل : المعنى : فلله جزاء مكر الماكرين (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «الكافر» بالإفراد ، وقرأ الباقون «الكفار» بالجمع ، أي : سيعلم جنس الكافر لمن العاقبة المحمودة من الفريقين في دار الدنيا ، أو في الدار الآخرة ، أو فيهما ؛ وقيل : المراد بالكافر : أبو جهل (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً) أي : يقول المشركون أو جميع الكفار : لست يا محمد مرسلا إلى الناس من الله ، فأمره الله سبحانه بأن يجيب عليهم ، فقال : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فهو يعلم صحة رسالتي ، وصدق دعواتي ، ويعلم كذبكم (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) أي : علم جنس الكتاب كالتّوراة والإنجيل ، فإن أهلهما العالمين بهما يعلمون صحة رسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد أخبر بذلك من أسلم منهم كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الدّاريّ ونحوهم ، وقد كان المشركون

١٠٨

من العرب يسألون أهل الكتاب ويرجعون إليهم ، فأرشدهم الله سبحانه في هذه الآية إلى أن أهل الكتاب يعلمون ذلك ؛ وقيل : المراد بالكتاب القرآن ومن عنده علم منه هم المسلمون ؛ وقيل : المراد من عنده علم اللوح المحفوظ ، وهو الله سبحانه واختار هذا الزجاج ، وقال : لأن الأشبه أن الله لا يستشهد على خلقه بغيره.

وقد أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) قال : «ذهب العلماء». وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة ، ونعيم بن حماد في الفتن ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، عن ابن عباس في قوله : (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) قال : موت علمائها وفقهائها وذهاب خيار أهلها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن مجاهد في تفسير الآية قال : موت العلماء. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية : قال : أو لم يروا أنا نفتح لمحمد الأرض بعد الأرض. وأخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق أخرى عنه نحوه. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحّاك في الآية قال : يعني أنّ نبيّ الله كان ينتقص له ما حوله الأرضين ينظرون إلى ذلك فلا يعتبرون. وقال الله في سورة الأنبياء : (نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) (١) ، بل نبيّ الله وأصحابه هم الغالبون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : نقصان أهلها وبركتها. وأخرج ابن المنذر عنه قال : أو لم يروا إلى القرية تخرب حتى يكون العمران في ناحية منها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد (وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) : ليس أحد يتعقب حكمه فيردّه كما يتعقب أهل الدنيا بعضهم حكم بعض فيردّه.

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : «قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسقف من اليمن فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل تجدني في الإنجيل؟ قال : لا ، فأنزل الله (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) يقول عبد الله بن سلام. وأخرج ابن مردويه من طريق عبد الملك بن عمير عن جندب قال : جاء عبد الله بن سلام حتى أخذ بعضادتي باب المسجد ، ثم قال : أنشدكم بالله أتعلمون أني الذي أنزلت (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ)؟ قالوا : اللهم نعم. وأخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق أخرى عنه نحوه. وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) قال : هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في الآية قال : كان قوم من أهل الكتاب يشهدون بالحق ويعرفونه ، منهم عبد الله بن سلام والجارود وتميم الداري وسلمان الفارسي. وأخرج أبو يعلى وابن جرير وابن مردويه وابن عديّ بسند ضعيف عن ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) قال : ومن عند الله علم الكتاب. وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه كان يقرأ : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) يقول : ومن عند الله علم الكتاب. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والنحّاس في ناسخه ، عن سعيد بن جبير أنه سئل عن قوله : (وَمَنْ عِنْدَهُ

__________________

(١). الأنبياء : ٤٤.

١٠٩

عِلْمُ الْكِتابِ) أهو عبد الله بن سلام؟ قال : كيف وهذه السورة مكية؟! وأخرج ابن المنذر عن الشعبي قال : ما نزل في عبد الله بن سلام شيء من القرآن. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) قال : جبريل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : هو الله.

* * *

١١٠

سورة إبراهيم

وهي مكية كما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس. وأخرجه ابن مردويه أيضا عن الزبير ، وحكاه القرطبي عن الحسن وعكرمة وجابر بن زيد وقتادة إلا آيتين منها ، وقيل : إلا ثلاث آيات نزلت في الذين حاربوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) إلى قوله : (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ). وأخرج النحّاس في ناسخه عن ابن عباس قال : هي مكية سوى آيتين منها نزلتا بالمدينة ، وهي : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) الآيتين نزلتا في قتلى بدر من المشركين.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥))

قوله : (الر) قد تقدّم الكلام في أمثال هذا ، وبيان قول من الله قال إنه متشابه ، وبيان قول من قال إنه غير متشابه ، وهو إما مبتدأ خبره كتاب ، أو خبر مبتدأ محذوف ، ويكون (كِتابٌ) خبرا لمحذوف مقدّر أو خبرا ثانيا لهذا المبتدأ أو يكون (الر) مسرودا على نمط التعديد فلا محلّ له ، و (أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) صفة لكتاب ، أي : أنزلنا الكتاب إليك يا محمد ومعنى (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) لتخرجهم من ظلمات الكفر والجهل والضلالة إلى نور الإيمان والعلم والهداية ؛ جعل الكفر بمنزلة الظلمات ، والإيمان بمنزلة النور على طريق الاستعارة ، واللام في لتخرج للغرض والغاية ، والتعريف في الناس للجنس ، والمعنى : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخرج الناس بالكتاب المشتمل على ما شرعه الله لهم من الشرائع مما كانوا فيه من الظلمات إلى ما صاروا إليه من النور ؛ وقيل : إن الظلمة مستعارة للبدعة ، والنور مستعار للسنة ؛ وقيل : من الشك إلى اليقين ، ولا مانع من إرادة جميع هذه الأمور ، والباء في (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) متعلقة بتخرج ، وأسند الفعل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه الداعي والهادي والمنذر. قال الزّجّاج : بما أذن لك من تعليمهم ودعائهم إلى الإيمان (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) هو بدل من إلى النور بتكرير العامل كما يقع مثله كثيرا ، أي : لتخرج الناس من الظلمات إلى صراط العزيز الحميد ، وهو طريقة الله الواضحة التي شرعها لعباده ، وأمرهم بالمصير إليها والدخول فيها ؛ ويجوز أن

١١١

يكون مستأنفا بتقدير سؤال كأنه قيل : ما هذا النور الذي أخرجهم إليه؟ فقيل : صراط العزيز الحميد. والعزيز هو القادر الغالب ، والحميد هو الكامل في استحقاق الحمد (اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) قرأ نافع وابن عامر بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو الله المتّصف بملك ما في السموات وما في الأرض. وقرأ الجمهور بالجرّ على أنه عطف بيان لكونه من الأعلام الغالبة ، فلا يصحّ وصف ما قبله به ؛ لأنّ العلم لا يوصف به ؛ وقيل : يجوز أن يوصف به من حيث المعنى. وقال أبو عمرو : إنّ قراءة الجرّ محمولة على التقديم والتأخير ، والتقدير : إلى صراط الله العزيز الحميد. وكان يعقوب إذا وقف على الحميد رفع ، وإذا وصل خفض. قال ابن الأنباري : من خفض وقف على (وَما فِي الْأَرْضِ). ثم توعد من لا يعترف بربوبيته فقال : (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) قد تقدّم بيان معنى الويل ، وأصله النصب كسائر المصادر ، ثم رفع للدلالة على الثبات. قال الزجاج : هي كلمة تقال للعذاب والهلكة ، فدعا سبحانه وتعالى بذلك على من لم يخرج من الكفار بهداية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم له بما أنزله الله عليه مما هو فيه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان و (مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) متعلق بويل على معنى يولولون ويضجون من العذاب الشديد الذي صاروا فيه ، ثم وصف هؤلاء الكفار بقوله : (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي يؤثرونها لمحبتهم لها (عَلَى الْآخِرَةِ) الدائمة والنعيم الأبدي ؛ وقيل : إن الموصول في موضع رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ؛ أي : هم الذين ؛ وقيل : الموصول مبتدأ وخبره أولئك ، وجملة (وَيَصُدُّونَ) وكذلك ويبغون معطوفتان على يستحبون ، ومعنى الصدّ (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) صرف الناس عنه ومنعهم منه ، وسبيل الله دينه الذي شرعه لعباده (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي : يطلبون لها زيغا وميلا لموافقة أهوائهم وقضاء حاجاتهم وأغراضهم ، والعوج بكسر العين في المعاني وبفتح العين في الأعيان وقد سبق تحقيقه. والأصل يبغون لها فحذف الحرف وأوصل الفعل إلى الضمير ، واجتماع هذه الخصال نهاية الضلال ، ولهذا وصف ضلالهم بالبعد عن الحق فقال : (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) والإشارة إلى الموصوفين بتلك الصفات القبيحة والبعد وإن كان من صفة الضالّ لكنه يجوز وصف الضلال به مجازا لقصد المبالغة ، ثم لما منّ على المكلفين بإنزال الكتاب وإرسال الرسول ذكر من كمال تلك النعمة أن ذلك المرسل بلسان قومه فقال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) أي : متلبّسا بلسانهم متكلما بلغتهم لأنه إذا كان كذلك فهم عنه المرسل إليهم ما يقوله لهم وسهل عليهم ذلك بخلاف ما لو كان بلسان غيرهم فإنهم لا يدرون ما يقول ولا يفهمون ما يخاطبهم به حتى يتعلموا ذلك اللسان دهرا طويلا ، ومع ذلك فلا بدّ أن يصعب عليهم فهم ذلك بعض صعوبة ، ولهذا علّل سبحانه ما امتنّ به على العباد بقوله : (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) أي : ليوضح لهم ما أمرهم الله به من الشريعة التي شرعها لهم ووحد اللسان لأن المراد بها اللغة. وقد قيل في هذه الآية إشكال ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل إلى الناس جميعا بل إلى الجنّ والإنس ولغاتهم متباينة وألسنتهم مختلفة. وأجيب بأنه وإن كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرسلا إلى الثقلين كما مرّ لكن لما كان قومه العرب وكانوا أخصّ به وأقرب إليه كان إرساله بلسانهم أولى من إرساله بلسان غيرهم ، وهم يبينونه لمن كان على غير لسانهم ويوضحونه حتى يصير فإهماله كفهمهم إياه ، ولو نزل القرآن بجميع لغات من أرسل

١١٢

إليهم ، وبيّنه رسول الله لكل قوم بلسانهم لكان ذلك مظنة للاختلاف وفتحا لباب التنازع ؛ لأنّ كلّ أمة قد تدّعي من المعاني في لسانها ما لا يعرفه غيرها ، وربما كان ذلك أيضا مفضيا إلى التحريف والتصحيف بسبب الدعاوي الباطلة التي يقع فيها المتعصبون وجملة (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) مستأنفة ، أي : يضلّ من يشاء إضلاله ويهدي من يشاء هدايته. قال الفراء : إذا ذكر فعل وبعده فعل آخر فإن لم يكن النسق مشاكلا للأوّل فالرفع على الاستئناف هو الوجه ، فيكون معنى هذه الآية : وما أرسلنا من رسول الله إلا بلسان قومه ليبين لهم تلك الشرائع باللغة التي ألفوها وفهموها ، ومع ذلك فإن المضلّ والهادي هو الله عزوجل ؛ والبيان لا يوجب حصول الهداية إلا إذا جعله الله سبحانه واسطة وسببا ، وتقديم الإضلال على الهداية لأنه متقدّم عليها ، إذ هو إبقاء على الأصل والهداية إنشاء ما لم يكن (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغالبه مغالب (الْحَكِيمُ) الذي يجري أفعاله على مقتضى الحكمة ، ثم لمّا بيّن أن المقصود من بعثة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور أراد أن يبين أن الغرض من إرسال الأنبياء لم يكن إلا ذلك ، وخصّ موسى بالذكر لأن أمته أكثر الأمم المتقدّمة على هذه الأمة المحمدية فقال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) أي : متلبسا بها. والمراد بالآيات : المعجزات التي لموسى ، ومعنى (أَنْ أَخْرِجْ) أي : أخرج ؛ لأن الإرسال فيه معنى القول ، ويجوز أن يكون التقدير بأن أخرج ، والمراد بقومه بنو إسرائيل بعد ملك فرعون (مِنَ الظُّلُماتِ) من الكفر أو من الجهل الذي قالوا بسببه : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) (١). (إِلَى النُّورِ) إلى الإيمان أو إلى العلم (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) أي : بوقائعه. قال ابن السكيت : العرب تقول الأيام في معنى الوقائع ، يقال : فلان عالم بأيام العرب ، أي : بوقائعها. وقال الزجاج : أي ذكرهم بنعم الله عليهم وبنقم أيام الله التي انتقم فيها من قوم نوح وعاد وثمود. والمعنى : عظهم بالتّرغيب والتّرهيب والوعد والوعيد (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : في التذكير بأيام الله أو في نفس أيام الله (لَآياتٍ) لدلالات عظيمة دالة على التوحيد وكمال القدرة (لِكُلِّ صَبَّارٍ) أي : كثير الصبر على المحن والمنح (شَكُورٍ) كثير الشكر للنعم التي أنعم الله بها عليه ؛ وقيل : المراد بذلك كل مؤمن ، وعبّر عنه بالوصفين المذكورين لأنهما ملاك الإيمان ، وقدّم الصبار على الشكور ؛ لكون الشكر عاقبة الصبر.

وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) قال : من الضلالة إلى الهدى. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله : (يَسْتَحِبُّونَ) قال : يختارون. وأخرج عبد بن حميد وأبو يعلى وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس قال : إن الله فضل محمدا على أهل السماء وعلى الأنبياء ، وقيل : ما فضله على أهل السماء؟ قال : إن الله قال لأهل السماء : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) (٢) وقال لمحمد : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) (٣) فكتب له براءة من النار ؛ قيل فما هو فضله على الأنبياء؟ قال : إن الله يقول : (وَما أَرْسَلْناك

__________________

(١). الأعراف : ١٣٨.

(٢). الأنبياء : ٢٩.

(٣). الفتح : ٢.

١١٣

إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) (١) فأرسله إلى الإنس والجنّ. وأخرج ابن مردويه عن عثمان بن عفان (إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) قال : نزل القرآن بلسان قريش. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد وعطاء وعبيد بن عمير في قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) قال : بالآيات التسع الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا ويده والسنين ونقص من الثمرات. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) قال : من الضلالة إلى الهدى. وأخرج النسائي ، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في شعب لإيمان ؛ عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) قال : «بنعم الله وآلائه». وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر عن ابن عباس (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) قال : نعم الله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) قال : وعظهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في الآية قال : بوقائع الله في القرون الأولى. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) قال : نعم العبد عبد إذا ابتلي صبر ، وإذا أعطي شكر.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢))

قوله : (وَإِذْ قالَ مُوسى) الظرف متعلق بمحذوف هو اذكر ، أي : اذكر وقت قول موسى و (إِذْ أَنْجاكُمْ) متعلق باذكروا ، أي : اذكروا إنعامه عليكم وقت إنجائه لكم من آل فرعون ، أو بالنعمة ، أو بمتعلق عليكم : أي : مستقرة عليكم وقت إنجائه ، وهو بدل اشتمال من النعمة مرادا بها الإنعام أو العطية (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) أي : يبغونكم ، يقال سامه ظلما ، أي : أولاه ظلما ، وأصل السوم الذهاب في طلب الشيء

__________________

(١). سبأ : ٢٨.

١١٤

وسوء العذاب : مصدر ساء يسوء ، والمراد جنس العذاب السيئ ، وهو استعبادهم واستعمالهم في الأعمال الشاقة ، وعطف (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) على (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) وإن كان التذبيح من جنس سوء العذاب إخراجا له عن مرتبة العذاب المعتاد حتى كأنه جنس آخر لما فيه من الشدّة ، ومع طرح الواو كما في الآية الأخرى يكون التذبيح تفسيرا لسوء العذاب (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أي : يتركونهنّ في الحياة لإهانتهنّ وإذلالهنّ (وَفِي ذلِكُمْ) المذكور من أفعالهم (بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) أي : ابتلاء لكم ، وقد تقدّم تفسير هذه الآية في سورة البقرة مستوفى (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) تأذّن بمعنى أذّن قاله الفراء. قال في الكشاف : ولا بدّ في تفعل من زيادة معنى ليست في أفعل ، كأنه قيل : وإذ أذّن ربكم إيذانا بليغا تنتفي عنه الشكوك وتنزاح الشبه. والمعنى : وإذ تأذّن ربكم فقال : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ) أو أجرى تأذّن مجرى قال ؛ لأنه ضرب من القول انتهى ، وهذا من قول موسى لقومه ، وهو معطوف على نعمة الله ، أي : اذكروا نعمة الله عليكم واذكروا حين تأذّن ربكم ، وقيل : هو معطوف على قوله : إذ أنجاكم ؛ أي : اذكروا نعمة الله تعالى في هذين الوقتين ، فإن هذا التأذّن أيضا نعمة ، وقيل : هو من قول الله سبحانه ، أي : واذكر يا محمد إذ تأذّن ربكم. وقرأ ابن مسعود «وإذ قال ربّكم» والمعنى واحد كما تقدم ، واللام في لئن شكرتم هي الموطئة للقسم ، وقوله : (لَأَزِيدَنَّكُمْ) سادّ مسدّ جوابي الشرط والقسم ، وكذا اللام في (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) وقوله : (إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) سادّ مسدّ الجوابين أيضا ؛ والمعنى : لئن شكرتم إنعامي عليكم بما ذكر لأزيدنكم نعمة إلى نعمة تفضلا مني ؛ وقيل : لأزيدنكم من طاعتي ؛ وقيل : لأزيدنكم من الثواب ؛ والأوّل أظهر فالشك سبب المزيد ، ولئن كفرتم ذلك وجحدتموه إن عذابي لشديد ، فلا بدّ أن يصيبكم منه ما يصيب ؛ وقيل : إنّ الجواب محذوف ؛ أي : ولئن كفرتم لأعذبنكم ، والمذكور تعليل للجواب المحذوف (وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) أي : إن تكفروا نعمته تعالى أنتم وجميع الخلق ولم تشكروها (فَإِنَّ اللهَ) سبحانه (لَغَنِيٌ) عن شكركم لا يحتاج إليه ولا يلحقه بذلك نقص (حَمِيدٌ) أي : مستوجب للحمد لذاته لكثرة إنعامه ، وإن لم تشكروه ، أو يحمده غيركم من الملائكة (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يحتمل أن يكون هذا خطابا من موسى لقومه ، فيكون داخلا تحت التذكير بأيام الله ، ويحتمل أن يكون من كلام الله سبحانه ابتداء خطابا لقوم موسى وتذكيرا لهم بالقرون الأولى وأخبارهم ومجيء رسل الله إليهم ، ويحتمل أنه ابتداء خطاب من الله سبحانه لقوم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحذيرا لهم عن مخالفته ، والنبأ : الخبر ، والجمع الأنباء ومنه قول الشاعر (١) :

ألم تأتيك والأنباء تنمي

بما لاقت لبون بني زياد

و (قَوْمِ نُوحٍ) بدل من الموصول ، أو عطف بيان (وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : من بعد هؤلاء المذكورين (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) أي : لا يحصي عددهم ويحيط بهم علما إلا الله سبحانه ، والموصول مبتدأ وخبره لا يعلمهم إلا الله والجملة معترضة ، أو يكون الموصول معطوفا على ما قبله ولا يعلمهم

__________________

(١). هو قيس بن زهير.

١١٥

إلا الله اعتراض ، وعدم العلم من غير الله إما أن يكون راجعا إلى صفاتهم وأحوالهم وأخلاقهم ومدد أعمارهم ، أي : هذه الأمور لا يعلمها إلا الله ولا يعلمها غيره ، أو يكون راجعا إلى ذواتهم ، أي : أنه لا يعلم ذوات أولئك الذين من بعدهم إلا الله سبحانه ، وجملة (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) مستأنفة لبيان النبأ المذكور في (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي : جاءتهم الرسل بالمعجزات الظاهرة وبالشرائع الواضحة (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) أي : جعلوا أيدي أنفسهم في أفواههم ليعضّوها غيظا مما جاءت به الرسل ، كما في قوله تعالى : (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) (١) لأن الرسل جاءتهم بتسفيه أحلامهم وشتم أصنامهم ؛ وقيل : إن المعنى : أنهم أشاروا بأصابعهم إلى أفواههم لما جاءتهم الرسل بالبينات ، أي : اسكتوا واتركوا هذا الذي جئتم به تكذيبا لهم وردّا لقولهم ؛ وقيل : المعنى أنهم أشاروا إلى أنفسهم وما يصدر عنها من المقالة وهي قولهم : (إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أي : لا جواب لكم سوى هذا الذي قلناه لكم بألسنتنا هذه ؛ وقيل : وضعوا أيديهم على أفواههم استهزاء وتعجبا كما يفعله من غلبه الضحك من وضع يده على فيه ؛ وقيل : المعنى : ردّوا على الرسل قولهم وكذبوهم بأفواههم ؛ فالضمير الأوّل للرسل والثاني للكفار ؛ وقيل : جعلوا أيديهم في أفواه الرسل ردّا لقولهم ؛ فالضمير الأول على هذا للكفار والثاني للرسل ؛ وقيل : معناه : أومئوا إلى الرسل أن اسكتوا ؛ وقيل : أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواه الرسل ليسكنوهم ويقطعوا كلامهم ؛ وقيل : إن الأيدي هنا النعم ، أي : ردّوا نعم الرسل بأفواههم ، أي : بالنطق والتكذيب ، والمراد بالنعم هنا ما جاءوهم به من الشرائع. وقال أبو عبيدة : ونعم ما قال : هو ضرب مثل ، أي : لم يؤمنوا ولم يجيبوا ، والعرب تقول للرجل إذا أمسك عن الجواب وسكت : قد ردّ يده في فيه ، وهكذا قال الأخفش ، واعترض ذلك القتبي فقال : لم يسمع أحد من العرب يقول ردّ يده في فيه : إذ ترك ما أمر به ، وإنما المعنى عضّوا على الأيدي حنقا وغيظا ، كقول الشاعر :

يردّنّ في فيه غيظ الحسو

د حتى يعضّ عليّ الأكفّا (٢)

وهذا هو القول الذي قدّمناه على جميع هذه الأقوال ، ومنه قول الشاعر :

أو أنّ سلمى أبصرت تخدّدي

[ودقّة في عظم ساقي ويدي]

[وبعد أهلي وجفاء عوّدي]

عضّت من الوجد بأطراف اليدا (٣)

وهو أقرب التفاسير للآية إن لم يصح عن العرب ما ذكره أبو عبيدة والأخفش ، فإن صح ما ذكراه فتفسير الآية به أقرب (وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أي : قال الكفار للرسل إنا كفرنا بما أرسلتم به من البينات على زعمكم (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ) أي : في شك عظيم مما تدعوننا إليه من الإيمان بالله وحده

__________________

(١). آل عمران : ١١٩.

(٢). في تفسير القرطبي (٩ / ٣٤٦) : تردّون بدل : يردنّ ، وغشّ بدل : غيظ.

(٣). ما بين معقوفتين مستدرك من تفسير القرطبي (٩ / ٣٤٥). «التخدّد» : أن يضطرب اللحم من الهزال.

١١٦

وترك ما سواه (مُرِيبٍ) أي : موجب للريب ، يقال : أربته ؛ إذا فعلت أمرا أوجب ريبة وشكا ، والريب : قلق النفس وعدم سكونها. وقد قيل : كيف صرّحوا بالكفر ثم أقرهم على الشك. وأجيب بأنهم أرادوا إنا كافرون برسالتكم ، وإن نزلنا عن هذا المقام فلا أقلّ من أنا نشك في صحة نبوتكم ، ومع كمال الشك لا مطمع في الاعتراف بنبوّتكم. وجملة (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌ) مستأنفة جواب سؤال مقدر ، كأنه قيل : فماذا قالت لهم الرسل؟ والاستفهام للتقريع والتوبيخ ، أي : أفي وحدانيته سبحانه شك ، وهي في غاية الوضوح والجلاء ، ثم إن الرسل ذكروا بعد إنكارهم على الكفار ما يؤكد ذلك الإنكار من الشواهد الدالة على عدم الشك في وجوده سبحانه ووحدانيته. فقالوا : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقهما ومخترعهما ومبدعهما وموجدهما بعد العدم (يَدْعُوكُمْ) إلى الإيمان به وتوحيده (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) قال أبو عبيدة : من زائدة ، ووجه ذلك قوله في موضع آخر : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) ، وقال سيبويه : هي للتبعيض ، ويجوز أن يذكر البعض ويراد منه الجميع ؛ وقيل : التبعيض على حقيقته ، ولا يلزم من غفران جميع الذنوب لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم غفران جميعها لغيرهم ، وبهذه الآية احتجّ من جوّز زيادة من في الإثبات ؛ وقيل : من للبدل وليست بزائدة ولا تبعيضية ، أي : لتكون المغفرة بدلا من الذنوب (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي : إلى وقت مسمّى عنده سبحانه ، وهو الموت فلا يعذّبكم في الدنيا (قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) أي : ما أنتم إلا بشر مثلنا في الهيئة والصورة ، تأكلون وتشربون كما نأكل ونشرب ولستم ملائكة (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا) وصفوهم بالبشر أوّلا ، ثم بإرادة الصدّ لهم عما كان يعبد آباؤهم ثانيا ، أي : تريدون أن تصرفونا عن معبودات آبائنا من الأصنام ونحوها (فَأْتُونا) إن كنتم صادقين بأنكم مرسلون من عند الله (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجّة ظاهرة تدل على صحة ما تدّعونه ، وقد جاءوهم بالسلطان المبين والحجة الظاهرة ، ولكن هذا النوع من تعنتاتهم ، ولون من تلوناتهم (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي : ما نحن في الصورة والهيئة إلا بشر مثلكم كما قلتم (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي : يتفضل على من يشاء منهم بالنبوّة ؛ وقيل : بالتوفيق والهداية (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ) أي : ما صح ولا استقام لنا أن نأتيكم بحجّة من الحجج (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي : إلا بمشيئته وليس ذلك في قدرتنا. قيل : المراد بالسلطان هنا هو ما يطلبه الكفار من الآيات على سبيل التعنت ، وقيل أعم من ذلك ، فإن ما شاءه الله كان وما لم يشأه لم يكن (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي : عليه وحده ، وهذا أمر منهم للمؤمنين بالتوكل على الله دون من عداه ، وكأنّ الرسل قصدوا بهذا الأمر للمؤمنين الأمر لهم أنفسهم قصدا أوّليا ، ولهذا قالوا (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ) أي : وأيّ عذر لنا في ألا نتوكل عليه سبحانه (وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) أي : والحال أنه قد فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه من هدايتنا إلى الطريق الموصل إلى رحمته ، وهو ما شرعه لعباده وأوجب عليهم سلوكه (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) بما يقع منكم من التكذيب لنا والاقتراحات الباطلة (وَعَلَى اللهِ) وحده دون من عداه (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) قيل : المراد بالتوكل الأوّل استحداثه ، وبهذا السعي في بقائه وثبوته ؛ وقيل : معنى الأوّل : إن الذين يطلبون المعجزات يجب عليهم أن يتوكلوا في حصولها على

١١٧

الله سبحانه لا علينا ، فإن شاء سبحانه أظهرها وإن شاء لم يظهرها. ومعنى الثاني : إبداء التوكل على الله في دفع شرّ الكفار وسفاهتهم.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في قوله : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) قال : أخبرهم موسى عن ربّه أنهم إن شكروا النعمة زادهم من فضله ، وأوسع لهم من الرزق ، وأظهرهم على العالم. وأخرج ابن جرير عن الحسن (لَأَزِيدَنَّكُمْ) قال : من طاعتي. وأخرج ابن المبارك وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب ، عن عليّ بن صالح مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سفيان الثوري في الآية قال : لا تذهب أنفسكم إلى الدنيا فإنها أهون عند الله من ذلك ، ولكن يقول : لئن شكرتم لأزيدنكم من طاعتي. وأخرج أحمد والبيهقي عن أنس قال : «أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سائل فأمر له بتمرة فلم يأخذها ، وأتاه آخر فأمر له بتمرة فقبلها ، وقال : تمرة من رسول الله ، فقال للجارية : اذهبي إلى أمّ سلمة فأعطيه الأربعين درهما التي عندها» وفي إسناد أحمد عمارة بن زاذان ، وثّقه أحمد ويعقوب بن سفيان وابن حبّان ، وقال ابن معين : صالح ، وقال أبو زرعة : لا بأس به ، وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتجّ به ، ليس بالمتين ، وقال البخاري : ربما يضطرب في حديثه ، وقال أحمد : روي عنه أحاديث منكرة ، وقال أبو داود : ليس بذاك ، وضعّفه الدارقطني ، وقال ابن عدي : لا بأس به. وأخرج البخاري في تاريخه ، والضياء المقدسي في المختارة ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ألهم خمسة لم يحرم خمسة ، وفيها : ومن ألهم الشكر لم يحرم الزيادة». وأخرج الحكيم الترمذي في نوادره عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أربع من أعطيهنّ لم يمنع من الله أربعا ، وفيها : ومن أعطي الشكر لم يمنع الزيادة». ولا وجه لتقييد الزيادة بالزيادة في الطاعة ، بل الظاهر من الآية العموم ، كما يفيده جعل الزيادة جزاء للشكر ، فمن شكر الله على ما رزقه وسع الله عليه في رزقه ، ومن شكر الله على ما أقدره عليه من طاعته زاده من طاعته ، ومن شكره على ما أنعم عليه به من الصحة زاده الله صحة ، ونحو ذلك.

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود أنه كان يقرأ : (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) ويقول : كذب النسابون. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عمرو بن ميمون مثله. وأخرج ابن الضريس عن أبي مجلز قال : قال رجل لعلي بن أبي طالب : أنا أنسب الناس ، قال : إنك لا تنسب الناس ، فقال : بلى ، فقال له عليّ : أرأيت قوله : (وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) (١) قال : أنا أنسب ذلك الكثير ، قال : أرأيت قوله : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) فسكت. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير قال : ما وجدنا أحدا يعرف ما وراء معدّ بن عدنان. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن ابن عباس قال : بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله :

__________________

(١). الفرقان : ٣٨.

١١٨

(فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) قال : لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم (وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) يقولون : لا نصدّكم فيما جئتم به ، فإن عندنا فيه شكا قويا. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وأبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، عن ابن مسعود : (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) قال : عضّوا عليها. وفي لفظ : على أناملهم غيظا على رسلهم.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨))

قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) هؤلاء القائلون هم طائفة من المتمرّدين عن إجابة الرسل ، واللام في (لَنُخْرِجَنَّكُمْ) هي الموطئة للقسم ، أي : والله لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودنّ في ملتنا ، لم يقنعوا بردهم لما جاءت به الرسل وعدم امتثالهم لما دعوهم إليه حتى اجترءوا عليهم بهذا ، وخيّروهم بين الخروج من أرضهم ، أو العود في ملّتهم الكفرية ، وقد قيل : إن (أَوْ) في (أَوْ لَتَعُودُنَ) بمعنى حتى أو ، يعني : إلا أن تعودوا كما قاله بعض المفسرين ؛ وردّ بأنه لا حاجة إلى ذلك ، بل أو على بابها للتخيير بين أحد الأمرين ، وقد تقدّم تفسير الآية في سورة الأعراف. قيل : والعود هنا بمعنى الصيرورة لعصمة الأنبياء عن أن يكونوا على ملة الكفر قبل النبوة وبعدها ؛ وقيل : إن الخطاب للرسل ولمن آمن بهم فغلب الرسل على أتباعهم (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) أي : إلى الرسل (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) أي : قال لهم : لنهلكنّ الظالمين (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ) أي : أرض هؤلاء الكفار الذين توعدوكم بما توعدوا من الإخراج أو العود ، ومثل هذه الآية قوله سبحانه : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) (١) ، وقال : (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ) (٢). وقرئ ليهلكنّ وليسكننكم بالتحتية في الفعلين اعتبارا بقوله فأوحى ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما تقدّم من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين في مساكنهم (لِمَنْ خافَ مَقامِي) أي : موقفي ، وذلك يوم الحساب ، فإنه موقف الله سبحانه ، والمقام بفتح الميم مكان الإقامة ، وبالضم فعل الإقامة ؛ وقيل : إنّ المقام هنا مصدر بمعنى القيام ، أي : لمن خاف قيامي عليه ومراقبتي له كقوله تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (٣) وقال الأخفش : ذلك لمن خاف مقامي ، أي : عذابي (وَخافَ وَعِيدِ) أي : خاف

__________________

(١). الأعراف : ١٣٧.

(٢). الأحزاب : ٣٧.

(٣). الرعد : ٣٣.

١١٩

وعيدي بالعذاب ، وقيل : بالقرآن وزواجره ، وقيل : هو نفس العذاب ، والوعيد الاسم من الوعد (وَاسْتَفْتَحُوا) معطوف على أوحى ، والمعنى : أنهم استنصروا بالله على أعدائهم ، أو سألوا الله القضاء بينهم ، من الفتاحة وهي الحكومة ؛ ومن المعنى الأوّل قوله : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) (١) أي : إن تستنصروا فقد جاءكم النصر ؛ ومن المعنى الثاني قوله : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) (٢) أي : احكم ، والضمير في استفتحوا للرسل ؛ وقيل : للكفار ، وقيل : للفريقين (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) الجبار المتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقا ، هكذا حكاه النحّاس عن أهل اللغة ، والعنيد : المعاند للحق والمجانب له ، وهو مأخوذ من العند ، وهو الناحية ، أي : أخذ في ناحية معرضا. قال الشاعر :

إذا نزلت فاجعلوني وسطا

إنّي كبير لا أطيق العنّدا

قال الزجّاج : العنيد : الذي يعدل عن القصد ، وبمثله قال الهروي. وقال أبو عبيد : هو الذي عند وبغى ، وقال ابن كيسان : هو الشّامخ بأنفه ؛ وقيل : المراد به العاصي ، وقيل : الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله ؛ ومعنى الآية : أنه خسر وهلك من كان متّصفا بهذه الصفة (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) أي : من بعده جهنم ، والمراد بعد هلاكه على أن وراءها هنا بمعنى بعد ، ومنه قول النّابغة :

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وليس وراء الله للمرء مذهب

أي : ليس بعد الله ، ومثله قوله : (وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) أي : من بعده. كذا قال الفرّاء ، وقيل : (مِنْ وَرائِهِ) أي : من أمامه. قال أبو عبيد : هو من أسماء الأضداد ، لأنّ أحدهما ينقلب إلى الآخر ، ومنه قول الشاعر :

ومن ورائك يوم أنت بالغه

لا حاضر معجز عنه ولا بادي

وقال آخر :

أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي

وقومي تميم والفلاة ورائيا

أي : أمامي. ومنه قوله تعالى : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (٣) أي : أمامهم ، وبقول أبي عبيدة هذا قال قطرب. وقال الأخفش : هو كما يقال : هذا الأمر من ورائك ؛ أي : سوف يأتيك ، وأنا من وراء فلان ، أي : في طلبه. وقال النحّاس : من ورائه ؛ أي : من أمامه ، وليس من الأضداد ، ولكنه من توارى ؛ أي : استتر فصارت جهنم من ورائه ، لأنها لا ترى ، وحكى مثله ابن الأنباري (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) معطوف على مقدّر جوابا عن سؤال سائل. كأنه قيل : فماذا يكون إذن؟ قيل : يلقى فيها ويسقى ، والصديد ما يسيل من جلود أهل النار واشتقاقه من الصدّ. لأنه يصدّ الناظرين عن رؤيته ، وهو دم مختلط بقيح ، والصديد صفة لماء ، وقيل : عطف بيان عنه و (يَتَجَرَّعُهُ) في محل جر على أنه صفة لماء ،

__________________

(١). الأنفال : ١٩.

(٢). الأعراف : ٨٩.

(٣). الكهف : ٧٩.

١٢٠