فتح القدير - ج ٣

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٣

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٧

وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس (ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) قال : عما أنتم فيه إلى ما تقولون. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : (ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) قال : بعث بعد الموت.

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن في قوله : (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) قال : عملتم بمثل أعمالهم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ) يقول : ما كان مكرهم (لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ). وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ) يقول : شركهم كقوله : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) (١). وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري عن عليّ بن أبي طالب أنه قرأ هذه الآية : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) ثم فسّرها فقال : إن جبارا من الجبابرة قال : لا أنتهي حتى أنظر إلى ما في السماء ، فأمر بفراخ النسور تعلف اللحم حتى شبّت وغلظت ، وأمر بتابوت فنجر يسع رجلين ، ثم جعل في وسطه خشبة ، ثم ربط أرجلهنّ بأوتاد ، ثم جوّعهنّ ، ثم جعل على رأس الخشبة لحمة ، ثم دخل هو وصاحبه في التابوت ، ثم ربطهنّ إلى قوائم التابوت ، ثم خلى عنهنّ يردن اللحم ، فذهبن به ما شاء الله ، ثم قال لصاحبه : افتح فانظر ماذا ترى ففتح فقال : أنظر إلى الجبال كأنها الذباب ، قال : أغلق فأغلق ، فطرن به ما شاء الله ، ثم قال : افتح ففتح ، فقال : انظر ماذا ترى؟ فقال : ما أرى إلا السماء وما أراها تزداد إلا بعدا ، قال : صوّب الخشبة ، فصوّبها فانقضت تريد اللحم ، فسمع الجبال هدّتها فكادت تزول عن مراتبها. وقد روى نحو هذه القصة لبختنصر وللنمروذ من طرق ذكرها في «الدرّ المنثور».

(فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١))

(هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢))

(مُخْلِفَ) منتصب على أنه مفعول تحسبنّ ، وانتصاب رسله على أنه مفعول وعده ، وقيل : وذلك على الاتساع ، والمعنى : مخلف رسله وعده. قال القتبي : هو من المقدّم الذي يوضّحه التأخير ، والمؤخر الذي يوضّحه التقديم وسواء في ذلك مخلف وعده رسله ومخلف رسله وعده ، ومثل ما في الآية قول الشاعر :

ترى الدّور مدخل الظّلّ رأسه

وسائره باد إلى الشّمس أجمع

وقال الزّمخشري : قدّم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلا كقوله : (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٢) ثم قال رسله : ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحدا ، وليس من شأنه إخلاف المواعيد ، فكيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته والمراد بالوعد هنا هو ما وعدهم سبحانه بقوله : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) (٣) و (كَتَبَ اللهُ

__________________

(١). مريم : ٩٠.

(٢). آل عمران : ٩.

(٣). غافر : ٥١.

١٤١

لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) (١) وقرئ : «مخلف وعده رسله» بجرّ رسله ونصب وعده. قال الزّمخشري : وهذه القراءة في الضعف كمن قرأ : «قتل أولادهم شركائهم». (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب لا يغالبه أحد (ذُو انتِقامٍ) ينتقم من أعدائه لأوليائه والجملة تعليل للنهي ، وقد مرّ تفسيره في أوّل آل عمران (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) قال الزجاج : انتصاب يوم على البدل من يوم يأتيهم ، أو على الظرف للانتقام انتهى ، ويجوز أن ينتصب بمقدّر يدل عليه الكلام ، أي : واذكر أو وارتقب ، والتبديل قد يكون في الذات كما في بدّلت الدراهم دنانير ، وقد يكون في الصفات كما في بدّلت الحلقة خاتما ، والآية تحتمل الأمرين ، وقد قيل : المراد تغير صفاتها ، وبه قال الأكثر ، وقيل : تغير ذاتها ، ومعنى (وَالسَّماواتُ) أي : وتبدّل السّموات غير السّموات على الاختلاف الذي مرّ (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) أي : برز العباد لله أو الظّالمون كما يفيده السياق ؛ أي : ظهروا من قبورهم ، أو ظهر من أعمالهم ما كانوا يكتمونه ، والتعبير على المستقبل بلفظ الماضي للتنبيه على تحقّق وقوعه ، كما في قوله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) (٢) و (الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٣) المتفرّد بالألوهية الكثير القهر لمن عانده (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) معطوف على برزوا أو على تبدّل ، والمجيء بالمضارع لاستحضار الصورة ، والمجرمون هم المشركون ، ويومئذ يعني يوم القيامة ، و (مُقَرَّنِينَ) أي : مشدودين إما بجعل بعضهم مقرونا مع بعض ، أو قرنوا مع الشياطين كما في قوله : (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (٤) أو جعلت أيديهم مقرونة إلى أرجلهم ، والأصفاد : الأغلال والقيود ، والجار والمجرور متعلّق بمقرّنين أو حال من ضميره ، يقال : صفدته صفدا ، أي : قيدته. والاسم الصّفد ، فإذا أردت التكثير قلت : صفّدته. قال عمرو بن كلثوم :

فآبوا بالنّهاب وبالسّبايا

وأبنا بالملوك مصفّدينا

وقال حسّان بن ثابت :

من بين مأسور يشدّ صفاده

صقر إذا لاقى الكريهة حام

ويقال : صفدته وأصفدته ؛ إذا أعطيته ، ومنه قول النّابغة :

ولم أعرض أبيت اللعن بالصّفد (٥)

(سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) السّرابيل : القمص ، واحدها سربال ، ومنه قول كعب بن مالك :

تلقاكم عصب حول النّبيّ لهم

من نسج داود في الهيجا سرابيل

والقطران : هو قطران الإبل الذي تهنأ به ؛ أي : قمصانهم من قطران تطلى به جلودهم حتى يعود ذلك الطلاء كالسرابيل ؛ وخصّ القطران لسرعة اشتعال النهار فيه مع نتن رائحته. وقال جماعة هو

__________________

(١). المجادلة : ٢١.

(٢). الكهف : ٩٩.

(٣). يوسف : ٣٩.

(٤). الزخرف : ٣٦.

(٥). وصدره : هذا الثناء فإن تسمع لقائله. ومعنى «أبيت اللعن» : أبيت أن تأتي شيئا تلعن عليه.

١٤٢

النحاس : أي : قمصانهم من نحاس. وقرأ عيسى بن عمر (مِنْ قَطِرانٍ) بفتح القاف وتسكين الطاء. وقرئ بكسر القاف وسكون الطاء ، وقرئ بفتح القاف والطاء ، رويت هذه القراءة عن ابن عباس وأبي هريرة وعكرمة وسعيد بن جبير ويعقوب ، وهذه الجملة في محل نصب على الحال (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) أي : تعلو وجههم وتضربها ؛ وخصّ الوجوه لأنّها أشرف ما في البدن ، وفيها الحواس المدركة ، والجملة في محل نصب على الحال أيضا ، و (لِيَجْزِيَ اللهُ) متعلق بمحذوف ، أي : يفعل ذلك بهم ليجزي (كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) من المعاصي ؛ أي : جزاء موافقا لما كسبت من خير أو شرّ (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) لا يشغله عنه شيء. وقد تقدّم تفسيره (هذا بَلاغٌ) أي : هذا الذي أنزل إليك بلاغ ، أي : تبليغ وكفاية في الموعظة والتذكير. قيل : إنّ الإشارة إلى ما ذكره سبحانه هنا من قوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً) إلى (سَرِيعُ الْحِسابِ) أي : هذا فيه كفاية من غير ما انطوت عليه السورة ، وقيل : الإشارة إلى جميع السورة ، وقيل : إلى القرآن ، ومعنى (لِلنَّاسِ) للكفار ، أو لجميع الناس على ما قيل في قوله : (وَأَنْذِرِ النَّاسَ). (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) معطوف على محذوف ، أي : لينصحوا ولينذروا به ، والمعنى : وليخوّفوا به ، وقرئ «ولينذروا» بفتح الياء التحتية والذال المعجمة ، يقال : نذرت بالشيء أنذر ؛ إذا علمت به فاستعددت له (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) أي : ليعلموا بالأدلة التكوينية المذكورة سابقا وحدانية الله سبحانه ، وأنه لا شريك له (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي : وليتّعظ أصحاب العقول ، وهذه اللامات متعلّقة بمحذوف ، والتقدير : وكذلك أنزلنا ، أو متعلقة بالبلاغ المذكور ، أي : كفاية لهم في أن ينصحوا وينذروا ويعلموا بما أقام الله من الحجج والبراهين وحدانيته سبحانه وأنه لا شريك له ، وليتّعظ بذلك أصحاب العقول التي تعقل وتدرك.

وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) قال : عزيز والله في أمره ، يملي وكيده متين ، ثم إذا انتقم انتقم بقدرة. وأخرج مسلم وغيره من حديث ثوبان قال : «جاء رجل من اليهود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أين يكون الناس يوم تبدّل الأرض غير الأرض؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : في الظلمة دون الجسر». وأخرج مسلم أيضا وغيره من حديث عائشة. قالت : «أنا أوّل من سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذه الآية (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) قلت : أين الناس يومئذ؟ قال : على الصراط». وأخرج البزار وابن المنذر والطبراني في الأوسط وابن مردويه ، والبيهقي في البعث ، وابن عساكر عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «في قول الله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) قال : أرض بيضاء ، كأنها فضة لم يسفك فيها دم حرام ، ولم يعمل بها خطيئة». وأخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ، وأبو الشيخ في العظمة ، والحاكم وصحّحه البيهقي في البعث ، عنه موقوفا نحوه ، قال البيهقي : الموقوف أصح. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن زيد ابن ثابت قال : «أتى اليهود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : جاءوني يسألونني وسأخبرهم قبل أن يسألوني (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) قال : أرض بيضاء كالفضة ، فسألهم فقالوا : أرض بيضاء كالنقيّ». وأخرج ابن

١٤٣

مردويه مرفوعا عن عليّ نحو ما تقدّم عن ابن مسعود. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن أنس موقوفا نحوه ، وقد روي نحو ذلك عن جماعة من الصحابة. وثبت في الصحيحين من حديث سهل بن سعد قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة نقي». وفيهما أيضا من حديث أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفّؤها الجبّار بيده» الحديث. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) قال الكبول.

وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة (فِي الْأَصْفادِ) قال : القيود والأغلال. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : في السلاسل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (فِي الْأَصْفادِ) يقول : في وثاق. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي (سَرابِيلُهُمْ) قال : قمصهم. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد مثله. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : (مِنْ قَطِرانٍ) قال : قطران الإبل. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في الآية قال : هذا القطران يطلى به حتى يشتعل نارا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : هو النحّاس المذاب. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه قرأ (مِنْ قَطِرانٍ) فقال : القطر : الصّفر ، و : الآن : الحارّ. وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر عن عكرمة نحوه. وأخرج مسلم وغيره عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «النّائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ، ودرع من جرب». وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) قال : القرآن (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) قال : بالقرآن.

* * *

١٤٤

سورة الحجر

وهي مكية بالاتفاق كما قال القرطبي. وأخرج النحّاس في ناسخه ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة الحجر بمكة. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير مثله.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥))

قوله : (الر) قد تقدّم الكلام في محله مستوفى ، والإشارة بقوله : (تِلْكَ) إلى ما تضمنته السورة من الآيات والتعريف في الكتاب. قيل : هو للجنس ، والمراد جنس الكتب المتقدّمة ؛ وقيل : المراد به القرآن ، ولا يقدح في هذا ذكر القرآن بعد الكتاب ، فقد قيل إنه جمع له بين الاسمين ؛ وقيل : المراد بالكتاب هذه السورة ، وتنكير القرآن للتفخيم ، أي : القرآن الكامل (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) قرأ نافع وعاصم بتخفيف الباء من ربما. وقرأ الباقون بتشديدها ، وهما لغتان. قال أبو حاتم : أهل الحجاز يخففون ، ومنه قول الشاعر (١) :

ربما ضربة بسيف صقيل

بين بصرى وطعنة نجلاء

وتميم وربيعة يثقّلونها. وقد تزداد فيها التاء الفوقية (٢) ، وأصلها أن تستعمل في القليل. وقد تستعمل في الكثير. قال الكوفيون : أي يودّ الكفار في أوقات كثيرة لو كانوا مسلمين. ومنه قول الشاعر :

ربّ رفد هرقته ذلك اليو

م وأسرى من معشر أقيال

__________________

(١). هو عدي بن الرعلاء الغساني.

(٢). أي : ربّتما أو : ربتما ، وكذلك بضم الراء وفتحها.

١٤٥

وقيل : هي هنا للتقليل ؛ لأنهم ودّوا ذلك في بعض المواضع لا في كلّها لشغلهم بالعذاب. قيل : وما هنا لحقت ربّ لتهيئها للدخول على الفعل ؛ وقيل : هي نكرة بمعنى شيء ، وإنما دخلت ربّ هنا على المستقبل مع كونها لا تدخل إلا على الماضي ، لأنّ المترقب في أخباره سبحانه كالواقع المتحقّق ، فكأنه قيل : ربما ودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين ، أي : منقادين لحكمه مذعنين له من جملة أهله. وكانت هذه الودادة منهم عند موتهم أو يوم القيامة. والمراد أنه لما انكشف لهم الأمر ، واتّضح بطلان ما كانوا عليه من الكفر ، وأن الدين عند الله سبحانه هو الإسلام لا دين غيره ، حصلت منهم هذه الودادة التي لا تسمن ولا تغني من جوع ، بل هي لمجرد التحسّر والتندّم ولوم النفس على ما فرّطت في جنب الله ؛ وقيل : كانت هذه الودادة منهم عند معاينة حالهم وحال المسلمين ؛ وقيل : عند خروج عصاة الموحّدين من النار ، والظاهر أن هذه الودادة كائنة منهم في كلّ وقت مستمرة في كلّ لحظة بعد انكشاف الأمر لهم (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) هذا تهديد لهم ، أي : دعهم عمّا أنت بصدده من الأمر لهم والنهي ، فهم لا يرعوون أبدا ، ولا يخرجون من باطل ، ولا يدخلون في حق ، بل مرهم بما هم فيه من الاشتغال بالأكل والتمتع بزهرة الدنيا ، فإنهم كالأنعام التي لا تهتم إلا بذلك ولا تشتغل بغيره ، والمعنى : اتركهم على ما هم عليه من الاشتغال بالأكل ونحوه من متاع الدنيا ، ومن إلهاء الأمل لهم عن اتباعك فسوف يعلمون عاقبة أمرهم وسوء صنيعهم. وفي هذا من التهديد والزجر ما لا يقدر قدره ، يقال : ألهاه كذا ، أي : شغله ، ولهي هو عن الشيء يلهى ، أي : شغلهم الأمل عن اتباع الحق ، وما زالوا في الآمال الفارغة والتمنيات الباطلة حتى أسفر الصبح لذي عينين ، وانكشف الأمر ، ورأوا العذاب يوم القيامة ، فعند ذلك يذوقون وبال ما صنعوا. والأفعال الثلاثة مجزومة على أنها جواب الأمر ، وهذه الآية منسوخة بآية السيف (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) أي : وما أهلكنا قرية من القرى بنوع من أنواع العذاب (إِلَّا وَلَها) أي : لتلك القرية (كِتابٌ) أي : أجل مقدّر لا تتقدم عليه ولا تتأخر عنه (مَعْلُومٌ) غير مجهول ولا منسيّ ، فلا يتصوّر التخلف عنه بوجه من الوجوه ، وجملة (لَها كِتابٌ) في محل نصب على الحال من قرية وإن كانت نكرة لأنها قد صارت بما فيها من العموم في حكم الموصوفة ، والواو للفرق بين كون هذه الجملة حالا ، أو صفة فإنها تعينها للحالية كقولك : جاءني رجل على كتفه سيف ، وقيل : إنّ الجملة صفة لقرية ، والواو لتأكيد اللصوق بين الصفة والموصوف (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) أي : ما تسبق أمة من الأمم أجلها المضروب لها المكتوب في اللوح المحفوظ ؛ والمعنى : أنه لا يأتي هلاكها قبل مجيء أجلها (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) أي : وما يتأخرون عنه ، فيكون مجيء هلاكهم بعد مضي الأجل المضروب له ، وإيراد الفعل على صيغة جمع المذكر للحمل على المعنى مع التغليب ولرعاية الفواصل ، ولذلك حذف الجار والمجرور ، والجملة مبينة لما قبلها ، فكأنه قيل : إنّ هذا الإمهال لا ينبغي أن يغترّ به العقلاء ، فإن لكل أمة وقتا معينا في نزول العذاب لا يتقدّم ولا يتأخر. وقد تقدم تفسير الأجل في أوّل سورة الأنعام. ثم لما فرغ من تهديد الكفار شرع في بيان بعض عتوّهم في الكفر ، وتماديهم في الغيّ مع تضمنه لبيان كفرهم بمن أنزل عليه الكتاب بعد بيان كفرهم بالكتاب ، فقال : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) أي : قال كفار

١٤٦

مكة مخاطبين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومتهكمين به حيث أثبتوا له إنزال الذكر عليه ، مع إنكارهم لذلك في الواقع أشدّ إنكار ونفيهم له أبلغ نفي ، أو أرادوا : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) في زعمه ، وعلى وفق ما يدعيه (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) أي : إنك بسبب هذه الدعوى التي تدّعيها من كونك رسولا لله مأمورا بتبليغ أحكامه لمجنون ، فإنه لا يدّعي مثل هذه الدعوى العظيمة عندهم من كان عاقلا ، فقولهم هذا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو كقول فرعون : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) (١). (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) لو ما : حرف تحضيض ، مركب من لو المفيدة للتمني ومن ما المزيدة ، فأفاد المجموع الحثّ على الفعل الداخلة هي عليه ؛ والمعنى : هلا تأتينا بالملائكة ليشهدوا على صدقك (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ). قال الفراء : الميم في «لو ما» بدل من اللام في لو لا. وقال الكسائي : لو لا ولو ما سواء في الخبر والاستفهام. قال النحاس : لو ما ولو لا وهلا واحد ؛ وقيل : المعنى : لو ما تأتينا بالملائكة فيعاقبونا على تكذيبنا لك (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) قرئ (ما نُنَزِّلُ) بالنون مبنيا للفاعل ، وهو الله سبحانه فهو على هذا من التنزيل ؛ والمعنى على هذه القراءة : قال الله سبحانه مجيبا على الكفار لما طلبوا إتيان الملائكة إليهم ما ننزل نحن (الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) أي : تنزيلا متلبسا بالحق الذي يحقّ عنده تنزيلنا لهم فيما تقتضيه الحكمة الإلهية والمشيئة الربانية ، وليس هذا الذي اقترحتموه مما يحق عنده تنزيل الملائكة ، وقرئ «ننزل» مخففا من الإنزال ، أي : ما ننزل نحن الملائكة إلا بالحق ، وقرئ «ما تنزل» بالمثناة من فوق ؛ مضارعا مثقلا مبنيا للفاعل من التنزيل بحذف إحدى التاءين ، أي : تتنزل ، وقرئ أيضا بالفوقية مضارعا مبنيا للمفعول ؛ وقيل : معنى إلا بالحق ؛ إلا بالقرآن ، وقيل : بالرسالة ، وقيل : بالعذاب (وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) في الكلام حذف ، والتقدير : ولو أنزلنا الملائكة لعوجلوا بالعقوبة وما كانوا إذا منظرين ، فالجملة المذكورة جزاء للجملة الشرطية المحذوفة ، ثم أنكر على الكفار استهزاءهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقولهم : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) ، فقال سبحانه : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) أي : نحن نزلنا ذلك الذكر الذي أنكروه ونسبوك بسببه إلى الجنون (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) عن كل ما لا يليق به من تصحيف وتحريف وزيادة ونقص ونحو ذلك. وفيه وعيد شديد للمكذّبين به ، المستهزئين برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وقيل : الضمير في (لَهُ) لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأوّل أولى بالمقام. ثم ذكر سبحانه أنّ عادة أمثال هؤلاء الكفار مع أنبيائهم كذلك تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) أي : رسلا ، وحذف لدلالة الإرسال عليه ، أي : رسلا كائنة من قبلك (فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) في أممهم وأتباعهم وسائر فرقهم وطوائفهم. قال الفراء : الشيع الأمة التابعة بعضهم بعضا فيما يجتمعون عليه ، وأصله من شاعه إذا تبعه ، وإضافته إلى الأوّلين من إضافة الصفة إلى الموصوف عند بعض النحاة ، أو من حذف الموصوف عند آخرين منهم (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي : ما يأتي رسول من الرسل شيعته إلا كانوا به يستهزئون كما يفعله هؤلاء الكفار مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجملة إلا كانوا به يستهزئون في محل نصب على الحال ، أو في محل

__________________

(١). الشعراء : ٢٧.

١٤٧

رفع على أنّها صفة رسول ، أو في محل جر على أنّها صفة له على اللفظ لا على المحل (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) أي : مثل ذلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين برسلهم (نَسْلُكُهُ) أي : الذكر (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) ، فالإشارة إلى ما دلّ عليه الكلام السابق من إلقاء الوحي مقرونا بالاستهزاء ، والسلك إدخال الشيء في الشيء كالخيط في المخيط ، قاله الزجّاج ، قال : والمعنى كما فعل بالمجرمين الذين استهزءوا نسلك الضلال في قلوب المجرمين ، وجملة (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) في محل نصب على الحال من ضمير نسلكه : أي : لا يؤمنون بالذكر الذي أنزلناه ، ويجوز أن تكون مستأنفة لبيان ما قبلها فلا محل لها ؛ وقيل : إن الضمير في نسلكه للاستهزاء ، وفي لا يؤمنون به للذكر ، وهو بعيد ، والأولى أن الضميرين للذكر (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) أي : مضت طريقتهم التي سنها الله في إهلاكهم ، حيث فعلوا ما فعلوا من التكذيب والاستهزاء. وقال الزجّاج : وقد مضت سنة الله في الأولين بأن سلك الكفر والضلال في قلوبهم. ثم حكى الله سبحانه إصرارهم على الكفر وتصميمهم على التكذيب والاستهزاء ، فقال : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ) أي : على هؤلاء المعاندين لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم المكذبين له المستهزئين به (باباً مِنَ السَّماءِ) أي : من أبوابها المعهودة ومكناهم من الصعود إليه (فَظَلُّوا فِيهِ) أي : في ذلك الباب (يَعْرُجُونَ) يصعدون بآلة أو بغير آلة حتى يشاهدوا ما في السماء من عجائب الملكوت التي لا يجحدها جاحد ولا يعاند عند مشاهدتها معاند ، وقيل : الضمير في (فَظَلُّوا) للملائكة ، أي : فظل الملائكة يعرجون في ذلك الباب ، والكفار يشاهدونهم وينظرون صعودهم من ذلك الباب (لَقالُوا) أي : الكفار ؛ لفرط عنادهم وزيادة عتوّهم (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) قرأ ابن كثير سكرت بالتخفيف ، وقرأ الباقون بالتشديد وهو من سكر الشراب ، أو من السكر ، وهو سدّها عن الإحساس ، يقال : سكر النهر ؛ إذا سدّه وحبسه عن الجري ، ورجح الثاني بقراءة التخفيف. وقال أبو عمرو بن العلاء : سكرت غشيت وغطيت ، ومنه قول الشاعر :

وطلعت شمس عليها مغفر (١)

وجعلت عين الحرور تسكر

وبه قال أبو عبيد وأبو عبيدة ، وروي عن أبي عمرو أيضا أنه من سكر الشراب ، أي : غشيهم ما غطى أبصارهم كما غشي السكران ما غطى عقله ؛ وقيل : معنى سكرت حبست كما تقدم ، ومنه قول أوس بن حجر :

قصرت (٢) على ليلة ساهرة

فليست بطلق ولا ساكره

قال النحّاس : وهذه الأقوال متقاربة (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) أضربوا عن قولهم سكرت أبصارنا ، ثم ادّعوا أنهم مسحورون ، أي : سحرهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي هذا بيان لعنادهم العظيم الذي لا يقلعهم عنه شيء من الأشياء كائنا ما كان ، فإنهم إذا رأوا آية توجب عليهم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله نسبوا إلى أبصارهم أن إدراكها غير حقيقي لعارض السكر ، أو أن عقولهم قد سحرت فصار إدراكهم غير صحيح ، ومن بلغ في التعنّت إلى هذا الحدّ فلا تنفع فيه موعظة ، ولا يهتدي بآية.

__________________

(١). في اللسان مادة سكر : جاء الشّتاء واجثألّ القبّر.

(٢). في اللسان مادة سكر : جذلت.

١٤٨

وقد أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) قال : التوراة والإنجيل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) قال : الكتب التي كانت قبل القرآن (وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) قال : مبين والله هداه ورشده وخيره. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس وابن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) قال : ودّ المشركون يوم بدر حين ضربت أعناقهم فعرضوا على النار أنهم كانوا مؤمنين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في الآية قال : هذا في الجهنميين إذا رأوهم يخرجون من النار. وأخرج سعيد بن منصور وهناد ابن السريّ في الزهد وابن جرير وابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في البعث والنشور ، عن ابن عباس قال : ما يزال الله يشفع ويدخل ويشفع ويرحم حتى يقول : من كان مسلما فليدخل الجنة ، فذلك قوله : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ). وأخرج ابن المبارك في الزهد ، وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر ، والبيهقي في البعث ، عن ابن عباس وأنس أنهما تذاكرا هذه الآية (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) فقالا : هذا حيث يجمع الله من أهل الخطايا من المسلمين والمشركين في النار ، فيقول المشركون : ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون ، فيغضب الله لهم فيخرجهم بفضله ورحمته. وأخرج الطبراني في الأوسط ، وابن مردويه بسند ، قال السيوطي : صحيح ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ ناسا من أمتي يعذّبون بذنوبهم ، فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ، ثم يعيّرهم أهل الشرك ، فيقولون : ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم ، فلا يبقى موحّد إلا أخرجه الله من النار ، ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ)».

وأخرج ابن أبي عاصم في السنّة ، وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه والبيهقي عن أبي موسى الأشعري مرفوعا نحوه. وأخرج إسحاق بن راهويه وابن حبان والطبراني وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مرفوعا نحوه أيضا. وأخرج هناد بن السريّ والطبراني في الأوسط وأبو نعيم عن أنس مرفوعا نحوه أيضا. وفي الباب أحاديث في تعيين هذا السبب في نزول هذه الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) الآية قال : هؤلاء الكفرة. وأخرج أيضا عن أبي مالك في قوله : (ذَرْهُمْ) قال : خلّ عنهم. وأخرج ابن جرير عن الزهري في قوله : (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) قال : نرى أنه إذا حضره أجله ، فإنه لا يؤخر ساعة ولا يقدّم ، وأما ما لم يحضر أجله فإن الله يؤخر ما شاء ويقدّم ما شاء. قلت : وكلام الزهري هذا لا حاصل له ولا مفاد فيه. وأخرج ابن جرير عن الضحّاك في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) قال : القرآن. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) قال : بالرسالة والعذاب. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : (وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) قال : وما كانوا لو نزلت الملائكة بمنظرين من أن يعذبوا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) قال : عندنا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فِي شِيَعِ

١٤٩

الْأَوَّلِينَ) قال : أمم الأوّلين.

وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس في قوله : (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) قال : الشرك نسلكه في قلوب المشركين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة مثله. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن الحسن مثله أيضا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) قال : وقائع الله فيمن خلا من الأمم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في قوله : (فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) قال ابن جريج : قال ابن عباس : فظلت الملائكة تعرج فنظروا إليهم (لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) قال : قريش تقوله. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في الآية عن ابن عباس أيضا يقول : ولو فتحنا عليهم بابا من أبواب السماء فظلت الملائكة تعرج فيه يختلفون فيه ذاهبين وجائين لقال أهل الشرك : إنما أخذت أبصارنا ، وشبّه علينا ، وإنما سحرنا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد (سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) قال : سدّت. وأخرج ابن جرير عن قتادة نحوه قال : ومن قرأ : (سُكِّرَتْ) مخففة ، فإنه يعني سحرت.

(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥))

لما ذكر سبحانه كفر الكافرين وعجزهم وعجز أصنامهم ، ذكر قدرته الباهرة وخلقه البديع ليستدل بذلك على وحدانيته ، فقال : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) الجعل إن كان بمعنى الخلق ، ففي السّماء متعلّق به ، وإن كان بمعنى التّصيير ففي السماء خبره ، والبروج في اللغة : القصور والمنازل ، والمراد بها هنا منازل الشمس والقمر والنجوم السيارة ، وهي الاثنا عشر المشهورة كما تدلّ على ذلك التجربة ، والعرب تعدّ المعرفة بمواقع النجوم ومنازلها من أجلّ العلوم ، ويستدلّون بها على الطرقات والأوقات والخصب والجدب ، وقالوا : الفلك اثنا عشر برجا ، وأسماء هذه البروج : الحمل ، الثور ، الجوزاء ، السرطان ، الأسد ، السنبلة ، الميزان ، العقرب ، القوس ، الجدي ، الدلو ، الحوت. كل ثلاثة منها على طبيعة عنصر من العناصر الأربعة والمشتغلين بهذا العلم يسمون الحمل والأسد والقوس مثلثة نارية ، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية ، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية ، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية. وأصل البروج الظهور ، ومنه تبرّج المرأة بإظهار زينتها. وقال الحسن وقتادة : البروج النجوم ، وسميت بذلك لظهورها وارتفاعها ، وقيل : السبعة

١٥٠

السيارة منها ؛ قاله أبو صالح ، وقيل : هي قصور وبيوت في السماء فيها حرس ، والضمير في (وَزَيَّنَّاها) راجع إلى السماء ، أي : وزينا السماء بالشمس والقمر والنجوم والبروج للناظرين إليها ، أو للمتفكرين المعتبرين المستدلّين إذا كان من النظر ، وهو الاستدلال (وَحَفِظْناها) أي : السماء (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) قال أبو عبيدة : الرجيم المرجوم بالنجوم ، كما في قوله : (رُجُوماً لِلشَّياطِينِ). والرجم في اللغة هو الرمي بالحجارة ، ثم قيل للّعن والطرد والإبعاد رجم ؛ لأن الرامي بالحجارة يوجب هذه المعاني (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) استثناء متصل ، أي : إلا ممن استرق السمع ، ويجوز أن يكون منقطعا ، أي : ولكن من استرق السمع (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) والمعنى : حفظنا السماء من الشياطين أن تسمع شيئا من الوحي وغيره ، إلا من استرق السمع فإنها تتبعه الشهب فتقتله أو تخبله. ومعنى (فَأَتْبَعَهُ) تبعه ولحقه أو أدركه. والشهاب : الكوكب أو النار المشتعلة الساطعة كما في قوله : (بِشِهابٍ قَبَسٍ) قال ذو الرّمة :

كأنّه كوكب في إثر عفرية (١)

وسمّي الكوكب شهابا لبريقه شبه النار ، والمبين : الظاهر للمبصرين يرونه لا يلتبس عليهم. قال القرطبي : واختلف في الشهاب هل يقتل أم لا؟ فقال ابن عباس : الشهاب يجرح ويحرق ويخبل ولا يقتل ، وقال الحسن وطائفة : يقتل. فعلى هذا القول في قتلهم بالشهب قبل إلقاء السمع إلى الجنّ قولان ؛ أحدهما : أنهم يقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم ، فلا تصل أخبار السماء إلى غير الأنبياء ، ولذلك انقطعت الكهانة. والثاني : أنهم يقتلون بعد إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم من الجنّ ، قال : ذكره الماوردي ، ثم قال : والقول الأوّل أصحّ. قال : واختلف هل كان رمي بالشهب قبل المبعث ، فقال الأكثرون : نعم ، وقيل : لا ، وإنما ذلك بعد المبعث. قال الزجاج : والرمي بالشهب من آيات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممّا حدث بعد مولده لأن الشعراء في القديم لم يذكروه في أشعارهم. قال كثير من أهل العلم : نحن نرى انقضاض الكواكب ، فيجوز أن يكون ذلك كما نرى ، ثم يصير نارا إذا أدرك الشيطان ، ويجوز أن يقال : يرمون بشعلة من نار الهواء فيخيل إلينا أنه نجم يسري (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) أي : بسطناها وفرشناها كما في قوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (٢) ، وفي قوله : (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) (٣) ، وفيه ردّ على من زعم أنها كالكرة (٤) (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) أي : جبال ثابتة لئلا تحرك بأهلها ، وقد تقدم بيان ذلك في سورة الرعد (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) أي : أنبتنا في الأرض من كلّ شيء مقدّر معلوم ، فعبّر عن ذلك بالوزن ؛ لأنه مقدار تعرف به الأشياء ، ومنه قول الشاعر :

__________________

(١). وعجزه : مسوّم في سواد الليل منقضب.

(٢). النازعات : ٣٠.

(٣). الذاريات : ٤٨.

(٤). قوله تعالى : «فرشناها» هذا ما يبدو للناظر أنها مبسوطة ممدودة ، و «دحاها» : جعلها كالبيضة ليست تامة الكروية ، فهي مفلطحة من جانبيها. وليس في الآيات المذكورة ما ينفي أن الأرض كروية ، خاصة وقد أثبتت الحقائق العلمية كرويتها.

١٥١

قد كنت قبل لقائكم ذا مرّة

عندي لكلّ مخاصم ميزانه

وقيل : معنى موزون مقسوم ، وقيل : معدود ، والمقصود من الإنبات : الإنشاء والإيجاد ؛ وقيل : الضمير راجع إلى الجبال ، أي : أنبتنا في الجبال من كلّ شيء موزون من الذهب والفضة والنحاس والرصاص ونحو ذلك ؛ وقيل : موزون بميزان الحكمة ، ومقدّر بقدر الحاجة ؛ وقيل : الموزون هو المحكوم بحسنه كما يقال كلام موزون ، أي : حسن (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) تعيشون بها من المطاعم والمشارب جمع معيشة ، وقيل : هي الملابس ، وقيل : هي التصرف في أسباب الرزق مدّة الحياة. قال الماوردي : وهو الظاهر. قلت : بل القول الأوّل أظهر ، ومنه قول جرير :

تكلّفني معيشة آل زيد

ومن لي بالمرقّق والصّنابا (١)

(وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) معطوف على معايش ؛ أي : وجعلنا لكم فيها من لستم له برازقين ؛ وهم المماليك والخدم والأولاد الذين رازقهم في الحقيقة هو الله ، وإن ظنّ بعض العباد أنه الرازق لهم باعتبار استقلاله بالكسب ، ويجوز أن يكون معطوفا على محل لكم ، أي : جعلنا لكم فيها معايش وجعلنا لمن لستم له برازقين فيها معايش ، وهم من تقدّم ذكره ، ويدخل في ذلك الدوابّ على اختلاف أجناسها ، ولا يجوز العطف على الضمير المجرور في لكم ؛ لأنه لا يجوز عند الأكثر إلا بإعادة الجارّ ؛ وقيل : أراد الوحش (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) إن هي النافية ومن مزيدة للتأكيد ، وهذا التركيب عام لوقوع النكرة في حيز النفي مع زيادة من ، ومع لفظ شيء المتناول لكل الموجودات الصادق على كل فرد منها ، فأفاد ذلك أن جميع الأشياء عند الله خزائنها لا يخرج منها شيء. والخزائن : جمع خزانة ، وهي المكان الذي يحفظ فيه نفائس الأمور ، وذكر الخزائن تمثيل لاقتداره على كل مقدور ؛ والمعنى : أن كل الممكنات مقدورة ومملوكة يخرجها من العدم إلى الوجوب بمقدار كيف شاء. وقال جمهور المفسرين : إن المراد بما في هذه الآية هو المطر ؛ لأنه سبب الأرزاق والمعايش ؛ وقيل : الخزائن : المفاتيح ، أي : ما من شيء إلا عندنا في السماء مفاتيحه ، والأولى ما ذكرناه من العموم لكل موجود ، بل قد يصدق الشيء على المعدوم على الخلاف المعروف في ذلك (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) أي : ما ننزله من السماء إلى الأرض أو نوجده للعباد إلا بقدر معلوم ، والقدر المقدار ؛ والمعنى : أن الله سبحانه لا يوجد للعباد شيئا من تلك الأشياء المذكورة إلا متلبسا ذلك الإيجاد بمقدار معين حسبما تقتضيه مشيئته على مقدار حاجة العباد إليه كما قال سبحانه : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) (٢) وقد فسّر الإنزال بالإعطاء ، وفسّر بالإنشاء ، وفسّر بالإيجاد ، والمعنى متقارب ، وجملة وما ننزله معطوفة على مقدّر : أي وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ننزله وما ننزله ، أو في محل نصب على الحال (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) معطوف على (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) وما بينهما اعتراض. قرأ حمزة «الريح» بالتوحيد. وقرأ من عداه (الرِّياحَ) بالجمع ، وعلى قراءة حمزة فتكون اللام في الريح للجنس. قال

__________________

(١). «المرقّق» : الأرغفة الرقيقة الواسعة. «الصناب» : صباغ يتّخذ من الخردل والزبيب ، يؤتدم به.

(٢). الشورى : ٢٧.

١٥٢

الأزهري : وجعل الرّياح لواقح لأنها تحمل السحاب ، أي : تقله وتصرفه ، ثم تمرّ به فتنزله. قال الله سبحانه : (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً) ، أي : حملت. وناقة لاقح ؛ إذا حملت الجنين في بطنها ، وبه قال الفراء وابن قتيبة ؛ وقيل : لواقح بمعنى ملقحة. قال ابن الأنباري : تقول العرب : أبقل النبت فهو باقل ، وقيل : مبقل ؛ والمعنى : أنها تلقح الشجر ، أي : بقوّتها ؛ وقيل : معنى لواقح : ذوات لقح. قال الزجّاج : معناه : ذات لقحة ؛ لأنها تعصر السحاب وتدرّه كما تدرّ اللقحة ؛ يقال رامح ، أي : ذو رمح ، ولابن ، أي : ذو لبن ، وتامر ، أي : ذو تمر. قال أبو عبيدة : لواقح بمعنى ملاقح ، ذهب إلى أنها جمع ملقحة. وفي هذه الآية تشبيه الرياح التي تحمل الماء بالحامل ، ولقاح الشجر بلقاح الحمل (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) أي : من السحاب ، وكلّ ما علاك فأظلّك فهو سماء ، وقيل : من جهة السماء ، والمراد بالماء هنا ماء المطر (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) أي : جعلنا ذلك المطر لسقياكم ولشرب مواشيكم وأرضكم. قال أبو عليّ : يقال سقيته الماء إذا أعطيته قدر ما يروى ؛ وأسقيته نهرا ، أي : جعلته شربا له ، وعلى هذا (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) أبلغ من سقيناكموه ؛ وقيل : سقى وأسقى بمعنى واحد (وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) أي : ليست خزائنه عندكم ، بل خزائنه عندنا ، ونحن الخازنون له ، فنفى عنهم سبحانه ما أثبته لنفسه في قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ). وقيل : المعنى : ما أنتم له بخازنين بعد أن أنزلناه عليكم ، أي : لا تقدرون على حفظه في الآبار والغدران والعيون ، بل نحن الحافظون له فيها ليكون ذخيرة لكم عند الحاجة إليه (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) أي : نوجد الحياة في المخلوقات ونسلبها عنها متى شئنا ، والغرض من ذلك الاستدلال بهذه الأمور على كمال قدرته عزوجل ، وأنه القادر على البعث والنشور والجزاء لعباده على حسب ما يستحقونه وتقتضيه مشيئته ، ولهذا قال : (وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) أي : للأرض ومن عليها ؛ لأنه سبحانه الباقي بعد فناء خلقه ، الحيّ الذي لا يموت ، الدائم الذي لا ينقطع وجوده ، (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١). (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) هذه اللام هي الموطئة للقسم ، وهكذا اللام في (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) ، والمراد من تقدّم ولادة وموتا ، ومن تأخر فيهما ؛ وقيل : من تقدّم طاعة ومن تأخر فيها ، وقيل : من تقدم في صف القتال ومن تأخر ؛ وقيل : المراد بالمستقدمين الأموات ، وبالمستأخرين الأحياء ؛ وقيل : المستقدمين هم الأمم المتقدّمون على أمة محمد ، والمستأخرون هم أمة محمد ، وقيل : المستقدمون من قتل في الجهاد ، والمستأخرون من لم يقتل. (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) وهو المتولي لذلك ، القادر عليه دون غيره ، كما يفيده ضمير الفصل من الحصر. وفيه أنه سبحانه يجازي المحسن بإحسانه ، والمسيئ بإساءته ؛ لأنه الأمر المقصود من الحشر (إِنَّهُ حَكِيمٌ) يجري الأمور على ما تقتضيه حكمته البالغة (عَلِيمٌ) أحاط علمه بجميع الأشياء لا يخفى عليه شيء منها ، ومن كان كذلك فله القدرة البالغة على كلّ شيء ممّا وسعه علمه ، وجرى فيه حكمه سبحانه لا إله إلا هو.

__________________

(١). آل عمران : ١٨٠.

١٥٣

وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) قال : كواكب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح قال : الكواكب العظام. وأخرج أيضا عن عطية قال : قصورا في السماء فيها الحرس. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال الرجيم : الملعون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) أراد أن يخطف السمع كقوله : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) (١). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحّاك قال : كان ابن عباس يقول : إن الشهب لا تقتل ، ولكن تحرق وتخبل وتجرح من غير أن تقتل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في قوله : (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) قال : معلوم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) قال : بقدر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد قال : الأشياء التي توزن. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : ما أنبتت الجبال مثل الكحل وشبهه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) قال : الدوابّ والأنعام. وأخرج هؤلاء عن منصور قال : الوحش. وأخرج البزار وابن مردويه ، وأبو الشيخ في العظمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خزائن الله الكلام ، فإذا أراد شيئا قال له كن فكان». وأخرج ابن جرير عن ابن جريج في قوله : (إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) قال : المطر خاصة. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : ما نقص المطر منذ أنزله الله ، ولكن تمطر أرض أكثر مما تمطر أخرى ، ثم قرأ (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ). وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن مسعود قال : ما من عام بأمطر من عام ، ولكنّ الله يصرفه حيث يشاء ، ثم قرأ : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ). وأخرجه ابن مردويه عنه مرفوعا.

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود في قوله : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) قال : يرسل الله الريح فتحمل الماء ، فتلقح به السحاب ، فتدرّ كما تدرّ اللقحة ، ثم تمطر. وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عبيد بن عمير قال : يبعث الله المبشرة فتقمّ (٢) الأرض قمّا ، ثم يبعث المثيرة فتثير السحاب فتجعله كسفا ، ثم يبعث المؤلفة فتؤلف بينه فيجعله ركاما ، ثم يبعث اللواقح فتلقحه فتمطر. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه والديلمي بسند ضعيف عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ريح الجنوب من الجنة ، وهي الريح اللواقح التي ذكر الله في كتابه». وأخرج الطيالسي وسعيد بن منصور وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن خزيمة وابن حبّان والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، عن ابن عباس قال : «كانت امرأة تصلّي خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

__________________

(١). الصافات : ١٠.

(٢). «قمّ» : كنس.

١٥٤

حسناء من أحسن النساء ، فكان بعض القوم يتقدّم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها ، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر ، فإذا ركع نظر من تحت إبطيه ، فأنزل الله : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) ، وهذا الحديث هو من رواية أبي الجوزاء عن ابن عباس. وقد رواه عبد الرزاق وابن المنذر من قول أبي الجوزاء ، قال الترمذي : وهذا أشبه أن يكون أصح. وقال ابن كثير : في هذا الحديث نكارة شديدة.

وأخرج الحاكم وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : المستقدمين : الصفوف المقدّمة ، والمستأخرين : الصفوف المؤخرة. وقد وردت أحاديث كثيرة في أن خير صفوف الرجال أوّلها وشرها آخرها ، وخير صفوف النساء آخرها ، وشرّها أولها. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء ومقاتل بن حيان أن الآية في صفوف [الصلاة و] (١) القتال. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن قال : المستقدمين في طاعة الله ، والمستأخرين في معصية الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : يعني بالمستقدمين من مات ، وبالمستأخرين من هو حيّ لم يمت. وأخرج هؤلاء عنه أيضا قال : المستقدمين آدم ومن مضى من ذريته ، والمستأخرين في أصلاب الرجال. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة نحوه.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤))

المراد بالإنسان في قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) هو آدم لأنه أصل هذا النوع ، والصلصال قال أبو عبيدة : هو الطين المخلوط بالرمل الذي يتصلصل إذا حرّك ، فإذا طبخ في النار فهو الفخار. وهذا قول أكثر المفسرين. وقال الكسائي : هو الطين المنتن ، مأخوذ من قول العرب صلّ اللحم وأصلّ : إذا أنتن ؛ مطبوخا كان أو نيئا. قال الحطيئة :

ذاك فتى يبذل ذا قدره

لا يفسد اللحم لديه الصّلول

__________________

(١). من الدر المنثور (٥ / ٧٥)

١٥٥

والحمأ : الطين الأسود المتغير. أو الطين الأسود من غير تقييد بالمتغير. قال ابن السكّيت : تقول منه : حمئت البئر حمأ بالتسكين ؛ إذا نزعت حمأتها ، وحمئت البئر حمأ بالتحريك : كثرت حمأتها ، وأحمأتها إحماء : ألقيت فيها الحمأة. قال أبو عبيدة : الحمأة بسكون الميم مثل الكمأة يعني بالتحريك ، والجمع حمء مثل تمرة وتمر ، والحمأ المصدر مثل الهلع والجزع ، ثم سمّي به. والمسنون قال الفراء : هو المتغيّر ، وأصله من سننت الحجر على الحجر ؛ إذا حككته ، وما يخرج بين الحجرين يقال له السنانة والسّنين ، ومنه قول عبد الرحمن بن حسان :

ثم خاصرتها إلى القبّة الحم

راء (١) تمشي في مرمر مسنون

أي : محكوك ، ويقال : أسن الماء إذا تغير ، ومنه قوله : (لَمْ يَتَسَنَّهْ) (٢) وقوله : (ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) (٣). وكلا الاشتقاقين يدلّ على التغير ، لأن ما يخرج بين الحجرين لا يكون إلا منتنا. وقال أبو عبيدة : المسنون المصبوب ، وهو من قول العرب سننت الماء على الوجه ؛ إذا صببته ، والسنّ الصب. وقال سيبويه : المسنون المصوّر ، مأخوذ من سنّة الوجه ، وهي صورته ، ومنه قول ذي الرمة :

تريك سنّة وجه غير مقرفة

ملساء ليس بها خال ولا ندب (٤)

وقال الأخفش : المسنون المنصوب القائم ، من قولهم : وجه مسنون ؛ إذا كان فيه طول. والحاصل على هذه الأقوال أن التراب لما بلّ صار طينا ، فلما أنتن صار حمأ مسنونا ، فلما يبس صار صلصالا. فأصل الصلصال : هو الحمأ المسنون ، ولهذا وصف بهما (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) الجانّ أبو الجنّ عند جمهور المفسرين. وقال عطاء والحسن وقتادة ومقاتل : هو إبليس. وسمي جانا لتواريه عن الأعين. يقال : جن الشيء إذا ستره. فالجانّ يستر نفسه عن أعين بني آدم ، ومعنى من قبل : من قبل خلق آدم ، والسّموم : الريح الحادة النافذة في المسامّ ، تكون بالنهار وقد تكون بالليل ، كذا قال أبو عبيدة ، وذكر خلق الإنسان والجانّ في هذا الموضع للدلالة على كمال القدرة الإلهية ، وبيان أن القادر على النشأة الأولى قادر على النشأة الأخرى (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) الظرف منصوب بفعل مقدّر ، أي : اذكر ، بيّن سبحانه بعد ذكره الخلق الإنسان ما وقع عند خلقه له وقد تقدّم تفسير ذلك في البقرة ، والبشر مأخوذ من البشرة ، وهي ظاهر الجلد ، وقد تقدّم تفسير الصلصال والحمأ المسنون قريبا مستوفى. (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أي : سويت خلقه وعدلت صورته الإنسانية وكملت أجزائه (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) النفخ : إجراء الريح في تجاويف جسم آخر ؛ فمن قال : إن الروح جسم لطيف كالهواء فمعناه ظاهر ، ومن قال : إنه جوهر مجرد غير متحيز ولا حال في متحيز. فمعنى النفخ عنده تهيئة البدن لتعلّق النفس الناطقة به. قال النيسابوري : ولا خلاف في أن الإضافة في روحي للتشريف والتكريم ، مثل ناقة الله ، وبيت الله. قال القرطبي : والروح : جسم لطيف

__________________

(١). في لسان العرب : الخضراء.

(٢). البقرة : ٢٥٩.

(٣). محمد : ١٥.

(٤). «السنة» : الصورة. «المقرفة» : التي دنت من الهجينة. «خال» : شامة. «ندب» : الأثر من الجرح والقراح.

١٥٦

أجرى الله العادة بأن يخلق الحياة في البدن مع ذلك الجسم ، وحقيقته إضافة خلق إلى خالق ، فالروح خلق من خلقه أضافه إلى نفسه تشريفا وتكريما ، قال : ومثله : (وَرُوحٌ مِنْهُ) (١) ، وقد تقدّم في النساء (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) الفاء تدلّ على أن سجودهم واجب عليهم عقب التسوية والنفخ من غير تراخ ، وهو أمر بالوقوع من وقع يقع. وفيه دليل على أن المأمور به هو السجود لا مجرّد الانحناء كما قيل ، وهذا السجود هو سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة ، ولله أن يكرم من يشاء من مخلوقاته كيف يشاء بما يشاء ، وقيل : كان السجود لله تعالى وكان آدم قبلة لهم (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) أخبر سبحانه بأن الملائكة سجدوا جميعا عند أمر الله سبحانه لهم بذلك من غير تراخ ، قال المبرد : قوله : (كُلُّهُمْ) أزال احتمال أن بعض الملائكة لم يسجد ، وقوله : (أَجْمَعُونَ) توكيد بعد توكيد ، ورجّح هذا الزجّاج. قال النيسابوري : وذلك لأن أجمع معرفة فلا يقع حالا ولو صح أن يكون حالا لكان منتصبا ، ثم استثنى إبليس من الملائكة فقال : (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) قيل : هذا الاستثناء متصل لكونه كان من جنس الملائكة ، ولكنه أبى ذلك استكبارا واستعظاما لنفسه وحسدا لآدم ، فحقّت عليه كلمة الله ؛ وقيل : إنه لم يكن من الملائكة ، ولكنه كان معهم ، فغلب اسم الملائكة عليه وأمر بما أمروا به ، فكان الاستثناء بهذا الاعتبار متصلا ؛ وقيل : إن الاستثناء منفصل بناء على عدم كونه منهم ، وعدم تغليبهم عليه ، أي : ولكن إبليس أبى أن يكون مع الساجدين وقد تقدّم الكلام في هذا في سورة البقرة. وجملة (أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) استئناف مبين لكيفية ما فيهم من الاستثناء من عدم السجود ؛ لأنّ عدم السجود قد يكون مع التردّد ، فبيّن سبحانه أنه كان على وجه الإباء ، وجملة (قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) مستأنفة أيضا جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فماذا قال الله سبحانه لإبليس بعد أن أبى السجود؟ وهذا الخطاب له ليس للتشريف والتكريم ، بل للتقريع والتوبيخ ، والمعنى : أيّ غرض لك في الامتناع؟ وأيّ سبب حملك عليه على أن لا تكون مع الساجدين لآدم مع الملائكة؟ وهم في الشرف وعلوّ المنزلة والقرب من الله بالمنزلة التي قد علمتها ، وجملة (قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) مستأنفة كالتي قبلها ، جعل العلّة لترك سجوده كون آدم بشرا مخلوقا من صلصال من حمأ مسنون زعما منه أنه مخلوق من عنصر أشرف من عنصر آدم ، وفيه إشارة إجمالية في كونه خيرا منه. وقد صرّح بذلك في موضع آخر ، فقال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (٢) ، وقال في موضع آخر : (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) (٣) ، واللام في لأسجد لتأكيد النفي ، أي : لا يصح ذلك مني ، فأجاب الله سبحانه عليه بقوله : (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) والضمير في منها ، قيل : عائد إلى الجنة ، وقيل : إلى السماء ، وقيل : إلى زمرة الملائكة ، أي : فاخرج من زمرة الملائكة ؛ فإنك رجيم ، أي : مرجوم بالشهب. وقيل : معنى رجيم ملعون ، أي : مطرود ، لأن من يطرد يرجم بالحجارة (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) أي : عليك الطرد والإبعاد من رحمة الله سبحانه مستمرا عليك لازما لك إلى يوم الجزاء ، وهو يوم القيامة ، وجعل يوم الدين غاية للّعنة لا يستلزم انقطاعها

__________________

(١). النساء : ١٧١.

(٢). ص : ٧٦.

(٣). الإسراء : ٦١.

١٥٧

في ذلك الوقت ؛ لأنّ المراد دوامها من غير انقطاع ، وذكر يوم الدين للمبالغة ، كما في قوله تعالى : (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) (١) ، أو أن المراد أنه في يوم الدين وما بعده يعذب بما هو أشدّ من اللعن من أنواع العذاب ، فكأنه لا يجد له ما كان يجده قبل أن يمسّه العذاب (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) أي : أخّرني وأمهلني ولا تمتني إلى يوم يبعثون ؛ أي : آدم وذريته. طلب أن يبقى حيا إلى هذا اليوم لما سمع ذلك علم أن الله قد أخّر عذابه إلى الدّار الآخرة ، وكأنه طلب أن لا يموت أبدا ، لأنّه إذا أخّر موته إلى ذلك اليوم فهو يوم لا موت فيه ؛ وقيل : إنه لم يطلب أن لا يموت ، بل طلب أن يؤخّر عذابه إلى يوم القيامة ولا يعذّب في الدنيا (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) لما سأل الإنظار أجابه الله سبحانه إلى ما طلبه وأخبره بأنه من جملة من أنظره ممّن أخّر آجالهم من مخلوقاته ، أو من جملة من أخّر عقوبتهم بما اقترفوا ، ثم بيّن سبحانه الغاية التي أمهله إليها. فقال : (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وهو يوم القيامة ، فإن يوم الدين ويوم يبعثون ويوم الوقت المعلوم كلّها عبارات عن يوم القيامة ؛ وقيل : المراد بالوقت المعلوم هو الوقت القريب من البعث ، فعند ذلك يموت (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) الباء للقسم ، وما مصدرية ، وجواب القسم لأزينن لهم ، أي : أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم في الأرض ، أي : ما داموا في الدنيا ، والتزيين منه إما بتحسين المعاصي وإيقاعهم فيها ، أو بشغلهم بزينة الدنيا عن فعل ما أمرهم الله به فلا يلتفتون إلى غيرها. وإقسامه هاهنا بإغواء الله له لا ينافي إقسامه في موضع آخر بعزة الله التي هي سلطانه وقهره ؛ لأن الإغواء له هو من جملة ما تصدق عليه العزّة (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) أي : لأضلنهم عن طريق الهدى ، وأوقعهم في طريق الغواية وأحملهم عليها (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) قرأ أهل المدينة وأهل الكوفة بفتح اللام ، أي : الذين استخلصتهم من العباد. وقرأ الباقون بكسر اللام ، أي : الذين أخلصوا لك العبادة فلم يقصدوا بها غيرك (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) أي : حق عليّ أن أراعيه ، وهو أن لا يكون لك على عبادي سلطان. قال الكسائي : هذا على الوعيد والتهديد ، كقولك لمن تهدد : طريقك عليّ ومصيرك إليّ ، وكقوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) ، فكأنّ معنى هذا الكلام هذا طريق مرجعه إليّ فأجازي كلا بعمله ، وقيل : علي هنا بمعنى إليّ ؛ وقيل : المعنى علي أن أدلّ على الصراط المستقيم بالبيان والحجة ؛ وقيل : بالتوفيق والهداية. وقرأ ابن سيرين وقتادة والحسن وقيس بن عباد وأبو رجاء وحميد ويعقوب «هذا صراط عليّ» على أنه صفة مشبهة ، ومعناه رفيع (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) المراد بالعباد هنا هم المخلصون ، والمراد أنه لا تسلّط له عليهم بإيقاعهم في ذنب يهلكون به ولا يتوبون منه ، فلا ينافي هذا ما وقع من آدم وحواء ونحوهما ، فإنه ذنب مغفور لوقوع التوبة عنه (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) استثنى سبحانه من عباده هؤلاء ، وهم المتبعون لإبليس من الغاوين عن طريق الحقّ ، الواقعين في الضلال ، وهو موافق لما قاله إبليس اللعين من قوله : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ـ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) ، ويمكن أن يقال : إن بين الكلامين فرقا ، فكلام الله سبحانه فيه نفي سلطان إبليس على جميع عباده إلا من اتبعه من الغاوين ، فيدخل في ذلك المخلصون وغيرهم ممن لم يتبع إبليس من الغاوين ؛ وكلام

__________________

(١). هود : ١٠٧ ، ١٠٨.

١٥٨

إبليس اللعين يتضمّن إغواء الجميع إلا المخلصين ، فدخل فيهم من لم يكن مخلصا ولا تابعا لإبليس غاويا. والحاصل أنّ بين المخلصين والغاوين التابعين لإبليس طائفة لم تكن مخلصة ولا غاوية تابعة لإبليس ؛ وقد قيل : إن الغاوين المتبعين لإبليس هم المشركون ، ويدلّ على ذلك قوله تعالى : (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (١) ، ثم قال الله سبحانه متوعّدا لأتباع إبليس : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) أي : موعد المتبعين الغاوين ، وأجمعين تأكيد للضمير أو حال (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) يدخل أهل النار منها وإنما كانت سبعة لكثرة أهلها (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ) أي : من الأتباع الغواة (جُزْءٌ مَقْسُومٌ) أي : قدر معلوم متميز عن غيره ؛ وقيل : المراد بالأبواب الأطباق طبق فوق طبق ، وهي : جهنم ، ثم لظى ، ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية ؛ فأعلاها للموحدين ، والثانية لليهود ، والثالثة للنصارى ، والرابعة للصابئين ، والخامسة للمجوس ، والسادسة للمشركين ، والسابعة للمنافقين ، فجهنّم أعلى الطباق ، ثم ما بعدها تحتها ، ثم كذلك ، كذا قيل.

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر ، وأبو الشيخ في العظمة ، عن ابن عباس قال : خلق الإنسان من ثلاث من طين لازب وصلصال وحمأ مسنون ، فالطين اللازب : اللازم الجيد ، والصلصال : المدقّق الذي يصنع منه الفخار ، والحمأ المسنون : الطين الذي فيه الحمأة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه قال : الصلصال الماء يقع على الأرض الطيبة ثم يحسر عنها فتشقق ثم تصير مثل الخزف الرقاق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : الصلصال هو التراب اليابس الذي يبلّ بعد يبسه. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا : قال : الصلصال طين خلط برمل. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا. قال : الصلصال الذي إذا ضربته صلصل. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا. قال : الصلصال : الطين تعصر بيدك فيخرج الماء من بين أصابعك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) قال : من طين رطب. وأخرج هؤلاء عنه أيضا : (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) قال : من طين منتن. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : الجان مسيخ الجنّ ، كالقردة والخنازير مسيخ الإنس. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة : قال : الجانّ. هو إبليس خلق من قبل آدم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) قال : من أحسن النار. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : نار السموم : الحارة التي تقتل. وأخرج الطيالسي والفريابي وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن مسعود قال : السموم التي خلق منها الجانّ جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ، ثم قرأ : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) وأخرج ابن مردويه عنه مرفوعا.

وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) قال :

__________________

(١). النحل : ١٠٠.

١٥٩

أراد إبليس أن لا يذوق الموت فقيل إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم ، قال : النفخة الأولى يموت فيها إبليس ، وبين النفخة والنفخة أربعون سنة. وأخرج أبو عبيدة وابن جرير وابن المنذر عن ابن سيرين (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) أي : رفيع. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) بعدد أطباق جهنم كما قدّمنا. وأخرج ابن المبارك وابن أبي شيبة ، وأحمد في الزهد ، وهناد وعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا في صفة النار ، وابن جرير وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث ، من طرق عن عليّ قال : أطباق جهنم سبعة بعضها فوق بعض ، فيملأ الأوّل ، ثم الثاني ، ثم الثالث حتى تملأ كلها. وأخرج البخاري في تاريخه ، والترمذي وابن مردويه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بجهنّم سبعة أبواب : باب منها لمن سلّ السّيف على أمتي». وقد ورد في صفة النار أحاديث وآثار. وأخرج ابن مردويه ، والخطيب في تاريخه ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «في قوله تعالى : (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) قال : جزء أشركوا بالله ، وجزء شكّوا في الله ، وجزء غفلوا عن الله».

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦))

قوله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أي : المتقين للشرك بالله كما قاله جمهور الصحابة والتابعين ، وقيل : هم الذين اتقوا جميع المعاصي في جنات وهي البساتين ، وعيون وهي الأنهار. قرئ بضم العين من عيون على الأصل ، وبالكسر مراعاة للياء ، والتركيب يحتمل أن يكون لجميع المتقين جنات وعيون ، أو لكل واحد منهم جنات وعيون ، أو لكل واحد منهم جنة وعين (ادْخُلُوها) قرأ الجمهور بلفظ الأمر على تقدير القول ، أي : قيل لهم ادخلوها. وقرأ الحسن وأبو العالية ، وروي عن يعقوب ؛ بضم الهمزة مقطوعة ، وفتح الخاء ، على أنه فعل مبني للمفعول ، أي : أدخلهم الله إياها. وقد قيل : إنهم إذا كانوا في جنات وعيون ،

١٦٠