فتح القدير - ج ٣

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٣

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٧

بتلك العين يقولون هذا الذي راود امرأة العزيز ، وإنما قال : (فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ) وسكت عن امرأة العزيز رعاية لذمام الملك العزيز ، أو خوفا منه من كيدها وعظيم شرّها ، وذكر السؤال عن تقطيع الأيدي ولم يذكر مراودتهنّ له ، تنزها منه عن نسبة ذلك إليهنّ ، ولذلك لم ينسب المراودة فيما تقدّم إلى امرأة العزيز إلا بعد أن رمته بدائها وانسلت. وقد اكتفى هنا بالإشارة الإجمالية بقوله : (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) فجعل علم الله سبحانه بما وقع عليه من الكيد منهنّ مغنيا عن التصريح ، وجملة (قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فماذا قال الملك بعد أن أبلغه الرسول ما قال يوسف؟ والخطب : الشأن العظيم الذي يحق له أن يخاطب فيه صاحبه خاصة. والمعنى : ما شأنكنّ إذ راودتنّ يوسف عن نفسه. وقد تقدّم معنى المراودة ، وإنما نسب إليهنّ المراودة ؛ لأن كل واحدة منهن وقع منها ذلك كما تقدم ، ومن جملة من شمله خطاب الملك امرأة العزيز ؛ أو أراد بنسبة ذلك إليهنّ وقوعه منهنّ في الجملة كما كان من امرأة العزيز تحاشيا عن التصريح منه بنسبة ذلك إليها لكونها امرأة وزيره وهو العزيز ، فأجبن عليه بقولهنّ (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) أي معاذ الله (ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) أي من أمر سيئ ينسب إليه ، فعند ذلك (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) منزهة لجانبه ، مقرّة على نفسها بالمراودة له (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) أي تبين وظهر. وأصله حصص ، فقيل حصحص كما قيل في كببوا كبكبوا ، قاله الزّجّاج ، وأصل الحصّ : استئصال الشيء ، يقال : حصّ شعره : إذا استأصله ، ومنه قول أبي قيس بن الأسلت :

قد حصّت البيضة رأسي فما

أطعم نوما غير تهجاع (١)

والمعنى أنه انقطع الحق عن الباطل بظهوره وبيانه ، ومنه :

فمن مبلغ عنّي خداشا فإنّه

كذوب إذا ما حصحص الحقّ ظالم

وقيل : هو مشتق من الحصّة. والمعنى : بانت حصّة [الحق من حصة] (٢) الباطل. قال الخليل : معناه ظهر الحق بعد خفائه ، ثم أوضحت ذلك بقولها : (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) ولم تقع منه المراودة لي أصلا (وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) فيما قاله من تبرئة نفسه ونسبة المراودة إليها ، وأرادت ب (الْآنَ) زمان تكلمها بهذا الكلام. قوله : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) ذهب أكثر المفسرين إلى أن هذا من كلام يوسف عليه‌السلام قال الفراء : ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر إذا دلت القرينة الصّارفة لكلّ منهما إلى ما يليق به ، والإشارة إلى الحادثة الواقعة منه ، وهي تثبّته وتأنّيه ؛ أي فعلت ذلك ليعلم العزيز أني لم أخنه في أهله بالغيب ؛ والمعنى بظهر الغيب ، والجار والمجرور في محل نصب على الحال ؛ أي : وهو غائب عني ، أو وأنا غائب عنه. قيل : إنه قال ذلك وهو في السجن بعد أن أخبره الرسول بما قالته النسوة ، وما قالته امرأة العزيز ؛ وقيل : إنه قال ذلك وقد صار عند الملك ، والأوّل أولى. وذهب الأقلّون من المفسرين إلى أن هذا من كلام

__________________

(١). «البيضة» : الخوذة. «التهجاع» : النومة الخفيفة.

(٢). ما بين معقوفتين من تفسير القرطبي (٩ / ٢٠٨)

٤١

امرأة العزيز ؛ والمعنى : ذلك القول الذي قلته في تنزيهه ، والإقرار على نفسي بالمراودة ليعلم يوسف أني لم أخنه فأنسب إليه ما لم يكن منه وهو غائب عني ، أو وأنا غائبة عنه (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) أي لا يثبته ويسدّده ، أو لا يهديهم في كيدهم حتى يوقعوه على وجه يكون له تأثير يثبت به ويدوم ، وإذا كان من قول يوسف ففيه تعريض بامرأة العزيز حيث وقع منها الكيد له والخيانة لزوجها ، وتعريض بالعزيز حيث ساعدها على حبسه بعد أن علم براءته ونزاهته (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) إن كان من كلام يوسف فهو من باب الهضم للنفس ، وعدم التزكية بها مع أنه قد علم هو وغيره من الناس أنه بريء ، وظهر ذلك ظهور الشمس ، وأقرّت به المرأة التي ادّعت عليه الباطل ، ونزهته النسوة اللاتي قطعن أيديهنّ ، وإن كان من كلام امرأة العزيز فهو واقع على الحقيقة ؛ لأنها قد أقرّت بالذنب ، واعترفت بالمراودة وبالافتراء على يوسف. وقد قيل : إن هذا من قول العزيز ، وهو بعيد جدّا ؛ ومعناه : وما أبرئ نفسي من سوء الظن بيوسف ، والمساعدة على حبسه بعد أن علمت ببراءته (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) أي إن هذا الجنس من الأنفس البشرية شأنه الأمر بالسوء لميله إلى الشهوات ، وتأثيرها بالطبع ، وصعوبة قهرها ، وكفها عن ذلك (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) أي إلا من رحم من النفوس فعصمها عن أن تكون أمارة بالسوء ، أو إلا وقت رحمة ربي وعصمته لها ، وقيل : الاستثناء منقطع ؛ والمعنى : لكن رحمة ربي هي التي تكفّها عن أن تكون أمارة بالسوء ، وجملة (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) تعليل لما قبلها ، أي : إن من شأنه كثرة المغفرة لعباده والرحمة لهم. قوله : (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) الملك هو الريان بن الوليد لا العزيز كما تقدّم ؛ ومعنى (أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) : أجعله خالصا لي دون غيري ، وقد كان قبل ذلك خالصا للعزيز ، والاستخلاص : طلب خلوص الشيء من شوائب الشركة ، قال ذلك لما كان يوسف نفيسا ، وعادة الملوك أن يجعلوا الأشياء النفيسة خالصة لهم دون غيرهم (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) في الكلام حذف ، وتقديره فأتوه به فلما كلمه ، أي : فلما كلم الملك يوسف ، ويحتمل أن يكون المعنى : فلما كلم يوسف الملك. قيل : والأوّل أولى ؛ لأن مجالس الملوك لا يتكلم فيها ابتداء إلا هم دون من يدخل عليهم ؛ وقيل : الثاني أولى ؛ لقول الملك (قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) فإن هذا يفيد أنه لما تكلم يوسف في مقام الملك جاء بما حببه إلى الملك ، وقرّبه من قلبه ، فقال له هذه المقالة ، ومعنى مكين : ذو مكانة وأمانة بحيث يتمكن مما يريده من الملك ويأمنه الملك على ما يطلع عليه من أمره ، أو على ما يكله إليه من ذلك. قيل : إنه لما وصل إلى الملك أجلسه على سريره ، وقال له : إني أحبّ أن أسمع منك تعبير رؤياي ، فعبرها له بأكمل بيان وأتمّ عبارة ، فلما سمع الملك منه ذلك قال له : (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) فلما سمع يوسف منه ذلك (قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) أي ولني أمر الأرض التي أمرها إليك وهي أرض مصر ، أو اجعلني على حفظ خزائن الأرض ، وهي الأمكنة التي تخزن فيها الأموال ، طلب يوسف عليه‌السلام منه ذلك ليتوصل به إلى نشر العدل ورفع الظلم ، ويتوصل به إلى دعاء أهل مصر إلى الإيمان بالله وترك عبادة الأوثان ، وفيه دليل على أنه يجوز لمن وثق من نفسه إذا دخل في أمر من أمور السلطان أن يرفع منار الحق ويهدم ما أمكنه من الباطل ، طلب ذلك لنفسه ، ويجوز له أن يصف نفسه بالأوصاف التي

٤٢

لها ترغيبا فيما يرومه ، وتنشيطا لمن يخاطبه من الملوك بإلقاء مقاليد الأمور إليه وجعلها منوطة به ، ولكنه يعارض هذا الجواز ما ورد عن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من النهي عن طلب الولاية والمنع من تولية من طلبها أو حرص عليها. والخزائن : جمع خزانة ، وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء والحفيظ : الذي يحفظ الشيء ، أي : (إِنِّي حَفِيظٌ) لما جعلته إليّ من حفظ الأموال لا أخرجها في غير مخارجها ، ولا أصرفها في غير مصارفها (عَلِيمٌ) بوجود جمعها وتفريقها ومدخلها ومخرجها (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ) أي : ومثل ذلك التمكين العجيب مكّنّا ليوسف في الأرض ، أي : جعلنا له مكانا ، وهو عبارة عن كمال قدرته ونفوذ أمره ونهيه حتى صار الملك يصدر عن رأيه ، وصار الناس يعملون على أمره ونهيه (يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) أي : ينزل منها حيث أراد ويتخذه مباءة ، وهو عبارة عن كمال قدرته كما تقدّم ، وكأنه يتصرف في الأرض التي أمرها إلى سلطان مصر كما يتصرف الرجل في منزله. وقرأ ابن كثير بالنون. وقد استدل بهذه الآية على أنه يجوز تولّي الأعمال من جهة السلطان الجائر بل الكافر لمن وثق من نفسه بالقيام بالحق. وقد قدّمنا الكلام على هذا مستوفى في قوله سبحانه : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) (١). (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) من العباد فنرحمه في الدنيا بالإحسان إليه والإنعام عليه ، وفي الآخرة بإدخاله الجنة وإنجائه من النار (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) في أعمالهم الحسنة التي هي مطلوب الله منهم ، أي : لا نضيع ثوابهم فيها ، ومجازاتهم عليها (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ) أي أجرهم في الآخرة ، وأضيف الأجر إلى الآخرة للملابسة ، وأجرهم هو الجزاء الذي يجازيهم الله به فيها ، وهو الجنة التي لا ينفد نعيمها ولا تنقضي مدّتها (خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا) بالله (وَكانُوا يَتَّقُونَ) الوقوع فيما حرّمه عليهم ، والمراد بهم المحسنون المتقدّم ذكرهم ، وفيه تنبيه على أن الإحسان المعتدّ به هو الإيمان والتقوى.

وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (ما بالُ النِّسْوَةِ) قال : أراد يوسف العذر قبل أن يخرج من السجن. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، والبيهقي في الشعب ، عنه قال : لما قالت امرأة العزيز : أنا راودته ، قال يوسف : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) فغمزه جبريل فقال : ولا حين هممت بها؟ فقال : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا : (حَصْحَصَ الْحَقُ) قال : تبين. وأخرج ابن جرير عن مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد والسدّي مثله. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن حكيم بن حزام في قوله : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) فقال له جبريل : ولا حين حللت السراويل؟ فقال عند ذلك (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي). وأخرج ابن عبد الحكم في «فتوح مصر» من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله : (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) قال : فأتاه الرسول فقال : ألق عنك ثياب السجن ، والبس ثيابا جددا ، وقم إلى الملك ، فدعا له أهل السجن وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة ، فلما أتاه رأى غلاما حدثا ، فقال : أيعلم هذا رؤياي ولا يعلمها السّحرة والكهنة؟ وأقعده قدّامه وقال : لا تخف ، وألبسه طوقا من ذهب وثياب حرير ،

__________________

(١). هود : ١١٣.

٤٣

وأعطاه دابة مسروجة مزينة كدابة الملك ، وضرب الطبل بمصر : إن يوسف خليفة الملك. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : قال الملك ليوسف : إني أحبّ أن تخالطني في كلّ شيء إلا في أهلي ، وأنا آنف أن تأكل معي ، فغضب يوسف وقال : أنا أحق أن آنف ، أنا ابن إبراهيم خليل الله ، وأنا ابن إسحاق ذبيح الله ، وأنا ابن يعقوب نبيّ الله.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن شيبة بن نعامة الضبي في قوله : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) يقول على جميع الطعام (إِنِّي حَفِيظٌ) لما استودعتني (عَلِيمٌ) بسني المجاعة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) قال : ملكناه فيها يكون فيها حيث يشاء من تلك الدنيا يصنع فيها ما يشاء. وأخرج أبو الشيخ عن زيد بن أسلم : أن يوسف تزوج امرأة العزيز فوجدها بكرا ، وكان زوجها عنينا.

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦))

قوله : (وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) أي جاءوا إلى مصر من أرض كنعان ليمتاروا لما أصابهم القحط (فَدَخَلُوا) على يوسف (فَعَرَفَهُمْ) لأنه فارقهم رجالا (وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) لأنّهم فارقوه صبيا يباع بالدراهم في أيدي السّيّارة بعد أن أخرجوه من الجبّ ، ودخلوا عليه الآن وهو رجل عليه أبهة الملك ، ورونق الرئاسة ، وعنده الخدم والحشم ، وقيل : إنهم أنكروه لكونه كان في تلك الحال على هيئة ملك مصر ، ولبس تاجه وتطوّق بطوقه ، وقيل : كانوا بعيدا منه فلم يعرفوه ؛ وقيل غير ذلك (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) المراد به هنا أنه أعطاهم ما طلبوه من الميرة وما يصلحون به سفرهم من العدّة التي يحتاجها المسافر ، يقال : جهزت القوم تجهيزا ؛ إذا تكلّفت لهم جهازا للسفر. قال الأزهري : القراء كلّهم على فتح الجيم ، والكسر لغة جيدة (قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) قيل : لا بدّ من كلام ينشأ عنه طلبه لهم بأن يأتوه بأخ لهم من أبيهم ، فروي أنه لما رآهم وكلّموه بالعبرانية قال لهم : ما أنتم؟ وما شأنكم؟ فإني أنكركم ، فقالوا : نحن قوم من

٤٤

أهل الشام ، جئنا نمتار ، ولنا أب شيخ صديق نبيّ من الأنبياء اسمه يعقوب. قال : كم أنتم؟ قالوا : عشرة ، وقد كنا اثني عشر ، فذهب أخ لنا إلى البرية فهلك ، وكان أحبنا إلى أبينا ، وقد سكن بعده إلى أخ له أصغر منه هو باق لديه يتسلى به ، فقال لهم حينئذ : (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) يعني أخاه بنيامين الذي تقدّم ذكره ، وهو أخو يوسف لأبيه وأمه ، فوعدوه بذلك ، فطلب منهم أن يتركوا أحدهم رهينة عنده حتى يأتوه بالأخ الذي طلبه ، فاقترعوا فأصابت القرعة شمعون فخلّفوه عنده ، ثم قال لهم : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) أي أتممه. وجاء بصيغة الاستقبال مع كونه قال لهم هذه المقالة بعد تجهيزهم للدلالة على أن ذلك عادته المستمرّة ، ثم أخبرهم بما يزيدهم وثوقا به وتصديقا لقوله ، فقال : (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) أي : والحال أني خير المنزلين لمن نزل بي كما فعلته بكم من حسن الضيافة وحسن الإنزال. قال الزجاج : قال يوسف : (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) لأنه حين أنزلهم أحسن ضيافتهم ، ثم توعّدهم إذا لم يأتوه به فقال : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) أي فلا أبيعكم شيئا فيما بعد ، وأما في الحال فقد أوفاهم كيلهم ، ومعنى (لا تَقْرَبُونِ) : لا تدخلون بلادي فضلا عن أن أحسن إليكم. وقيل : معناه : لا أنزلكم عندي كما أنزلتكم هذه المرّة. ولم يرد أنهم لا يقربون بلاده ، وتقربون مجزوم إما على أن لا ناهية أو على أنها نافية ، وهو معطوف على محل الجزاء داخل في حكمه ، كأنّه قال : فإن لم تأتوني تحرموا ولا تقربوا ، فلما سمعوا منه ذلك وعدوه بما طلبه منهم ف (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) أي سنطلبه منه ، ونجتهد في ذلك بما نقدر عليه. وقيل : معنى المراودة هنا : المخادعة منهم لأبيهم والاحتيال عليه حتى ينتزعوه منه (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) هذه المراودة غير مقصرين فيها. وقيل : معناه : وإنا لقادرون على ذلك ، لا نتعانى به ولا نتعاظمه (وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم من رواية شعبة وابن عامر «لفتيته» ، واختار هذه القراءة أبو حاتم والنحاس وغيرهما ، وقرأ سائر الكوفيين «لفتيانه» ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود كالقراءة الآخرة ، قال النحّاس : لفتيانه مخالف للسواد الأعظم ، ولا يترك السواد المجمع عليه لهذا الإسناد المنقطع ، وأيضا فإن فتية أشبه من فتيان ، لأن فتية عند العرب لأقل العدد ، وأمر القليل بأن يجعلوا البضاعة في الرحال أشبه ، والجملة مستأنفة جواب سؤال ، كأنه قيل : فما قال يوسف بعد وعدهم له بذلك؟ فأجيب بأنه قال لفتيته. قال الزّجّاج : الفتية والفتيان في هذا الموضع المماليك ، وقال الثعلبي : هما لغتان جيدتان مثل الصبيان والصبية. والمراد بالبضاعة هنا هي التي وصلوا بها من بلادهم ليشتروا بها الطعام ، وكانت نعالا وأدما ، فعل يوسف عليه‌السلام ذلك تفضلا عليهم ؛ وقيل : فعل ذلك ليرجعوا إليه مرة أخرى لعلمه أنهم لا يقبلون الطعام إلا بثمن ، قاله الفراء ؛ وقيل فعل ذلك ليستعينوا بها على الرجوع إليه لشراء الطعام ؛ وقيل : إنه استقبح أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمن الطعام ، ثم علّل يوسف عليه‌السلام ما أمر به من جعل البضاعة في رحالهم بقوله : (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ) فجعل علّة جعل البضاعة في الرحال هي معرفتهم لها إذا انقلبوا إلى أهلهم ، وذلك لأنهم لا يعلمون بردّ البضاعة إليهم إلا عند تفريغ الأوعية التي جعلوا فيها الطعام ، وهم لا يفرغونها إلا عند الوصول إلى أهلهم ، ثم علّل معرفتهم للبضاعة المردودة إليهم المجعولة في رحالهم بقوله :

٤٥

(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) فإنهم إذا عرفوا ذلك وعلموا أنهم أخذوا الطعام بلا ثمن ، وأن ما دفعوه عوضا عنه قد رجع إليهم ، وتفضّل به من وصلوا إليه عليهم نشطوا إلى العود إليه ، ولا سيما مع ما هم فيه من الجدب الشديد والحاجة إلى الطعام وعدم وجوده لديهم ، فإن ذلك من أعظم ما يدعوهم إلى الرجوع ، وبهذا يظهر أن يوسف عليه‌السلام لم يردّ البضاعة إليهم إلا لهذا المقصد ، وهو رجوعهم إليه فلا يتمّ تعليل ردّها بغير ذلك. والرّحال : جمع رحل ، والمراد به هنا ما يستصحبه الرجل معه من الأثاث. قال الواحدي : الرّحل : كلّ شيء معدّ للرحيل من وعاء للمتاع ومركب للبعير ومجلس ورسن انتهى. والمراد هنا الأوعية التي يجعلون فيها ما يمتارونه من الطعام. قال ابن الأنباري : يقال للوعاء رحل ، وللبيت رحل (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) أرادوا بهذا ما تقدّم من قول يوسف لهم : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) أي : منع منا الكيل في المستقبل ، وفيه دلالة على أن الامتيار مرة بعد مرة معهود فيما بينهم وبينه ، ولعلهم قالوا له بهذه المقالة قبل أن يفتحوا متاعهم ويعلموا بردّ بضاعتهم ، كما يفيد ذلك قوله فيما بعد : (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ) إلى آخره ، ثم ذكروا له ما أمرهم به يوسف ، فقالوا : (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا) يعنون بنيامين و (نَكْتَلْ) جواب الأمر ، أي : نكتل بسبب إرساله معنا ما نريده من الطعام. قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وابن عامر وعاصم «نكتل» بالنون. وقرأ سائر الكوفيين بالياء التحتية ، واختار أبو عبيد القراءة الأولى ، وقال : ليكونوا كلهم داخلين فيمن يكتال ، وزعم أنه إذا كان بالياء كان للأخ وحده ، أي : يكتال أخونا بنيامين ، واعترضه النحاس مما حاصله أن إسناد الكيل إلى الأخ لا ينافي كونه للجميع ، والمعنى : يكتال بنيامين لنا جميعا. قال الزجّاج : أي إن أرسلته اكتلنا وإلا منعنا الكيل (وَإِنَّا لَهُ) أي لأخيهم بنيامين (لَحافِظُونَ) من أن يصيبه سوء أو مكروه ، وجملة (قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) مستأنفة جواب سؤال مقدّر كما تقدّم في نظائر ذلك في مواضع كثيرة ، والمعنى : أنه لا يأمنهم على بنيامين إلا كما أمنهم على أخيه يوسف ، وقد قالوا له في يوسف : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١) ، كما قالوا هنا : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ثم خانوه في يوسف ، فهو إن أمنهم في بنيامين خاف أن يخونوه فيه كما خانوه في يوسف (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) لعل هنا إضمار ، والتقدير : فتوكل يعقوب على الله ودفعه إليهم ، وقال : فالله خير حافظا. وقرأ أهل المدينة «حفظا» وهو منتصب على التمييز ، وهي قراءة أبي عمرو وعاصم وابن عامر. وقرأ سائر الكوفيين «حافظا» وهو منتصب على الحال. وقال الزّجّاج : على البيان يعني التمييز ؛ ومعنى الآية : أن حفظ الله إياه خير من حفظهم له ، لما وكل يعقوب حفظه إلى الله سبحانه حفظه وأرجعه إليه ، ولما قال في يوسف : (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) (٢) وقع له من الامتحان ما وقع. (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ) أي : أوعية الطعام ، أو ما هو أعمّ من ذلك مما يطلق عليه لفظ المتاع سواء كان الذي فيه طعاما أو غير طعام (وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ) أي : البضاعة التي حملوها إلى مصر ليمتاروا بها ، وقد تقدّم بيانها ، وجملة (قالُوا يا أَبانا) مستأنفة كما تقدّم (ما نَبْغِي) ما استفهامية ، والمعنى : أيّ شيء نطلب من هذا الملك بعد أن صنع معنا ما صنع من الإحسان

__________________

(١). يوسف : ١٢.

(٢). يوسف : ١٣.

٤٦

بردّ البضاعة والإكرام عند القدوم إليه ، وتوفير ما أردناه من الميرة؟ ويكون الاستفهام للإنكار ، وجملة (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) مقرّرة لما دلّ عليه الاستفهام من الإنكار لطلب شيء مع كونها قد ردّت إليهم ؛ وقيل : إن «ما» في (ما نَبْغِي) نافية ، أي : ما نبغي في القول وما نتزيد فيما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا وإكرامه لنا ، ثم برهنوا على ما لقوه من التزيد في وصف الملك بقولهم : (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) فإنّ من تفضل عليهم بردّ ذلك حقيق بالثناء عليه منهم ، مستحق لما وصفوه به ، ومعنى (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) نجلب إليهم الميرة وهي الطعام ، والمائر : الذي يأتي بالطعام. وقرأ السلمي بضم النون ، وهو معطوف على مقدر يدلّ عليه السياق ، والتقدير : هذه بضاعتنا ردّت إلينا فنحن نستعين بها على الرجوع ونمير أهلنا (وَنَحْفَظُ أَخانا) بنيامين ممّا تخافه عليه (وَنَزْدادُ) بسبب إرساله معنا (كَيْلَ بَعِيرٍ) أي حمل بعير زائد على ما جئنا به هذه المرة ؛ لأنه كان يكال لكل رجل وقر بعير ، ومعنى (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) أن زيادة كيل بعير لأخينا يسهل على الملك ، ولا يمتنع علينا من زيادته له لكونه يسيرا لا يتعاظمه ولا يضايقنا فيه ؛ وقيل : إن المعنى : ذلك المكيل لأجلنا قليل نريد أن ينضاف إليه حمل بعير لأخينا. واختار الزّجّاج الأوّل. وقيل : إن هذا من كلام يعقوب جوابا على ما قاله أولاده : (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) يعني إن حمل بعير شيء يسير لا يخاطر لأجله بالولد ، وهو ضعيف ؛ لأن جواب يعقوب هو (قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) أي حتى تعطوني ما أثق به وأركن إليه من جهة الله سبحانه ، وهو الحلف به ، واللام في (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) جواب القسم ، لأن معنى (حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) : حتى تحلفوا بالله لتأتني به ، أي : لتردّن بنيامين إليّ ، والاستثناء بقوله : (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) هو من أعمّ العام ، لأنّ (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) وإن كان كلاما مثبتا فهو في معنى النفي ، فكأنه قال : لا تمنعون من إتياني به في حال من الأحوال لعلة من العلل إلا لعلة الإحاطة بكم ، والإحاطة مأخوذة من إحاطة العدوّ ، ومن أحاط به العدوّ فقد غلب أو هلك ، فأخذ يعقوب عليهم العهد بأن يأتوه ببنيامين إلا أن يغلبوا عليه أو يهلكوا دونه ، فيكون ذلك عذرا لكم عندي (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ) أي أعطوه ما طلبه منهم من اليمين (قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) أي : قال يعقوب : الله على ما قلناه من طلبي الموثق منكم وإعطائكم لي ما طلبته منكم مطلع رقيب لا يخفى عليه منه خافية ، فهو المعاقب لمن خاس في عهده وفجر في الحلف به ، أو موكول إليه القيام بما شهد عليه منا.

وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : إنّ إخوة يوسف لما دخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون ، جاء بصواع الملك الذي كان يشرب فيه ، فوضعه على يده فجعل ينقره ويطنّ ، وينقره ويطنّ ، فقال : إن هذا الجام ليخبرني عنكم خبرا ، هل كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف؟ وكان أبوه يحبه دونكم ، وإنكم انطلقتم به فألقيتموه في الجب وأخبرتم أباكم أن الذئب أكله ، وجئتم على قميصه بدم كذب؟ قال : فجعل بعضهم ينظر إلى بعض ويعجبون. وأخرج أبو الشيخ عن وهيب قال : لما جعل يوسف ينقر الصواع ويخبرهم قام إليه بعض إخوته فقال : أنشدك بالله أن لا تكشف لنا عورة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) قال : يعني بنيامين ، وهو أخو يوسف لأبيه وأمه

٤٧

وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) قال : خير من يضيف بمصر. وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله : (لِفِتْيانِهِ) أي لغلمانه (اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ) أي أوراقهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) يقولون : ما نبغي وراء هذا (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) أي حمل بعير. وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) قال : حمل حمار ، قال : وهي لغة ، قال أبو عبيد : يعني مجاهدا أن الحمار يقال له في بعض اللغات بعير. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) قال : تهلكوا جميعا ، وفي قوله : (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ) قال : عهدهم. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) قال : إلا أن تغلبوا حتّى لا تطيقوا ذلك.

(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦))

لما تجهز أولاد يعقوب للمسير إلى مصر خاف عليهم أبوهم أن تصيبهم العين ؛ لكونهم كانوا ذوي جمال ظاهر وثياب حسنة مع كونهم أولاد رجل واحد. فنهاهم أن يدخلوا مجتمعين من باب واحد لأن في ذلك مظنة لإصابة الأعين لهم ، وأمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرّقة ، ولم يكتف بقوله : (لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ) عن قوله : (وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) لأنهم لو دخلوا من بابين مثلا كانوا قد امتثلوا النية عن الدخول من باب واحد ، ولكنه لما كان في الدخول من بابين مثلا نوع اجتماع يخشى معه أن تصيبهم العين أمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة ، قيل : وكانت أبواب مصر أربعة.

وقد أنكر بعض المعتزلة كأبي هاشم والبلخي أنّ للعين تأثيرا ، وقالا : لا يمتنع أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به كانت المصلحة له في تكليفه أن يغير الله ذلك الشيء حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف معلقا

٤٨

به. وليس هذا بمستنكر من هذين وأتباعهما ، فقد صار دفع أدلة الكتاب والسنة بمجرد الاستبعادات العقلية دأبهم وديدنهم ، وأيّ مانع من إصابة العين بتقدير الله سبحانه لذلك؟ وقد وردت الأحاديث الصحيحة بأنّ العين حقّ ، وأصيب بها جماعة في عصر النبوّة ، ومنهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأعجب من إنكار هؤلاء لما وردت به نصوص هذه الشريعة ما يقع من بعضهم من الإزراء على من يعمل بالدليل المخالف لمجرد الاستبعاد العقلي والتنطع في العبارات كالزمخشري في تفسيره ؛ فإنه في كثير من المواطن لا يقف على دفع دليل الشرع بالاستبعاد الذي يدّعيه على العقل حتى يضمّ إلى ذلك الوقاحة في العبارة على وجه يوقع المقصرين في الأقوال الباطلة والمذاهب الزائفة. وبالجملة فقول هؤلاء مدفوع بالأدلّة المتكاثرة وإجماع من يعتدّ به من هذه الأمة سلفا وخلفا ، وبما هو مشاهد في الوجود ، فكم من شخص من هذا النوع الإنساني وغيره من أنواع الحيوان هلك بهذا السبب.

وقد اختلف العلماء فيمن عرف بالإصابة بالعين ، فقال قوم : يمنع من الاتصال بالناس دفعا لضرره بحبس أو غيره من لزوم بيته ، وقيل : ينفى ؛ وأبعد من قاله إنه يقتل إلا إذا كان يتعمد ذلك وتتوقف إصابته على اختياره وقصده ولم ينزجر عن ذلك ، فإنه إذا قتل كان له حكم القاتل. ثم قال يعقوب لأولاده : (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي لا أدفع عنكم ضررا ولا أجلب إليكم نفعا بتدبيري هذا ، بل ما قضاه الله عليكم فهو واقع لا محالة. قال الزّجّاج وابن الأنباري : لو سبق في علم الله أن العين تهلكهم مع الاجتماع لكان تفرّقهم كاجتماعهم. وقال آخرون : ما كان يغني عنهم يعقوب شيئا قطّ حيث أصابهم ما أصابهم مع تفرقهم من إضافة السرقة إليهم ، ثم صرح يعقوب بأنه لا حكم إلا لله سبحانه فقال : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) لا لغيره لا يشاركه فيه مشارك في ذلك (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في كلّ إيراد وإصدار لا على غيره ، أي : اعتمدت ووثقت (وَعَلَيْهِ) لا على غيره (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) على العموم ، ويدخل فيه أولاده دخولا أوّليا (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) أي من الأبواب المتفرقة ولم يجتمعوا داخلين من باب واحد ، وجواب لما (ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ) ذلك الدخول (مِنَ اللهِ) أي من جهته (مِنْ شَيْءٍ) من الأشياء مما قدّره الله عليهم لأن الحذر لا يدفع القدر ، والاستثناء بقوله : (إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) منقطع ؛ والمعنى : ولكن حاجة كانت في نفس يعقوب. وهي شفقته عليهم ومحبته لسلامتهم قضاها يعقوب ، أي : أظهرها لهم ووصاهم بها غير معتقد أن للتدبير الذي دبره لهم تأثيرا في دفع ما قضاه الله عليهم ، وقيل : إنه خطر ببال يعقوب أن الملك إذا رآهم مجتمعين مع ما يظهر فيهم من كمال الخلقة ، وسيما الشجاعة أوقع بهم حسدا وحقدا أو خوفا منهم ، فأمرهم بالتفرق لهذه العلة. وقد اختار هذا النحّاس وقال : لا معنى للعين ها هنا ، وفيه أن هذا لو كان هو السبب لأمرهم بالتفرّق ولم يخصّ النهي عن ذلك الاجتماع عند الدخول من باب واحد ؛ لأن هذا الحسد أو الخوف يحصل باجتماعهم داخل المدينة كما يحصل باجتماعهم عند الدخول من باب واحد. وقيل : إن الفاعل في قضاها ضمير يعود إلى الدخول لا إلى يعقوب. والمعنى : ما كان الدخول يغني عنهم من جهة الله شيئا ، ولكنه قضى ذلك الدخول حاجة في نفس يعقوب لوقوعه حسب إرادته (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) أي وإن يعقوب لصاحب علم لأجل تعليم الله إياه بما أوحاه الله من أن الحذر لا يدفع

٤٩

القدر ، وأن ما قضاه الله سبحانه فهو كائن لا محالة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) بذلك كما ينبغي ؛ وقيل : لا يعلمون أنّ الحذر مندوب إليه وإن كان لا يغني من القدر شيئا ، والسّياق يدفعه ؛ وقيل : المراد بأكثر الناس المشركون (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) أي ضمّ إليه أخاه بنيامين ، قيل : إنه أمر بإنزال كلّ اثنين في منزل فبقي أخوه منفردا فضمّه إليه و (قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) يوسف ، قال له ذلك سرّا ، من دون أن يطلع عليه إخوته (فَلا تَبْتَئِسْ) أي فلا تحزن (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إخوتك من الأعمال الماضية التي عملوها ؛ وقيل : إنه لم يخبره بأنه يوسف ، بل قال له : إني أخوك مكان أخيك يوسف فلا تحزن بما كنت تلقاه منهم من الجفاء حسدا وبغيا ؛ وقيل : إنه أخبره بما سيدبّره معهم من جعل السقاية في رحله ، فقال : لا أبالي ؛ وقيل : إنه لما أخبر يوسف أخاه بنيامين بأنه أخوه قال : لا تردّني إليهم ، فقال : قد علمت اغتمام أبينا يعقوب ، فإذا حبستك عندي ازداد غمّه ، فأبى بنيامين ، فقال له يوسف : لا يمكن حبسك عندي إلا بأن أنسبك إلى ما لا يجمل بك ، فقال : لا أبالي ، فدسّ الصّاع في رحله ، وهو المراد بالسقاية ، وأصلها المشربة التي يشرب بها ، جعلت صاعا يكال به ؛ وقيل : كانت تسقى بها الدّواب ويكال بها الحبّ ؛ وقيل : كانت من فضة ، وقيل : كانت من ذهب ، وقيل غير ذلك. وقد تقدم تفسير الجهاز والرّحل. والمعنى : أنه جعل السقاية التي هو الصواع في رحل أخيه الذي هو الوعاء الذي يجعل فيه ما يشتريه من الطعام من مصر (ثُمَ) بعد ذلك (أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) أي نادى مناد قائلا (أَيَّتُهَا الْعِيرُ) قال الزّجّاج : معناه يا أصحاب العير ، وكل ما امتير عليه من الإبل والحمير والبغال فهو عير ؛ وقيل : هي قافلة الحمير. وقال أبو عبيدة : العير الإبل المرحولة المركوبة (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) نسبة السرقة إليهم على حقيقتها ؛ لأن المنادي غير عالم بما دبّره يوسف ؛ وقيل : إن المعنى : إن حالكم حال السارقين كون الصواع صار لديكم من غير رضا من الملك (قالُوا) أي إخوة يوسف (وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ) أي حال كونهم مقبلين على من نادى منهم المنادي من أصحاب الملك (ما ذا تَفْقِدُونَ) أي : ما الذي فقدتموه ؛ يقال : فقدت الشيء إذا عدمته بضياع أو نحوه ، فكأنهم قالوا : ماذا ضاع عليكم؟ وصيغة المستقبل لاستحضار الصورة (قالُوا) في جوابهم (نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) قرأ يحيى بن يعمر «صواغ» بالغين المعجمة. وقرأ أبو رجاء «صوع» بضم الصاد المهملة وسكون الواو بعدها عين مهملة. وقرأ أبيّ «صياع». وقرأ أبو جعفر : صاع ، وبها قرأ أبو هريرة. وقرأ الجمهور (صُواعَ) بالصاد والعين المهملتين. قال الزجّاج : الصواع هو الصاع بعينه ، وهو يذكّر ويؤنّث ، وهو السقاية ، ومنه قول الشاعر :

نشرب الخمر بالصّواع جهارا (١)

(وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) أي قالوا : ولمن جاء بالصّواع من جهة نفسه حمل بعير. والبعير : الجمل ، وفي لغة بعض العرب أنه الحمار ، والمراد بالحمل هاهنا ما يحمله البعير من الطّعام ، ثم قال المنادي : (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) أي بحمل البعير الذي جعل لمن جاء بالصّواع قبل التفتيش للأوعية ، والزعيم : هو الكفيل ، ولعل

__________________

(١). وتتمة البيت : وترى المتك بيننا مستعارا. وقد تقدم في تفسير الآية (٣١) من سورة يوسف.

٥٠

القائل نفقد صواع الملك هو المنادي ، وإنما نسب القول إلى الجماعة لكونه واحدا منهم ، ثم رجع الكلام إلى نسبة القول إلى المنادي وحده لأنه القائل بالحقيقة (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ) التاء بدل من واو القسم عند الجمهور ، وقيل : من الباء ، وقيل : أصل بنفسها ، ولا تدخل إلا على هذا الاسم الشريف دون سائر أسمائه سبحانه ، وقد دخلت نادرا على الربّ ، وعلى الرحمن ، والكلام على هذا مستوفى في علم الإعراب ؛ وجعلوا المقسم عليه هو علم يوسف وأصحابه بنزاهة جانبهم وطهارة ذيلهم عن التلوّث بقذر الفساد في الأرض الذي من أعظم أنواعه السرقة ، لأنهم قد شاهدوا منهم في قدومهم عليه المرّة الأولى ، وهذه المرّة من التّعفف والزّهد عما هو دون السرقة بمراحل ما يستفاد منه العلم الجازم ؛ بأنهم ليسوا بمن يتجارأ على هذا النوع العظيم من أنواع الفساد ، ولو لم يكن من ذلك إلا ردّهم لبضاعتهم التي وجدوها في رحالهم. والمراد بالأرض هنا أرض مصر ، ثم أكّدوا هذه الجملة التي أقسموا بالله عليها بقوله : (وَما كُنَّا سارِقِينَ) لزيادة التبرّي ممّا قذفوهم به ، والتنزه عن هذه النقيصة الخسيسة والرذيلة الشنعاء (قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) هذه الجملة مستأنفة كما تقدّم غير مرّة في نظائرها ، والقائلون هم أصحاب يوسف ، أو المنادي منهم وحده كما مرّ ، والضمير في (جَزاؤُهُ) للصّواع على حذف مضاف ، أي : فما جزاء سرقة الصّواع عندكم ، أو الضمير للسارق ؛ أي : فما جزاء سارق الصّواع عندكم (إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) فيما تدّعونه لأنفسكم من البراءة عن السرقة ، وذلك بأن يوجد الصّواع معكم ، فأجاب إخوة يوسف و (قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) أي جزاء سرقة الصّواع أو جزاء سارق الصّواع وجزاؤه مبتدأ ، والجملة الشرطية : وهي من وجد في رحله فهو جزاؤه خبر المبتدأ على إقامة الظاهر مقام المضمر فيها ، والأصل جزاؤه من وجد في رحله فهو ، فيكون الضمير الثاني عائد إلى المبتدأ ، والأوّل إلى من ، ويجوز أن يكون خبر المبتدأ من وجد في رحله ، والتقدير : جزاء السّرقة للصّواع أخذ من وجد في رحله ، وتكون جملة فهو جزاؤه لتأكيد الجملة الأولى وتقريرها. قال الزّجّاج : وقوله : (فَهُوَ جَزاؤُهُ) زيادة في البيان ؛ أي جزاؤه أخذ السّارق فهو جزاؤه لا غير. قال المفسّرون : وكان حكم السّارق في آل يعقوب أن يسترقّ سنة ، فلذلك استفتوهم في جزائه (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي مثل ذلك الجزاء الكامل نجزي الظالمين لغيرهم من الناس بسرقة أمتعتهم ، وهذه الجملة مؤكدة لما قبلها إذا كانت من كلام إخوة يوسف ، ويجوز أن تكون من كلام أصحاب يوسف ، أي : كذلك نحن نجزي الظالمين بالسرق ، ثم لما ذكروا جزاء السارق أرادوا أن يفتشوا أمتعتهم حتى يتبين الأمر ، فأقبل يوسف على ذلك فبدأ بتفتيش أوعيتهم أي أوعية الإخوة العشرة (قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ) أي قبل تفتيشه لوعاء أخيه بنيامين دفعا للتهمة ورفعا لما دبّره من الحيلة (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها) أي السقاية أو الصواع ، لأنه يذكّر ويؤنّث (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) أي مثل ذلك الكيد العجيب كدنا ليوسف ؛ يعني علّمناه إياه وأوحيناه إليه ، والكيد مبدؤه السعي في الحيلة والخديعة ، ونهايته إلقاء المخدوع من حيث لا يشعر في أمر مكروه لا سبيل إلى دفعه ، وهو محمول في حق الله سبحانه على النهاية لا على البداية. قال القتبيّ : معنى كدنا دبرنا. وقال ابن الأنباري : أردنا. وفي الآية دليل على جواز التوصّل إلى الأغراض الصحيحة بما

٥١

صورته صورة الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف ذلك شرعا ثابتا (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) أي ما كان يوسف ليأخذ أخاه بنيامين في دين الملك ؛ أي ملك مصر ، وفي شريعته التي كان عليها ، بل كان دينه وقضاؤه أن يضرب السّارق ويغرم ضعف ما سرقه دون الاستعباد سنة كما هو دين يعقوب وشريعته. وحاصله أنّ يوسف ما كان يتمكّن من إجراء حكم يعقوب على أخيه مع كونه مخالفا لدين الملك وشريعته لو لا ما كاد الله له ودبّره وأراده حتى وجد السبيل إليه ، وهو ما أجراه على ألسن إخوته من قولهم : إن جزاء السارق الاسترقاق ، فكان قولهم هذا هو بمشيئة الله وتدبيره ، وهو معنى قوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي إلا حال مشيئته وإذنه بذلك وإرادته له ، وهذه الجملة ؛ أعني ما كان ليأخذ أخاه إلخ تعليل لما صنعه الله من الكيد ليوسف أو تفسير له (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) بضروب العلوم والمعارف والعطايا والكرامات كما رفعنا درجة يوسف بذلك (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ) ممّن رفعه الله بالعلم (عَلِيمٌ) أرفع رتبة منهم وأعلى درجة لا يبلغون مداه ولا يرتقون شأوه. وقيل : معنى ذلك : أنّ فوق كلّ أهل العلم عليم ، وهو الله سبحانه.

وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ) قال : رهب يعقوب عليهم العين. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن محمد بن كعب قال : خشي عليهم العين. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وأبو الشيخ عن النخعي في قوله : (وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) قال : أحب يعقوب أن يلقى يوسف أخاه في خلوة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) قال : خيفة العين على بنيه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) قال : إنه لعامل بما علم ، ومن لا يعمل لا يكون عالما. وأخرج هؤلاء عنه في قوله : (آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) قال : إنه إليه. في قوله : (فَلا تَبْتَئِسْ) قال : لا تحزن ولا تيأس ، في قوله : (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) قال : قضى حاجتهم وكال لهم طعامهم ، في قوله : (جَعَلَ السِّقايَةَ) قال : هو إناء الملك الذي يشرب منه (فِي رَحْلِ أَخِيهِ) قال : في متاع أخيه. وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في المصاحف ، عن ابن عباس في قوله : (جَعَلَ السِّقايَةَ) قال : هو الصّواع ، وكلّ شيء يشرب منه فهو صواع. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد نحوه أيضا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (أَيَّتُهَا الْعِيرُ) قال : كانت العير حميرا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) قال : حمل حمار طعام ، وهي لغة.

وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) يقول : كفيل. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والضحّاك مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس في قوله : (ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ) يقول : ما جئنا لنعصي في الأرض. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : (فَما جَزاؤُهُ) قال : عرفوا الحكم في حكمهم فقالوا : من وجد

٥٢

في رحله فهو جزاؤه ، وكان الحكم عند الأنبياء يعقوب وبنيه أن يؤخذ السارق بسرقته عبدا يسترقّ.

وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ) قال : ذكر لنا أنه كان كلما فتح متاع رجل استغفر تأثما مما صنع حتى بقي متاع الغلام ، قال : ما أظن أن هذا أخذ شيئا ، قالوا : بلى ، فاستبره. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحّاك في قوله : (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) قال : كذلك صنعنا ليوسف (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) يقول : في سلطان الملك ، قال : كان في دين ملكهم أنه من سرق أخذت منه السرقة ومثلها معها من ماله فيعطيه المسروق. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) يقول : في سلطان الملك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) قال : إلا بعلة كادها الله ليوسف فاعتل بها.

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه في قوله : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) قال : يوسف وإخوته أوتوا علما فرفعنا يوسف في العلم فوقهم درجة. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : كنا عند ابن عباس فحدّث بحديث ، فقال رجل عنده : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) فقال ابن عباس : بئس ما قلت ، الله العليم الخبير ، وهو فوق كلّ عالم. وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب قال : سأل رجل عليا عن مسألة ، فقال فيها ، فقال الرجل : ليس هكذا ولكن كذا وكذا ، قال عليّ : أصبت وأخطأت (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ). وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن عكرمة في قوله : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) قال :

علم الله فوق كلّ عالم.

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١)وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢))

قوله : (قالُوا إِنْ يَسْرِقْ) أي بنيامين (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) يعنون يوسف.

وقد اختلف المفسّرون في هذه السّرقة التي نسبوها إلى يوسف ما هي؟ فقيل : إنه كان ليوسف عمة هي

٥٣

أكبر من يعقوب ، وكانت عندها منطقة (١) إسحاق لكونها أسنّ أولاده وكانوا يتوارثونها فيأخذها الأكبر سنا من ذكر أو أنثى ، وكانت قد حضنت يوسف وأحبته حبا شديدا ، فلما ترعرع قال لها يعقوب : سلّمي يوسف إليّ ، فأشفقت من فراقه ، واحتالت في بقائه لديها ، فجعلت المنطقة تحت ثيابه وحزمته بها ، ثم قالت : قد سرقت منطقة إسحاق فانظروا من سرقها ، فبحثوا عنها فوجدوها مع يوسف فأخذته عندها كما هو شرع الأنبياء في ذلك الوقت من آل إبراهيم. وقد سبق بيان شريعتهم في السرقة. وقيل : إن يوسف أخذ صنما كان لجدّه أبي أمه فكسره وألقاه على الطريق تغييرا للمنكر. وحكي عن الزّجّاج أنه كان صنما من ذهب. وحكى الواحدي عن الزجّاج أنه قال : الله أعلم ، أسرق أخ له أم لا؟ وحكى القرطبي في تفسيره عن الزجاج أنه قال : كذبوا عليه فيما نسبوه إليه. قلت : وهذا أولى ، فما هذه الكذبة بأوّل كذباتهم ، وقدّمنا ما يدفع قول من قال إنهم قد كانوا أنبياء عند صدور هذه الأمور منهم. قوله : (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ) قال الزجّاج وغيره : الضمير في أسرّها يعود إلى الكلمة أو الجملة ، كأنه قيل فأسرّ الجملة في نفسه (وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) ثم فسرها بقوله : (قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) وقد ردّ أبو عليّ الفارسي هذا فقال : إنّ هذا النوع من الإضمار على شريطة التفسير غير مستعمل ؛ وقيل : الضمير عائد إلى الإجابة ، أي : أسرّ يوسف إجابتهم في ذلك الوقت إلى وقت آخر ؛ وقيل : أسرّ في نفسه قولهم : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) وهذا هو الأولى ، ويكون معنى (وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) أنه لم يبد لهم هذه المقالة التي أسرّها في نفسه بأن يذكر لهم صحّتها أو بطلانها ، وجملة (قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) مفسّرة على القول الأوّل ، ومستأنفة على القولين الآخرين ، كأنه قيل : فماذا قال يوسف لما قالوا هذه المقالة؟ أي أنتم شرّ مكانا ، أي : موضعا ومنزلا ممن نسبتموه إلى السرقة وهو بريء ، فإنكم قد فعلتم ما فعلتم من إلقاء يوسف إلى الجبّ والكذب على أبيكم وغير ذلك من أفاعيلكم ، ثم قال : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) من الباطل بنسبة السرقة إلى يوسف ، وأنه لا حقيقة لذلك. ثم أرادوا أن يستعطفوه ليطلق لهم أخاهم بنيامين يكون معهم يرجعون به إلى أبيهم لما تقدّم من أخذه الميثاق عليهم بأن يردّوه إليه ، (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) أي إنّ لبنيامين هذا أبا متّصفا بهذه الصفة ، وهو كونه شيخا كبيرا لا يستطيع فراقه ولا يصبر عنه ولا يقدر على الوصول إليه (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) يبقى لديك ، فإن له منزلة في قلب أبيه ليست لواحد منا فلا يتضرّر بفراق أحدنا كما يتضرّر بفراق بنيامين ، ثم علّلوا ذلك بقولهم : (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) إلى الناس كافة ، وإلينا خاصة ، فتمّم إحسانك إلينا بإجابتنا إلى هذا المطلب ، فأجاب يوسف عليهم بقوله : (مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) أي نعوذ بالله معاذا ، فهو مصدر منصوب بفعل محذوف ، والمستعيذ بالله هو المعتصم به ، وأن نأخذ منصوب بنزع الخافض ، والأصل من أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده ، وهو بنيامين لأنه الذي وجد الصواع في رحله فقد حلّ لنا استعباده بفتواكم التي أفتيتمونا بقولكم : (جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) ، (إِنَّا إِذاً

__________________

(١). المنطقة : المنطق ، وهو ما يشدّ به الوسط.

٥٤

لَظالِمُونَ) أي إنّا إذا أخذنا غير من وجدنا متاعنا عنده لظالمون في دينكم وما تقتضيه فتواكم (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ) أي يئسوا من يوسف وإسعافهم منه إلى مطلبهم الذي طلبوه ، والسين والتاء للمبالغة (خَلَصُوا نَجِيًّا) أي انفردوا حال كونهم متناجين فيما بينهم ، وهو مصدر يقع على الواحد والجمع كما في قوله : (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا). قال الزّجّاج : معناه انفردوا وليس معهم أخوهم متناجين فيما يعملون به في ذهابهم إلى أبيهم من غير أخيهم. (قالَ كَبِيرُهُمْ) ، وقيل : هو روبيل لأنّه الأسنّ ، وقيل : يهوذا لأنه الأوفر عقلا ، وقيل : شمعون لأنه رئيسهم (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) أي عهدا من الله في حفظ ابنه وردّه إليه ، ومعنى كونه من الله أنه بإذنه (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) معطوف على ما قبله ، والتقدير : ألم تعلموا أنّ أباكم [قد أخذ عليكم موثقا من الله] (١) وتعلموا تفريطكم في يوسف ؛ ذكر هذا النحّاس وغيره ، (وَمِنْ قَبْلُ) متعلّقة بتعلموا ، أي : وتعلموا تفريطكم في يوسف من قبل ، على أنّ ما مصدرية ، ويجوز أن تكون زائدة ؛ وقيل : ما فرّطتم مرفوع المحل على الابتداء ، وخبره من قبل ؛ وقيل : إن ما موصولة أو موصوفة ، وكلاهما في محل النصب أو الرفع ، وما ذكرناه هو الأولى ، ومعنى فرّطتم : قصرتم في شأنه ، ولم تحفظوا عهد أبيكم فيه (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) ، يقال : برح براحا وبروحا ، أي : زال ، فإذا دخله النفي صار مثبتا ، أي : لن أبرح من الأرض ، بل ألزمها ولا أزال مقيما فيها (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) في مفارقتها والخروج منها ، وإنما قال ذلك لأنه يستحي من أبيه أن يأتي إليه بغير ولده الذي أخذ عليهم الموثق بإرجاعه إليه إلا أن يحاط بهم كما تقدّم (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) بمفارقتها والخروج منها ؛ وقيل : المعنى : أو يحكم الله لي بخلاص أخي من الأسر حتّى يعود إلى أبي وأعود معه ؛ وقيل : المعنى : أو يحكم الله لي بالنصر على من أخذ أخي فأحاربه وآخذ أخي منه ، أو أعجز فأنصرف بعد ذلك (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) لأنّ أحكامه لا تجري إلا على ما يوافق الحقّ ، ويطابق الصواب ، ثم قال كبيرهم مخاطبا لهم (ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) قرأ الجمهور (سَرَقَ) على البناء للفاعل ، وذلك لأنهم قد شاهدوا استخراج الصواع من وعائه. وقرأ ابن عباس والضّحّاك وأبو رزين على البناء للمفعول ، وروى ذلك النّحّاس عن الكسائي. قال الزجّاج : إنّ سرق يحتمل معنيين : أحدهما علم منه السرق ، والآخر اتهم بالسرق (وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) من استخراج الصواع من وعائه ، وقيل : المعنى : ما شهدنا عند يوسف بأن السارق يسترق إلا بما علمنا من شريعتك وشريعة آبائك (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) حتّى يتّضح لنا هل الأمر على ما شاهدناه أو على خلافه؟ وقيل : المعنى : ما كنّا وقت أخذناه منك ليخرج معنا إلى مصر للغيب حافظين بأنه سيقع منه السرق الذي افتضحنا به ؛ وقيل : الغيب هو الليل ، ومرادهم أنه سرق وهم نيام ؛ وقيل : مرادهم أنه فعل ذلك وهو غائب عنهم ، فخفي عليهم فعله (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) هذا من تمام قول كبيرهم لهم ، أي : قولوا لأبيكم اسأل القرية التي كنّا فيها ، أي : مصر ، والمراد أهلها ، أي : اسأل أهل القرية ؛

__________________

(١). من تفسير القرطبي (٩ / ٢٤٢)

٥٥

وقيل : هي قرية من قرى مصر نزلوا فيها وامتاروا منها ؛ وقيل : المعنى : واسأل القرية نفسها وإن كانت جمادا فإنك نبيّ الله ، والله سبحانه سينطقها فتجيبك ؛ ومما يؤيد هذا أنه قال سيبويه : لا يجوز : كلّم هندا وأنت تريد غلام هند (وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) أي : وقولوا لأبيكم : اسأل العير التي أقبلنا فيها ، أي : أصحابها وكانوا قوما معروفين من جيران يعقوب (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما قلنا ، جاءوا بهذه الجملة مؤكدة هذا التأكيد ، لأن ما قد تقدّم منهم مع أبيهم يعقوب يوجب كمال الريبة في خبرهم هذا عند السامع.

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) قال : يعنون يوسف. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال : سرق مكحلة لخالته ، يعني يوسف. وأخرج أبو الشيخ عن عطية قال : سرق في صباه ميلين من ذهب. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سرق يوسف صنما لجدّه أبي أمه من ذهب وفضة فكسره ، وألقاه على الطريق ، فعيّره بذلك إخوته». وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير مثله غير مرفوع. وقد روي نحوه عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ) قال : أسرّ في نفسه قوله : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ). وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن إسحاق في قوله : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ) قال : أيسوا منه ، ورأوا شدّته في أمره. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (خَلَصُوا نَجِيًّا) قال : وحدهم.

وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (قالَ كَبِيرُهُمْ) قال : شمعون الذي تخلّف أكبرهم عقلا ، وأكبر منه في الميلاد روبيل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة (قالَ كَبِيرُهُمْ) هو روبيل ، وهو الذي كان نهاهم عن قتله وكان أكبر القوم. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في قوله : (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) قال : أقاتل بسيفي حتى أقتل. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن أبي صالح نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) قال : ما كنّا نعلم أن ابنك يسرق. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) قال : يعنون مصر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة مثله.

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا

٥٦

تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨))

قوله : (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي زيّنت ، والأمر هنا قولهم : (إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) (١) وما سرق في الحقيقة ؛ وقيل : المراد بالأمر إخراجهم بنيامين ، والمضيّ به إلى مصر طلبا للمنفعة فعاد ذلك بالمضرّة ؛ وقيل : التسويل : التخييل ، أي : خيّلت لكم أنفسكم أمرا لا أصل له ؛ وقيل : الأمر الذي سوّلت لهم أنفسهم فتياهم بأنّ السّارق يؤخذ بسرقته ، والإضراب هنا هو باعتبار ما أثبتوه من البراءة لأنفسهم ، لا باعتبار أصل الكلام فإنه صحيح ، والجملة مستأنفة مبنية على سؤال مقدّر كغيرها ، وجملة (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ خبره محذوف ؛ أي : فأمري صبر جميل ، أو فصبر جميل أجمل بي وأولى لي ، والصّبر الجميل هو الذي لا يبوح صاحبه بالشكوى ، بل يفوّض أمره إلى الله ويسترجع ، وقد ورد أن «الصبر عند أوّل الصدمة». (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) أي بيوسف وأخيه بنيامين ، والأخ الثالث الباقي بمصر ، وهو كبيرهم كما تقدّم ، وإنما قال هكذا لأنه قد كان عنده أن يوسف لم يمت ، وأنه باق على الحياة وإن غاب عنه خبره (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بحالي (الْحَكِيمُ) فيما يقضي به (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أي أعرض عنهم ، وقطع الكلام معهم (وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ). قال الزّجّاج : الأصل يا أسفي ، فأبدل من الياء ألفا لخفة الفتحة ، والأسف : شدة الجزع ؛ وقيل : شدة الحزن ، ومنه قول كثيّر :

فيا أسفا للقلب كيف انصرافه

وللنّفس لمّا سلّيت فتسلّت

قال يعقوب هذه المقالة لما بلغ منه الحزن غاية مبالغة بسبب فراقه ليوسف ، وانضمام فراقه لأخيه بنيامين ، وبلوغ ما بلغه من كونه أسيرا عند ملك مصر ، فتضاعفت أحزانه ، وهاج عليه الوجد القديم بما أثاره من الخبر لأخيه. وقد روي عن سعيد بن جبير أن يعقوب لم يكن عنده ما ثبت في شريعتنا من الاسترجاع والصبر على المصائب ، ولو كان عنده ذلك لما قال : يا أسفا على يوسف. ومعنى المناداة للأسف طلب حضوره ، كأنه قال : تعال يا أسفي وأقبل إليّ ، (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) أي انقلب سواد عينيه بياضا من كثرة البكاء. قيل : إنه زال إدراكه بحاسة البصر بالمرة ، وقيل : كان يدرك إدراكا ضعيفا. وقد قيل في توجيه ما وقع من يعقوب عليه‌السلام من هذا الحزن العظيم المفضي إلى ذهاب بصره كلا أو بعضا بأنه إنما وقع منه ذلك لأنه علم أن يوسف حيّ ، فخاف على دينه مع كونه بأرض مصر وأهلها حينئذ كفار ؛ وقيل : إن مجرد الحزن ليس بمحرّم ، وإنما المحرّم ما يفضي منه إلى الوله وشقّ الثياب والتكلّم بما لا ينبغي ، وقد قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند موت ولده إبراهيم : «تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول ما يسخط الربّ ، وإنّا عليك يا إبراهيم لمحزونون» (٢). ويؤيّد هذا قوله : (فَهُوَ كَظِيمٌ) أي مكظوم ، فإن معناه : أنه مملوء من الحزن ممسك له لا

__________________

(١). يوسف : ٨١.

(٢). حديث رواه البخاري من حديث أنس.

٥٧

يبثه ، ومنه كظم الغيظ وهو إخفاؤه ، فالمكظوم المسدود عليه طريق حزنه ، من كظم السقاء ؛ إذا سدّه على ما فيه ، والكظم بفتح الظاء : مخرج النفس ، يقال : أخذ بأكظامه. وقيل : الكظيم بمعنى الكاظم ، أي : المشتمل على حزنه الممسك له ، ومنه :

فإنّ أك كاظما لمصاب ناس (١)

فإنّي اليوم منطلق لساني

ومنه : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) (٢). وقال الزّجّاج : معنى كظيم : محزون. وروي عن ابن عباس أنه قال : معناه مغموم مكروب. قال بعض أهل اللغة : الحزن بالضم والسكون : البكاء ، بفتحتين : ضدّ الفرح. وقال أكثر أهل اللغة : هما لغتان بمعنى ، (قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) أي لا تفتأ ، فحذف حرف النفي لعدم اللبس. قال الكسائي : فتأت وفتئت أفعل كذا ، أي : ما زلت. وقال الفرّاء : إن لا مضمرة ، أي : لا تفتأ. قال النحّاس : والذي قال صحيح. وقد روي عن الخليل وسيبويه مثل قول الفراء ، وأنشد الفرّاء محتجّا على ما قاله :

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي (٣)

ويقال : فتئ وفتأ لغتان ، ومنه قول الشاعر (٤) :

فما فتئت حتى كأنّ غبارها

سرادق يوم ذي رياح ترفّع

(حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) الحرض : مصدر يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث والصفة المشبهة ، حرض بكسر الراء كدنف ودنف ، وأصل الحرض : الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم ، حكي ذلك عن أبي عبيدة وغيره ، ومنه قول الشاعر :

سرى همّي فأمرضني

وقدما زادني مرضا

كذاك الحبّ قبل اليو

م ممّا يورث الحرضا

وقيل : الحرض : ما دون الموت ، وقيل : الهرم ، وقيل : الحارض : البالي الداثر. وقال الفرّاء : الحارض : الفاسد الجسم والعقل ، وكذا الحرض. وقال مؤرّج : هو الذائب من الهمّ ، ويدلّ عليه قول الشاعر (٥) :

إني امرؤ لجّ بي حبّ فأحرضني

حتّى بليت وحتّى شفّني السّقم

ويقال رجل محرض ، ومنه قول الشاعر :

طلبته الخيل يوما كاملا

ولو ألفته لأضحى محرضا

__________________

(١). في تفسير القرطبي (٩ / ٢٤٩) : شاس.

(٢). آل عمران : ١٣٤.

(٣). البيت لامرئ القيس. و «الأوصال» : جمع وصل : وهو المفصل.

(٤). هو أوس بن حجر.

(٥). هو العرجيّ.

٥٨

قال النّحّاس : وحكى أهل اللغة أحرضه الهمّ ؛ إذا أسقمه ، ورجل حارض : أي أحمق. وقال الأخفش : الحارض الذاهب. وقال ابن الأنباري : هو الهالك. والأولى تفسير الحرض هنا بغير الموت والهلاك من هذه المعاني المذكورة حتى يكون لقوله : (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) معنى غير معنى الحرض ، فالتأسيس أولى من التأكيد ، ومعنى من الهالكين : من الميتين ؛ وغرضهم منع يعقوب من البكاء والحزن شفقة عليه ، وإن كانوا هم سبب أحزانه ومنشأ همومه وغمومه (قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) هذه الجملة مستأنفة ، كأنه قيل : فما قال يعقوب لما قالوا له ما قالوا؟ والبثّ : ما يرد على الإنسان من الأشياء التي يعظم حزن صاحبها بها حتى لا يقدر على إخفائها ، كذا قال أهل اللغة ، وهو مأخوذ من بثثته : أي فرّقته ، فسمّيت المصيبة بثّا مجازا. قال ذو الرمّة :

وقفت على ربع لميّة ناقتي

فما زلت أبكي عنده وأخاطبه

وأسقيه حتّى كاد مما أبثّه (١)

تكلّمني أحجاره وملاعبة

وقد ذكر المفسرون أن الإنسان إذا قدر على كتم ما نزل به من المصائب كان ذلك حزنا ، وإن لم يقدر على كتمه كان ذلك بثّا ، فالبثّ على هذا : أعظم الحزن وأصعبه ؛ وقيل : البثّ : الهمّ ؛ وقيل : هو الحاجة ، وعلى هذا القول يكون عطف الحزن على البثّ واضح المعنى. وأما على تفسير البثّ بالحزن العظيم ، فكأنه قال : إنما أشكو حزني العظيم وما دونه من الحزن إلى الله لا إلى غيره من الناس. وقد قرئ «حزني» بضم الحاء وسكون الزاي «وحزني» بفتحهما (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي أعلم من لطفه وإحسانه وثوابه على المصيبة ما لا تعلمونه أنتم ؛ وقيل : أراد علمه بأن يوسف حيّ ؛ وقيل : أراد علمه بأن رؤياه صادقة ؛ وقيل : أعلم من إجابة المضطرين إلى الله ما لا تعلمون (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) التحسّس بمهملات : طلب الشيء بالحواس ، مأخوذ من الحسّ ، أو من الإحساس ، أي : اذهبوا فتعرّفوا خبر يوسف وأخيه وتطلبوه ، وقرئ بالجيم ، وهو أيضا التطلب (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) أي : لا تقنطوا من فرجه وتنفيسه. قال الأصمعي : الروح ما يجده الإنسان من نسيم الهواء فيسكن إليه ، والتركيب يدلّ على الحركة والهزّة ، فكلّ ما يهتزّ الإنسان بوجوده ويلتذّ به فهو روح. وحكى الواحدي عن الأصمعي أيضا أنه قال : الروح الاستراحة من غمّ القلب. وقال أبو عمرو : الروح : الفرج ، وقيل : الرحمة (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) لكونهم لا يعلمون بقدرة الله سبحانه ، وعظيم صنعه ، وخفيّ ألطافه. قوله : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ) أي على يوسف ، وفي الكلام حذف ، والتقدير : فذهبوا كما أمرهم أبوهم إلى مصر ليتحسّسوا من يوسف وأخيه ، فلما دخلوا على يوسف (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ) أي الملك الممتنع القادر (مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) أي الجوع والحاجة. وفيه دليل على أنه تجوز الشّكوى عند الضرورة إذا خاف من إصابته على نفسه كما يجوز للعليل أن يشكو إلى الطبيب ما يجده من العلة ، وهذه المرّة التي دخلوا فيها مصر

__________________

(١). أبثّه : بضم الهمزة وكسر الباء أفصح من أبثّه بفتح الهمزة وضم الباء (ديوان ذي الرمة ٢ / ٨٢١)

٥٩

هي المرّة الثالثة كما يفيده ما تقدّم من سياق الكتاب العزيز (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) البضاعة : هي القطعة من المال يقصد بها شراء شيء ، يقال : أبضعت الشيء واستبضعته ؛ إذا جعلته بضاعة ، وفي المثل «كمستبضع التمر إلى هجر» (١) والإزجاء : السوق بدفع. قال الواحدي : الإزجاء في اللغة السوق والدفع قليلا قليلا ، ومنه قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) (٢) ، والمعنى : أنها بضاعة تدفع ولا يقبلها التجار. قال ثعلب : البضاعة المزجاة : الناقصة غير التامة. قال أبو عبيدة : إنما قيل للدراهم الرديئة مزجاة لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة.

واختلف في هذه البضاعة ما هي؟ فقيل : كانت قديدا وحيسا (٣) ، وقيل : صوف وسمن ، وقيل : الحبة الخضراء والصنوبر ، وقيل : دراهم رديئة ، وقيل : النعال والأدم. ثم طلبوا منه بعد أن أخبروه بالبضاعة التي معهم أن يوفي لهم الكيل ، أي : يجعله تاما لا نقص فيه ، وطلبوا منه أن يتصدّق عليهم إما بزيادة يزيدها لهم على ما يقابل بضاعتهم ، أو بالإغماض عن رداءة البضاعة التي جاءوا بها ، وأن يجعلها كالبضاعة الجيدة في إيفاء الكيل لهم بها ، وبهذا قال أكثر المفسرين ؛ وقد قيل : كيف يطلبون التصدّق عليهم وهم أنبياء والصدقة محرّمة على الأنبياء؟ وأجيب باختصاص ذلك بنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) بما يجعله لهم من الثواب الأخروي ، أو التّوسيع عليهم في الدنيا.

وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) قال : يوسف وأخيه وروبيل. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال : يوسف وأخيه وكبيرهم الذي تخلف. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) قال : يا حزنا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن قتادة مثله. وأخرجوا عن مجاهد قال : يا جزعا. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (فَهُوَ كَظِيمٌ) قال : حزين. وأخرج ابن المبارك وعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال : كظم على الحزن فلم يقل إلا خيرا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال : كظيم مكروب. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك قال : الكظيم الكمد. وأخرج ابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) قال : لا تزال تذكر يوسف (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) قال : دنفا من المرض (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) قال : الميتين. وأخرج هؤلاء عن مجاهد نحوه وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) قال : لا تزال تذكر يوسف (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) قال : هرما ، (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) قال : أبو تموت. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) قال : الحرض : البالي ،

__________________

(١). هجر : مدينة بالبحرين.

(٢). النور : ٤٣.

(٣). الحيس : طعام يتخذ من التمر والسمن واللبن المجفف.

٦٠