فتح القدير - ج ٣

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٣

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٧

والكوفيين وابن عامر ، وقد استوفى ذكر ذلك ابن الأنباري والنحّاس ، فقيل : إنها لغة بني الحارث بن كعب ، وخثعم ، وكنانة يجعلون رفع المثنى ونصبه وجره بالألف ، ومنه قول الشاعر (١) :

فأطرق إطراق الشّجاع ولو يرى

مساغا لناباه الشّجاع لصمّما

وقول الآخر :

تزوّد منّا بين أذناه ضربة (٢)

وقول الآخر (٣) :

إنّ أباها وأبا أباها

قد بلغا في المجد غايتاها

وممّا يؤيّد هذا تصريح شيبويه والأخفش وأبي زيد والكسائي والفراء : إنّ هذه القراءة على لغة بني الحارث ابن كعب ، وحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب أنها لغة بني كنانة ، وحكى غيره أنها لغة خثعم ، وقيل : إن «إنّ» بمعنى نعم هاهنا كما حكاه الكسائي عن عاصم ، وكذا حكاه سيبويه. قال النحاس : رأيت الزجاج والأخفش يذهبان إليه ، فيكون التقدير : نعم هذان لساحران ، ومنه قول الشاعر :

ليت شعري هل للمحبّ شفاء

من جوى حبّهنّ إنّ اللّقاء

أي : نعم اللقاء. قال الزجّاج : والمعنى في الآية : إن هذان لهما ساحران ، ثم حذف المبتدأ وهو هما. وأنكره أبو علي الفارسي وأبو الفتح بن جني ، وقيل : إن الألف في هذا مشبهة بالألف في يفعلان ؛ فلم تغير ، وقيل : إن الهاء مقدّرة ، أي : إنه هذان لساحران ، حكاه الزجّاج عن قدماء النحويين ، وكذا حكاه ابن الأنباري. وقال ابن كيسان : إنه لما كان يقال هذا بالألف في الرفع والنصب والجرّ على حال واحدة ، وكانت التثنية لا تغير الواحد أجريت التثنية مجرى الواحد ، فثبت الألف في الرفع والنصب والجر ، فهذه أقوال تتضمّن توجيه هذه القراءة توجيها تصح به وتخرج به عن الخطأ ، وبذلك يندفع ما روي عن عثمان وعائشة أنه غلط من الكاتب للمصحف. (يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) وهي أرض مصر (بِسِحْرِهِما) الذي أظهراه (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) قال الكسائي : بطريقتكم : بسنّتكم ، والمثلى نعت ، كقولك : امرأة كبرى ، تقول العرب : فلان على الطريقة المثلى ؛ يعنون على الهدى المستقيم. قال الفراء : العرب تقول : هؤلاء طريقة قومهم وطرائق قومهم لأشرافهم ، والمثلى تأنيث الأمثل ، وهو الأفضل ، يقال : فلان أمثل قومه ، أي : أفضلهم ، وهم الأماثل. والمعنى : أنهما إن يغلبا بسحرهما مال إليهما السادة والأشراف منكم ، أو يذهبا بمذهبكم الذي هو أمثل المذاهب (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) الإجماع : الإحكام والعزم على الشيء ، قاله الفراء.

__________________

(١). رجل من بني أسد ، قال الفراء : ما رأيت أفصح منه. وفي اللسان : هو المتلمس.

(٢). وعجزه : دعته إلى هابي التّراب عقيم. والبيت لهوبر الحارثي. والهابي من التراب : ما ارتفع ودقّ.

(٣). هو أبو النجم ، وقال بعضهم : هو رؤبة.

٤٤١

تقول : أجمعت على الخروج ، مثل أزمعت. وقال الزجّاج : معناه ليكن عزمكم كلكم كالكيد مجمعا عليه ، وقد اتفق القراء على قطع الهمزة في أجمعوا إلا أبا عمرو ، فإنه قرأ بوصلها وفتح الميم من الجمع. قال النحّاس : وفيما حكي لي عن محمد بن يزيد المبرد أنه قال : يجب على أبي عمرو أن يقرأ بخلاف هذه القراءة ، وهي القراءة التي عليها أكثر الناس (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) أي : مصطفين مجتمعين ؛ ليكون أنظم لأمورهم وأشد لهيبتهم ، وهذا قول جمهور المفسرين. وقال أبو عبيدة : الصف : موضع المجمع ، ويسمّى المصلّى الصف. قال الزّجّاج : وعلى هذا معناه : ثم ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه لعيدكم وصلاتكم ، يقال : أتيت الصف بمعنى أتيت المصلّى ، فعلى التفسير الأول يكون انتصاب صفا على الحال ، وعلى تفسير أبي عبيدة يكون انتصابه على المفعولية. قال الزّجّاج : يجوز أن يكون المعنى ثم ائتوا والناس مصطفون ، فيكون على هذا مصدرا في موضع الحال ، ولذلك لم يجمع. وقرئ بكسر الهمزة بعدها ياء ، ومن ترك الهمزة أبدل منها ألفا. (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) أي : من غلب ، يقال : استعلى عليه إذا غلبه ، وهذا كله من قول السحرة بعضهم لبعض ، وقيل : من قول فرعون لهم. وجملة (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) مستأنفة جوابا لسؤال مقدّر ، كأنه قيل : فماذا فعلوا بعد ما قالوا فيما بينهم ما قالوا؟ فقيل : قالوا يا موسى إما أن تلقي ، و «أن» مع ما في حيزها في محل نصب بفعل مضمر ، أي : اختر إلقاءك أوّلا أو إلقاءنا ، ويجوز أن تكون في محل رفع على أنها وما بعدها خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا ، ومفعول تلقي محذوف ، والتقدير : إما أن تلقي ما تلقيه أوّلا (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ) نحن (أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) ما يلقيه ، أو أوّل من يفعل الإلقاء ، والمراد : إلقاء العصيّ على الأرض ، وكانت السحرة معهم عصيّ ، وكان موسى قد ألقى عصاه يوم دخل على فرعون ، فلما أراد السحرة معارضته قالوا له هذا القول ، ف (قالَ) لهم موسى : (بَلْ أَلْقُوا) أمرهم بالإلقاء أوّلا لتكون معجزته أظهر إذا ألقوا هم ما معهم ، ثم يلقي هو عصاه فتبتلع ذلك ، وإظهارا لعدم المبالاة بسحرهم (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ) في الكلام حذف ، والتقدير : ألقوا فإذا حبالهم ، والفاء فصيحة ، وإذا للمفاجأة أو ظرفية. والمعنى : فألقوا ، ففاجأ موسى وقت أن (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ) سعي حبالهم وعصيهم ، وقرأ الحسن (عِصِيُّهُمْ) بضم العين ، وهي لغة بني تميم ، وقرأ الباقون بكسرها اتباعا لكسرة الصاد ، وقرأ ابن عباس وابن ذكوان وروح عن يعقوب تخيّل بالمثناة ؛ لأن العصيّ والحبال مؤنثة ، وذلك أنهم لطخوها بالزئبق ، فلما أصابها حرّ الشمس ارتعشت واهتزّت ، وقرئ نخيّل بالنون على أن الله سبحانه هو المخيّل لذلك ، وقرئ يخيّل بالياء التحتية مبنيا للفاعل على أن المخيّل هو الكيد ، وقيل : المخيّل هو «أنها تسعى» ، ف «أنّ» في موضع رفع ، أي : يخيّل إليه سعيها. ذكر معناه الزجاج. وقال الفراء : إنها في موضع نصب ، أي : بأنها ، ثم حذف الباء. قال الزجاج : ومن قرأ بالتاء ، يعني الفوقية ، جعل أنّ في موضع نصب ، أي : تخيل إليه ذات سعي. قال : ويجوز أن يكون في موضع رفع بدلا من الضمير في تخيل ، وهو عائد على الحبال والعصيّ ، والبدل فيه بدل اشتمال ، يقال : خيل إليه إذا شبه له وأدخل عليه البهمة والشبهة. (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) أي : أحسّ ، وقيل : وجد ، وقيل : أضمر ، وقيل : خاف ، وذلك لما يعرض من الطباع

٤٤٢

البشرية عند مشاهدة ما يخشى منه ، وقيل : خاف أن يفتتن الناس قبل أن يلقي عصاه ، وقيل : إنّ سبب خوفه هو أن سحرهم كان من جنس ما أراهم في العصا ، فخاف أن يلتبس أمره على الناس فلا يؤمنوا ، فأذهب الله سبحانه ما حصل معه من الخوف بما بشّره به بقوله : (قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) أي : المستعلي عليهم بالظفر والغلبة ، والجملة تعليل للنّهي عن الخوف (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ) يعني العصا ، وإنما أبهمها تعظيما وتفخيما ، وجزم (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) على أنه جواب الأمر. قرئ بتشديد القاف ، والأصل : تتلقف ، فحذف إحدى التاءين ، وقرئ «تلقف» بكسر اللام من لقفه إذا ابتلعه بسرعة ، وقرئ «تلقف» بالرفع على تقدير فإنها تتلقف ، ومعنى (ما صَنَعُوا) الذي صنعوه من الحبال والعصيّ. قال الزّجّاج : القراءة بالجزم جواب الأمر ، ويجوز الرفع على معنى الحال ، كأنه قال : ألقها متلقفة ، وجملة (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ) تعليل لقوله تلقف ، وارتفاع كيد على أنه خبر لأن ، وهي قراءة الكوفيين إلا عاصما. وقرأ هؤلاء «سحر» بكسر السين وسكون الحاء ، وإضافة الكيد إلى السحر على الاتساع من غير تقدير ، أو بتقدير ذي سحر. وقرأ الباقون (كَيْدُ ساحِرٍ). (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) أي : لا يفلح جنس الساحر حيث أتى وأين توجه ، وهذا من تمام التعليل (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً) أي : فألقى ذلك الأمر الذي شاهدوه من موسى والعصا السّحرة سجدا لله تعالى ، وقد مرّ تحقيق هذا في سورة الأعراف (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) إنما قدّم هارون على موسى في حكاية كلامهم رعاية لفواصل الآي ، وعناية بتوافق رؤوسها.

وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) قال : يهلككم. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة (فَيُسْحِتَكُمْ) قال : يستأصلكم. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي صالح قال : فيذبحكم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عليّ (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) قال : يصرفا وجوه الناس إليهما. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : يقول أمثلكم ، وهم بنو إسرائيل. وأخرج عبد بن حميد وعبد الرزاق في قوله : (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) : ما يأفكون ، عن قتادة قال : ألقاها موسى فتحوّلت حية تأكل حبالهم وما صنعوا. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة : أن سحرة فرعون كانوا تسعمائة ، فقالوا لفرعون : إن يكن هذان ساحران فإنا نغلبهما فإنه لا أسحر منا ، وإن كانا من ربّ العالمين فإنه لا طاقة لنا بربّ العالمين ، فلما كان من أمرهم أن خرّوا سجدا. أراهم الله في سجودهم منازلهم التي إليها يصيرون ، فعندها (قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ) إلى قوله : (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى).

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ

٤٤٣

عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦))

قوله : (قالَ آمَنْتُمْ لَهُ) يقال : آمن له وآمن به ، فمن الأوّل قوله : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) (١) ، ومن الثاني : قوله في الأعراف : (آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) (٢). وقيل : إن الفعل هنا متضمّن معنى الاتباع. وقرئ على الاستفهام التوبيخي ، أي : كيف آمنتم به من غير إذن مني لكم بذلك (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) أي : إن موسى لكبيركم ، أي : أسحركم وأعلاكم درجة في صناعة السحر ، أو معلّمكم وأستاذكم ، كما يدلّ عليه قوله : (الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) قال الكسائي : الصبي بالحجاز إذا جاء من عند معلمه قال : جئت من عند كبيري. وقال محمد بن إسحاق : إنه لعظيم السحر. قال الواحدي : والكبير في اللغة : الرئيس ، ولهذا يقال للمعلم : الكبير. أراد فرعون بهذا القول أن يدخل الشبهة على الناس حتى لا يؤمنوا ، وإلا فقد علم أنهم لم يتعلّموا من موسى ، ولا كان رئيسا لهم ، ولا بينه وبينهم مواصلة (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) أي : والله لأفعلنّ بكم ذلك (٣) ، والتقطيع للأيدي والأرجل من خلاف هو قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى ، ومن للابتداء (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) أي : على جذوعها ، كقوله : (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) (٤) أي : عليه ، ومنه قول سويد بن أبي كاهل :

هم صلبوا العبديّ في جذع نخلة

فلا عطست شيبان إلا بأجدعا

وإنما آثر كلمة (فِي) للدلالة على استقرارهم عليها كاستقرار المظروف في الظرف (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) أراد : لتعلمنّ هل أنا أشدّ عذابا لكم أم موسى؟ ومعنى أبقى : أدوم ، وهو يريد بكلامه هذا الاستهزاء بموسى ؛ لأن موسى لم يكن من التعذيب في شيء ، ويمكن أن يريد العذاب الذي توعّدهم به موسى إن لم يؤمنوا ؛ وقيل : أراد بموسى ربّ موسى على حذف المضاف (قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ) أي : لن نختارك على ما جاءنا به موسى من البينات الواضحة من عند الله سبحانه ؛ كاليد والعصا. وقيل : إنهم أرادوا بالبينات ما رأوه في سجودهم من المنازل المعدّة لهم في الجنة (وَالَّذِي فَطَرَنا) معطوف على «ما جاءنا» ، لن نختارك على ما جاءنا به موسى من البينات ، وعلى الذي فطرنا ، أي : خلقنا ، وقيل : هو قسم ، أي : والله الذي فطرنا لن نؤثرك ، أو لا نؤثرك ، وهذان الوجهان في تفسير الآية ذكرهما الفرّاء والزجّاج. (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) هذا جواب منهم لفرعون لما قال لهم «لأقطعنّ» إلخ ، والمعنى : فاصنع ما أنت صانع ، واحكم ما أنت حاكم ، والتقدير : ما أنت صانعه (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي : إنما سلطانك علينا ونفوذ أمرك فينا في هذه الدنيا ، ولا سبيل لك علينا فيما بعدها ، فاسم الإشارة في محل نصب على الظرفية أو على المفعولية ، وما كافّة ، وأجاز الفراء الرفع على أن تجعل ما بمعنى الذي ، أي : أن الذي تقضيه هذه الحياة

__________________

(١). العنكبوت : ٢٦.

(٢). الأعراف : ١٢٣.

(٣). فرعون كان ينكر وجود الله تعالى. ولعله أقسم بنفسه.

(٤). الطور : ٣٨.

٤٤٤

الدنيا فقضاؤك وحكمك منحصر في ذلك (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا) التي سلفت منا من الكفر وغيره (وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) معطوف على «خطايانا» ، أي : ويغفر لنا الذي أكرهتنا عليه من عمل السحر في معارضة موسى ، فما في محل نصب على المفعولية ، وقيل : هي نافية ، قال النحّاس : والأوّل أولى. قيل : ويجوز أن يكون في محل رفع بالابتداء والخبر مقدّر ، أي : وما أكرهتنا عليه من السحر موضوع عنّا (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) أي : خير منك ثوابا وأبقى منك عقابا ، وهذا جواب قوله : «ولتعلمنّ أيّنا أشدّ عذابا وأبقى». (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) المجرم : هو المتلبّس بالكفر والمعاصي ، ومعنى (لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) : أنه لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة تنفعه. قال المبرّد : لا يموت ميتة مريحة ، ولا يحيا حياة ممتعة ، فهو يألم كما يألم الحي ، ويبلغ به حال الموت في المكروه ، إلا أنه لا يبطل فيها عن إحساس الألم ، والعرب تقول : فلان لا حيّ ولا ميت إذا كان غير منتفع بحياته. وأنشد ابن الأنباري في مثل هذا :

ألا من لنفس لا تموت فينقضي

شقاها ولا تحيا حياة لها طعم

وهذه الآية من جملة ما حكاه الله سبحانه من قول السحرة ، وقيل : هو ابتداء كلام ، والضمير في «إنه» على هذا الوجه للشأن. (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ) أي : ومن يأت ربّه مصدّقا به قد عمل الصالحات ، أي : الطاعات ، والموصوف محذوف ، والتقدير : الأعمال الصالحات ، وجملة «قد عمل» في محل نصب على الحال ، وهكذا مؤمنا منتصب على الحال ، والإشارة ب (فَأُولئِكَ) إلى من باعتبار معناه (لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) أي : المنازل الرفيعة التي قصرت دونها الصفات (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بيان للدرجات أو بدل منها ، والعدن : الإقامة ، وقد تقدّم بيانه ، وجملة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) حال من الجنات ؛ لأنها مضافة إلى عدن ، وعدن علم للإقامة كما سبق ، وانتصاب (خالِدِينَ فِيها) على الحال من ضمير الجماعة في «لهم» ، أي : ماكثين دائمين ، (وَ) الإشارة (ذلِكَ) إلى ما تقدّم لهم من الأجر ، وهو مبتدأ ، و (جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) خبره ، أي : جزاء من تطهّر من الكفر والمعاصي الموجبة للنار.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) قال : أخذ فرعون أربعين غلاما من بني إسرائيل ، فأمر أن يعلّموا السحر بالفرما (١) ؛ قال : علّموهم تعليما لا يغلبهم أحد في الأرض. قال ابن عباس : فهم من الذين آمنوا بموسى ، وهم الذين قالوا (آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ). وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي في قوله : (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) قال : خير منك إن أطيع ، وأبقى منك عذابا إن عصي. وأخرج أحمد ومسلم وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب فأتى على هذه الآية (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما أهلها الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون

__________________

(١). «الفرما» : مدينة بمصر.

٤٤٥

فيها ولا يحيون ، وأما الذين ليسوا بأهلها فإن النار تميتهم إماتة ، ثم يقوم الشفعاء فيشفعون ، فيؤتى بهم ضبائر (١) على نهر يقال له الحياة أو الحيوان ، فينبتون كما ينبت الغثاء في حميل السيل». وأخرج أبو داود وابن مردويه عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدريّ في أفق السماء ، وإن أبا بكر وعمر منهم ، وأنعما». وفي الصحيحين بلفظ : «إن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء».

(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢) وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١))

هذا شروع في إنجاء بني إسرائيل وإهلاك عدوّهم ، وقد تقدّم في البقرة ، وفي الأعراف ، وفي يونس ، واللام في (لَقَدْ) هي الموطئة للقسم ، وفي ذلك من التأكيد ما لا يخفى ، و (أَنْ) في (أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) ، إما المفسرة لأن في الوحي معنى القول ، أو مصدرية ، أي : بأن أسر ، أي : أسر بهم من مصر. وقد تقدّم هذا مستوفى. (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً) أي : اجعل لهم طريقا ، ومعنى يبسا : يابسا ، وصف به الفاعل مبالغة ، وذلك أن الله تعالى أيبس لهم تلك الطريق حتى لم يكن فيها ماء ولا طين. وقرئ (يَبَساً) بسكون الباء على أنه مخفف من يبسا المحرك ، أو جمع يابس كصحب في صاحب. وجملة (لا تَخافُ دَرَكاً) في محل نصب على الحال ، أي : آمنا من أن يدرككم العدوّ ، أو صفة أخرى لطريق ، والدرك : اللحاق بهم من فرعون وجنوده. وقرأ حمزة لا تخف على أنه جواب الأمر ، والتقدير : إن تضرب لا تخف ، ولا تخشى على هذه القراءة مستأنف ، أي : ولا أنت تخشى من فرعون أو من البحر. وقرأ الجمهور (لا تَخافُ) وهي أرجح لعدم الجزم في تخشى ، ويجوز أن تكون هذه الجملة على قراءة الجمهور صفة أخرى لطريق ، أي :

__________________

(١). أي جماعات.

٤٤٦

لا تخاف منه ولا تخشى منه (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) أتبع هنا مطاوع تبع ، يقال : أتبعتهم إذا تبعتهم ، وذلك إذا سبقوك فلحقتهم ، فالمعنى : تبعهم فرعون ومعه جنوده. وقيل : الباء زائدة ، والأصل : اتبعهم جنوده ، أي : أمرهم أن يتبعوا موسى وقومه ، وقرئ فاتبعهم بالتشديد ؛ أي : لحقهم بجنوده وهو معهم ، كما يقال : ركب الأمير بسيفه ، أي : معه سيفه ، ومحل بجنوده النصب على الحال ، أي : سابقا جنوده معه (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) أي : علاهم وأصابهم ما علاهم وأصابهم ، والتكرير للتعظيم والتهويل ، كما في قوله : (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ). وقيل : غشيهم ما سمعت قصته. وقال ابن الأنباري : غشيهم البعض الذي غشيهم ؛ لأنه لم يغشهم كلّ ماء البحر ، بل الذي غشيهم بعضه. فهذه العبارة للدلالة على أن الذي غرّقهم بعض الماء ، والأوّل أولى لما يدلّ عليه من التهويل والتعظيم. وقرئ : فغشاهم من اليمّ ما غشاهم ؛ أي : غطّاهم ما غطّاهم (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) أي : أضلهم عن الرشد ، وما هداهم إلى طريق النجاة ؛ لأنه قدّر أن موسى ومن معه لا يفوتونه لكونهم بين يديه يمشون في طريق يابسة ، وبين أيديهم البحر ، وفي قوله : (وَما هَدى) تأكيد لإضلاله ؛ لأن المضل قد يرشد من يضلّه في بعض الأمور (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ) ذكر سبحانه ما أنعم به على بني إسرائيل بعد إنجائهم ، والتقدير : قلنا لهم بعد إنجائهم : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) ، ويجوز أن يكون خطابا لليهود المعاصرين لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن النعمة على الآباء معدودة من النعم على الأبناء ، والمراد بعدوّهم هنا فرعون وجنوده ، وذلك بإغراقه وإغراق قومه في البحر بمرأى من بني إسرائيل (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) انتصاب جانب على أنه مفعول به ، لا على الظرفية لأنه مكان معين غير مبهم ، وإنما تنتصب الأمكنة على الظرفية إذا كانت مبهمة. قال مكي : وهذا أصل لا خلاف فيه. قال النحّاس : والمعنى أمرنا موسى أن يأمركم بالخروج معه لنكلّمه بحضرتكم فتسمعوا الكلام ، وقيل : وعد موسى بعد إغراق فرعون أن يأتي جانب الطور ، فالوعد كان لموسى ، وإنما خوطبوا به لأن الوعد كان لأجلهم. وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب «ووعدناكم» بغير ألف ، واختاره أبو عبيدة ؛ لأن الوعد إنما هو من الله لموسى خاصة ، والمواعدة لا تكون إلا من اثنين ، وقد قدّمنا في البقرة هذا المعنى ، و «الأيمن» منصوب على أنه صفة للجانب ، والمراد يمين الشخص ؛ لأن الجبل ليس له يمين ولا شمال ، فإذا قيل : خذ عن يمين الجبل فمعناه عن يمينك من الجبل. وقرئ بجرّ «الأيمن» على أنه صفة للمضاف إليه (وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) قد تقدّم تفسير المنّ بالترنجبين والسلوى بالسّمانى ، وأوضحنا ذلك بما لا مزيد عليه ، وإنزال ذلك عليهم كان في التّيه. (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أي : وقلنا لهم كلوا ، والمراد بالطيبات : المستلذات ، وقيل : الحلال ، على الخلاف المشهور في ذلك. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش : قد أنجيتكم من عدوّكم ووعدتكم جانب الطور كلوا من طيبات ما رزقتكم بتاء المتكلم في الثلاثة. وقرأ الباقون بنون العظمة فيها. (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) الطغيان : التجاوز ؛ أي : لا تتجاوزوا ما هو جائز إلى ما لا يجوز ؛ وقيل : المعنى : لا تجحدوا نعمة الله فتكونوا طاغين ؛ وقيل : لا تكفروا النعمة ولا تنسوا شكرها ؛ وقيل : لا تعصوا المنعم ، أي : لا تحملنكم السعة والعافية على المعصية. ولا مانع من حمل الطغيان على جميع هذه المعاني ، فإن

٤٤٧

كل واحد منها يصدق عليه أنه طغيان (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) هذا جواب النهي ؛ أي : يلزمكم غضبي وينزل بكم ، وهو مأخوذ من حلول الدّين ، أي : حضور وقت أدائه (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) قرأ الأعمش ويحيى بن وثّاب والكسائي (فَيَحِلَ) بضم الحاء وكذلك قرءوا «يحلل» بضم اللام الأولى ، وقرأ الباقون بالكسر فيهما ، وهما لغتان. قال الفراء : والكسر أحبّ إليّ من الضم ؛ لأن الضم من الحلول بمعنى الوقوع ، ويحل بالكسر يجب ، وجاء التفسير بالوجوب لا بالوقوع ، وذكر نحو هذا أبو عبيدة وغيره. ومعنى (فَقَدْ هَوى) : فقد هلك. قال الزجّاج (فَقَدْ هَوى) أي : صار إلى الهاوية ، وهي قعر النار ، من هوى يهوي هويا ، أي : سقط من علو إلى سفل ، وهوى فلان ، أي : مات (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) أي : لمن تاب من الذنوب التي أعظمها الشرك بالله ، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وعمل عملا صالحا ممّا ندب إليه الشرع وحسّنه (ثُمَّ اهْتَدى) أي : استقام على ذلك حتى يموت ، كذا قال الزجاج وغيره. وقيل : لم يشكّ في إيمانه ، وقيل : أقام على السّنّة والجماعة ، وقيل : تعلّم العلم ليهتدي به ، وقيل : علم أن لذلك ثوابا وعلى تركه عقابا ، والأوّل أرجح ممّا بعده. (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى) هذا حكاية لما جرى بين الله سبحانه وبين موسى عند موافاته الميقات. قال المفسرون : وكانت المواعدة أن يوافي موسى وجماعة من وجوه قومه ، فسار موسى بهم ، ثم عجل من بينهم شوقا إلى ربه ، فقال الله له : ما أعجلك؟ أي : ما الذي حملك على العجلة ؛ حتى تركت قومك وخرجت من بينهم؟ فأجاب موسى عن ذلك (قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) أي : هم بالقرب مني ، تابعون لأثري ، واصلون بعدي. وقيل : لم يرد أنهم يسيرون خلفه ، بل أراد أنهم بالقرب منه ينتظرون عوده إليهم ، ثم قال مصرحا بسبب ما سأله الله عنه فقال : (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) أي : لترضى عني بمسارعتي إلى امتثال أمرك أو لتزداد رضا عني بذلك. قال أبو حاتم : قال عيسى بن عمر : بنو تيم يقولون أولى مقصورة ، وأهل الحجاز يقولون (أُولاءِ) ممدودة. وقرأ ابن أبي إسحاق ونصر ورويس عن يعقوب (عَلى أَثَرِي) بكسر الهمزة وإسكان الثاء ، وقرأ الباقون بفتحها ، وهما لغتان. ومعنى «عجلت إليك» : عجلت إلى الموضع الذي أمرتني بالمصير إليه لترضى عني ، يقال : رجل عجل وعجول وعجلان : بيّن العجلة ، والعجلة : خلاف البطء. وجملة (قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ) مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فماذا قال الله له؟ فقيل : قال إنا قد فتنا قومك من بعدك ، أي : ابتليناهم واختبرناهم وألقيناهم في فتنة ومحنة. قال ابن الأنباري : صيّرناهم مفتونين أشقياء بعبادة العجل من بعد انطلاقك من بينهم ، وهم الذين خلفهم مع هارون (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) أي : دعاهم إلى الضلالة ، وكان من قوم يعبدون البقر ، فدخل في دين بني إسرائيل في الظاهر وفي قلبه ما فيه من عبادة البقر ، وكان من قبيلة تعرف بالسّامرة ، وقال لمن معه من بني إسرائيل : إنما تخلّف موسى عن الميعاد الذي بينكم وبينه لما صار معكم من الحلّي ، وهي حرام عليكم ، وأمرهم بإلقائها في النار ، فكان من أمر العجل ما كان (فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) قيل : وكان الرجوع إلى قومه بعد ما استوفى أربعين يوما : ذا القعدة ، وعشر ذي الحجة ، والأسف : الشديد الغضب ، وقيل : الحزين ، وقد

٤٤٨

مضى في الأعراف بيان هذا مستوفى. (قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) الاستفهام للإنكار التوبيخي ، والوعد الحسن : وعدهم بالجنة إذا أقاموا على طاعته ، ووعدهم أن يسمعهم كلامه في التوراة في لسان موسى ليعملوا بما فيها ، فيستحقّوا ثواب عملهم ، وقيل : وعدهم النصر والظفر ، وقيل : هو قوله : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ) الآية (أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) الفاء للعطف على مقدّر ، أي : أوعدكم ذلك ، فطال عليكم الزمان فنسيتم (أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي : يلزمكم وينزل بكم ، والغضب : العقوبة والنقمة ، والمعنى : أم أردتم أن تفعلوا فعلا يكون سبب حلول غضب الله عليكم (فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) أي : موعدكم إياي ، فالمصدر مضاف إلى المفعول ؛ لأنهم وعدوه أن يقيموا على طاعة الله عزوجل إلى أن يرجع إليهم من الطور ، وقيل : وعدوه أن يأتوا على أثره إلى الميقات ، فتوقّفوا فأجابوه ، و (قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ) الذي وعدناك (بِمَلْكِنا) بفتح الميم ، وهي قراءة نافع وأبي جعفر وعاصم وعيسى بن عمر ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بكسر الميم ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لأنها على اللغة العالية الفصيحة ، وهو مصدر ملكت الشيء أملكه ملكا ، والمصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف ، أي : بملكنا أمورنا ، أو بملكنا الصواب ، بل أخطأنا ولم نملك أنفسنا وكنا مضطرين إلى الخطأ ، وقرأ حمزة والكسائي (بِمَلْكِنا) بضمّ الميم ، والمعنى بسلطاننا ، أي : لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك ، وقيل : إنّ الفتح والكسر والضم في بملكنا كلها لغات في مصدر ملكت الشيء (وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ) قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص وأبو جعفر ورويس (حُمِّلْنا) بضم الحاء وتشديد الميم ، وقرأ الباقون بفتح الحاء والميم مخففة ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لأنهم حملوا حلية القوم معهم باختيارهم ، وما حملوها كرها ، فإنهم كانوا استعاروها منهم حين أرادوا الخروج مع موسى ، وأوهموهم أنهم يجتمعون في عيد لهم أو وليمة ؛ وقيل : هو ما أخذوه من آل فرعون لما قذفهم البحر إلى الساحل ، وسمّيت أوزارا ، أي : آثاما ؛ لأنه لا يحلّ لهم أخذها ، ولا تحل لهم الغنائم في شريعتهم. والأوزار في الأصل الأثقال كما صرح به أهل اللغة ، والمراد بالزينة هنا الحلّي (فَقَذَفْناها) أي : طرحناها في النار طلبا للخلاص من إثمها ؛ وقيل : المعنى : طرحناها إلى السامريّ لتبقى لديه حتى يرجع موسى فيرى فيها رأيه (فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ) أي : فمثل ذلك القذف ألقاها السامريّ ، قيل : إن السامريّ قال لهم حين استبطأ القوم رجوع موسى. إنما احتبس عنكم لأجل ما عندكم من الحلّي ، فجمعوه ودفعوه إليه ، فرمى به في النار وصاغ لهم منه عجلا ، ثم ألقى عليه قبضة من أثر الرسول وهو جبريل ، فصار (عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) أي : يخور كما يخور الحيّ من العجول ، والخوار : صوت البقر ، وقيل : خواره كان بالريح ؛ لأنه كان عمل فيه خروقا ، فإذا دخلت الريح في جوفه خار ولم يكن فيه حياة ، (فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) أي قال السامريّ ومن وافقه هذه المقالة (فَنَسِيَ) أي : فضلّ موسى ولم يعلم مكان إلهه هذا ، وذهب يطلبه في الطور ؛ وقيل :

المعنى : فنسي موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهه وإلهكم ؛ وقيل : الناسي هو السامريّ ، أي : ترك السامريّ ما أمر به موسى من الإيمان وضلّ ، كذا قال ابن الأعرابي (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً) أي : أفلا

٤٤٩

يعتبرون ويتفكّرون في أن هذا العجل لا يرجع إليهم قولا ، أي : لا يردّ عليهم جوابا ، ولا يكلّمهم إذا كلّموه ، فكيف يتوهّمون أنه إله وهو عاجز عن المكالمة ، فأن في (أَلَّا يَرْجِعُ) هي المخففة من الثقيلة ، وفيها ضمير مقدّر يرجع إلى العجل ، ولهذا ارتفع الفعل بعدها ، ومنه قول الشاعر :

في فتية من سيوف الهند قد علموا

أن هالك كلّ من يحفى وينتعل

أي : أنه هالك. وقرئ بنصب الفعل على أنها الناصبة ، وجملة (وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) معطوفة على جملة لا يرجع ، أي : أفلا يرون أنه لا يقدر على أن يدفع عنهم ضرّا ولا يجلب إليهم نفعا (وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ) اللام هي الموطئة للقسم ، والجملة مؤكدة لما تضمنته الجملة التي قبلها من الإنكار عليهم والتوبيخ لهم ، أي : ولقد قال لهم هارون من قبل أن يأتي موسى ويرجع إليهم (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) أي : وقعتم في الفتنة بسبب العجل ، وابتليتم به ، وضللتم عن طريق الحقّ لأجله ، قيل : ومعنى القصر المستفاد من «إنما» هو أن العجل صار سببا لفتنتهم لا لرشادهم ، وليس معناه أنهم فتنوا بالعجل لا بغيره. (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) أي : ربكم الرحمن لا العجل ، فاتبعوني في أمري لكم بعبادة الله ، ولا تتبعوا السامريّ في أمره لكم بعبادة العجل ، وأطيعوا أمري لا أمره (قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) أجابوا هارون عن قوله المتقدّم بهذا الجواب المتضمّن لعصيانه ، وعدم قبول ما دعاهم إليه من الخير وحذّرهم عنه من الشرّ ؛ أي : لن نزال مقيمين على عبادة هذا العجل ؛ حتى يرجع إلينا موسى ، فينظر هل يقرّرنا على عبادته أو ينهانا عنها ، فعند ذلك اعتزلهم هارون في اثني عشر ألفا من المنكرين لما فعله السامريّ.

وقد أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب في قوله : (يَبَساً) قال : يابسا ليس فيه ماء ولا طين. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (لا تَخافُ دَرَكاً) من آل فرعون (وَلا تَخْشى) من البحر غرقا. وأخرجا عنه أيضا في قوله : (فَقَدْ هَوى) : شقي. وأخرجا عنه أيضا (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ) قال : من الشرك (وَآمَنَ) قال : وحّد الله (وَعَمِلَ صالِحاً) قال : أدّى الفرائض (ثُمَّ اهْتَدى) قال : لم يشكّك. وأخرج سعيد بن منصور والفريابي عنه أيضا (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ) قال : من تاب من الذنب ، وآمن من الشرك ، وعمل صالحا فيما بينه وبين ربه (ثُمَّ اهْتَدى) علم أن لعمله ثوابا يجزى عليه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير (ثُمَّ اهْتَدى) قال : ثم استقام ولزم السنة والجماعة. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة ، والبيهقي في البعث ، من طريق عمرو بن ميمون عن رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : تعجل موسى إلى ربه ، فقال الله : (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى) الآية ، قال : فرأى في ظلّ العرش رجلا فعجب له ، فقال : من هذا يا ربّ؟ قال : لا أحدثك من هو ، لكن سأخبرك بثلاث فيه : كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله ، ولا يعقّ والديه ، ولا يمشي بالتميمة. وأخرج الفريابي وعبد ابن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، عن عليّ قال : لما تعجّل موسى إلى ربّه عمد السامريّ

٤٥٠

فجمع ما قدر عليه من حليّ بني إسرائيل فضربه عجلا ، ثم ألقى القبضة في جوفه فإذا هو عجل جسد له خوار ، فقال لهم السامريّ : هذا إلهكم وإله موسى ، فقال لهم هارون : يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا ، فلما أن رجع موسى أخذ برأس أخيه ، فقال له هارون ما قال ، فقال موسى للسامريّ : ما خطبك قال : (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) (١) فعمد موسى إلى العجل ، فوضع موسى عليه المبارد فبرده بها وهو على شط نهر ، فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد ذلك العجل إلا اصفرّ وجهه مثل الذهب ، فقالوا لموسى : ما توبتنا؟ قال : يقتل بعضكم بعضا ، فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وابنه ، ولا يبالي بمن قتل ، حتى قتل منهم سبعون ألفا ، فأوحى الله إلى موسى : مرهم فليرفعوا أيديهم ، فقد غفرت لمن قتل وتبت على من بقي. والحكايات لهذه القصة كثيرة جدّا. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (بِمَلْكِنا) قال : بأمرنا. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة (بِمَلْكِنا) قال : بطاقتنا. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي مثله. وأخرج أيضا عن الحسن قال : بسلطاننا. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) قال : فنسي موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهه.

(قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١))

جملة (قالَ يا هارُونُ) مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، والمعنى : أن موسى لما وصل إليهم أخذ بشعور رأس أخيه هارون وبلحيته ، وقال : (ما مَنَعَكَ) من اتباعي واللحوق بي عند ما وقعوا في هذه الضلالة ودخلوا في الفتنة ، وقيل معنى (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَتَّبِعَنِ) : ما منعك من اتباعي في الإنكار عليهم ، وقيل : معناه : هلّا قاتلتهم إذ قد علمت أنّي لو كنت بينهم لقاتلتهم ؛ وقيل : معناه : هلّا فارقتهم ، و «لا» في «أن لا تتبعني» زائدة ، وهو في محل نصب على أنه مفعول ثان لمنع ، أي : أيّ شيء منعك حين رؤيتك لضلالهم من اتباعي. والاستفهام في (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) للإنكار والتوبيخ ، والفاء للعطف على مقدّر كنظائره ، والمعنى : كيف خالفت أمري لك بالقيام لله ومنابذة من خالف دينه وأقمت بين هؤلاء الذين اتّخذوا العجل

__________________

(١). طه : ٩٦.

٤٥١

إلها؟ وقيل : المراد بقوله «أمري» : هو قوله الذي حكى الله عنه : (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (١) ، فلما أقام معهم ولم يبالغ في الإنكار عليهم نسبه إلى عصيانه (قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) قرئ بالفتح والكسر للميم ، وقد تقدّم الكلام على هذا في سورة الأعراف ، ونسبه إلى الأمّ مع كونه أخاه لأبيه وأمه عند الجمهور استعطافا له وترقيقا لقلبه ، ومعنى (وَلا بِرَأْسِي) ولا بشعر رأسي ، أي : لا تفعل هذا بي عقوبة منك لي ، فإن لي عذرا هو (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : خشيت إن خرجت عنهم وتركتهم أن يتفرقوا فتقول إني فرقت جماعتهم ، وذلك لأنّ هارون لو خرج لتبعه جماعة منهم وتخلّف مع السامريّ عند العجل آخرون ، وربما أفضى ذلك إلى القتال بينهم ، ومعنى (وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) ولم تعمل بوصيتي لك فيهم ، إني خشيت أن تقول فرّقت بينهم وتقول لم تعمل بوصيتي لك فيهم وتحفظها ، ومراده بوصية موسى له هو قوله : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ) قال أبو عبيد : معنى (وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) ولم تنتظر عهدي وقدومي ؛ لأنك أمرتني أن أكون معهم ، فاعتذر هارون إلى موسى هاهنا بهذا ، واعتذر إليه في الأعراف بما حكاه الله عنه هنالك حيث قال : (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) (٢) ثم ترك موسى الكلام مع أخيه وخاطب السامريّ ف (قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ) أي : ما شأنك؟ وما الذي حملك على ما صنعت؟ (قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) أي : قال السامريّ مجيبا على موسى : رأيت ما لم يروا ، أو علمت بما لم يعلموا ، وفطنت لما لم يفطنوا له ، وأراد بذلك أنه رأى جبريل على فرس الحياة ، فألقي في ذهنه أن يقبض قبضة من أثر الرسول ، وأن ذلك الأثر لا يقع على جماد إلا صار حيا. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وخلف ما لم تبصروا به بالمثناة من فوق على الخطاب. وقرأ الباقون بالتحتية ، وهي أولى ، لأنه يبعد كلّ البعد أن يخاطب موسى بذلك ، ويدّعي لنفسه أنه علم ما لم يعلم به موسى ، وقرئ بضم الصاد فيهما وبكسرها في الأوّل وفتحها في الثاني ، وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسعود والحسن وقتادة فقبصت قبصة بالصاد المهملة فيهما ، وقرأ الباقون بالضاد المعجمة فيهما ، والفرق بينهما أن القبض بالمعجمة : هو الأخذ بجميع الكف ، وبالمهملة : بأطراف الأصابع ، والقبضة بضم القاف : القدر المقبوض. قال الجوهري : هي ما قبضت عليه من شيء ، قال : وربما جاء بالفتح ، وقد قرئ (قَبْضَةً) بضم القاف وفتحها ، ومعنى الفتح المرّة من القبض ، ثم أطلقت على المقبوض وهو معنى القبضة بضم القاف ، ومعنى (مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) من المحل الذي وقع عليه حافر فرس جبريل ، ومعنى (فَنَبَذْتُها) فطرحتها في الحلّي المذابة المسبوكة على صورة العجل (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) قال الأخفش : أي : زيّنت ؛ أي : ومثل ذلك التّسويل سوّلت لي نفسي ؛ وقيل : معنى (سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) : حدّثني نفسي ، فلما سمع موسى منه ذلك (قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) أي : فاذهب من بيننا ، واخرج عنّا ، فإنّ لك في الحياة ؛ أي : ما دمت حيا ، وطول حياتك ، أن تقول لا مساس. المساس : مأخوذ من المماسّة ؛ أي : لا يمسك أحد ولا تمسّ أحدا ، لكن لا بحسب الاختيار منك ،

__________________

(١). الأعراف : ١٤٢.

(٢). الأعراف : ١٥٠.

٤٥٢

بل بموجب الاضطرار الملجئ إلى ذلك ؛ لأنّ الله سبحانه أمر موسى أن ينفي السامريّ عن قومه ، وأمر بني إسرائيل أن لا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلّموه عقوبة له. قيل : إنه لما قال له موسى ذلك هرب ، فجعل يهيم في البريّة مع السّباع والوحش لا يجد أحدا من الناس يمسّه ، حتى صار كمن يقول لا مساس لبعده عن الناس وبعد الناس عنه ، كما قال الشاعر :

حمّال رايات بها قناعسا

حتى تقول الأزد لا مسايسا

قال سيبويه : وهو مبني على الكسر. قال الزجاج : كسرت السين لأنّ الكسرة من علامة التأنيث. قال الجوهري في الصحاح : وأما قول العرب لا مساس مثل قطام فإنما بني على الكسر لأنه معدول عن المصدر ، وهو المسّ. قال النحاس : وسمعت عليّ بن سليمان يقول : سمعت محمد بن يزيد المبرد يقول : إذا اعتلّ الشيء من ثلاث جهات وجب أن يبنى ، وإذا اعتل من جهتين وجب أن لا ينصرف ، لأنه ليس بعد الصرف إلا البناء ، فمساس ودراك اعتل من ثلاث جهات : منها أنه معدول ، ومنها أنه مؤنث ، ومنها أنه معرفة ، فلما وجب البناء فيه وكانت الألف قبل السين ساكنة كسرت السين لالتقاء الساكنين. وقد رأيت أبا إسحاق يعني الزجاج ذهب إلى أن هذا القول خطأ ، وألزم أبا العباس : إذا سميت امرأة بفرعون : أن يبنيه ، وهذا لا يقوله أحد. وقد قرأ بفتح الميم أبو حيوة ، والباقون بكسرها. وحاصل ما قيل في معنى لا مساس ثلاثة أوجه : الأوّل : أنه حرم عليه مماسة الناس ، وكان إذا ماسّه أحد حمّ الماسّ والممسوس ، فلذلك كان يصيح إذا رأى أحدا : لا مساس. والثاني : أنّ المراد منع الناس من مخالطته ؛ واعترض بأنّ الرجل إذا صار مهجورا فلا يقول هو لا مساس وإنما يقال له ، وأجيب بأن المراد الحكاية ، أي : أجعلك يا سامريّ بحيث إذا أخبرت عن حالك قلت لا مساس. والقول الثالث : أن المراد انقطاع نسله ، وأن يخبر بأنه لا يتمكّن من مماسّة المرأة ، قاله أبو مسلم وهو ضعيف جدا. ثم ذكر حاله في الآخرة فقال : (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ) أي : لن يخلفك الله ذلك الموعد ، وهو يوم القيامة ، والموعد مصدر ، أي : إنّ لك وعدا لعذابك ، وهو كائن لا محالة. قال الزجاج : أي : يكافئك الله على ما فعلت في القيامة ، والله لا يخلف الميعاد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن محيصن واليزيدي والحسن «لن تخلفه» بكسر اللام ، وله على هذا القراءة معنيان : أحدهما : ستأتيه ولن تجده مخلفا ، كما تقول : أحمدته ، أي : وجدته محمودا. والثاني : على التهديد ، أي : لا بدّ لك من أن تصير إليه. وقرأ ابن مسعود لن نخلفه بالنون ؛ أي : لن يخلفه الله. وقرأ الباقون بفتح اللام ، وبالفوقية مبنيا للمفعول ، معناه ما قدّمناه (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) ظلت أصله ظللت ، فحذفت اللام الأولى تخفيفا ، والعرب تفعل ذلك كثيرا. وقرأ الأعمش باللامين على الأصل. وفي قراءة ابن مسعود (ظَلْتَ) بكسر الظاء. والمعنى : انظر إلى إلهك الذي دمت وأقمت على عبادته ، والعاكف : الملازم (لَنُحَرِّقَنَّهُ) قرأ الجمهور بضم النون وتشديد الراء من حرّقه يحرّقه. وقرأ الحسن بضم النون وسكون الحاء وتخفيف الراء من أحرقه يحرقه. وقرأ عليّ وابن عباس وأبو جعفر وابن محيصن وأشهب والعقيلي (لَنُحَرِّقَنَّهُ) بفتح النون وضم الراء مخففة ، من حرقت الشيء أحرقه حرقا إذا بردته وحككت بعضه ببعض ، أي : لنبردنّه

٤٥٣

بالمبارد ، ويقال للمبرد المحرق. والقراءة الأولى أولى ، ومعناها الإحراق بالنار ، وكذا معنى القراءة الثانية ، وقد جمع بين هذه القراءات الثلاث بأنه أحرق ، ثم برد بالمبرد ، وفي قراءة ابن مسعود «لنذبحنه ثم لنحرقنه» ، واللام هي الموطئة للقسم (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) النسف : نفض الشيء ليذهب به الريح. قرأ أبو رجاء (لَنَنْسِفَنَّهُ) بضم السين ، وقرأ الباقون بكسرها ، وهما لغتان. والمنسف : ما ينسف به الطعام ، وهو شيء متصوب الصدر أعلاه مرتفع ، والنّسافة : ما يسقط منه (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا هذا العجل الذي فتنكم به السامريّ (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) قرأ الجمهور «وسع» بكسر السين مخفّفة. وهو متعدّ إلى مفعول واحد ، وهو كل شيء ، وانتصاب علما على التمييز المحوّل عن الفاعل ، أي : وسع علمه كل شيء. وقرأ مجاهد وقتادة «وسّع» بتشديد السين وفتحها فيتعدى إلى مفعولين ، ويكون انتصاب علما على أنه المفعول الأوّل وإن كان متأخرا ، لأنه في الأصل فاعل ، والتقدير : وسع علمه كل شيء ، وقد مرّ نحو هذا في الأعراف (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ) الكاف في محل نصب على أنها نعت لمصدر محذوف ، أي : كما قصصنا عليك خبر موسى كذلك نقصّ عليك (مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) أي : من أخبار الحوادث الماضية في الأمم الخالية لتكون تسلية لك ودلالة على صدقك ، ومن للتبعيض ، أي : بعض أخبار ذلك (وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) المراد بالذكر القرآن ، وسمّي ذكرا لما فيه من الموجبات للتذكر والاعتبار ، وقيل : المراد بالذكر الشرف ؛ كقوله : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) ثم توعّد سبحانه المعرضين على هذا الذكر فقال : (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) أي : أعرض عنه فلم يؤمن به ولا عمل بما فيه ، وقيل : أعرض عن الله سبحانه ، فإن المعرض عنه يحمل يوم القيامة وزرا ؛ أي : إثما عظيما وعقوبة ثقيلة بسبب إعراضه (خالِدِينَ فِيهِ) في الوزر ، والمعنى : أنهم يقيمون في جزائه ، وانتصاب خالدين على الحال (وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) أي : بئس الحمل يوم القيامة ، والمخصوص بالذمّ محذوف ؛ أي : ساء لهم حملا وزرهم ، واللام للبيان كما في (هَيْتَ لَكَ).

وقد أخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله : (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) قال : أمره موسى أن يصلح ولا يتبع سبيل المفسدين. فكان من إصلاحه أن ينكر العجل. وأخرج عنه أيضا في قوله : (وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) قال : لم تنتظر قولي ما أنا صانع ، وقال ابن عباس : لم ترقب ولم تحفظ قولي. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) قال : عقوبة له (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ) قال : لن تغيب عنه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) قال : أقمت (لَنُحَرِّقَنَّهُ) قال بالنار (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِ) قال : لنذرينه في البحر. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه كان يقرأ (لَنُحَرِّقَنَّهُ) خفيفة ويقول : إن الذهب والفضة لا تحرق بالنار ، بل تسحل بالمبرد ، ثم تلقى على النار فتصير رمادا. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : (الْيَمِ) : البحر. وأخرج أيضا عن عليّ قال : (الْيَمِ) : النهر. وأخرج أيضا عن قتادة في قوله : (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) قال : ملأ. وأخرج أيضا عن ابن زيد في قوله : (مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) قال :

٤٥٤

القرآن. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد (وِزْراً) قال : إثما. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) يقول : بئس ما حملوا.

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢))

الظرف هو (يَوْمَ يُنْفَخُ) متعلّق بمقدّر هو اذكر ، وقيل : هو بدل من يوم القيامة ، والأوّل أولى. قرأ الجمهور (يُنْفَخُ) بضم الياء التحتية مبنيا للمفعول ، وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق بالنون مبنيا للفاعل ، واستدلّ أبو عمرو على قراءته هذه بقوله : (وَنَحْشُرُ) فإنه بالنون. وقرأ ابن هرمز (يُنْفَخُ) بالتحتية مبنيا للفاعل ؛ على أن الفاعل هو الله سبحانه أو إسرافيل ، وقرأ أبو عياض (فِي الصُّورِ) بفتح الواو ، جمع صورة ، وقرأ الباقون بسكون الواو ، وقرأ طلحة بن مصرّف والحسن يحشر بالياء التحتية مبنيا للمفعول ، ورفع «المجرمون» وهو خلاف رسم المصحف. وقرأ الباقون بالنون ، وقد سبق تفسير هذا في الأنعام. والمراد بالمجرمين المشركون والعصاة المأخوذون بذنوبهم التي لم يغفرها الله لهم ، والمراد ب (يَوْمَئِذٍ) يوم النفخ في الصور ، وانتصاب زرقا على الحال من المجرمين ، أي : زرق العيون ، والزرقة : الخضرة في العين كعين السنور ، والعرب تتشاءم بزرقة العين ، وقال الفرّاء (زُرْقاً) : أي عميا. وقال الأزهري : عطاشا ، وهو قول الزجاج ؛ لأن سواد العين يتغيّر بالعطش إلى الزّرقة. وقيل : إنه كنى بقوله زرقا عن الطمع الكاذب إذا تعقبته الخيبة ، وقيل : هو كناية عن شخوص البصر من شدّة الخوف ، ومنه قول الشاعر :

لقد زرقت عيناك يا ابن معكبر

كما كلّ ضبّيّ من اللّؤم أزرق

والقول الأوّل أولى ، والجمع بين هذه الآية وبين قوله : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) (١) ما قيل من أن ليوم القيامة حالات ومواطن تختلف فيها صفاتهم ، ويتنوع عندها عذابهم ، وجملة (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ) في محل نصب على الحال ، أو مستأنفة لبيان ما هم فيه في ذلك اليوم ، والخفت في اللغة : السكون ، ثم قيل لمن خفض صوته : خفته. والمعنى يتساررون ، أي : يقول بعضهم لبعض سرّا (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) أي : ما لبثتم في الدنيا إلا عشر ليال ، وقيل : في القبور ، وقيل : بين النفختين. والمعنى : أنهم يستقصرون مدة مقامهم في الدنيا ، أو في القبور ، أو بين النفختين لشدّة ما يرون من أهوال

__________________

(١). الإسراء : ٩٧.

٤٥٥

القيامة. وقيل : المراد بالعشر عشر ساعات. ثم لما قالوا هذا القول قال الله سبحانه : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) أي : أعدلهم قولا ، وأكملهم رأيا ، وأعلمهم عند نفسه (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) أي : ما لبثتم إلا يوما واحدا ، ونسبة هذا القول إلى أمثلهم ؛ لكونه أدلّ على شدّة الهول ، لا لكونه أقرب إلى الصدق (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) أي : عن حال الجبال يوم القيامة ، وقد كانوا سألوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، فأمره الله سبحانه أن يجيب عنهم ، فقال : (فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) قال ابن الأعرابي وغيره : يقلعها قلعا من أصولها ، ثم يصيرها رملا يسيل سيلا ، ثم يسيرها كالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا ، ثم كالهباء المنثور. والفاء في قوله : (فَقُلْ) لجواب شرط مقدّر ، والتقدير : إن سألوك فقل ، أو للمسارعة إلى إلزام السائلين ، والضمير في قوله : (فَيَذَرُها) راجع إلى الجبال باعتبار مواضعها ، أي : فيذر مواضعها بعد نسف ما كان عليها من الجبال (قاعاً صَفْصَفاً) قال ابن الأعرابي : القاع الصفصف : الأرض الملساء بلا نبات ولا بناء ، وقال الفراء : القاع : مستنقع الماء ، والصفصف : القرعاء الملساء التي لا نبات فيها. وقال الجوهري : القاع : المستوي من الأرض ، والجمع : أقوع وأقواع وقيعان. والظاهر من لغة العرب أن القاع : الموضع المنكشف ، والصفصف : المستوي الأملس ، وأنشد سيبويه :

وكم دون بيتك من صفصف

ودكداك رمل وأعقادها (١)

وانتصاب قاعا على أنه مفعول ثان ليذر على تضمينه معنى التصيير ، أو على الحال ، والصفصف صفة له ، ومحل (لا تَرى فِيها عِوَجاً) النصب على أنه صفة ثانية لقاعا ، والضمير راجع إلى الجبال بذلك الاعتبار ، والعوج بكسر العين التعوّج ، قاله ابن الأعرابي. والأمت : التلال الصغار ، والأمت في اللغة : المكان المرتفع ، وقيل : العوج : الميل ، والأمت : الأثر ، مثل الشراك ، وقيل : العوج : الوادي ، والأمت : الرابية ، وقيل : هما الارتفاع ، وقيل : العوج : الصدوع ، والأمت : الأكمة ، وقيل : الأمت : الشقوق في الأرض ، وقيل : الأمت : أن يغلظ في مكان ويدق في مكان ، ووصف مواضع الجبال بالعوج بكسر العين هاهنا يدفع ما يقال : إن العوج بكسر العين في المعاني وبفتحها في الأعيان ، وقد تكلّف لذلك صاحب الكشاف في هذا الموضع بما عنه غنى ، وفي غيره سعة (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ) أي : يوم نسف الجبال يتبع الناس داعي الله إلى المحشر. وقال الفرّاء : يعني صوت الحشر ، وقيل : الداعي هو إسرافيل إذا نفخ في الصور لا عوج له ، أي : لا معدل لهم عن دعائه فلا يقدرون على أن يزيغوا عنه ، أو ينحرفوا منه ، بل يسرعون إليه ، كذا قال أكثر المفسرين ، وقيل : لا عوج لدعائه (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) أي : خضعت لهيبته ، وقيل : ذلت ، وقيل : سكتت ، ومنه قول الشاعر :

لما أتى خبر الزّبير تواضعت

سور المدينة والجبال الخشّع

__________________

(١). البيت للأعشى.

«الدكداك» : الرمل المستوي. «الأعقاد» : المنعقد من الرمل المتراكب.

٤٥٦

(فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) الهمس : الصوت الخفي. قال أكثر المفسرين : هو صوت نقل الأقدام إلى المحشر ، ومنه قول الشاعر :

وهنّ يمشين بنا هميسا

يعني صوت أخفاف الإبل.

وقال رؤبة يصف نفسه :

ليث يدقّ الأسد الهموسا

والأقهبين (١) الفيل والجاموسا

يقال للأسد : الهموس ، لأنه يهمس في الظلمة ، أي : يطأ وطأ خفيا. والظاهر أن المراد هنا كل صوت خفيّ سواء كان بالقدم ، أو من الفم ، أو غير ذلك ، ويؤيده قراءة أبيّ بن كعب «فلا ينطقون إلا همسا» (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ) أي : يوم يقع ما ذكر لا تنفع الشفاعة من شافع كائنا من كان (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) أي : إلا شفاعة من أذن له الرحمن أن يشفع له (وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) أي : رضي قوله في الشفاعة ، أو رضي لأجله قول الشافع. والمعنى : إنما تنفع الشفاعة لمن أذن له الرحمن في أن يشفع له ، وكان له قول يرضي ، ومثل هذه الآية قوله : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (٢) ، وقوله : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) (٣) ، وقوله : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) (٤). (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي : ما بين أيديهم من أمر الساعة ، وما خلفهم من أمر الدنيا ، والمراد هنا جميع الخلق ، وقيل : المراد بهم الذين يتبعون الداعي ، وقال ابن جرير : الضمير يرجع إلى الملائكة ، أعلم الله من يعبدها أنها لا تعلم ما بين أيديها وما خلفها (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) أي : بالله سبحانه ، لا تحيط علومهم بذاته ، ولا بصفاته ، ولا بمعلوماته ، وقيل : الضمير راجع إلى ما في الموضعين ؛ فإنهم لا يعلمون جميع ذلك (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) أي : ذلت وخضعت ، قاله ابن الأعرابي. قال الزجّاج : معنى عنت في اللغة خضعت ، يقال : عنا يعنو عنوا إذا خضع ، ومنه قيل للأسير : عان ، ومنه قول أمية بن أبي الصّلت :

مليك على عرش السّماء مهيمن

لعزّته تعنو الوجوه وتسجد

وقيل هو من العناء ، بمعنى التعب. (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) أي : خسر من حمل شيئا من الظلم ، وقيل : هو الشرك (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) أي : الأعمال الصالحة (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) بالله ؛ لأن العمل لا يقبل من غير إيمان ، بل هو شرط في القبول (فَلا يَخافُ ظُلْماً) يصاب به من نقص ثواب في الآخرة (وَلا هَضْماً) الهضم : النقص والكسر ، يقال هضمت لك من حقّي ، أي : حططته وتركته ، وهذا يهضم الطعام ، أي : ينقص ثقله ، وامرأة هضيم الكشح ، أي : ضامرة البطن ، وقرأ ابن كثير ومجاهد «لا يخف» بالجزم جوابا لقوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) وقرأ الباقون (يَخافُ) على الخبر.

__________________

(١). سمّي الفيل والجاموس أقهبين للونهما ؛ وهو الغبرة.

(٢). الأنبياء : ٢٨.

(٣). مريم : ٨٧.

(٤). المدثر : ٤٨.

٤٥٧

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن رجلا أتاه ، فقال : رأيت قوله : (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) وأخرى (عُمْياً) (١) قال : إن يوم القيامة فيه حالات يكونون في حال زرقا ، وفي حال عميا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ) قال : يتساررون. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد ابن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) قال : أوفاهم عقلا ، وفي لفظ قال : أعلمهم في نفسه. وأخرج ابن المنذر وابن جريج قال : قالت قريش : كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة؟ فنزلت (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) الآية. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً) قال : لا نبات فيه (لا تَرى فِيها عِوَجاً) قال : واديا (وَلا أَمْتاً) قال : رابية. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة أنه سئل عن قوله : (قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) قال : كان ابن عباس يقول : هي الأرض الملساء التي ليس فيها رابية مرتفعة ولا انخفاض. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (عِوَجاً) قال : ميلا ؛ (وَلا أَمْتاً) قال : الأمت : الأثر ، مثل الشراك. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال : يحشر الناس يوم القيامة في ظلمة تطوى السماء ، وتتناثر النجوم ، وتذهب الشمس والقمر ، وينادي مناد فيتبع الناس الصوت يؤمّونه ، فذلك قول الله : (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ). وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح في الآية : قال : لا عوج عنه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ) قال : سكتت (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) قال : الصوت الخفيّ. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : (إِلَّا هَمْساً) قال : صوت وطء الأقدام. وأخرج عبد بن حميد عن الضحّاك وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد قال : الصوت الخفيّ. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد ابن جبير قال : سرّ الحديث وصوت الأقدام. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ) قال : ذلّت. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : خشعت. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : خضعت. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ) : الركوع والسجود. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) قال : شركا. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) قال : شركا (فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) قال : (ظُلْماً) أن يزاد في سيئاته (وَلا هَضْماً) قال : ينقص من حسناته. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : لا يخاف أن يظلم في سيئاته ، ولا يهضم في حسناته. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه (وَلا هَضْماً) قال : غصبا.

__________________

(١). هي في قوله تعالى : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً) [الإسراء : ٩٧].

٤٥٨

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤) وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢))

قوله : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ) معطوف على قوله : (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ) أي : مثل ذلك الإنزال أنزلناه ، أي : القرآن حال كونه (قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي : بلغة العرب ليفهموه (وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ) بينا فيه ضروبا من الوعيد تخويفا وتهديدا ، أو كررنا فيه بعضا منه (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي : كي يخافوا الله فيتجنبوا معاصيه ، ويحذروا عقابه (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) أي : اعتبارا واتّعاظا ، وقيل : ورعا ، وقيل : شرفا ، وقيل : طاعة وعبادة ؛ لأن الذكر يطلق عليها. وقرأ الحسن «أو نحدث» بالنون (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) لما بين للعباد عظيم نعمته عليهم بإنزال القرآن نزّه نفسه عن مماثلة مخلوقاته في شيء من الأشياء ، أي : جلّ الله عن إلحاد الملحدين وعمّا يقول المشركون في صفاته ، فإنه الملك الذي بيده الثواب والعقاب ، وإنه (الْحَقُ) أي ذو الحق. (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) أي : يتمّ إليك وحيه. قال المفسرون : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي ؛ حرصا منه على ما كان ينزل عليه منه ، فنهاه الله عن ذلك ، ومثله قوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) (١) على ما يأتي إن شاء الله ، وقيل : المعنى : ولا تلقه إلى الناس قبل أن يأتيك بيان تأويله ، وقرأ ابن مسعود ويعقوب والحسن والأعمش «من قبل أن نقضي» بالنون ونصب وحيه (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) أي : سل ربّك زيادة العلم بكتابه (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ) اللام هي الموطئة للقسم ، والجملة مستأنفة مقرّرة لما قبلها من تصريف الوعيد ، أي : لقد أمرناه ووصّيناه ، والمعهود محذوف ، وهو ما سيأتي من نهيه عن الأكل من الشجرة ، ومعنى (مِنْ قَبْلِ) أي : من قبل هذا الزمان (فَنَسِيَ) قرأ الأعمش بإسكان الياء ، والمراد بالنسيان هنا : ترك العمل بما وقع به العهد إليه فيه ، وبه قال أكثر المفسرين ، وقيل : النسيان على حقيقته ، وأنه نسي ما عهد الله به إليه وينتهي عنه ، وكان آدم مأخوذا بالنسيان في ذلك الوقت ، وإن كان النسيان مرفوعا عن هذه الأمة ، والمراد من الآية تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على القول الأوّل. أي : إن طاعة بني آدم للشيطان أمر قديم ، وإن هؤلاء المعاصرين له إن نقضوا العهد فقد نقض أبوهم آدم ، كذا قال ابن جرير والقشيري ، واعترضه ابن عطية قائلا بأن كون

__________________

(١). القيامة : ١٦.

٤٥٩

آدم مماثلا للكفار الجاحدين بالله ليس بشيء ، وقرئ فنسي بضم النون وتشديد السين مكسورة مبنيا للمفعول ، أي : فنسّاه إبليس (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) العزم في اللغة : توطين النفس على الفعل والتصميم عليه ، والمضيّ على المعتقد في أيّ شيء كان ، وقد كان آدم عليه‌السلام قد وطّن نفسه على أن لا يأكل من الشجرة وصمّم على ذلك ، فلما وسوس إليه إبليس لانت عريكته ، وفتر عزمه ، وأدركه ضعف البشر ؛ وقيل : العزم الصبر ، أي : لم نجد له صبرا عن أكل الشجرة. قال النحاس : وهو كذلك في اللغة ، يقال : لفلان عزم ، أي : صبر وثبات على التحفظ عن المعاصي حتى يسلم منها ، ومنه : (كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) ، وقيل : المعنى : ولم نجد له عزما على الذنب ، وبه قال ابن كيسان ، وقيل : ولم نجد له رأيا معزوما عليه ، وبه قال ابن قتيبة. ثم شرع سبحانه في كيفية ظهور نسيانه وفقدان عزمه ، والعامل في إذ مقدّر ، أي : (وَ) اذكر (إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) وتعليق الذكر بالوقت مع أن المقصود ذكر ما فيه من الحوادث للمبالغة ؛ لأنه إذا وقع الأمر بذكر الوقت كان ذكر ما فيه من الحوادث لازما بطريق الأولى ، وقد تقدّم تفسير هذه القصّة في البقرة مستوفى ، ومعنى (فَتَشْقى) فتتعب في تحصيل ما لا بدّ منه في المعاش كالحرث والزرع ، ولم يقل فتشقيا ؛ لأن الكلام من أوّل القصة مع آدم وحده ، ثم علّل ما يوجبه ذلك النهي بما فيه الراحة الكاملة عن التعب والاهتمام فقال : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى) أي : في الجنة. والمعنى : إن لك فيها تمتّعا بأنواع المعايش وتنعّما بأصناف النعم من المآكل الشهية والملابس البهية ، فإنه لما نفى عنه الجوع والعري أفاد ثبوت الشبع والاكتساء له ، وهكذا قوله : (وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) فإن نفي الظمأ يستلزم حصول الرّيّ ووجود المسكن ؛ الذي يدفع عنه مشقة الضحو. يقال ضحا الرجل يضحو ضحوا ؛ إذا برز للشمس فأصابه حرّها ، فذكر سبحانه هاهنا أنه قد كفاه الاشتغال بأمر المعاش وتعب الكدّ في تحصيله ، ولا ريب أن أصول المتاعب في الدنيا هي تحصيل الشبع والريّ والكسوة والكنّ ، وما عدا هذه ففضلات يمكن البقاء بدونها ، وهو إعلام من الله سبحانه لآدم أنه إن أطاعه فله في الجنة هذا كله ، وإن ضيّع وصيته ولم يحفظ عهده أخرجه من الجنة إلى الدنيا ، فيحلّ به التعب والنصب بما يدفع الجوع والعري والظمأ والضحو ، فالمراد بالشقاء شقاء الدنيا كما قاله كثير من المفسرين لا شقاء الأخرى. قال الفراء : هو أن يأكل من كدّ يديه ، وقرأ أبو عمرو والكوفيون إلا عاصما «وأنك لا تظمأ» بفتح أن ، وقرأ الباقون بكسرها على العطف على «إنّ لك». (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ) قد تقدّم تفسيره في الأعراف في قوله : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) أي : أنهى إليه وسوسته ، وجملة (قالَ يا آدَمُ) إلى آخره إما بدل من وسوس أو مستأنفة بتقدير سؤال ، كأنه قيل : فماذا قال له في وسوسته؟ و (شَجَرَةِ الْخُلْدِ) هي الشجرة التي من أكل منها لم يمت أصلا (وَمُلْكٍ لا يَبْلى) أي : لا يزول ولا ينقضي (فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) قد تقدّم تفسير هذا وما بعده في الأعراف. قال الفراء : ومعنى «طفقا» في العربية : أقبلا ، وقيل : جعلا يلصقان عليهما من ورق التين (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) أي : عصاه بالأكل من الشجرة ، فغوى ، فضلّ عن الصواب أو عن مطلوبه ، وهو الخلود بأكل تلك الشجرة ، وقيل : فسد عليه عيشته بنزوله إلى الدنيا ، وقيل : جهل موضع رشده ،

٤٦٠