فتح القدير - ج ٣

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٣

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٧

الرشاد. والمعنى : أنهم سيلقون شرّا لا خيرا ؛ وقيل : الغيّ الضلال ، وقيل : الخيبة ، وقيل : هو اسم واد في جهنم ، وقيل : في الكلام حذف ، والتقدير : سيلقون جزاء الغيّ ، كذا قال الزجاج ، ومثله قوله سبحانه : (يَلْقَ أَثاماً) (١) ، أي : جزاء أثام (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) أي : تاب ممّا فرط منه من تضييع الصلوات واتباع الشهوات ، فرجع إلى طاعة الله وآمن به وعمل عملا صالحا ، وفي هذا الاستثناء دليل على أن الآية في الكفرة لا في المسلمين (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) قرأ أبو جعفر وشيبة وابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب وأبو بكر (يَدْخُلُونَ) بضم الياء وفتح الخاء ، وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الخاء (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) أي : لا ينقص من أجورهم شيء وإن كان قليلا ، فإن الله سبحانه يوفي إليهم أجورهم ، وانتصاب (جَنَّاتِ عَدْنٍ) على البدل من الجنة ، بدل البعض لكون جنات عدن بعض من الجنة. قال الزجاج : ويجوز جنات عدن بالرفع على الابتداء ، وقرئ كذلك. قال أبو حاتم : ولو لا الخط لكان جنة عدن ، يعني : بالإفراد مكان الجمع ، وليس هذا بشيء ، فإن الجنة اسم لمجموع الجنات التي هي بمنزلة الأنواع للجنس. وقرئ بنصب الجنات على المدح ، وقد قرئ جنة بالإفراد (الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) هذه الجملة صفة لجنات عدن ، وبالغيب في محل نصب على الحال من الجنات ، أو من عباده ، أي : متلبسة ، أو متلبسين بالغيب ، وقرئ بصرف عدن ، ومنعها على أنها علم لمعنى العدن وهو الإقامة ، أو علم لأرض الجنة (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) أي : موعوده على العموم ، فتدخل فيه الجنات دخولا أوّليا. قال الفراء : لم يقل آتيا ، لأن كل ما أتاك فقد أتيته ، وكذا قال الزجاج (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) هو الهذر من الكلام الذي يلغى ولا طائل تحته ، وهو كناية عن عدم صدور اللغو منهم ، وقيل : اللغو كل ما لم يكن فيه ذكر الله (إِلَّا سَلاماً) هو استثناء منقطع : أي سلام بعضهم على بعض ، أو سلام الملائكة عليهم. وقال الزجّاج : السلام اسم جامع للخير ، لأنه يتضمّن السلامة ، والمعنى : إن أهل الجنة لا يسمعون ما يؤلمهم وإنما يسمعون ما يسلمهم (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) قال المفسرون : ليس في الجنة بكرة ولا عشية ، ولكنهم يؤتون رزقهم على مقدار ما يعرفون من الغداء والعشاء (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) أي : هذه الجنة التي وصفنا أحوالها نورثها من كان من أهل التقوى كما يبقى على الوارث مال موروثه. قرأ يعقوب (نُورِثُ) بفتح الواو وتشديد الراء ، وقرأ الباقون بالتخفيف ؛ وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : نورث من كان تقيا من عبادنا.

وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) قال : النبيّ الذي يكلم وينزل عليه ولا يرسل ، ولفظ ابن أبي حاتم : الأنبياء الذين ليسوا برسل يوحى إلى أحدهم ولا يرسل إلى أحد. والرسل : الأنبياء الذين يوحى إليهم ويرسلون. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) قال : جانب الجبل الأيمن (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) قال : نجا بصدقه. وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال : قربه حتى سمع صريف القلم ، يكتب في اللوح. وأخرجه الديلمي عنه مرفوعا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ

__________________

(١). الفرقان : ٦٨.

٤٠١

هارُونَ) قال : كان هارون أكبر من موسى ، ولكن إنما وهب له نبوّته. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) قال : كان إدريس خياطا ، وكان لا يغرز غرزة إلا قال سبحان الله ، وكان يمسي حين يمسي وليس على الأرض أفضل عملا منه ، فاستأذن ملك من الملائكة ربه فقال : يا ربّ ائذن لي فأهبط إلى إدريس ، فأذن له فأتى إدريس فقال : إني جئتك لأخدمك ، قال : كيف تخدمني وأنت ملك وأنا إنسان؟ ثم قال إدريس : هل بينك وبين ملك الموت شيء؟ قال الملك : ذاك أخي من الملائكة ، قال : هل يستطيع أن ينسئني؟ قال : أما أن يؤخّر شيئا أو يقدّمه فلا ، ولكن سأكلّمه لك فيرفق بك عند الموت ، فقال : اركب بين جناحيّ ، فركب إدريس فصعد إلى السماء العليا ، فلقي ملك الموت وإدريس بين جناحيه ، فقال له الملك : إن لي إليك حاجة ، قال : علمت حاجتك تكلّمني في إدريس ، وقد محي اسمه من الصحيفة فلم يبق من أجله إلا نصف طرفة عين ، فمات إدريس بين جناحي الملك. وأخرج ابن أبي شيبة في المصاحف ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : سألت كعبا فذكر نحوه ، فهذا هو من الإسرائيليات التي يرويها كعب. وأخرج ابن أي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : رفع إدريس إلى السماء السادسة. وأخرج الترمذي وصحّحه ، وابن المنذر وابن مردويه قال : حدثنا أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لمّا عرج بي رأيت إدريس في السماء الرابعة». وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدريّ مرفوعا نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : رفع إدريس كما رفع عيسى ولم يمت. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : إدريس هو إلياس. وحسّنه السيوطي. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) إلى آخره ، قال : هذه تسمية الأنبياء الذين ذكرهم ؛ أما من ذرية آدم : فإدريس ونوح ؛ وأما من حمل مع نوح فإبراهيم ؛ وأما ذرية إبراهيم : فإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ؛ وأما ذرية إسرائيل : فموسى ، وهارون ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) قال : هم اليهود والنصارى. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في الآية قال : هم من هذه الأمة يتراكبون في الطرق كما تراكب الأنعام ، لا يستحيون من الناس ، ولا يخافون من الله في السماء. وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود في قوله : (أَضاعُوا الصَّلاةَ) قال : ليس إضاعتها تركها ، قد يضيع الإنسان الشيء ولا يتركه ، ولكن إضاعتها : إذا لم يصلّها لوقتها. وأخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن أبي سعيد الخدري سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتلا هذه الآية (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) الآية قال : «يكون خلف من بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) ثم يكون خلف يقرءون القرآن لا يعدو تراقيهم ، ويقرأ القرآن ثلاثة : مؤمن ، ومنافق ، وفاجر». وأخرج أحمد ، والحاكم وصحّحه ، عن عقبة بن عامر : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «سيهلك من أمتي أهل الكتاب وأهل اللّين ، قلت : يا رسول الله ما أهل الكتاب؟ قال : قوم يتعلّمون الكتاب يجادلون به الذين آمنوا. قلت : ما أهل اللّين؟ قال : قوم يتبعون الشهوات ويضيعون الصلوات». وأخرج

٤٠٢

ابن أبي حاتم وابن مردويه ، والحاكم وصحّحه ، عن عائشة أنها كانت ترسل بالصدقة لأهل الصدقة وتقول : لا تعطوا منها بربريا ولا بربرية ، فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «هم الخلف الذين قال الله (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ)». وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) قال : خسرا. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في البعث ، من طرق عن ابن مسعود في قوله : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) قال : الغيّ نهر ، أو واد في جهنم ؛ من قيح بعيد القعر ، خبيث الطعم ، يقذف فيه الذين يتبعون الشهوات. وقد قال بأنه واد في جهنم البراء بن عازب. وروى ذلك عنه ابن المنذر والطبراني. وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أن صخرة زنة عشر أواق قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها سبعين خريفا ، ثم تنتهي إلى غيّ وأثام ، قلت : وما غيّ وأثام؟ قال : نهران في أسفل جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار ، وهما اللذان ذكر الله في كتابه (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) (١)». وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الغيّ واد في جهنّم». وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) قال : يؤتون به في الآخرة على مقدار ما كانوا يؤتون به في الدنيا. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، من طريق أبان عن الحسن وأبي قلابة قالا : قال رجل : يا رسول الله هل في الجنة من ليل؟ قال : وما هيّجك على هذا؟ قال : سمعت الله يذكر في الكتاب (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) فقلت : الليل من البكرة والعشي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ليس هناك ليل ، وإنما هو ضوء ونور ، يرد الغدوّ على الرواح والرواح على الغدوّ ، تأتيهم طرف الهدايا من الله لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا ، وتسلم عليهم الملائكة». وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من غداة من غدوات الجنة ، وكل الجنة غدوات ، إلّا أنه يزف إلى وليّ الله فيها زوجة من الحور العين وأدناهنّ التي خلقت من الزعفران» قال بعد إخراجه : قال أبو محمد : هذا حديث منكر.

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥) وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢))

__________________

(١). الفرقان : ٦٨.

٤٠٣

قوله : (وَما نَتَنَزَّلُ) أي : قال الله سبحانه : قل يا جبريل وما نتنزل ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استبطأ نزول جبريل عليه ، فأمر جبريل أن يخبره بأن الملائكة ما تتنزل عليه إلا بأمر الله. قيل : احتبس جبريل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعين يوما ، وقيل : خمسة عشر ، وقيل : اثني عشر ، وقيل : ثلاثة أيام ، وقيل : إن هذا حكاية عن أهل الجنة ، وأنهم يقولون عند دخولها : وما نتنزل هذه الجنان (إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) والأوّل أولى بدلالة ما قبله ، ومعناه يحتمل وجهين : الأوّل : وما نتنزّل عليك إلا بأمر ربك لنا بالتنزل. والثاني : وما نتنزل عليك إلا بأمر ربك الذي يأمرك به بما شرعه لك ولأمتك ، والتنزّل : النزول على مهل ، وقد يطلق على مطلق النزول. ثم أكّد جبريل ما أخبر به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ) أي : من الجهات والأماكن ، أو من الأزمنة الماضية والمستقبلة ، وما بينهما من الزمان أو المكان الذي نحن فيه ، فلا نقدر على أن ننتقل من جهة إلى جهة ، أو من زمان إلى زمان إلا بأمر ربك ومشيئته ؛ وقيل : المعنى : له ما سلف من أمر الدنيا وما يستقبل من أمر الآخرة وما بين ذلك ، وهو ما بين النفختين ؛ وقيل : الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا ، والسماء التي وراءنا وما بين السماء والأرض ؛ وقيل : ما مضى من أعمارنا وما غبر (١) منها والحالة التي نحن فيها. وعلى هذه الأقوال كلها يكون المعنى : أن الله سبحانه هو المحيط بكل شيء ، لا يخفى عليه خافية ، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرّة ، فلا نقدم على أمر إلا بإذنه ، وقال : «وما بين ذلك» ، ولم يقل وما بين ذينك ؛ لأن المراد : وما بين ما ذكرنا ، كما في قوله سبحانه : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) (٢). (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) أي : لم ينسك وإن تأخّر عنك الوحي ؛ وقيل : المعنى : إنه عالم بجميع الأشياء لا ينسى منها شيئا ؛ وقيل : المعنى : وما كان ربك ينسى الإرسال إليك عند الوقت الذي يرسل فيه رسله (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أي : خالقهما وخالق ما بينهما ، ومالكهما ومالك ما بينهما ، ومن كان هكذا فالنسيان محال عليه. ثم أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعبادته والصبر عليها فقال : (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) والفاء للسببية ؛ لأن كونه ربّ العالمين سبب موجب لأن يعبد ، وعدّى فعل الصبر باللام دون على التي يتعدّى بها لتضمّنه معنى الثبات (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) الاستفهام للإنكار. والمعنى : أنه ليس له مثل ولا نظير حتى يشاركه في العبادة ، فيلزم من ذلك أن تكون غير خالصة له سبحانه ، فلما انتفى المشارك استحق الله سبحانه أن يفرد بالعبادة وتخلص له ، هذا مبنيّ على أن المراد بالسميّ هو الشريك في المسمى ؛ وقيل : المراد به : الشريك في الاسم كما هو الظاهر من لغة العرب ، فقيل المعنى : إنه لم يسمّ شيء من الأصنام ولا غيرها بالله قط ، يعني بعد دخول الألف واللام التي عوّضت عن الهمزة ولزمت ؛ وقيل : المراد هل تعلم أحدا اسمه الرحمن غيره. قال الزّجّاج : تأويله والله أعلم : هل تعلم له سميّا يستحق أن يقال له خالق وقادر وعالم بما كان وبما يكون ، وعلى هذا لا سميّ لله في جميع أسمائه ؛ لأن غيره وإن سمّي بشيء من أسمائه ، فلله سبحانه حقيقة ذلك الوصف ، والمراد بنفي العلم المستفاد من الإنكار هنا نفي المعلوم على أبلغ وجه وأكمله (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) قرأ الجمهور على الاستفهام ، وقرأ ابن ذكوان «إذا ما متّ» على الخبر ، والمراد بالإنسان

__________________

(١). غبر هنا : بمعنى بقي ، وتأتي بمعنى : مضى. انظر القاموس.

(٢). البقرة : ٦٨.

٤٠٤

هاهنا الكافر ؛ لأن هذا الاستفهام هنا للإنكار والاستهزاء والتكذيب بالبعث ؛ وقيل : اللام في الإنسان للجنس بأسره وإن لم يقل هذه المقالة إلا البعض ، وهم الكفرة فقد يسند إلى الجماعة ما قام بواحد منهم ، والمراد بقوله «أخرج» أي : من القبر ، والعامل في الظرف فعل دلّ عليه «أخرج» ؛ لأن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبلها (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) الهمزة للإنكار التوبيخي ، والواو لعطف الجملة التي بعدها على الجملة التي قبلها ، والمراد بالذكر هنا إعمال الفكر ، أي : ألا يتفكر هذا الجاحد في أوّل خلقه فيستدلّ بالابتداء على الإعادة ، والابتداء أعجب وأغرب من الإعادة ؛ لأن النشأة الأولى هي إخراج لهذه المخلوقات من العدم إلى الوجود ابتداعا واختراعا ، لم يتقدّم عليه ما يكون كالمثال له ، وأما النشأة الآخرة فقد تقدّم عليها النشأة الأولى فكانت كالمثال لها ، ومعنى (مِنْ قَبْلُ) قبل الحالة التي هو عليها الآن ، وجملة (وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) في محل نصب على الحال ، أي : والحال أنه لم يكن حينئذ شيئا من الأشياء أصلا ، فإعادته بعد أن كان شيئا موجودا أسهل وأيسر. قرأ أهل مكة وأبو عمرو وأبو جعفر وأهل الكوفة إلا عاصما أولا يذّكّر بالتشديد ، وأصله يتذكر. وقرأ شيبة ونافع وعصام وابن عامر (يَذْكُرُ) بالتخفيف ، وفي قراءة أبيّ أو لا يتذكّر. ثم لما جاء سبحانه وتعالى بهذه الحجة التي أجمع العقلاء على أنه لم يكن في حجج البعث حجّة أقوى منها ، أكّدها بالقسم باسمه سبحانه مضافا إلى رسوله تشريفا له وتعظيما ، فقال : (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ) ومعنى لنحشرنهم : لنسوقنهم إلى المحشر بعد إخراجهم من قبورهم أحياء كما كانوا ، والواو في قوله : (وَالشَّياطِينَ) للعطف على المنصوب ، أو بمعنى مع. والمعنى : أن هؤلاء الجاحدين يحشرهم الله مع شياطينهم الذين أغروهم وأضلّوهم ، وهذا ظاهر على جعل اللام في الإنسان للعهد ، وهو الإنسان الكافر ، وأما على جعلها للجنس فكونه قد وجد في الجنس من يحشر مع شيطانه (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) الجثيّ : جمع جاث ، من قولهم جثا على ركبتيه يجثو جثوا ، وهو منتصب على الحال ؛ أي : جاثين على ركبهم لما يصيبهم من هول الموقف وروعة الحساب ، أو لكون الجثي على الركب شأن أهل الموقف كما في قوله سبحانه : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) (١) ، وقيل : المراد بقوله جثيا جماعات ، وأصله جمع جثوة ، والجثوة : هي المجموع من التراب أو الحجارة. قال طرفة :

ترى جثوتين من تراب عليهما

صفائح صمّ من صفيح منضّد

(ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) الشيعة : الفرقة التي تبعت دينا من الأديان ، وخصّص ذلك الزمخشري فقال : هي الطائفة التي شاعت ، أي : تبعت غاويا من الغواة ، قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) (٢). ومعنى : (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) من كان أعصى لله وأعتى فإنه ينزع من كل طائفة من طوائف الغيّ والفساد أعصاهم وأعتاهم ، فإذا اجتمعوا طرحهم في جهنم. والعتيّ هاهنا مصدر كالعتوّ ، وهو التمرّد في العصيان. وقيل : المعنى : لننزعن من أهل كلّ دين قادتهم ورؤوسهم في الشرّ. وقد

__________________

(١). الجاثية : ٢٨.

(٢). الأنعام : ١٥٩.

٤٠٥

اتفق القراء على قراءة «أيهم» بالضم إلا هارون القارئ فإنه قرأها بالفتح. قال الزجاج : في رفع «أيهم» ثلاثة أقوال : الأوّل قول الخليل بن أحمد إنه مرفوع على الحكاية. والمعنى : ثم لننزعن من كل شيعة الذين يقال لهم أيهم أشدّ ، وأنشد الخليل في ذلك قول الشاعر :

وقد أبيت من الفتاة بمنزل

فأبيت لا حرج ولا محروم

أي : فأبيت بمنزلة الذي يقال له هو لا حرج ولا محروم. قال النحّاس : ورأيت أبا إسحاق ، يعني الزجّاج ، يختار هذا القول ويستحسنه. القول الثاني قول يونس : وهو أن لننزعنّ بمنزلة الأفعال التي تلغى وتعلق ، فهذا الفعل عنده معلّق عن العمل في أيّ ، وخصّص الخليل وسيبويه وغيرهما التعليق بأفعال الشك ونحوها ممّا لم يتحقّق وقوعه. القول الثالث قول سيبويه : إن أيهم هاهنا مبنيّ على الضم ؛ لأنه خالف أخواته في الحذف ، وقد غلّط سيبويه في قوله هذا جمهور النحويين حتى قال الزجاج : ما تبيّن لي أن سيبويه غلط في كتابه إلا في موضعين هذا أحدهما. وللنحويين في إعراب أيهم هذه في هذا الموضع كلام طويل. (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) يقال : صلى يصلى صليا (١) ، مثل مضى الشيء يمضي مضيا ، قال الجوهري : يقال : صليت الرجل نارا إذا أدخلته النار وجعلته يصلاها ، فإن ألقيته إلقاء كأنك تريد الإحراق قلت : أصليته بالألف وصلّيته تصلية ، ومنه (وَيَصْلى سَعِيراً) (٢) ومن خفّف فهو من قولهم : صلي فلان النار بالكسر يصلي صليا احترق ، قال الله تعالى : (بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا). قال العجّاج (٣) :

والله لو لا النار أن نصلاها

ومعنى الآية : أن هؤلاء الذين هم أشدّ على الرحمن عتيا هم أولى بصليها ، أو صليهم أولى بالنار (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) الخطاب للناس من غير التفات ، أو للإنسان المذكور ، فيكون التفاتا ، أي : ما منكم من أحد إلا واردها ، أي : واصلها.

وقد اختلف الناس في هذا الورود ، فقيل : الورود الدخول ، ويكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم. وقالت فرقة : الورود هو المرور على الصراط ؛ وقيل : ليس الورود الدخول ، إنما هو كما تقول : وردت البصرة ولم أدخلها. وقد توقّف كثير من العلماء عن تحقيق هذا الورود ، وحمله على ظاهره لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) (٤) قالوا : فلا يدخل النار من ضمن الله أن يبعده عنها ، وممّا يدلّ على أن الورود لا يستلزم الدخول قوله تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) (٥) فإن المراد أشرف عليه لا أنه دخل فيه ، ومنه قول زهير :

فلمّا وردن الماء زرقا جمامه

وضعن عصيّ الحاضر المتخيّم

ولا يخفى أن القول بأن الورود هو المرور على الصراط ، أو الورود على جهنم وهي خامدة فيه جمع بين

__________________

(١). صليا : بضم الصاد ، قراءة نافع وعليها التفسير.

(٢). الانشقاق : ١٢.

(٣). نسبه في اللسان مادة (فيه) إلى الزفيان ، وأورده في أبيات.

(٤). الأنبياء : ١٠١.

(٥). القصص : ٢٣.

٤٠٦

الأدلة من الكتاب والسنة ، فينبغي حمل هذه الآية على ذلك ؛ لأنه قد حصل الجمع بحمل الورود على دخول النار مع كون الداخل من المؤمنين مبعدا من عذابها ، أو بحمله على المضيّ فوق الجسر المنصوب عليها ، وهو الصراط (كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) أي : كان ورودهم المذكور أمرا محتوما قد قضى سبحانه أنه لا بدّ من وقوعه لا محالة ، وقد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن العقاب واجب على الله ، وعند الأشاعرة أن هذا مشبه بالواجب من جهة استحالة تطرّق الخلف إليه (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي : اتقوا ما يوجب النار ، وهو الكفر بالله ومعاصيه ، وترك ما شرعه ، وأوجب العمل به. قرأ عاصم الجحدري ومعاوية بن قرة ننجي بالتخفيف من أنجى ، وبها قرأ حميد ويعقوب والكسائي ، وقرأ الباقون بالتشديد ، وقرأ ابن أبي ليلى «ثمّه نذر» بفتح الثاء (١) من ثم ، والمراد بالظالمين الذين ظلموا أنفسهم بفعل ما يوجب النار ، أو ظلموا غيرهم بمظلمة في النفس أو المال أو العرض ، والجثيّ : جمع جاث ، وقد تقدّم قريبا تفسير الجثيّ وإعرابه. وقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجبريل : «ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فنزلت (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) إلى آخر الآية» وزاد ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم : وكان ذلك الجواب لمحمد. وأخرج ابن مردويه من حديث أنس قال : «سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيّ البقاع أحبّ إلى الله ، وأيها أبغض إلى الله؟ قال : ما أدري حتى أسأل ، فنزل جبريل ، وكان قد أبطأ عليه ، فقال : لقد أبطأت عليّ حتى ظننت أن بربي عليّ موجدة ، فقال : وما نتنزّل إلا بأمر ربك». وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : «أبطأ جبريل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعين يوما ثم نزل ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما نزلت حتى اشتقت إليك ، فقال له جبريل : أنا كنت إليك أشوق ، ولكني مأمور ، فأوحى الله إلى جبريل أن قل له (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ)» وهو مرسل. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : أبطأت الرسل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أتاه جبريل فقال : «ما حبسك عني؟ قال : وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصّون أظفاركم ، ولا تنقون براجمكم ، ولا تأخذون شواربكم ، ولا تستاكون؟ وقرأ (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ)» وهو مرسل أيضا. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا) قال : من أمر الآخرة (وَما خَلْفَنا) قال : من أمر الدنيا (وَما بَيْنَ ذلِكَ) قال : ما بين الدنيا والآخرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة (وَما بَيْنَ ذلِكَ) قال : ما بين النفختين. وأخرج ابن المنذر عن أبي العالية مثله. وأخرج البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني والبيهقي ، والحاكم وصحّحه ، عن أبي الدرداء رفع الحديث قال : «ما أحلّ الله في كتابه فهو حلال ، وما حرّم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عافية ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئا ، ثم تلا (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا)» ، وأخرج ابن مردويه من حديث جابر مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عباس في قوله : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) قال : هل تعرف للربّ شبها أو مثلا. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم

__________________

(١). في القرطبي : أي : هناك.

٤٠٧

وصحّحه ، والبيهقي في الشعب ، عنه (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)؟ قال : ليس أحد يسمّى الرحمن غيره. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا في الآية قال : يا محمد هل تعلم لإلهك من ولد؟. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله : (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ) قال : العاص بن وائل. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (جِثِيًّا) قال : قعودا ، وفي قوله : (عِتِيًّا) قال : معصية. وأخرج ابن جرير عنه في قوله : (عِتِيًّا) قال : عصيا. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَ) قال : لننزعنّ من أهل كلّ دين قادتهم ورؤوسهم في الشرّ. وأخرج ابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث ، عن ابن مسعود قال : نحشر الأوّل على الآخر حتى إذا تكاملت العدة أثارهم جميعا ، ثم بدأ بالأكابر جرما ، ثم قرأ : (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ) إلى قوله : (عِتِيًّا). وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله : (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) قال : يقول إنهم أولى بالخلود في جهنم. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه والبيهقي عن أبي سمية قال : اختلفنا في الورود ، فقال بعضنا لا يدخلها مؤمن ، وقال بعضنا يدخلونها جميعا (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) فلقيت جابر بن عبد الله فذكرت له ، فقال وأهوى بإصبعه إلى أذنيه صمّتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يبقى برّ ولا فاجر إلا دخلها ، فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم ، حتى إن للنار ضجيجا من بردها (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا)».

وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن مجاهد قال : خاصم نافع بن الأزرق ابن عباس ، فقال ابن عباس : الورود الدخول ، وقال نافع : لا ، فقرأ ابن عباس : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (١) ، وقال : وردوا أم لا؟ وقرأ : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) (٢) أوردوا أم لا؟ أما أنا وأنت فسندخلها فانظر هل نخرج منها أم لا؟. وأخرج الحاكم عن ابن مسعود في قوله : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) قال : وإن منكم إلا داخلها. وأخرج هناد والطبراني عنه في الآية قال : ورودها الصراط. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي وابن الأنباري وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليرد الناس كلّهم النار ، ثم يصدرون عنها بأعمالهم ، فأوّلهم كلمح البرق ، ثم كالريح ، ثم كحضر الفرس (٣) ، ثم كالراكب في رحله ، ثم كشدّ الرحل ، ثم كمشيه» وقد روي نحو هذا من حديث ابن مسعود من طرق. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وإن منكم إلا واردها» يقول : مجتاز فيها. وأخرج مسلم وغيره عن أم مبشر قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية ، قالت حفصة : أليس الله يقول : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) قالت : ألم تسمعيه يقول : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا)». وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما

__________________

(١). الأنبياء : ٩٨.

(٢). هود : ٩٨.

(٣). الحضر بالضم : العدو.

٤٠٨

قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلّة القسم» ثم قرأ سفيان : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها).

وأخرج أحمد ، والبخاري في تاريخه ، وأبو يعلى والطبراني وابن مردويه عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من حرس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوّعا ، لا يأخذه سلطان ، لم ير النار بعينيه إلا تحلّة القسم ، فإن الله يقول : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها)» والأحاديث في تفسير هذه الآية كثيرة جدّا. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (حَتْماً مَقْضِيًّا) قال : قضاء من الله. وأخرج الخطيب في تالي التلخيص عن عكرمة (حَتْماً مَقْضِيًّا) قال : قسما واجبا. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) قال : باقين فيها.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠))

الضمير في (عَلَيْهِمْ) راجع إلى الكفار الذين سبق ذكرهم في قوله : (أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) أي : هؤلاء إذا قرئ عليهم القرآن تعذروا بالدنيا ، وقالوا : لو كنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أطيب من حالنا ، ولم يكن بالعكس ؛ لأن الحكيم لا يليق به أن يهين أولياءه ويعزّ أعداءه ، ومعنى «البينات» : الواضحات التي لا تلتبس معانيها ؛ وقيل : ظاهرات الإعجاز ، وقيل : إنها حجج وبراهين ، والأوّل أولى. وهي حال مؤكدة ؛ لأن آيات الله لا تكون إلا واضحة ، ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله : (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) للإشعار بأن كفرهم هو السبب لصدور هذا القول عنهم ، وقيل : المراد بالذين كفروا هنا هم المتمرّدون المصرّون منهم ، ومعنى قالوا : (لِلَّذِينَ آمَنُوا) قالوا : لأجلهم ، وقيل : هذه اللام هي لام التبليغ ، كما في قوله : (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) أي : خاطبوهم بذلك وبلغوا القول إليهم (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً) المراد بالفريقين المؤمنون والكافرون ، كأنهم قالوا أفريقنا خير أم فريقكم ، قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل بن عباد «مقاما» بضم الميم وهو موضع الإقامة ، ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى الإقامة ، وقرأ الباقون بالفتح ، أي : منزلا ومسكنا ، وقيل : المقام الموضع الذي يقام فيه بالأمور الجليلة ، والمعنى : أيّ الفريقين أكبر جاها وأكثر أنصارا وأعوانا ، والنديّ والنادي : مجلس القوم ومجتمعهم ، ومنه قوله تعالى : (تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) (١) وناداه : جالسه في النادي ، ومنه دار الندوة ؛ لأن

__________________

(١). العنكبوت : ٢٩.

٤٠٩

المشركين كانوا يتشاورون فيها في أمورهم ، ومنه أيضا قول الشاعر :

أنادي به آل الوليد وجعفرا

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) القرن : الأمة والجماعة (هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) الأثاث : المال أجمع : الإبل والغنم والبقر والعبيد والمتاع ، وقيل : هو متاع البيت خاصة ، وقيل : هو الجديد من الفرش ، وقيل : اللباس خاصة. واختلفت القراءات في «ورئيا» فقرأ أهل المدينة وابن ذكوان «وريا» بياء مشدّدة ، وفي ذلك وجهان : أحدهما أن يكون من رأيت ثم خففت الهمزة فأبدل منها ياء وأدغمت الياء في الياء ، والمعنى على هذه القراءة : هم أحسن منظرا وبه قول جمهور المفسرين ، وحسن المنظر يكون من جهة حسن اللباس ، أو حسن الأبدان وتنعمها ، أو مجموع الأمرين. وقرأ أهل الكوفة وأبو عمرو وابن كثير «ورئيا» بالهمز ، وحكاها ورش عن نافع وهشام عن ابن عامر ، ومعناها معنى القراءة الأولى. قال الجوهري : من همز جعله من المنظر من رأيت ، وهو ما رأته العين من حال حسنة وكسوة ظاهرة ، وأنشد أبو عبيدة لمحمد بن نمير الثّقفي :

أشاقتك الظّعائن يوم بانوا

بذي الرّئي الجميل من الأثاث

ومن لم يهمز : إما أن يكون من تخفيف الهمزة ، أو يكون من رويت ألوانهم أو جلودهم ريا ؛ أي : امتلأت وحسنت. وقد ذكر الزّجاج معنى هذا كما حكاه عنه الواحدي. وحكى يعقوب أن طلحة بن مصرّف قرأ بياء واحدة خفيفة ، فقيل إن هذه القراءة غلط ، ووجّهها بعض النحويين أنه كان أصلها الهمزة فقلبت ياء ثم حذفت إحدى الياءين ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ بالزاي مكان الراء ، وروي مثل ذلك عن أبيّ بن كعب وسعيد بن جبير والأعسم المكي ويزيد البربري ، والزيّ : الهيئة والحسن. قيل : ويجوز أن يكون من زويت ، أي : جمعت ، فيكون أصلها زويا فقلبت الواو ياء ، والزيّ : محاسن مجموعة (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ) أمر الله سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجيب على هؤلاء المفتخرين بحظوظهم الدنيوية ، أي : من كان مستقرّا في الضلالة (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) هذا وإن كان على صيغة الأمر ، فالمراد به الخبر ، وإنما خرج مخرج الأمر لبيان الإمهال منه سبحانه للعصاة ، وأن ذلك كائن لا محالة لتنقطع معاذير أهل الضلال ، ويقال لهم يوم القيامة : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) (١) ، أو للاستدراج كقوله سبحانه : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) (٢) وقيل : المراد بالآية الدعاء بالمد والتنفيس. قال الزجّاج : تأويله أن الله جعل جزاء ضلالته أن يتركه ويمدّه فيها ؛ لأن لفظ الأمر يؤكد معنى الخبر كأن المتكلم يقول أفعل ذلك وآمر به نفسي (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) يعني الذين مدّ لهم في الضلالة ، وجاء بضمير الجماعة اعتبارا بمعنى من ، كما أن قوله : (كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ) اعتبار بلفظها ، وهذه غاية للمدّ ، لا لقول المفتخرين إذ ليس فيه امتداد (إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ) هذا تفصيل لقوله ما يوعدون ؛ أي : هذا الذي توعدون هو أحد أمرين إما العذاب في الدنيا بالقتل والأسر ، وإما يوم القيامة وما يحلّ بهم حينئذ من العذاب الأخروي (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً

__________________

(١). فاطر : ٣٧.

(٢). آل عمران : ١٧٨.

٤١٠

وَأَضْعَفُ جُنْداً) هذا جواب الشرط ، وهو جواب على المفتخرين ؛ أي : هؤلاء القائلون ؛ أيّ الفريقين خير مقاما ، إذا عاينوا ما يوعدون به من العذاب الدنيوي بأيدي المؤمنين ، أو الأخروي ، فسيعلمون عند ذلك من هو شرّ مكانا من الفريقين ، وأضعف جندا منهما ، أي : أنصارا وأعوانا. والمعنى : أنهم سيعلمون عند ذلك أنهم شرّ مكانا لا خير مكانا ، وأضعف جندا لا أقوى ولا أحسن من فريق المؤمنين ؛ وليس المراد أن للمفتخرين هنالك جندا ضعفاء ، بل لا جند لهم أصلا ؛ كما في قوله سبحانه : (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً) (١). ثم لما أخبر سبحانه عن حال أهل الضلالة ، أراد أن يبين حال أهل الهداية فقال : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) وذلك أن بعض الهدى يجرّ إلى البعض الآخر ، والخير يدعو إلى الخير ؛ وقيل : المراد بالزيادة العبادة من المؤمنين ، والواو في «ويزيد» للاستئناف ، والجملة مستأنفة لبيان حال المهتدين ؛ وقيل : الواو للعطف على فليمدد ؛ وقيل : للعطف على جملة : من كان في الضلالة. قال الزجّاج : المعنى أن الله يجعل جزاء المؤمنين أن يزيدهم يقينا ، كما جعل جزاء الكافرين أن يمدّهم في ضلالتهم (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) هي الطاعات المؤدية إلى السعادة الأبدية ، ومعنى كونها خيرا عند الله ثوابا ، أنها أنفع عائدة ممّا يتمتّع به الكفار من النعم الدنيوية (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) المردّ هاهنا مصدر كالردّ ، والمعنى : وخير مردّ للثواب على فاعلها ليست كأعمال الكفار التي خسروا فيها ، والمردّ : المرجع والعاقبة والتفضل ؛ للتهكم بهم وللقطع بأن أعمال الكفار لا خير فيها أصلا. ثم أردف سبحانه مقالة أولئك المفتخرين بأخرى مثلها على سبيل التعجب فقال : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا) أي : أخبرني بقصة هذا الكافر واذكر حديثه عقب حديث أولئك ، وإنما استعملوا أرأيت بمعنى أخبر ؛ لأن رؤية الشيء من أسباب صحة الخبر عنه ، والآيات تعمّ كل آية ومن جملتها آية البعث ، والفاء للعطف على مقدّر يدل عليه المقام ، أي : أنظرت فرأيت ، واللام في (لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) هي الموطئة للقسم ، كأنه قال : والله لأوتينّ في الآخرة مالا وولدا ، أي : انظر إلى حال هذا الكافر ، وتعجّب من كلامه ؛ وتألّيه على الله مع كفره به وتكذيبه بآياته. ثم أجاب سبحانه عن قول هذا الكافر بما يدفعه ويبطله ، فقال : (أَطَّلَعَ) على (الْغَيْبَ) أي : أعلم ما غاب عنه حتى يعلم أنه في الجنة (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) بذلك ، فإن لا يتوصّل إلى العلم إلا بإحدى هاتين الطريقتين ؛ وقيل : المعنى : أنظر في اللوح المحفوظ؟ أم اتّخذ عند الرحمن عهدا؟ وقيل : معنى (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً؟) : أم قال لا إله إلا الله فأرحمه بها. وقيل : المعنى أم قدّم عملا صالحا فهو يرجوه. واطلع مأخوذ من قولهم : اطلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه. وقرأ حمزة والكسائي ويحيى بن وثّاب والأعمش وولدا بضم الواو ، والباقون بفتحها ، فقيل : هما لغتان معناهما واحد ، يقال : ولد وولد كما يقال عدم وعدم ، قال الحارث بن حلّزة :

ولقد رأيت معاشرا

قد ثمّروا مالا وولدا

__________________

(١). الكهف : ٤٣.

٤١١

وقال آخر :

فليت فلانا كان في بطن أمّه

وليت فلانا كان ولد حمار

وقيل : الولد بالضم للجمع وبالفتح للواحد. وقد ذهب الجمهور إلى أن هذا الكافر أراد بقوله : لأوتينّ مالا وولدا أنه يؤتى ذلك في الدنيا. وقال جماعة : في الجنة ، وقيل : المعنى : إن أقمت على دين آبائي لأوتينّ ، وقيل : المعنى : لو كنت على باطل لما أوتيت مالا وولدا (كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ) كلا حرف ردع وزجر ؛ أي : ليس الأمر على ما قال هذا الكافر من أنه يؤتى المال والود سيكتب ما يقول ، أي : سنحفظ عليه ما يقوله فنجازيه في الآخرة ، أو سنظهر ما يقول ، أو سننتقم منه انتقام من كتبت معصيته (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) أي : نزيده عذابا فوق عذابه مكان ما يدّعيه لنفسه من الإمداد بالمال والولد ، أو نطوّل له من العذاب ما يستحقّه وهو عذاب من جمع بين الكفر والاستهزاء (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) أي : نميته فنرثه المال والولد الذي يقول إنه يؤتاه. والمعنى : مسمّى ما يقول ومصداقه ، وقيل : المعنى : نحرمه ما تمنّاه ونعطيه غيره (وَيَأْتِينا فَرْداً) أي : يوم القيامة لا مال له ولا ولد ، بل نسلبه ذلك ، فكيف يطمع في أن نؤتيه. وقيل : المراد بما يقول نفس القول لا مسمّاه ، والمعنى : إنما يقول هذا القول ما دام حيا ، فإذا أمتناه حلنا بينه وبين أن يقوله ، ويأتينا رافضا له منفردا عنه ، والأوّل أولى.

وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً) قال : قريش تقوله لها ولأصحاب محمد. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (خَيْرٌ مَقاماً) قال : المنازل (وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) قال : المجالس ، وفي قوله : (أَحْسَنُ أَثاثاً) قال : المتاع والمال (وَرِءْياً) قال : المنظر. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) فليدعه الله في طغيانه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن حبيب بن أبي ثابت قال في حرف أبيّ : «قل من كان في الضلالة فإنه يزيده الله ضلالة». وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما في قوله : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ) من حديث خبّاب بن الأرت قال : كنت رجلا قينا (١) وكان لي على العاص بن وائل دين ، فأتيته أتقاضاه فقال : لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد ، فقلت : والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث ، قال : فإني إذا متّ ثم بعثت جئتني ولي ثمّ مال وولد فأعطيك ، فأنزل الله فيه هذه الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) قال : لا إله إلا الله يرجو بها. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) قال : ماله وولده.

__________________

(١). أي حدّادا.

٤١٢

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥))

حكى سبحانه ما كان عليه هؤلاء الكفار الذين تمنّوا ما لا يستحقّونه ، وتألّوا على الله سبحانه من اتّخاذهم الآلهة من دون الله لأجل يتعزّزون بذلك. قال الهرويّ : معنى (لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) ليكونوا لهم أعوانا. قال الفراء : معناه ليكونوا لهم شفعاء في الآخرة ، وقيل : معناه : ليتعزّزوا بهم من عذاب الله ويمتنعوا بها (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) أي : ليس الأمر كما ظنّوا وتوهّموا ، والضمير في الفعل إما للآلهة ، أي : ستجحد هذه الأصنام عبادة الكفار لها يوم ينطقها الله سبحانه ؛ لأنها عند ما عبدوها جمادات لا تعقل ذلك ، وإما للمشركين ، أي : سيجحد المشركون أنهم عبدوا الأصنام ، ويدلّ على الوجه الأوّل قوله تعالى : (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) (١) وقوله : (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) (٢) ، ويدلّ على الوجه الثاني قوله تعالى : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٣) وقرأ أبو نهيك كلا بالتنوين ، وروي عنه مع ذلك ضمّ الكاف وفتحها ، فعلى الضمّ هي بمعنى جميعا وانتصابها بفعل مضمر ، كأنه قال : سيكفرون (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) (٤) ، وعلى الفتح يكون مصدرا لفعل محذوف تقديره : كلّ هذا الرأي كلّا ، وقراءة الجمهور هي الصواب ، وهي حرف ردع وزجر (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) أي : تكون هذه الآلهة التي ظنوها عزّا لهم ضدّا عليهم : أي ضدا للعزّ وضدّ العزّ : الذلّ هذا على الوجه الأوّل ، وأما على الوجه الثاني فيكون المشركون للآلهة ضدّا وأعداء يكفرون بها بعد أن كانوا يحبّونها ويؤمنون بها (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ). ذكر الزجاج في معني هذا وجهين : أحدهما : أن معناه خلينا بين الكافرين وبين الشياطين فلم نعصمهم منهم ولم نعذهم ، بخلاف المؤمنين الذين قيل فيهم : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) (٥). الوجه الثاني : أنهم أرسلوا عليهم وقيّضوا لهم بكفرهم ، قال : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً) (٦) فمعنى الإرسال هاهنا التسليط ، ومن ذلك قوله سبحانه لإبليس : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) (٧) ويؤيد الوجه الثاني تمام الآية ، وهو (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) فإن الأزّ والهزّ والاستفزاز معناه التحريك والتهييج والإزعاج ، فأخبر الله سبحانه أن الشياطين

__________________

(١). القصص : ٦٣.

(٢). النحل : ٨٦.

(٣). الأنعام : ٢٣.

(٤). أي اتخاذهم الآلهة.

(٥). الحجر : ٤٢ والإسراء : ٦٥.

(٦). الزخرف : ٣٦.

(٧). الإسراء : ٦٤.

٤١٣

تحرّك الكافرين وتهيّجهم وتغويهم ، وذلك هو التسليط لها عليهم ، وقيل : معنى الأزّ الاستعجال ، وهو مقارب لما ذكرنا ؛ لأن الاستعجال تحريك وتهييج واستفزاز وإزعاج ، وسياق هذه الآية لتعجيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حالهم وللتنبيه له على أن جميع ذلك بإضلال الشياطين وإغوائهم ، وجملة : «تؤزهم أزّا» في محل نصب على الحال ، أو مستأنفة على تقدير سؤال يدلّ عليه المقام ، كأنه قيل : ماذا تفعل الشياطين بهم؟ (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ) بأن تطلب من الله إهلاكهم بسبب تصميمهم على الكفر ، وعنادهم للحق ، وتمرّدهم عن داعي الله سبحانه ، ثم علّل سبحانه هذا النهي بقوله : (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) يعني نعدّ الأيام والليالي والشهور والسنين من أعمارهم إلى انتهاء آجالهم ، وقيل : نعدّ أنفاسهم ، وقيل : خطواتهم ، وقيل : لحظاتهم ، وقيل : الساعات. وقال قطرب : نعدّ أعمالهم. وقيل : المعنى : لا تعجل عليهم ؛ فإنما نؤخّرهم ليزدادوا إثما. ثم لما قرّر سبحانه أمر الحشر وأجاب عن شبهة منكريه ؛ أراد أن يشرح حال المكلفين حينئذ ، فقال : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) الظرف منصوب بفعل مقدّر ، أي : اذكر يا محمد يوم الحشر ، وقيل : منصوب بالفعل الذي بعده ، ومعنى حشرهم إلى الرحمن ؛ حشرهم إلى جنته ودار كرامته ، كقوله : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) (١) والوفد : جمع وافد ؛ كالركب جمع راكب ، وصحب جمع صاحب ، يقال : وفد يفد وفدا إذا خرج إلى ملك أو أمر خطير كذا قال الجوهري (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) السوق : الحثّ على السير ، والورد : العطاش ، قاله الأخفش وغيره. وقال الفراء وابن الأعرابي : هم المشاة ، وقال الأزهري : هم المشاة العطاش كالإبل ترد الماء. وقيل : وردا ، أي : للورد ، كقولك : جئتك إكراما ، أي : للإكرام ، وقيل : أفرادا. قيل : ولا تناقض بين هذه الأقوال ، فهم يساقون مشاة عطاشا أفرادا ، وأصل الورد الجماعة التي ترد الماء من طير أو إبل أو قوم أو غير ذلك. والورد : الماء الذي يورد ، وجملة (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ) مستأنفة لبيان بعض ما يكون في ذلك اليوم من الأمور ، والضمير في «يملكون» راجع إلى الفريقين ، وقيل : للمتقين خاصة ، وقيل : للمجرمين خاصة ، والأوّل أولى. ومعنى «لا يملكون الشفاعة» : أنهم لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم. وقيل : لا يملك غيرهم أن يشفع لهم ، والأوّل أولى (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) هذا الاستثناء متّصل على الوجه الأوّل ؛ أي : لا يملك الفريقان المذكوران الشفاعة إلا من استعدّ لذلك بما يصير به من جملة الشافعين لغيرهم بأن يكون مؤمنا متقيا ، فهذا معنى اتّخاذ العهد عند الله. وقيل : معنى اتّخاذ العهد أن الله أمره بذلك ، كقولهم : عهد الأمير إلى فلان إذا أمره به. وقيل : معنى اتّخاذ العهد شهادة أن لا إله إلا الله ، وقيل غير ذلك. وعلى الاتصال في هذا الاستثناء يكون محل «من» في (مَنِ اتَّخَذَ) الرفع على البدل ، أو النصب على أصل الاستثناء. وأما على الوجه الثاني فالاستثناء منقطع ؛ لأن التقدير : لا يملك المجرمون الشفاعة (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) وهم المسلمون ، وقيل : هو متصل على هذا الوجه أيضا ، والتقدير : لا يملك المجرمون الشفاعة إلا من كان منهم مسلما (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) قرأ يحيى بن وثّاب والأعمش وحمزة والكسائي ولدا بضم الواو وإسكان اللام. وقرأ الباقون في المواضع

__________________

(١). الصافات : ٩٩.

٤١٤

الأربعة المذكورة في هذه السورة بفتح الواو واللام ، وقد قدّمنا الفرق بين القراءتين ، والجملة مستأنفة لبيان قول اليهود والنصارى ومن يزعم من العرب أن الملائكة بنات الله ، وفي قوله : (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) التفات من الغيبة إلى الخطاب ، وفيه ردّ لهذه المقالة الشنعاء ، والإدّ كما قال الجوهري : الداهية والأمر الفظيع ، وكذلك الإدّة ، وجمع الإدّة إدد ، يقال : أدّت فلانا الداهية تؤدّه أدا بالفتح. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «أدا» بفتح الهمزة ، وقرأ الجمهور بالكسر ، وقرأ ابن عباس وأبو العالية «آدا» مثل «مادّا» ، وهي مأخوذة من الثقل ، يقال : آده الحمل يؤوده أودا : أثقله. قال الواحدي (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) أي : عظيما في قول الجميع ، ومعنى الآية : قلتم قولا عظيما. وقيل : الإدّ : العجب ، والإدّة : الشدة ، والمعنى متقارب ، والتركيب يدور على الشدة والثقل. (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) قرأ نافع والكسائي وحفص ويحيى بن وثّاب «يكاد» بالتحتية ، وقرأ الباقون بالفوقية ، وقرأ نافع وابن كثير وحفص تتفطّرن بالتاء الفوقية ، وقرأ حمزة وابن عامر وأبو عمرو وأبو بكر والمفضّل ينفطرن بالتحتية من الانفطار ، واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) (١) وقوله : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) (٢) وقرأ ابن مسعود «يتصدّعن» والانفطار والتفطر : التشقق (وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ) أي : وتكاد أن تنشق الأرض ، وكرّر الفعل للتأكيد ؛ لأن تتفطرن وتنشق معناهما واحد (وَتَخِرُّ الْجِبالُ) أي : تسقط وتنهدم ، وانتصاب (هَدًّا) على أنه مصدر مؤكد لأن الخرور في معناه ، أو هو مصدر لفعل مقدّر ، أي : وتنهد هدّا ، أو على الحال ، أي : مهدودة ، أو على أنه مفعول له ، أي : لأنها تنهد. قال الهروي : يقال هدني الأمر وهدّ ركني ، أي : كسرني وبلغ مني. قال الجوهري : هدّ البناء يهدّه هدّا كسره وضعضعه ، وهدّته المصيبة أوهنت ركنه ، وانهدّ الجبل ، أي : انكسر ، والهدّة : صوت وقع الحائط ، كما قال ابن الأعرابي ، ومحل (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) الجرّ بدلا من الضمير في منه. وقال الفراء : في محل نصب بمعنى لأن دعوا. وقال الكسائي : هو في محل خفض بتقدير الخافض ، وقيل : في محل رفع على أنه فاعل هدّا. والدعاء بمعنى التسمية ، أي : سمّوا للرحمن ولدا ، أو بمعنى النسبة ، أي : نسبوا له ولدا (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) أي : لا يصلح له ولا يليق به ؛ لاستحالة ذلك عليه ؛ لأن الولد يقتضي الجنسية والحدوث ، والجملة في محل نصب على الحال ، أي : قالوا اتخذ الرحمن ولدا ، أو أن دعوا للرحمن ولدا ، والحال أنه ما يليق به سبحانه ذلك (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : ما كل من في السموات والأرض (إِلَّا) وهو (آتِي) الله يوم القيامة مقرّا بالعبودية خاضعا ذليلا ، كما قال : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) (٣) أي : صاغرين. والمعنى : أن الخلق كلهم عبيده فكيف يكون واحد منهم ولدا له؟ وقرئ «آتي» على الأصل (لَقَدْ أَحْصاهُمْ) أي : حصرهم وعلم عددهم (وَعَدَّهُمْ عَدًّا) أي : عدّ أشخاصهم بعد أن حصرهم ، فلا يخفى عليه أحد منهم (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) أي : كلّ واحد منهم يأتيه يوم القيامة فردا لا ناصر له ولا مال معه ، كما قال سبحانه : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) (٤).

__________________

(١). الإنفطار : ١.

(٢). المزمل : ١٨.

(٣). النمل : ٨٧.

(٤). الشعراء : ١٨٨.

٤١٥

وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) قال : أعوانا. وأخرج عبد بن حميد عنه (ضِدًّا) قال : حسرة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) تغويهم إغواء. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا : (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) قال : تحرّض المشركين على محمد وأصحابه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : تزعجهم إزعاجا إلى معاصي الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث ، عن ابن عباس (وَفْداً) قال : ركبانا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن أبي هريرة (وَفْداً) قال : على الإبل. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق : راغبين وراهبين ، واثنان على بعير ، وأربعة على بعير ، وعشرة على بعير ، وتحشر بقيتهم النار ، تقيل معهم حيث قالوا ، وتبيت معهم حيث باتوا» والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث ، عن ابن عباس (وِرْداً) قال : عطاشا. وأخرج ابن المنذر عن أبي هريرة مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصّفات ، عن ابن عباس في قوله : (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) قال : شهادة أن لا إله إلا الله ، وتبرأ من الحول والقوّة ، ولا يرجو إلا الله. وأخرج ابن مردويه عنه في الآية قال : من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قرأ : (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) قال : إن الله يقول يوم القيامة : من كان له عندي عهد فليقم ، فلا يقوم إلا من قال هذا في الدنيا ، قولوا : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ؛ إنّي أعهد إليك في الحياة الدنيا أنك إن تكلني إلى عملي تقربني من الشرّ وتباعدني من الخير ، وإني لا أثق إلا برحمتك ، فاجعله لي عندك عهدا تؤديه إليّ يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أدخل على مؤمن سرورا فقد سرّني ، ومن سرّني فقد اتخذ عند الرحمن عهدا ، ومن اتّخذ عند الرحمن عهدا فلا تمسّه النار ، إن الله لا يخلف الميعاد». وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من جاء بالصلوات الخمس يوم القيامة قد حافظ على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها لم ينقص منها شيئا جاء وله عند الله عهد أن لا يعذّبه ، ومن جاء قد انتقص منهم شيئا فليس له عند الله عهد ، إن شاء رحمه وإن شاء عذّبه». وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) قال : قولا عظيما ، وفي قوله : (تَكادُ السَّماواتُ) قال : إن الشرك فرغت منه السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين ، وكادت تزول منه لعظمة الله سبحانه ، وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك كذلك يرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين ، وفي قوله : (وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) قال : هدما. وأخرج ابن المبارك وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة ، وأحمد في الزهد ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، والطبراني ، والبيهقي في الشعب من طريق عون عن ابن مسعود قال : إن الجبل لينادي الجبل باسمه ، يا فلان هل مرّ بك اليوم أحد ذكر الله؟ فإذا قال نعم استبشر.

٤١٦

قال عون : أفيسمعن الزور إذا قيل ولا يسمعن الخير؟ هنّ للخير أسمع ، وقرأ : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) الآيات.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨))

ذكر سبحانه من أحوال المؤمنين بعض ما خصّهم به بعد ذكره لقبائح الكافرين ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) أي : حبّا في قلوب عباده يجعله لهم من دون أن يطلبوه بالأسباب التي توجب ذلك كما يقذف في قلوب أعدائهم الرعب ، والسين في سيجعل للدلالة على أن ذلك لم يكن من قبل وأنه مجعول من بعد نزول الآية. وقرئ ودا بكسر الواو ، والجمهور من السبعة وغيرهم على الضم. ثم ذكر سبحانه تعظيم القرآن خصوصا هذه السورة لاشتمالها على التوحيد والنبوة ، وبيان حال المعاندين فقال : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) أي : يسرنا القرآن بإنزالنا له على لغتك ، وفصّلناه وسهّلناه ، والباء بمعنى على ، والفاء لتعليل كلام ينساق إليه النظم كأنه قيل : بلغ هذا المنزل أو بشر به أو أنذر (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ) الآية. ثم علّل ما ذكره من التيسير فقال : (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) أي : المتلبّسين بالتقوى ، المتّصفين بها (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) اللدّ : جمع الألد ، وهو الشديد الخصومة ، ومنه قوله تعالى : (أَلَدُّ الْخِصامِ) (١) قال الشاعر :

أبيت نجيا للهموم كأنّني

أخاصم أقواما ذوي جدل لدّا

وقال أبو عبيدة : الألد الذي لا يقبل الحق ويدّعي الباطل ، وقيل : اللدّ الصّم ، وقيل : الظلمة (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) أي : من أمة وجماعة من الناس ، وفي هذا وعد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهلاك الكافرين ووعيد لهم (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) هذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها ، أي : هل تشعر بأحد منهم أو تراه (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) الركز : الصوت الخفي ، ومنه ركز الرمح إذا غيّب طرفه في الأرض. قال طرفة :

وصادقنا (٢) سمع التّوجّس للسّرى

لركز خفي أو لصوت مفند (٣)

وقال ذو الرّمّة :

إذا توجس ركزا مقفر ندس

بنبأة الصّوت ما في سمعه كذب

__________________

(١). البقرة : ٢٠٤.

(٢). في المطبوع : وصادفتها. والمثبت من شرح المعلقات السبع ص (٩٩) تحقيق يوسف بديوي ، طبع دار ابن كثير.

(٣). في شرح المعلقات السبع : مندّد.

٤١٧

أي : ما في استماعه كذب بل هو صادق الاستماع ، والنّدس : الحاذق ، والنّبأة : الصوت الخفي. وقال اليزيدي وأبو عبيدة : الركز : ما لا يفهم من صوت أو حركة.

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف ؛ أنه لما هاجر إلى المدينة وجد في نفسه على فراق أصحابه بمكة منهم شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف ، فأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الآية ، قال ابن كثير : وهو خطأ ، فإن السورة مكية بكمالها لم ينزل شيء منها بعد الهجرة ، ولم يصحّ سند ذلك. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت في علي بن أبي طالب (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) قال : محبة في قلوب المؤمنين. وأخرج ابن مردويه والديلمي عن البراء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعليّ : «قل اللهم اجعل لي عندك عهدا ، واجعل لي عندك ودّا ، واجعل لي في صدور المؤمنين مودة ، فأنزل الله الآية في عليّ». وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس (وُدًّا) قال : محبة في الناس في الدنيا. وأخرج الحكيم الترمذي وابن مردويه عن عليّ قال : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله : (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) ما هو؟ قال : المحبة الصادقة في صدور المؤمنين». وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أحب الله عبدا نادى جبريل : إني قد أحببت فلانا فأحبه ، فينادي في السماء ، ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض فذلك قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) وإذا أبغض الله عبدا نادى جبريل : إني قد أبغضت فلانا ، فينادي في أهل السماء ، ثم ينزل له البغضاء في الأرض» والأحاديث والآثار في هذا الباب كثيرة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) قال : فجّارا. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن قال : صمّا. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) قال : هل ترى منهم من أحد. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (رِكْزاً) قال : صوتا.

* * *

٤١٨

سورة طه

قال القرطبي : مكية في قول الجميع. وأخرج النحّاس وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة طه بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج الدارمي ، وابن خزيمة في التوحيد ، والعقيلي في الضعفاء ، والطبراني في الأوسط ، وابن عديّ وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تبارك وتعالى قرأ طه ويس قبل أن يخلق السّموات والأرض بألفي عام ، فلما سمعت الملائكة القرآن قالت : طوبى لأمة ينزل عليها هذا ، وطوبى لأجواف تحمل هذا ، وطوبى لألسنة تكلمت بهذا». قال ابن خزيمة بعد إخراجه : حديث غريب ، وفيه نكارة ، وإبراهيم بن مهاجر وشيخه تكلّم فيهما ، يعني إبراهيم بن مهاجر بن مسمار وشيخه عمر بن حفص بن ذكوان ، وهما من رجال إسناده. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أعطيت السورة التي ذكرت فيها الأنعام من الذكر الأوّل ، وأعطيت سورة طه والطواسين من ألواح موسى ، وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم البقرة من تحت العرش ، وأعطيت المفصّل نافلة». وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل قرآن يوضع عن أهل الجنة فلا يقرءون منه شيئا إلا سورة طه ويس ، فإنهم يقرءون بهما في الجنة». وأخرج الدارقطني في سننه عن أنس بن مالك ؛ فذكر قصة عمر بن الخطاب مع أخته وخبّاب وقراءتهما طه ، وكان ذلك بسبب إسلام عمر ، والقصّة مشهورة في كتب السير.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨) وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦))

قوله : (طه) قرأ بإمالة الهاء وفتح الطاء أبو عمرو وابن أبي إسحاق ، وأمالهما جميعا أبو بكر وحمزة والكسائي والأعمش. وقرأهما أبو جعفر وشيبة ونافع بين اللفظين ، واختار هذه القراءة أبو عبيد. وقرأ الباقون بالتفخيم. قال الثعلبي : وهي كلّها لغات صحيحة فصيحة. وقال النحّاس : لا وجه للإمالة عند أكثر أهل

٤١٩

العربية لعلّتين : الأولى : أنه ليس هاهنا ياء ولا كسرة حتى تكون الإمالة ، والعلّة الثانية : أن الطاء من موانع الإمالة.

وقد اختلف أهل العلم في معنى هذه الكلمة على أقوال : الأوّل : أنها من المتشابه الذي لا يفهم المراد به ، والثاني : أنها بمعنى يا رجل في لغة عكل ، وفي لغة عكّ. قال الكلبي : لو قلت لرجل من عكّ يا رجل لم يجب حتى تقول طه ، وأنشد ابن جرير في ذلك :

دعوت بطه في القتال فلم يجب

فخفت عليه أن يكون موائلا (١)

ويروى : مزايلا ، وقيل : إنها في لغة عكّ بمعنى يا حبيبي. وقال قطرب : هي كذلك في لغة طيّ ؛ أي : بمعنى يا رجل ، وكذلك قال الحسن وعكرمة. وقيل : هي كذلك في اللغة السريانية ، حكاه المهدوي. وحكى ابن جرير أنها كذلك في اللغة النّبطية ، وبه قال السدّي وسعيد بن جبير. وحكى الثعلبي عن عكرمة أنها كذلك في لغة الحبشة ، ورواه عن عكرمة ، ولا مانع من أن تكون هذه الكلمة موضوعة لذلك المعنى في تلك اللغات كلها إذا صحّ النقل. القول الثالث : أنها اسم من أسماء الله سبحانه. والقول الرابع : أنها اسم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. القول الخامس : أنها اسم للسورة. القول السادس : أنها حروف مقطّعة يدلّ كلّ واحد منها على معنى. ثم اختلفوا في هذه المعاني التي تدلّ عليها هذه الحروف على أقوال كلها متكلّفة متعسّفة. القول السابع : أن معناها طوبى لمن اهتدى. القول الثامن : أن معناها : طإ الأرض يا محمد. قال ابن الأنباري : وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتحمّل مشقّة الصّلاة حتى كادت قدماه تتورّم ويحتاج إلى التروّح ، فقيل له طإ الأرض ، أي : لا تتعب حتى تحتاج إلى التروّح. وحكى القاضي عياض في «الشفاء» عن الربيع بن أنس قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى ، فأنزل الله (طه) يعني : طإ الأرض يا محمد. وحكي عن الحسن البصري أنه قرأ طه على وزن دع ، أمر بالوطء ، والأصل طأ فقلبت الهمزة هاء. وقد حكى الواحدي عن أكثر المفسرين أن هذه الكلمة معناها : يا رجل ، يريد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : وهو قول الحسن وعكرمة وسعيد بن جبير والضحّاك وقتادة ومجاهد وابن عباس في رواية عطاء والكلبي ، غير أن بعضهم يقول : هي بلسان الحبشة والنبطية والسريانية ، ويقول الكلبي : هي بلغة عكّ. قال ابن الأنباري : ولغة قريش وافقت تلك اللغة في هذا المعنى ؛ لأن الله سبحانه لم يخاطب نبيه بلسان غير قريش ، انتهى. وإذا تقرّر أنها لهذا المعنى في لغة من لغات العرب كانت ظاهرة المعنى ، واضحة الدلالة ، خارجة عن فواتح السور التي قدّمنا بيان كونها من المتشابه في فاتحة سورة البقرة ، وهكذا إذا كانت لهذا المعنى في لغة من لغات العجم ، واستعملتها العرب في كلامها في ذلك المعنى كسائر الكلمات العجمية التي استعملتها العرب الموجودة في الكتاب العزيز ، فإنها صارت بذلك الاستعمال من لغة العرب ، وجملة (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١). البيت لمتمّم بن نويرة.

«موائل» : واءل : طلب النجاة.

٤٢٠