فتح القدير - ج ٣

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٣

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٧

عن ابن عباس قال : لما بعث الله محمدا رسولا أنكرت العرب ذلك ، فأنزل الله (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ). وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في قوله : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) الآية ، يعني : مشركي قريش أن محمدا رسول الله في التوراة والإنجيل. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : نزلت في عبد الله بن سلام ونفر من أهل التوراة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (بِالْبَيِّناتِ) قال : الآيات (وَالزُّبُرِ) قال : الكتب. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) قال : نمروذ بن كنعان وقومه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : أي : الشرك. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحّاك قال : تكذيبهم الرسل ، وإعمالهم بالمعاصي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ) قال : في اختلافهم.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه (فِي تَقَلُّبِهِمْ) قال : إن شئت أخذته في سفره (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) يقول : على أثر موت صاحبه. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا (عَلى تَخَوُّفٍ) قال : تنقّص من أعمالهم. وأخرج ابن جرير عن عمر أنه سألهم عن هذه الآية (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) فقالوا : ما نرى إلا أنه عند تنقص ما يردّده من الآيات ، فقال عمر : ما أرى إلا أنه على ما يتنقصون من معاصي الله ، فخرج رجل ممن كان عند عمر فلقي أعرابيا ، فقال : يا فلان ، ما فعل ربك؟ قال : قد تخيفته ، يعني انتقصته ، فرجع إلى عمر فأخبره ، فقال : قد رأيته ذلك. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) قال : يأخذهم بنقص بعضهم بعضا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (يَتَفَيَّؤُا) قال : يتميل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله : (وَهُمْ داخِرُونَ) قال : صاغرون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ) الآية قال : لم يدع شيئا من خلقه إلا عبده له طائعا أو كارها. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال : يسجد من في السّموات طوعا ، ومن في الأرض طوعا وكرها.

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥) وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى

٢٠١

فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢))

لما بيّن سبحانه أن مخلوقاته السماوية والأرضية منقادة له ، خاضعة لجلاله ، أتبع ذلك بالنهي عن الشرك بقوله : (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) فنهى سبحانه عن اتّخاذ إلهين ، ثم أثبت أن الإلهية منحصرة في إله واحد وهو الله سبحانه ؛ وقد قيل : إنّ التثنية في إلهين قد دلّت على الاثنينية ، والإفراد في إله قد دلّ على الوحدة ، فما وجه وصف إلهين باثنين ، ووصف إله بواحد؟ فقيل في الجواب : إن في الكلام تقديما وتأخيرا ، والتقدير : لا تتخذوا اثنين إلهين إنما هو واحد إله ، وقيل : إن التكرير لأجل المبالغة في التنفير عن اتخاذ الشريك ؛ وقيل : إن فائدة زيادة اثنين هي أن يعلم أن النهي راجع إلى التعدّد لا إلى الجنسية ، وفائدة زيادة واحد دفع توهم أن المراد إثبات الإلهية دون الواحدية ، مع أن الإلهية له سبحانه مسلمة في نفسها ، وإنما خلاف المشركين في الواحدية ، ثم نقل الكلام سبحانه من الغيبة إلى التكلم على طريقة الالتفات لزيادة الترهيب ، فقال : (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أي : إن كنتم راهبين شيئا فإياي فارهبون لا غيري ، وقد مرّ مثل هذا في أوّل البقرة. ثم لما قرّر سبحانه وحدانيته ، وأنه الذي يجب أن يخصّ بالرهبة منه والرغبة إليه ، ذكر أن الكلّ في ملكه وتحت تصرّفه فقال : (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهذه الجملة مقررة لمن تقدّم في قوله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) إلى آخره ، وتقديم الخبر لإفادة الاختصاص (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) أي : ثابتا واجبا دائما لا يزول ، والدين : هو الطاعة والإخلاص. قال الفراء : (واصِباً) معناه دائما ، ومنه قول الدّؤلي :

أبتغي الحمد القليل بقاؤه

بذمّ يكون الدّهر أجمع واصبا

أي : دائما. وروي عن الفراء أيضا أنه قال : الواصب : الخالص ، والأوّل أولى ، ومنه قوله سبحانه : (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) (١) أي : دائم. وقال الزجّاج : أي : طاعته واجبة أبدا. ففسّر الواصب بالواجب. وقال ابن قتيبة في تفسير الواصب : أي : ليس أحد يطاع إلا انقطع ذلك بزوال أو بهلكة غير الله تعالى فإن الطاعة تدوم له ، ففسّر الواصب بالدائم ، وإذا دام الشيء دواما لا ينقطع فقد وجب وثبت ، يقال وصب الشيء يصب وصوبا فهو واصب ؛ إذا دام ، ووصب الرجل على الأمر ؛ إذا واظب عليه ؛ وقيل : الوصب التعب والإعياء ، أي : يجب طاعة الله سبحانه وإن تعب العبد فيها وهو غير مناسب لما في الآية ، والاستفهام في قوله : (أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) للتقريع والتوبيخ ، وهو معطوف على مقدّر كما في نظائره ، والمعنى : إذا كان الدين ، أي : الطاعة واجبا له دائما لا ينقطع ؛ كان المناسب لذلك تخصيص التقوى به وعدم إيقاعها لغيره. ثم امتنّ سبحانه عليهم بأن جميع ما هم متقلبون فيه من النعم هو منه لا من غيره فقال : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ) أي : ما يلابسكم من النعم على اختلاف أنواعها فمن الله : أي فهي منه ، فتكون ما شرطية ، ويجوز أن تكون موصولة متضمّنة معنى الشرط ، وبكم صلتها ، ومن نعمة حال من الضمير في الجار والمجرور ،

__________________

(١). الصافات : ٩.

٢٠٢

أو بيان لما. وقوله : (فَمِنَ اللهِ) الخبر ، وعلى كون ما شرطية يكون فعل الشرط محذوفا أي : ما يكن ، والنعمة إما دينية وهي معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به ، وإما دنيوية نفسانية ، أو بدنية أو خارجية كالسعادات المالية وغيرها ، وكلّ واحدة من هذه جنس تحته أنواع لا حصر لها ، والكل من الله سبحانه فعلى العاقل أن لا يشكر إلا إياه ، ثم بيّن تلوّن الإنسان بعد استغراقه في بحر النعم فقال : (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) أي : إذا مسكم الضرّ ، أيّ مس ، فإلى الله سبحانه لا إلى غيره تتضرّعون في كشفه فلا كاشف له إلا هو ، يقال : جأر يجأر جؤارا : إذا رفع صوته في تضرع. قال الأعشى (١) يصف بقرة :

فطافت ثلاثا بين يوم وليلة

وكان النّكير أن تضيف (٢) وتجأرا

والضرّ : المرض والبلاء والحاجة والقحط ، وكلّ ما يتضرّر به الإنسان (ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) أي : إذا رفع عنكم ما نزل بكم من الضرّ (إِذا فَرِيقٌ) أي : جماعة منكم (بِرَبِّهِمْ) الذي رفع الضر عنهم يشركون فيجعلون معه إلها آخر من صنم أو نحوه ، والآية مسوقة للتعجيب من فعل هؤلاء حيث يضعون الإشراك بالله الذي أنعم عليهم بكشف ما نزل بهم من الضرّ مكان الشكر له ، وهذا المعنى قد تقدّم في الأنعام ويونس ، ويأتي في سبحان (٣). قال الزجّاج : هذا خاص بمن وكفر. وقابل كشف الضرّ عنه بالجحود والكفر ، وعلى هذا فتكون «من» في (مِنْكُمْ) للتبعيض حيث كان الخطاب للناس جميعا ، والفريق هم الكفرة وإن كان الخطاب موجها إلى الكفار فمن للبيان ، واللام في (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) لام كي ، أي : لكي يكفروا بما آتيناهم من نعمة كشف الضرّ ، وحتى كأن هذا الكفر منهم الواقع في موضع الشكر الواجب عليهم غرض لهم ومقصد من مقاصدهم ، وهذا غاية في العتوّ والعناد ليس وراءها غاية ؛ وقيل : اللام للعاقبة ، يعني : ما كانت عاقبة تلك التضرعات إلا هذا الكفر. ثم قال سبحانه على سبيل التهديد والترهيب ملتفتا من الغيبة إلى الخطاب (فَتَمَتَّعُوا) بما أنتم فيه من ذلك (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبة أمركم وما يحل بكم في هذه الدار وما تصيرون إليه في الدار الآخرة. ثم حكى سبحانه نوعا آخر من قبائح أعمالهم فقال : (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي : يقع منهم هذا الجعل بعد ما وقع منهم الجؤار إلى الله سبحانه في كشف الضرّ عنهم وما يعقب كشفه عنهم من الكفر منهم بالله والإشراك به ، ومع ذلك يجعلون لما لا يعلمون حقيقته من الجمادات والشياطين نصيبا مما رزقناهم من أموالهم يتقرّبون به إليه. وقيل : المعنى : أنهم ، أي : الكفار ، يجعلون للأصنام وهم لا يعلمون شيئا لكونهم جمادات ، ففاعل يعلمون على هذا هي الأصنام ، وأجراها مجرى العقلاء في جمعها بالواو والنون جريا على اعتقاد الكفار فيها. وحاصل المعنى : ويجعل هؤلاء الكفار للأصنام التي لا تعقل شيئا نصيبا من أموالهم التي رزقهم الله إياها (تَاللهِ

__________________

(١). الذي في اللسان مادة «ضيف» أنه النابغة الجعدي.

(٢). في المطبوع : تطيف ، والتصحيح من اللسان وتفسير القرطبي (١٠ / ١١٥). «تضيف» : تشفق وتحذر. «النكير» : الإنكار. «تجأر» : تصيح.

(٣). أي : في سورة الإسراء.

٢٠٣

لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) هذا رجوع من الغيبة إلى الخطاب ، وهذا السؤال سؤال تقريع وتوبيخ (عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) تختلقونه من الكذب على الله سبحانه في الدنيا (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) هذا نوع آخر من فضائحه وقبائحهم ، وقد كانت خزاعة وكنانة تقول : الملائكة بنات الله (سُبْحانَهُ) نزّه سبحانه نفسه عما نسبه إليه هؤلاء الجفاة الذين لا عقول لهم صحيحة ولا أفهام مستقيمة (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) (١) وفي هذا التنزيه تعجيب من حالهم (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) أي : ويجعلون لأنفسهم ما يشتهونه من البنين على أن «ما» في محل نصب بالفعل المقدّر ، ويجوز أن تكون في محل رفع على الابتداء. وأنكر النصب الزجاج قال : لأن العرب لا يقولون جعل له كذا وهو يعني نفسه ، وإنما يقولون جعل لنفسه كذا ، فلو كان منصوبا لقال ولأنفسهم ما يشتهون. وقد أجاز النصب الفراء. ثم ذكر سبحانه كراهتهم للإناث التي جعلوها لله سبحانه فقال : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) أي : إذا أخبر أحدهم بولادة بنت له (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) أي : متغيرا ، وليس المراد السواد الذي هو ضدّ البياض ، بل المراد الكناية بالسواد عن الانكسار والتغير بما يحصل من الغمّ ، والعرب تقول لكل من لقي مكروها قد اسودّ وجهه غمّا وحزنا قاله الزجاج. وقال الماوردي : بل المراد سواد اللون حقيقة ، قال : وهو قول الجمهور ، والأوّل أولى ، فإن المعلوم بالوجدان أن من غضب وحزن واغتمّ لا يحصل في لونه إلا مجرد التغير وظهور الكآبة والانكسار لا السواد الحقيقي ، وجملة (وَهُوَ كَظِيمٌ) في محل نصب على الحال ، أي : ممتلئ من الغمّ ، مأخوذ من الكظامة وهو سدّ فم البئر قاله عليّ ابن عيسى ، وقد تقدّم في سورة يوسف (٢) (يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ) أي : يتغيب ويختفي (مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) أي : من سوء الحزن والعار والحياء الذي يلحقه بسبب حدوث البنت له (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ) أي : لا يزال متردّدا بين الأمرين : وهو إمساك البنت التي بشّر بها ، أو دفنها في التراب (عَلى هُونٍ) أي : هوان ، وكذا قرأ عيسى الثقفيّ. قال اليزيديّ : والهون الهوان بلغة قريش ، وكذا حكاه أبو عبيد عن الكسائيّ ، وحكى عن الكسائيّ أنه البلاء والمشقة ، قالت الخنساء :

نهين النفوس وهون النفو

س يوم الكريهة أبقى لها

وقال الفراء : الهون القليل بلغة تميم. وحكى النحاس عن الأعمش أنه قرأ : «أيمسكه على سوء» (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) أي : يخفيه في التراب بالوأد كما كانت تفعله العرب ، فلا يزال الذي بشر بحدوث الأنثى متردّدا بين هذين الأمرين ، والتذكير في يمسكه ويدسه مع كونه عبارة عن الأنثى لرعاية اللفظ. وقرأ الجحدري «أم يدسها في التراب» ويلزمه أن يقرأ أيمسكها ، وقيل : دسّها : إخفاؤها عن الناس حتى لا تعرف كالمدسوس لإخفائه عن الأبصار (أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) حيث أضافوا البنات التي يكرهونها إلى الله سبحانه وأضافوا البنين المحبوبين عندهم إلى أنفسهم ، ومثل هذا قوله تعالى : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) (٣). (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ) أي : لهؤلاء الذين وصفهم الله سبحانه بهذه القبائح

__________________

(١). الفرقان : ٤٤.

(٢). أي : الآية : ٨٤.

(٣). النجم : ٢١ و ٢٢.

٢٠٤

الفظيعة مثل السوء ، أي : صفة السوء من الجهل والكفر بالله ؛ وقيل : هو وصفهم لله سبحانه بالصاحبة والولد ؛ وقيل : هو حاجتهم إلى الولد ليقوم مقامهم ووأد البنات لدفع العار وخشية الإملاق ؛ وقيل : العذاب والنار (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) وهو أضداد صفة المخلوقين من الغنى الكامل والجود الشامل والعلم الواسع ، أو التوحيد وإخلاص العبادة ، أو أنه خالق رازق قادر مجاز ؛ وقيل : شهادة أن لا إله إلا الله ، وقيل : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ) (١). (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغالب فلا يضرّه نسبتهم إليه ما لا يليق به (الْحَكِيمُ) في أفعاله وأقواله. ثم لما حكى سبحانه عن القوم عظيم كفرهم بيّن سعة كرمه وحلمه حيث لم يعاجلهم بالعقوبة ولم يؤاخذهم بظلمهم ، فقال : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ) والمراد بالناس هنا الكفار أو جميع العصاة (ما تَرَكَ عَلَيْها) أي : على الأرض وإن لم يذكر فقد دلّ عليها ذكر الناس وذكر الدابة ، فإن الجميع مستقرّون على الأرض ، والمراد بالدابة الكافر ، وقيل : كلّ ما دبّ ؛ وقد قيل على هذا كيف يعمّ بالهلاك مع أن فيهم من لا ذنب له؟ وأجيب بإهلاك الظالم انتقاما منه ، وإهلاك غيره إن كان من أهل التكليف فلأجل توفير أجره ، وإن كان من غيرهم فبشؤم ظلم الظالمين ، ولله الحكمة البالغة (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٢) ، ومثل هذا قوله : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (٣). وفي معنى هذا أحاديث منها ما عند مسلم وغيره من حديث ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على نياتهم» ، وكذلك حديث الجيش : «الذين يخسف بهم في البيداء ، وفي آخره : أنهم يبعثون على نياتهم» وقد قدّمنا عند تفسير قوله سبحانه : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً) الآية تحقيقا حقيقا بالمراجعة له (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) معلوم عنده وهو منتهى حياتهم وانقضاء أعمارهم أو أجل عذابهم ، وفي هذا التأخير حكمة بالغة منها الإعذار إليهم وإرخاء العنان معهم ، ومنها حصول من سبق في علمه من أولادهم (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) الذي سمّاه لهم حقت عليهم كلمة الله سبحانه في ذلك الوقت من دون تقدّم عليه ولا تأخر عنه ، والساعة المدّة القليلة ، وقد تقدّم تفسيرها هذا وتحقيقه. ثم ذكر نوعا آخر من جهلهم وحمقهم فقال : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) أي : ينسبون إليه سبحانه ما يكرهون نسبته إلى أنفسهم من البنات ، وهو تكرير لما قد تقدّم لقصد التأكيد والتقرير ولزيادة التوبيخ والتقريع (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) هذا من النوع الآخر الذي ذكره سبحانه من قبائحهم وهو ، أي : هذا الذي تصفه ألسنتهم من الكذب هو قولهم : (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) أي : الخصلة الحسنى ، أو العاقبة الحسنى. قال الزجّاج : يصفون أن لهم مع قبح قولهم من الله الجزاء الحسن. قال الزجاج أيضا والفراء : أبدل من قوله وتصف ألسنتهم الكذب قوله أن لهم الحسنى ، والكذب منصوب على أنه مفعول تصف. وقرأ ابن عباس وأبو العالية ومجاهد وابن محيصن : الكذب برفع الكاف والذال والباء على أنه صفة للألسن وهو جمع كذوب ، فيكون المفعول على هذا هو أن لهم الحسنى. ثم ردّ الله سبحانه عليهم بقوله : (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) أي : حقا أن لهم مكان ما جعلوه لأنفسهم من الحسنى النار ، وقد تقدّم تحقيق هذا (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) قال ابن الأعرابي

__________________

(١). النور : ٣٥.

(٢). الأنبياء : ٢٣.

(٣). الأنفال : ٢٥.

٢٠٥

وأبو عبيدة : أي : متروكون منسيون في النار ، وبه قال الكسائي والفراء فيكون مشتقا من أفرطت فلانا خلفي : إذا خلفته ونسيته. وقال قتادة والحسن : معجّلون إليها مقدّمون في دخولها من أفرطته ، أي : قدّمته في طلب الماء ، والفارط هو الذي يتقدّم إلى الماء ، والفرّاط المتقدّمون في طلب الماء ، والورّاد المتأخرون ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا فرطكم على الحوض» أي : متقدّمكم. قال القطاميّ :

فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا

كما تعجّل فرّاط لورّاد

وقرأ نافع في رواية ورش (مُفْرَطُونَ) بكسر الراء وتخفيفها ، وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس ؛ ومعناه : مسرفون في الذنوب والمعاصي ؛ يقال : أفرط فلان على فلان ؛ إذا أربى عليه وقال له أكثر مما قال من الشرّ. وقرأ أبو جعفر القاري : (مُفْرَطُونَ) بكسر الراء وتشديدها ؛ أي : مضيعون أمر الله ، فهو من التفريط في الواجب. وقرأ الباقون «مفرطون» بفتح الراء مخففا ، ومعناه : مقدّمون إلى النار.

وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) قال : الدين الإخلاص ، وواصبا دائما. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) قال : لا إله إلا الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (واصِباً) قال : دائما. وأخرج الفريابي وابن جرير عنه قال واجبا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد (تَجْئَرُونَ) قال : تتضرعون دعاء. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال : تصيحون بالدعاء. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) قال : وعيد. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ) الآية قال : يعلمون أن الله خلقهم ويضرّهم وينفعهم ، ثم يجعلون لما لا يعلمون أنه يضرّهم ولا ينفعهم (نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ). وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : هم مشركو العرب جعلوا لأوثانهم وشياطينهم مما رزقهم الله ، وجزءوا من أموالهم جزءا ؛ فجعلوه لأوثانهم وشياطينهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في الآية قال : هو قولهم : «هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا» (١). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) الآية يقول : يجعلون لي البنات يرتضونهن لي ولا يرتضونهنّ لأنفسهم ، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا ولد للرجل منهم جارية أمسكها على هوان أو دسّها في التراب وهي حية. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحّاك (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) قال : يعني به البنين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) قال : يئد ابنته. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : (أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) قال : بئس ما حكموا ، يقول : شيء لا يرضونه لأنفسهم فكيف يرضونه لي. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) قال : شهادة أن لا إله إلا الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) قال : يقول ليس كمثله شيء.

__________________

(١). الأنعام : ١٣٦.

٢٠٦

وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) قال : ما سقاهم المطر. وأخرج أيضا عن السدّي نحوه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في الآية قال : قد فعل ذلك في زمن نوح ، أهلك الله ما على ظهر الأرض من دابة إلا ما حمل في سفينته. وأخرج أحمد في الزهد ، عن ابن مسعود قال : ذنوب ابن آدم قتلت الجعل في جحره ، ثم قال : إي والله ، زمن غرق قوم نوح. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب ، عنه قال : كاد الجعل أن يعذب في جحره بذنب ابن آدم ، ثم قرأ : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ). وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا عن أنس نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير ، والبيهقي في الشعب ، عن أبي هريرة ، أنه سمع رجلا يقول : إن الظالم لا يضرّ إلا نفسه ، قال أبو هريرة : بلى والله إن الحبارى لتموت هزالا في وكرها من ظلم الظالم. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) قال : يجعلون له البنات ويكرهون ذلك لأنفسهم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) قال : قول كفار قريش لنا البنون وله البنات. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) قال : منسيّون. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال : معجلون. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن نحوه.

(تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩))

بيّن سبحانه أن مثل صنيع قريش قد وقع من سائر الأمم ، فقال مسليا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي : رسلا (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) الخبيثة (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) يحتمل أن يكون اليوم عبارة عن زمان الدنيا ، فيكون المعنى : فهو قرينهم في الدنيا ، ويحتمل أن يكون اليوم عبارة عن يوم القيامة وما بعده ، فيكون للحال الآتية ، ويكون الوليّ بمعنى الناصر ، والمراد نفي الناصر عنهم على أبلغ الوجوه ؛ لأن الشيطان لا يتصوّر منه النصرة أصلا في الدار الآخرة ، وإذا كان الناصر منحصرا فيه لزم أن لا نصرة من غيره ، ويحتمل أن يراد باليوم بعض زمان الدنيا ، وهو على وجهين : الأوّل : أن يراد البعض

٢٠٧

الذي قد مضى ، وهو الذي وقع فيه التزيين من الشيطان للأمم الماضية فيكون على طريق الحكاية للحال الماضية. الثاني : أن يراد البعض الحاضر ، وهو وقت نزول الآية. والمراد تزيين الشيطان لكفار قريش فيكون الضمير في (وَلِيُّهُمُ) لكفار قريش ، أي : فهو وليّ هؤلاء اليوم ، أو على حذف مضاف ، أي : فهو وليّ أمثال أولئك الأمم اليوم (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : في الآخرة وهو عذاب النار. ثم ذكر سبحانه أنه ما هلك من هلك إلا بعد إقامة الحجة عليهم وإزاحة العلة منهم ، فقال : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) وهذا خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد بالكتاب القرآن ، والاستثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال ، أي : ما أنزلناه عليك لحال من الأحوال ولا لعلة من العلل إلا لعلّة التبيين لهم ، أي : للناس الذي اختلفوا فيه من التوحيد وأحوال البعث وسائر الأحكام الشرعية ، (وَ) انتصاب (هُدىً وَرَحْمَةً) على أنهما مفعول لهما معطوفان على محل لتبين ، ولا حاجة إلى اللام ؛ لأنهما فعلا فاعل الفعل المعلل ، بخلاف التبيين فإنه فعل المخاطب لا فعل المنزل (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بالله سبحانه ويصدّقون ما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب. ثم عاد سبحانه إلى تقرير وجوده وتفرّده بالإلهية بذكر آياته العظام فقال : (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي : من السحاب ، أو من جهة العلو كما مرّ ، أي : نوعا من أنواع الماء (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي : أحياها بالنبات بعد أن كانت يابسة لا حياة بها (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإنزال والإحياء (لَآيَةً) أي : علامة دالة على وحدانيته وعلى بعثه للخلق ومجازاتهم (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) كلام الله ويفهمون ما يتضمنه من العبر ، ويتفكّرون في خلق السموات والأرض (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) الأنعام هي الإبل والبقر والغنم ويدخل في الغنم المعز ، والعبرة أصلها تمثيل الشيء بالشيء ليعرف حقيقته بطريق المشاكلة ، ومنه : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) (١). وقال أبو بكر الوراق : العبرة في الأنعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم ، والظاهر أن العبرة هي قوله : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) فتكون الجملة مستأنفة لبيان العبرة. قرأ أهل المدينة وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر (نُسْقِيكُمْ) بفتح النون من سقى يسقي. وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بضم النون من أسقى يسقي ، قيل : هما لغتان. قال لبيد :

سقى قومي بني مجد وأسقى

نميرا والقبائل من هلال

وقرئ بالتاء الفوقية على أن الضمير راجع إلى الأنعام ، وقرئ بالتحتية على إرجاع الضمير إلى الله سبحانه ، وهما ضعيفتان ، وجميع القرّاء على القراءتين الأوليين ، والفتح لغة قريش ، والضم لغة حمير ؛ وقيل : إن بين سقى وأسقى فرقا ، فإذا كان الشراب من يد الساقي إلى فم المسقي فيقال سقيته ، وإن كان بمجرّد عرضه عليه وتهيئته له قيل أسقاه. والضمير في قوله : (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) راجع إلى الأنعام. قال سيبويه : العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد. وقال الزجّاج : لما كان لفظ الجمع يذكّر ويؤنّث ، فيقال هو الأنعام ، وهي الأنعام جاز عود الضمير بالتذكير. وقال الكسائي : معناه ممّا في بطون ما ذكرنا فهو على هذا عائد إلى المذكور.

__________________

(١). الحشر : ٢.

٢٠٨

قال الفراء : وهو صواب. وقال المبرد : هذا فاش في القرآن كثير مثل قوله للشمس (هذا رَبِّي) (١) يعني هذا الشيء الطالع ، وكذلك : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ) (٢) ، ثم قال : (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ) (٣) ، ولم يقل جاءت لأن المعنى جاء الشيء الذي ذكرنا انتهى ، ومن ذلك قوله : (إِنَّها تَذْكِرَةٌ ـ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) (٤) ومثله قول الشاعر :

مثل الفراخ نتفت حواصله

ولم يقل حواصلها. وقول الآخر :

وطاب إلقاح اللبان وبرد

ولم يقل وبردت. وحكي عن الكسائي أن المعنى مما في بطون بعضه وهي الإناث ؛ لأن الذكور لا ألبان لها ، وبه قال أبو عبيدة ، وحكي عن الفراء أنه قال : النعم والأنعام واحد يذكر ويؤنث ، ولهذا تقول العرب : هذه نعم وارد فرجع الضمير إلى لفظ النعم الذي هو بمعنى الأنعام ، وهو كقول الزجّاج ورجّحه ابن العربي فقال : إنما يرجع التذكير إلى معنى الجمع ، والتأنيث إلى معنى الجماعة ، فذكّره هنا باعتبار لفظ الجمع وأنّثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ) الفرث : الزبل الذي ينزل إلى الكرش ، فإذا خرج منه لم يسم فرثا ، يقال : أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها. والمعنى : أن الشيء الذي تأكله يكون منه ما في الكرش ، وهو الفرث ويكون منه الدم ، فيكون أسفله فرثا ، وأعلاه دما ، وأوسطه (لَبَناً) فيجري الدم في العروق واللبن في الضروع ، ويبقى الفرث كما هو (خالِصاً) يعني من حمرة الدم وقذارة الفرث بعد أن جمعهما وعاء واحد (سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) أي : لذيذا هنيئا لا يغصّ به من شربه ، يقال : ساغ الشراب يسوغ سوغا ، أي : سهل مدخله في الحلق (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ) قال ابن جرير : التقدير : ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون ، فحذف ودلّ على حذفه قوله منه ، وقيل : هو معطوف على الأنعام ، والتقدير : وإن لكم من ثمرات النخيل والأعناب لعبرة ، ويجوز أن يكون معطوفا على مما في بطونه ، أي : نسقيكم مما في بطونه ومن ثمرات النخيل ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلّ عليه ما قبله تقديره : ونسقيكم من ثمرات النخيل ، ويكون على هذا (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) بيانا للإسقاء وكشفا عن حقيقته ، ويجوز أن يتعلّق بتتخذون ، تقديره ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكرا ، ويكون تكرير الظرف ، وهو قوله منه للتأكيد كقولك زيد في الدار فيها ، وإنما ذكر الضمير في منه لأنه يعود إلى المذكور ، أو إلى المضاف المحذوف ؛ وهو العصير ، كأنه قيل : ومن عصير ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه ، والسكر ما يسكر من الخمر ، والرزق الحسن جميع ما يؤكل من هاتين الشجرتين كالثمر والدبس والزبيب والخل ، وكان نزول هذه الآية قبل تحريم الخمر ؛ وقيل : إن السكر الخلّ بلغة الحبشة ، والرزق الحسن الطعام من الشجرتين ؛ وقيل : السكر العصير الحلو الحلال ، وسمّي سكرا لأنه قد يصير مسكرا إذا بقي ، فإذا بلغ الإسكار حرم. والقول

__________________

(١). الأنعام : ٧٨.

(٢). النمل : ٣٥.

(٣). النمل : ٣٦.

(٤). عبس : ١١ و ١٢.

٢٠٩

الأوّل أولى وعليه الجمهور ، وقد صرّح أهل اللغة بأن السكر اسم للخمر ، ولم يخالف في ذلك إلا أبو عبيدة ، فإنه قال : السكر : الطعم ، وممّا يدلّ على ما قاله جمهور أهل اللغة قول الشاعر :

بئس الصحاب (١) وبئس الشرب شربهم

إذا جرى فيهم الهذي (٢) والسّكر

وممّا يدلّ على ما قاله أبو عبيدة ما أنشده :

جعلت عيب الأكرمين سكرا

أي : جعلت ذمّهم طعما ، ورجّح هذا ابن جرير فقال : إن السكر ما يطعم من الطعام ويحلّ شربه من ثمار النخيل والأعناب وهو الرزق الحسن ، فاللفظ مختلف والمعنى واحد ، مثل : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) (٣). قال الزجاج : قول أبي عبيدة هذا لا يعرف ، وأهل التفسير على خلافه ولا حجة في البيت الذي أنشده لأن معناه عند غيره أنه يصف أنها تتخمر بعيوب الناس ، وقد حمل السكر جماعة من الحنفية على ما لا يسكر من الأنبذة وعلى ما ذهب ثلثاه بالطبخ ، قالوا : وإنما يمتنّ الله على عباده بما أحلّه لهم لا بما حرّمه عليهم ، وهذا مردود بالأحاديث الصحيحة المتواترة على فرض تأخره عن آية تحريم الخمر ، اه. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي : لدلالة لمن يستعمل العقل ويعمل بما يقتضيه عند النظر في الآيات التكوينية (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) قد تقدّم الكلام في الوحي وأنه يكون بمعنى الإلهام ، وهو ما يخلقه في القلب ابتداء من غير سبب ظاهر ، ومنه قوله سبحانه : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٤) ، ومن ذلك إلهام البهائم لفعل ما ينفعها وترك ما يضرّها ، وقرأ يحيى بن وثّاب (إِلَى النَّحْلِ) بفتح الحاء. قال الزجاج : وسمي نحلا لأن الله سبحانه نحله العسل الذي يخرج منه. قال الجوهري : والنحل والنحلة الدّبر يقع على الذكر والأنثى (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) أي : بأن اتخذي ، على أنّ «أن» هي المصدرية ، ويجوز أن تكون تفسيرية ؛ لأن في الإيحاء معنى القول ، وأنّث الضمير في اتخذي لكونه أحد الجائزين كما تقدّم ، أو للحمل على المعنى أو لكون النحل جمعا ، وأهل الحجاز يؤنّثون النحل و (مِنَ) في (مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) وكذا في (مِنَ الشَّجَرِ) وكذا في (مِمَّا يَعْرِشُونَ) للتبعيض ، أي : مساكن توافقها وتليق بها في كوى الجبال وتجويف الشجر ، وفي العروش التي يعرشها بنو آدم من الأجباح (٥) والحيطان وغيرها ، وأكثر ما يستعمل فيما يكون من الخشب ، يقال عرش يعرش بكسر الراء وضمها. وبالضم قرأ ابن عامر وشعبة. وقرأ الباقون بالكسر. وقرئ أيضا بيوتا بكسر الباء وضمّها (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) من للتبعيض لأنها تأكل النّور من الأشجار فإذا أكلتها (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ) أي : الطرق التي فهّمك الله وعلّمك ، وأضافها إلى الربّ لأنه خالقها

__________________

(١). في تفسير القرطبي : الصّحاة.

(٢). في تفسير القرطبي : المزّاء.

(٣). يوسف : ٨٦.

(٤). الشمس : ٧ و ٨.

(٥). جاء في القاموس : الجبح ـ يثلث ـ : خلية العسل ، ج أجبح وأجباح.

٢١٠

وملهم النحل أن تسلكها ؛ أي ادخلي طرق ربّك لطلب الرزق في الجبال وخلال الشجر ، أو اسلكي ما أكلت في سبل ربك ، أي : في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النّور عسلا أو إذا أكلت الثمار في الأمكنة البعيدة فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربك لا تضلّين فيها ، وانتصاب (ذُلُلاً) على الحال من السّبل ، وهي جمع ذلول ؛ أي : مذلّلة غير متوعّرة ، واختار هذا الزجاج وابن جرير ، وقيل : حال من النحل ، يعني : مطيعة للتسخير وإخراج العسل من بطونها ، واختار هذا ابن قتيبة ، وجملة (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها) مستأنفة عدل به عن خطاب النحل ، تعديدا للنعم ، وتعجيبا لكل سامع ، وتنبيها على العبرة ، وإرشادا إلى الآيات العظيمة الحاصلة من هذا الحيوان الشبيه بالذباب ، والمراد بال (شَرابٌ) في الآية هو العسل ، ومعنى (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) أن بعضه أبيض وبعضه أحمر وبعضه أزرق وبعضه أصفر باختلاف ذوات النحل وألوانها ومأكولاتها. وجمهور المفسّرين على أن العسل يخرج من أفواه النحل ؛ وقيل : من أسفلها ؛ وقيل : لا يدرى من أين يخرج منها ، والضمير في قوله : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) راجع إلى الشراب الخارج من بطون النحل وهو العسل ، وإلى هذا ذهب الجمهور. وقال الفراء وابن كيسان وجماعة من السلف : إن الضمير راجع إلى القرآن ، ويكون التقدير فيما قصصنا عليكم من الآيات والبراهين شفاء للناس ، ولا وجه للعدول عن الظاهر ومخالفة المرجع الواضح والسياق البيّن.

وقد اختلف أهل العلم : هل هذا الشّفاء الذي جعله الله في العسل عام لكل داء أو خاص ببعض الأمراض؟ فقالت طائفة : هو على العموم ، وقالت طائفة : إن ذلك خاصّ ببعض الأمراض ، ويدل على هذا أن العسل نكرة في سياق الإثبات فلا يكون عاما ، وتنكيره إن أريد به التعظيم لا يدل إلا على أن فيه شفاء عظيما لمرض أو أمراض ، لا لكل مرض ، فإن تنكير التعظيم لا يفيد العموم ، والظاهر المستفاد من التجربة ومن قوانين علم الطب ، أنه إذا استعمل منفردا كان دواء لأمراض خاصة وإن خلط مع غيره كالمعاجين ونحوها كان مع ما خلط به دواء لكثير من الأمراض. وبالجملة فهو من أعظم الأغذية وأنفع الأدوية ، وقليلا ما يجتمع هذان الأمران في غيره (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور من أمر النحل (لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي : يعملون أفكارهم عند النظر في صنع الله سبحانه وعجائب مخلوقاته ، فإن أمر النحل من أعجبها وأغربها وأدقّها وأحكمها.

وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحّاس ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في سننه ، وابن مردويه عن ابن عباس أنه سئل عن قوله : (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) قال : السكر : ما حرم من ثمرتهما ، والرزق الحسن : ما حلّ. وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه قال : السكر : الحرام ، والرزق الحسن : زبيبه وخلّه وعنبه ومنافعه. وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : السكر النبيذ ، والرزق الحسن الزبيب ، فنسختها هذه الآية : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ). وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عنه أيضا في الآية قال : فحرّم الله بعد ذلك السكر منع تحريم الخمر لأنه منه ، ثم قال : (وَرِزْقاً حَسَناً) فهو الحلال من الخلّ والزبيب والنبيذ وأشباه ذلك ، فأقرّه الله وجعله حلالا للمسلمين. وأخرج الفريابي وابن أبي

٢١١

شيبة وابن حاتم عن ابن عمر أنه سئل عن السكر ، فقال : الخمر بعينها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن ابن مسعود قال : السكر خمر. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) قال : ألهمها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً) قال : طرقا لا يتوعر عليها مكان سلكته. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة (ذُلُلاً) قال : مطيعة. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال : ذليلة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ) قال : العسل. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : هو العسل فيه الشفاء وفي القرآن. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن ابن مسعود قال : إن العسل شفاء من كل داء ، والقرآن شفاء لما في الصدور. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن مسعود قال : عليكم بالشفاءين العسل والقرآن. وأخرج ابن ماجة ، والحاكم وصحّحه وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، وابن السني وأبو نعيم والخطيب عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عليكم بالشّفاءين العسل والقرآن». وقد وردت أحاديث في كون العسل شفاء ؛ منها ما أخرجه البخاري من حديث ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الشّفاء في ثلاثة في شرطة محجم أو شربة عسل أو كيّة بنار ، وأنا أنهى أمتي عن الكيّ». وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد : «أن رجلا أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إن أخي استطلق بطنه ، فقال : اسقه عسلا ، فسقاه عسلا ، ثم جاء فقال : سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا ، قال : اذهب فاسقه عسلا فذهب فسقاه ، ثم جاء فقال : ما زاده إلا استطلاقا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : صدق الله وكذب بطن أخيك ؛ اذهب فاسقه عسلا ، فذهب فسقاه عسلا فبرأ» (١).

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤))

لما ذكر سبحانه بعض أحوال الحيوان وما فيها من عجائب الصنعة الباهرة ، وخصائص القدرة القاهرة ، أتبعه بعجائب خلق الإنسان وما فيه من العبر ، فقال : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ) ولم تكونوا شيئا (ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) عند انقضاء آجالكم (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) يقال : رذل يرذل رذالة ، والأرذل والرذالة : أردأ الشيء وأوضعه. قال النيسابوري : واعلم أن العقلاء ضبطوا مراتب عمر الإنسان في أربع : أولاها سنّ النشو.

__________________

(١). جاء في لسان العرب : أهل الحجاز يقولون : برأت من المرض برءا بالفتح ، وسائر العرب يقولون : برئت من المرض.

٢١٢

وثانيها : سنّ الوقوف وهو سنّ الشباب. وثالثها : سنّ الانحطاط اليسير ، وهو سنّ الكهولة. ورابعها : سنّ الانحطاط الظاهر ، وهو سنّ الشيخوخة. قيل : وأرذل العمر هو عند أن يصير الإنسان إلى الخرف ، وهو أن يصير بمنزلة الصبىّ الذي لا عقل له ؛ وقيل : خمس وسبعون سنة ، وقيل : تسعون سنة ، ومثل هذه الآية قوله سبحانه : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ـ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) (١). ثم علل سبحانه ردّ من يرده إلى أرذل العمر بقوله : (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ) كان قد حصل له (شَيْئاً) من العلم لا كثيرا ولا قليلا ، أو شيئا من المعلومات إذا كان العلم هنا بمعنى المعلوم ؛ وقيل : المراد بالعلم هنا العقل ، وقيل : المراد لئلا يعلم زيادة على علمه الذي قد حصل له قبل ذلك. ثم لما بيّن سبحانه خلق الإنسان وتقلبه في أطوار العمر ذكر طرفا من أحواله لعلّه يتذكر عند ذلك فقال : (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) فجعلكم متفاوتين فيه فوسّع على بعض عباده حتى جعل له من الرزق ما يكفي ألوفا مؤلفة من بني آدم ، وضيّقه على بعض عباده حتى صار لا يجد القوت إلا بسؤال الناس والتكفّف لهم ، وذلك لحكمة بالغة تقصر عقول العباد عن تعقّلها والاطلاع على حقيقة أسبابها ، وكما جعل التفاوت بين عباده في المال جعله بينهم في العقل والعلم والفهم وقوّة البدن وضعفه والحسن والقبح والصحة والسقم وغير ذلك من الأحوال ؛ وقيل : معنى الآية : أن الله سبحانه أعطى الموالي أفضل مما أعطى مماليكهم بدليل قوله : (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أي : فما الذين فضلهم الله بسعة الرزق على غيرهم برادّي رزقهم الذي رزقهم الله إياه على ما ملكت أيمانهم من المماليك (فَهُمْ) أي : المالكون والمماليك (فِيهِ) أي : في الرزق (سَواءٌ) أي : لا يردّونه عليهم بحيث يساوونهم ، فالفاء على هذا للدلالة على أن التساوي مترتب على الترادّ ، أي : لا يردونه عليهم ردّا مستتبعا للتساوي ، وإنما يردّون عليهم منه شيئا يسيرا ، وهذا مثل ضربه الله سبحانه بعبدة الأصنام ، أي : إذا لم يكونوا عبيدكم معكم سواء ولا ترضون بذلك ، فكيف تجعلون عبيدي معي سواء والحال أن عبيدكم مساوون لكم في البشرية والمخلوقية ، فلما لم تجعلوا عبيدكم مشاركين لكم في أموالكم ، فكيف تجعلون بعض عباد الله سبحانه شركاء له فتعبدونهم معه ، أو كيف تجعلون بعض مخلوقاته كالأصنام شركاء له في العبادة ذكر معنى هذا ابن جرير ، ومثل هذه الآية قوله سبحانه : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) (٢). وقيل : إن الفاء في «فهم فيه سواء» بمعنى حتى (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) حيث تفعلون ما تفعلون من الشرك ، والنعمة هي كونه سبحانه جعل المالكين مفضلين على المماليك ، وقد قرئ (يَجْحَدُونَ) بالتحتية والفوقية. قال أبو عبيدة وأبو حاتم : وقراءة الغيبة أولى لقرب المخبر عنه ، ولأنه لو كان خطابا لكان ظاهره للمسلمين ، والاستفهام للإنكار ، والفاء للعطف على مقدّر ، أي : يشركون به فيجحدون نعمته ، ويكون المعنى على قراءة الخطاب أن المالكين ليسوا برادّي رزقهم على مماليكهم ، بل أنا الذي أرزقهم وإياهم فلا يظنوا أنهم يعطونهم شيئا ، وإنما هو رزقي أجريه على أيديهم ، وهم جميعا في ذلك سواء لا مزية لهم على مماليكهم ، فيكون المعطوف عليه المقدّر فعلا يناسب هذا المعنى ، كأن

__________________

(١). التين : ٤ و ٥.

(٢). الروم : ٢٨.

٢١٣

يقال : لا يفهمون ذلك فيجحدون نعمة الله. ثم ذكر سبحانه الحالة الأخرى من أحوال الإنسان فقال : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) قال المفسرون : يعني النساء فإنه خلق حوّاء من ضلع آدم ، أو المعنى : خلق لكم من جنسكم أزواجا لتستأنسوا بها ، لأن الجنس يأنس إلى جنسه ويستوحش من غير جنسه ، وبسبب هذه الأنسة يقع بين الرجال والنساء ما هو سبب للنسل الذي هو المقصود بالزواج ، ولهذا قال : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) الحفدة : جمع حافد ، يقال : حفد يحفد حفدا وحفودا ؛ إذا أسرع ، فكل من أسرع في الخدمة فهو حافد ، قال أبو عبيد : الحفد : العمل والخدمة. قال الخليل بن أحمد : الحفدة عند العرب الخدم ، ومن ذلك قول الشاعر ، وهو الأعشى :

كلّفت مجهولها نوقا يمانية

إذا الحداة على أكتافها (١) حفدوا

أي : الخدم والأعوان. وقال الأزهري : قيل : الحفدة : أولاد الأولاد ، وروي عن ابن عباس ؛ وقيل : الأختان ، قاله ابن مسعود وعلقمة وأبو الضّحى وسعيد بن جبير وإبراهيم النّخعي ، ومنه قول الشاعر (٢) :

فلو أنّ نفسي طاوعتني لأصبحت

لها حفد مما يعدّ كثير

ولكنّها نفس عليّ أبية

عيوف لإصهار (٣) اللئام قذور

وقيل : الحفدة الأصهار. قال الأصمعي : الختن من كان من قبل المرأة كابنها وأخيها وما أشبههما ، والأصهار منهما جميعا ، يقال : أصهر فلان إلى بني فلان وصاهر ؛ وقيل : هم أولاد امرأة الرجل من غيره ؛ وقيل : الأولاد الذين يخدمونه ؛ وقيل : البنات الخادمات لأبيهنّ. ورجّح كثير من العلماء أنهم أولاد الأولاد ؛ لأنه سبحانه امتنّ على عباده بأن جعل لهم من الأزواج بنين وحفدة ، فالحفدة في الظاهر معطوفون على البنين وإن كان يجوز أن يكون المعنى : جعل لكم من أزواجكم بنين وجعل لكم حفدة ، ولكن لا يمتنع على هذا المعنى الظاهر أن يراد بالبنين من لا يخدم ، وبالحفدة من يخدم الأب منهم ، أو يراد بالحفدة البنات فقط ، ولا يفيد أنهم أولاد الأولاد إلا إذا كان تقدير الآية : وجعل لكم من أزواجكم بنين ، ومن البنين حفدة (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) التي تستطيبونها وتستلذونها ، ومن للتبعيض ؛ لأن الطيبات لا تكون مجتمعة إلا في الجنة ، ثم ختم سبحانه الآية بقوله : (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) والاستفهام للإنكار التوبيخي ، والفاء للعطف على مقدّر ، أي : يكفرون بالله فيؤمنون بالباطل ، وفي تقدّم (فَبِالْباطِلِ) على الفعل دلالة على أنه ليس لهم إيمان إلا به ، والباطل هو اعتقادهم في أصنامهم أنها تضر وتنفع ؛ وقيل : الباطل ما زيّن لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة ونحوهما. قرأ الجمهور (يُؤْمِنُونَ) بالتحتية ، وقرأ أبو بكر بالفوقية على الخطاب (وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) أي : ما أنعم به عليهم مما لا يحيط به حصر ، وفي تقديم النعمة وتوسيط ضمير الفصل دليل على أن كفرهم مختص بذلك ، لا يتجاوزه لقصد المبالغة والتأكيد (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) هو معطوف على

__________________

(١). في تفسير القرطبي (١٠ / ١٤٣) : اكسائها. وهو جمع كسي ، وهو مؤخّر العجز.

(٢). هو جميل بن معمر.

(٣). في البحر : لأصحاب.

٢١٤

يكفرون داخل تحت الإنكار التوبيخي إنكارا منه سبحانه عليهم حيث يعبدون الأصنام ، وهي لا تنفع ولا تضرّ ، ولهذا قال : (ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً) قال الأخفش : إن شيئا بدل من الرزق. وقال الفراء : هو منصوب بإيقاع الرزق عليه ، فجعل رزقا مصدرا عاملا في شيئا ، والأخفش جعله اسما للرزق ؛ وقيل : يجوز أن يكون تأكيدا لقوله : (لا يَمْلِكُ) أي : لا يملك شيئا من الملك ، والمعنى : أن هؤلاء الكفار يعبدون معبودات لا تملك لهم رزقا أيّ رزق ، ومن السموات والأرض صفة لرزق ، أي : كائنا منهما ، والضمير في (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) راجع إلى ما ، وجمع جمع العقلاء بناء على زعمهم الباطل ، والفائدة في نفي الاستطاعة عنهم أن من لا يملك شيئا قد يكون موصوفا باستطاعة التملك بطريق من الطرق ، فبيّن سبحانه أنها لا تملك ولا تستطيع ؛ وقيل : يجوز أن يكون الضمير في يستطيعون للكفار : أي لا يستطيع هؤلاء الكفار مع كونهم أحياء متصرّفين ، فكيف بالجمادات التي لا حياة لها ولا تستطيع التصرّف؟ ثم نهاهم سبحانه عن أن يشبهوه بخلقه ، فقال : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) فإن ضارب المثل يشبه حالا بحال وقصة بقصة. قال الزجاج : لا تجعلوا لله مثلا لأنه واحد لا مثل له ، وكانوا يقولون : إن إله العالم أجلّ من أن يعبده الواحد منا ، فكانوا يتوسلون إلى الأصنام والكواكب ، كما أن أصاغر الناس يخدمون أكابر حضرة الملك ، وأولئك الأكابر يخدمون الملك فنهوا عن ذلك ، وعلل النهي بقوله : (إِنَّ اللهَ) عليم (يَعْلَمُ) ما عليكم من العبادة (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ما في عبادتها من سوء العاقبة ، والتعرّض لعذاب الله سبحانه ، أو أنتم لا تعلمون بشيء من ذلك ، وفعلكم هذا هو عن توهم فاسد وخاطر باطل وخيال مختلّ ، ويجوز أن يراد فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم كيف تضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون ذلك.

وقد أخرج ابن جرير عن عليّ في قوله : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) قال : خمس وسبعون سنة. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال : هو الخرف. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : من قرأ القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر ، ثم قرأ (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً). وأخرج ابن أبي شيبة عن طاوس قال : العالم لا يخرف. وقد ثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح وغيره أنه كان يتعوّذ بالله أن يردّ إلى أرذل العمر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) قال : لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : هذا مثل لآلهة الباطل مع الله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) قال : خلق آدم ، ثم خلق زوجته منه. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور ، والبخاري في تاريخه ، وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن مسعود في قوله : (بَنِينَ وَحَفَدَةً) قال : الحفدة الأختان. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الحفدة الأصهار. وأخرجا عنه قال : الحفدة الولد وولد الولد. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال : الحفدة بنو البنين. وأخرج ابن جرير عن أبي جمرة قال : سئل ابن عباس عن قوله : (بَنِينَ وَحَفَدَةً) قال : من أعابك فقد

٢١٥

حفدك ، أما سمعت الشاعر يقول :

حفد الولائد حولهنّ وأسلمت

بأكفهنّ أزمّة الإجمال

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا قال : الحفدة بنو امرأة الرجل ليسوا منه. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) قال : الشرك. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : هو الشيطان (وَبِنِعْمَتِ اللهِ) قال : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) الآية قال : هذه الأوثان التي تعبد من دون الله لا تملك لمن يعبدها (رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ولا خيرا ولا حياة ولا نشورا (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) فإنه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله سبحانه : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) يعني اتّخاذهم الأصنام ، يقول : لا تجعلوا معي إلها غيري ، فإنه لا إله غيري.

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩))

قوله : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) لما قال سبحانه (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ) أي : بالمعلومات التي من جملتها كيف يضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون ، علمهم سبحانه كيف تضرب الأمثال فقال : ضرب الله مثلا ؛ أي : ذكر شيئا يستدلّ به على تباين الحال بين جناب الخالق سبحانه ، وبين ما جعلوه شريكا له من الأصنام ، ثم ذكر ذلك فقال : (عَبْداً مَمْلُوكاً) والمثل في الحقيقة هي حالة للعبد عارضة له ، وهي المملوكية والعجز عن التصرّف ، فقوله : (عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) تفسير للمثل وبدل منه ، ووصفه بكونه مملوكا ؛ لأن العبد والحرّ مشتركان في كون كل واحد منهما عبدا لله سبحانه ، ووصفه بكونه لا يقدر على شيء ؛ لأن المكاتب والمأذون يقدران على بعض التصرفات ، فهذا الوصف لتمييزه عنهما (وَمَنْ رَزَقْناهُ) من هي الموصولة ، وهي معطوفة على (عَبْداً) أي : والذي رزقناه (مِنَّا) أي : من جهتنا (رِزْقاً حَسَناً) من الأحرار الذين يملكون الأموال ويتصرّفون بها كيف شاؤوا ، والمراد يكون الرزق حسنا أنه ممّا يحسن في عيون الناس ؛ لكونه رزقا كثيرا مشتملا على أشياء مستحسنة نفيسة تروق الناظرين إليها ، والفاء في قوله : (فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ) لترتيب الإنفاق على الرزق ، أي : ينفق منه في وجوه الخير ويصرف منه إلى أنواع البرّ

٢١٦

والمعروف ، وانتصاب (سِرًّا وَجَهْراً) على الحال ، أي : ينفق منه في حال السرّ وحال الجهر ؛ والمراد بيان عموم الإنفاق للأوقات ، وتقديم السرّ على الجهر مشعر بفضيلته عليه ، وأن الثواب فيه أكثر ؛ وقيل : إن (مَنْ) في (وَمَنْ رَزَقْناهُ) موصوفة كأنه قيل : وحرّا رزقناه ليطابق عبدا (هَلْ يَسْتَوُونَ) أي : الحرّ والعبد الموصوفان بالصّفات المتقدّمة ، وجمع الضمير لمكان من ؛ لأنه اسم مبهم يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث ؛ وقيل : إنه أريد بالعبد والموصول الذي هو عبادة عن الحرّ الجنس ، أي : من اتّصف بتلك الأوصاف من الجنسين ، والاستفهام للإنكار ، أي : هل يستوي العبيد والأحرار الموصوفون بتلك الصفات مع كون كلا الفريقين مخلوقين لله سبحانه من جملة البشر ، ومن المعلوم أنهم لا يستوون عندهم ، فكيف يجعلون لله سبحانه شركاء لا يملكون لهم ضرّا ولا نفعا ، ويجعلونهم مستحقّين للعبادة مع الله سبحانه؟ وحاصل المعنى : أنه كما لا يستوي عندكم عبد مملوك لا يقدر من أمره على شيء ورجل حرّ قد رزقه الله رزقا حسنا فهو ينفق منه ، كذلك لا يستوي الربّ الخالق الرازق والجمادات من الأصنام التي تعبدونها وهي لا تبصر ولا تسمع ولا تضرّ ولا تنفع ؛ وقيل : المراد بالعبد المملوك في الآية هو الكافر المحروم من طاعة الله وعبوديته ، والآخر هو المؤمن ؛ والغرض أنهما لا يستويان في الرتبة والشرف ؛ وقيل : العبد هو الصنم ، والثاني عابد الصنم ، والمراد أنهما لا يستويان في القدرة والتصرّف ؛ لأن الأوّل جماد ، والثاني إنسان (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي : الحمد لله كله ؛ لأنه المنعم لا يستحق غيره من العباد شيئا منه ، فكيف تستحق الأصنام منه شيئا ولا نعمة منها أصلا لا بالأصالة ولا بالتوسط ؛ وقيل : أراد الحمد لله على ما أنعم به على أوليائه من نعمة التوحيد ؛ وقيل : أراد قل الحمد لله ، والخطاب إما لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لمن رزقه الله رزقا حسنا ؛ وقيل : إنه لما ذكر مثلا مطابقا للغرض كاشفا عن المقصود قال الحمد لله ، أي : على قوّة هذه الحجة (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ذلك حتى يعبدوا من تحقّ له العبادة ويعرفوا المنعم عليهم بالنعم الجليلة ، ونفي العلم عنهم إما لكونهم من الجهل بمنزلة لا يفهمون بسببها ما يجب عليهم ، أو هم يتركون الحق عنادا مع علمهم به فكانوا كمن لا علم له ، وخصّ الأكثر بنفي العلم ؛ إما لكونه يريد الخلق جميعا ، وأكثرهم المشركون ، أو ذكر الأكثر وهو يريد الكلّ ، أو المراد أكثر المشركين ، لأن فيهم من يعلم ولا يعمل بموجب العلم. ثم ذكر سبحانه مثلا ثانيا ضربه لنفسه ، ولما يفيض على عباده من النعم الدينية والدنيوية ، وللأصنام التي هي أموات لا تضرّ ولا تنفع فقال : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) أي : مثلا آخر أوضح مما قبله وأظهر منه ، و (رَجُلَيْنِ) بدل من مثل وتفسير له ، والأبكم : العييّ المفحم ؛ وقيل : هو الأقطع اللسان الذي لا يحسن الكلام ، وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه الذي لا يسمع ولا يبصر ، ثم وصف الأبكم فقال : (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) من الأشياء المتعلقة بنفسه أو بغيره لعدم فهمه وعدم قدرته على النطق ، ومعنى (كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) ثقيل على وليه وقرابته وعيال على من يلي أمره ويعوله ووبال على إخوانه ، وقد يسمّى اليتيم كلا لثقله على من يكفله ، ومنه قول الشاعر :

أكول لمال الكلّ قبل شبابه

إذا كان عظم الكلّ غير شديد

وفي هذا بيان لعدم قدرته على إقامة مصالح نفسه بعد ذكر عدم قدرته على شيء مطلقا. ثم وصفه بصفة

٢١٧

رابعة فقال : (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) أي : إذا وجّهه إلى أيّ جهة لا يأت بخير قط ؛ لأنه لا يفهم ولا يعقل ما يقال له ولا يمكنه أن يقول. وقرأ يحيى بن وثّاب «أينما يوجّه» على البناء للمجهول ، وقرأ ابن مسعود «أينما توجّه» على صيغة الماضي (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ) في نفسه مع هذه الأوصاف التي اتّصف بها (وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) أي : يأمر الناس بالعدل مع كونه في نفسه ينطق بما يريد النطق به ويفهم ، ويقدر على التصرّف في الأشياء (وَهُوَ) في نفسه (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) على دين قويم وسيرة صالحة ليس فيه ميل إلى أحد جانبي الإفراط والتفريط ، قابل أوصاف الأول بهذين الوصفين المذكورين للآخر ؛ لأن حاصل أوصاف الأوّل عدم استحقاقه لشيء ، وحاصل وصفي هذا أنه مستحق أكمل استحقاق ، والمقصود الاستدلال بعدم تساوي هذين المذكورين على امتناع التساوي بينه سبحانه وبين ما يجعلونه شريكا له. ولما فرغ سبحانه من ذكر المثلين مدح نفسه بقوله : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : يختصّ ذلك به لا يشاركه فيه غيره ولا يستقل به ، والمراد علم ما غاب عن العباد فيهما ، أو أراد بغيبهما يوم القيامة ؛ لأن علمه غائب عن العباد ، ومعنى الإضافة إليهما التعلق بهما. والمعنى : التوبيخ للمشركين والتقريع لهم ، أي : أن العبادة إنما يستحقها من كانت هذه صفته لا من كان جاهلا عاجزا لا يضرّ ولا ينفع ولا يعلم بشيء من أنواع العلم (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ) التي هي أعظم ما وقعت فيه المماراة من الغيوب المختصّة به سبحانه (إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) اللمح النظر بسرعة ، ولا بدّ فيه من زمان تتقلب فيه الحدقة نحو المرئي وكل زمان قابل للتجزئة ، ولذا قال : (أَوْ هُوَ) أي : أمرهما (أَقْرَبُ) وليس هذا من قبيل المبالغة ، بل هو كلام في غاية الصدق ؛ لأن مدّة ما بين الخطاب وقيام الساعة متناهية ، ومنها إلى الأبد غير متناه ، ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي ؛ أو يقال : إن الساعة لما كانت آتية ولا بدّ جعلت من القرب كلمح البصر. وقال الزجاج : لم يرد أن الساعة تأتي في لمح البصر ، وإنما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها ، لأنه يقول للشيء كن فيكون ؛ وقيل : المعنى : هي عند الله كذلك وإن لم تكن عند المخلوقين بهذه الصفة ، ومثله قوله سبحانه : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً ـ وَنَراهُ قَرِيباً) (١). ولفظ أو في : (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) ليس للشك بل للتمثيل ؛ وقيل : دخلت لشك المخاطب ، وقيل : هي بمنزلة بل (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومجيء الساعة بسرعة من جملة مقدوراته. ثم إنه سبحانه ذكر حالة أخرى للإنسان دالة على غاية قدرته ونهاية رأفته فقال : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) وهذا معطوف على قوله : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) منتظم معه في سلك أدلة التوحيد ؛ أي : أخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا لا علم لكم بشيء ، وجملة لا تعلمون شيئا في محل نصب على الحال ؛ وقيل : المراد لا تعلمون شيئا مما أخذ عليكم من الميثاق ، وقيل : لا تعلمون شيئا ممّا قضي به عليكم من السعادة والشقاوة ، وقيل : لا تعلمون شيئا من منافعكم. والأولى التعميم لتشمل الآية هذه الأمور وغيرها اعتبارا بعموم اللفظ ، فإن شيئا نكرة واقعة في سياق النفي. وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة «إمهاتكم» بكسر الهمزة والميم ـ هنا ـ وفي النور والزمر والنجم. وقرأ الكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم. وقرأ الباقون بضم الهمزة وفتح الميم

__________________

(١). المعارج : ٦ و ٧.

٢١٨

(وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي : ركب فيكم هذه الأشياء ، وهو معطوف على أخرجكم ، وليس فيه دلالة على تأخير هذا الجعل عن الإخراج لما أن مدلول الواو هو مطلق الجمع. والمعنى : جعل لكم هذه الأشياء لتحصلوا بها العلم الذي كان مسلوبا عنكم عند إخراجكم من بطون أمهاتكم ، وتعملوا بموجب ذلك العلم من شكر المنعم وعبادته والقيام بحقوقه ، والأفئدة : جمع فؤاد ، وهو وسط القلب ، منزل منه بمنزلة القلب من الصدر ، وقد قدّمنا الوجه في إفراد السمع وجمع الأبصار والأفئدة ، وهو أن أفراد السمع لكونه مصدرا في الأصل يتناول القليل والكثير (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي : لكي تصرفوا كلّ آلة فيما خلقت له ، فعند ذلك تعرفون مقدار ما أنعم الله به عليكم فتشكرونه ، أو أن هذا الصرف هو نفس الشكر. ثم ذكر سبحانه دليلا آخر على كمال قدرته ، فقال : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ) أي : ألم ينظروا إليها حال كونها مسخرات ، أي : مذللات للطيران بما خلق الله لها من الأجنحة وسائر الأسباب المؤاتية لذلك كرقة قوام الهواء ، وإلهامها بسط الجناح وقبضه ؛ كما يفعل السابح في الماء (فِي جَوِّ السَّماءِ) أي : في الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلو ، وإضافته إلى السماء لكونه في جانبها (ما يُمْسِكُهُنَ) في الجوّ (إِلَّا اللهُ) سبحانه بقدرته الباهرة ، فإن ثقل أجسامها ورقة قوام الهواء يقتضيان سقوطها ، لأنها لم تتعلق بشيء من فوقها ، ولا اعتمدت على شيء تحتها. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وابن عامر وحمزة ويعقوب «ألم تروا» بالفوقية على الخطاب ، واختار هذه القراءة أبو عبيد. وقرأ الباقون بالتحتية (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي : إن في ذلك التسخير على تلك الصفة لآيات ظاهرات تدلّ على وحدانية الله سبحانه وقدرته الباهرة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بالله سبحانه وبما جاءت به رسله من الشرائع التي شرعها الله.

وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً) الآية. قال : يعني الكافر أنه لا يستطيع أن ينفق نفقة في سبيل الله (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) الآية قال : يعني المؤمن ، وهذا المثل في النفقة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم نحوه بأطول منه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية ، وفي قوله : (مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ) قال : كل هذا مثل إله الحق وما تدعون من دونه الباطل. وأخرج ابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس قال : في المثل الأوّل يعني بذلك الآلهة التي لا تملك ضرّا ولا نفعا ولا تقدر على شيء ينفعها (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً) قال : علانية ، الذي ينفق سرّا وجهرا لله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عنه قال : نزلت هذه الآية : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً) في رجل من قريش وعبده ، وفي هشام بن عمرو ، وهو الذي ينفق سرّا وجهرا ، وفي عبده أبي الجوزاء الذي كان ينهاه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ) الآية قال : يعني بالأبكم الذي : (هُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) الكافر (وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) المؤمن ، وهذا المثل في الأعمال. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عنه أيضا قال : نزلت هذه الآية : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) الآية في عثمان بن عفان ومولى له كافر ، وهو أسيد

٢١٩

ابن أبي العيص كان يكره الإسلام ، وكان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المؤنة ، وكان الآخر ينهاه عن الصدقة والمعروف ، فنزلت فيهما. وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة ، والبخاري في تاريخه ، وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والضياء في المختارة ، عنه أيضا في قوله : (وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) قال : عثمان بن عفان. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (كَلٌ) قال : الكلّ : العيال ، كانوا إذا ارتحلوا حملوه على بعير ذلول ، وجعلوا معه نفرا يمسكونه خشية أن يسقط عليهم ، فهو عناء وعذاب وعيال عليهم (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يعني نفسه. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) هو أن يقول : كن فهو كلمح البصر (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) فالساعة كلمح البصر أو هي أقرب. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) قال : من الرحم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (فِي جَوِّ السَّماءِ) أي : في كبد السماء.

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣))

قوله : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ) معطوف على ما قبله وهذا المذكور من جملة أحوال الإنسان ، ومن تعديد نعم الله عليه ، والسكن مصدر يوصف به الواحد والجمع ، وهو بمعنى مسكون ، أي : تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة ، وهذه نعمة ؛ فإن الله سبحانه لو شاء لخلق العبد مضطربا دائما كالأفلاك ، ولو شاء لخلقه ساكنا أبدا كالأرض (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً) لما ذكر سبحانه بيوت المدن ، وهي التي للإقامة الطويلة عقبها بذكر بيوت البادية والرحلة ، أي : جعل لكم من جلود الأنعام ، وهي الأنطاع والأدم بيوتا كالخيام والقباب (تَسْتَخِفُّونَها) أي : يخفّ عليكم حملها في الأسفار وغيرها ، ولهذا قال : (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) والظعن بفتح العين وسكونها ، وقرئ بهما ، سير أهل البادية للانتجاع ، والتحوّل من موضع إلى موضع ، ومنه قول عنترة :

ظعن الّذين فراقهم أتوقّع

وجرى ببينهم الغراب الأبقع

والظعن : الهودج أيضا. (وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً) معطوف على (جَعَلَ) أي : وجعل لكم من أصواف الأنعام وأوبارها وأشعارها ، والأنعام تعمّ الإبل والبقر والغنم كما تقدّم ، والأصواف للغنم ، والأوبار للإبل ، والأشعار للمعز ، وهي من جملة الغنم ، فيكون ذكر هذه الثلاثة على وجه التنويع

٢٢٠