التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0682-5
الصفحات: ٤٥٠

ثم بين ـ سبحانه ـ الآثار الجليلة المترتبة على إنزال الماء من السماء فقال : (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ.) ..

أى : فأوجدنا لكم بسبب نزول الماء على الأرض بساتين متنوعة ، بعضها من نخيل ، وبعضها من أعناب ، وبعضها منهما معا ، وبعضها من غيرهما.

وخص النخيل والأعناب بالذكر ، لكثرة منافعهما ، وانتشارهما في الجزيرة العربية ، أكثر من غيرهما.

(لَكُمْ فِيها) أى : في تلك الجنات (فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) تتلذذون بها في مأكلكم (وَمِنْها). أى : ومن هذه البساتين والجنات (تَأْكُلُونَ) ما تريدون أكله منها في كل الأوقات.

والمراد بالشجرة في قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ ..). ، شجرة الزيتون. وهي معطوفة على «جنات» من عطف الخاص على العام.

أى : فأنشأنا لكم بسبب هذا الماء النازل من السماء ، جنات ، وأنشأنا لكم بسببه ـ أيضا ـ شجرة مباركة تخرج من هذا الوادي المقدس الذي كلم الله ـ تعالى ـ عليه موسى ـ عليه‌السلام ـ وهو المعروف بطور سيناء. أى : بالجبل المسمى بهذا الاسم في منطقة سيناء ، ومكانها معروف.

قالوا : وكلمة سيناء ـ بفتح السين والمد على الراجح ـ معناها : الحسن باللغة النبطية. أو معناها : الجبل المليء بالأشجار. وقيل : مأخوذة من السنا بمعنى الارتفاع.

وخصت شجرة الزيتون بالذكر : لأنها من أكثر الأشجار فائدة بزيتها وطعامها وخشبها ، ومن أقل الأشجار ـ أيضا ـ تكلفة لزارعها.

وخص طور سيناء بإنباتها فيه ، مع أنها تنبت منه ومن غيره ، لأنها أكثر ما تكون انتشارا في تلك الأماكن ، أو لأن منبتها الأصلى كان في هذا المكان ، ثم انتقلت منه إلى غيره من الأماكن.

وقوله : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) بيان لمنافع هذه الشجرة على سبيل المدح ، والتعليل لإفرادها بالذكر.

والدهن : عصارة كل شيء ذي دسم. والمراد به هنا : زيت الزيتون.

وقراءة الجمهور : (تَنْبُتُ) ـ بفتح التاء وضم الباء ـ على أنه مضارع نبت الثلاثي.

فيكون المعنى : هذه الشجرة من مزاياها أنها تنبت مصحوبة وملتبسة بالدهن الذي

٢١

يستخرج من زيتونها. فالباء في قوله (بِالدُّهْنِ) للمصاحبة والملابسة ، كما تقول : خرج فلان بسلاحه. أى : مصاحبا له.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : تنبت ـ بضم التاء وكسر الباء ـ من أنبت بمعنى نبت. أو : من أنبت المتعدى بالهمزة ، كأنبت الله الزرع. والتقدير : تنبت ثمارها مصحوبة بالدهن.

والصبغ في الأصل : يطلق على الشيء الذي يصبغ به الثوب. والمراد به هنا : الإدام لأنه يصبغ الخبز ، ويجعله كأنه مصبوغ به.

أى : أن من فوائد هذه الشجرة المباركة أنها يتخذ منها الزيت الذي ينتفع به ، والإدام الذي يحلو معه أكل الخبز والطعام.

روى الإمام أحمد عن مالك بن ربيعة الساعدي ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة».

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ جانبا من مظاهر نعمه في الماء والنبات أتبع ذلك ببيان جانب آخر من نعمه في الأنعام والحيوان. فقال : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً.) ..

والأنعام : تطلق على الإبل والبقر والغنم. وقد تطلق على الإبل خاصة.

والعبرة : اسم من الاعتبار ، وهو الحالة التي تجعل الإنسان يعتبر ويتعظ بما يراه ويسمعه.

أى : وإن لكم ـ أيها الناس ـ فيما خلق الله لكم من الأنعام لعبرة وعظة ، تجعلكم تخلصون العبادة لله ـ تعالى ـ وتشكرونه على آلائه.

وقوله ـ سبحانه ـ : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها ، وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ ..) .. بيان لمواطن العبرة ، وتعريف بأوجه النعمة.

أى : نسقيكم مما في بطونها من ألبان خالصة ، تخرج من بين فرث ودم ، ولكم في هذه الأنعام منافع كثيرة ، كأصوافها وأوبارها وأشعارها ، ومنها تأكلون من لحومها ، ومما يستخرج من ألبانها.

(وَعَلَيْها) أى : وعلى هذه الأنعام ، والمراد بها هنا : الإبل خاصة (وَعَلَى الْفُلْكِ) أى : السفن التي تجرى في البحر (تُحْمَلُونَ) بقدرتنا ومنتنا ، حيث تحمل هذه الإبل وتلك لسفن أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ...

وقريب من هاتين الآيتين في المعنى قوله ـ تعالى ـ : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ* وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ* وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ

٢٢

وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ* لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ، وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا ، وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ* وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) (٢).

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد ذكرت لنا أنواعا من نعم الله ـ تعالى ـ على عباده ، هذه النعم التي تدل على كمال قدرته ، وعظيم رحمته.

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ دلائل قدرته عن طريق خلق الإنسان ، وعن طريق خلقه لهذه الكائنات التي يشاهدها الإنسان وينتفع بها ... أتبع ذلك بالحديث عن بعض الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وعن موقف أقوامهم منهم ، وعن سوء عاقبة المكذبين لرسل الله ـ تعالى ـ وأنبيائه. وابتدأ ـ سبحانه ـ الحديث عن جانب من قصة نوح مع قومه ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧)

__________________

(١) سورة يس الآيات من ٧١ ـ ٧٣.

(٢) سورة الزخرف الآيات من ١٢ ـ ١٤.

٢٣

فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) (٣٠)

تلك هي قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ مع قومه ، كما وردت في هذه السورة الكريمة ، وقد وردت بصورة أكثر تفصيلا في سورتي هود ونوح.

وينتهى نسب نوح ـ عليه‌السلام ـ إلى شيث بن آدم ـ عليه‌السلام ـ. وقد ذكر نوح في القرآن في ثلاثة وأربعين موضعا.

قال الجمل في حاشيته : وعاش نوح من العمر ألف سنة وخمسين ، لأنه أرسل على رأس الأربعين ومكث يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، وعاش بعد الطوفان ستين سنة. وقدمت قصته هنا على غيره ، لتتصل بقصة آدم المذكورة في قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) للمناسبة بينهما من حيث إن نوحا يعتبر آدم الثاني ، لانحصار النوع الإنسانى بعده في نسله (١).

وقوم الرجل : أقر باؤه الذين يجتمعون معه في جد واحد. وقد يقيم الرجل بين قوم ليس منهم في نسبه ، فيسميهم قومه على سبيل المجاز ، لمجاورته لهم.

وكان قوم نوح يعبدون الأصنام. فأرسل الله ـ تعالى ـ إليهم نوحا لينهاهم عن ذلك ، وليأمرهم بإخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ.

واللام في قوله ـ سبحانه ـ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ..). واقعة في جواب قسم محذوف.

أى : والله لقد أرسلنا نبينا نوحا ـ عليه‌السلام ـ إلى قومه ، ليخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.

وقوله ـ سبحانه ـ (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ..). حكاية لما وجهه إليهم من نصائح وإرشادات.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ١٨٨.

٢٤

أى : أرسلنا نوحا إلى قومه ، فقال لهم ما قاله كل نبي : يا قوم اعبدوا الله وحده ، فإنكم ليس لكم إله سواه ، فهو الذي خلقكم ، وهو الذي رزقكم. وهو الذي يحييكم وهو الذي يميتكم ، وكل معبود غيره ـ سبحانه ـ فهو باطل.

وفي ندائهم بقوله : (يا قَوْمِ) تلطف في الخطاب ، ليستميلهم إلى دعوته ، فكأنه يقول لهم : أنتم أهلى وعشيرتي يسرني ما يسركم ، ويؤذيني ما يؤذيكم ، فاقبلوا دعوتي ، لأنى لكم ناصح أمين.

وقوله : (أَفَلا تَتَّقُونَ) تحذير لهم من الإصرار على شركهم ، بعد ترغيبهم في عبادة الله ـ تعالى ـ وحده بألطف أسلوب.

أى : أفلا تتقون الله ـ تعالى ـ وتخافون عقوبته ، بسبب عبادتكم لغيره ، مع أنه ـ سبحانه ـ هو الذي خلقكم فالاستفهام للإنكار والتوبيخ.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما رد به قوم نوح عليه فقال : (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ..

والمراد بالملإ : أصحاب الجاه والغنى من قوم نوح. وهذا اللفظ اسم جمع لا واحد له من لفظه ـ كرهط ـ وهو مأخوذ من قولهم : فلان ملئ بكذا ، إذا كان قادرا عليه. أو لأنهم متمالئون أى : متظاهرون متعاونون ، أو لأنهم يملؤون القلوب والعيون مهابة ...

وفي وصفهم بالكفر : تشنيع عليهم وذم لهم ، وإشعار بأنهم عريقون فيه. أى : فقال الأغنياء وأصحاب النفوذ الذين مردوا على الكفر ، في الرد على نبيهم نوح عليه‌السلام : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ).

أى : قالوا لأتباعهم على سبيل التحذير من الاستماع إلى دعوة نبيهم ، ما هذا ، أى : نوح عليه‌السلام ـ إلا بشر مثلكم ، ومن جنسكم ، ولا فرق بينكم وبينه فكيف يكون نبيّا؟

ولم يقولوا : ما نوح إلا بشر مثلكم ، بل أشاروا إليه بدون ذكر اسمه ، لأنهم لجهلهم وغرورهم يقصدون تهوين شأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ في أعين قومه.

وقولهم : (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أى : أن نوحا جاء بما جاء به بقصد الرياسة عليكم.

ومرادهم بهذا القول : تنفير الناس منه ، وحضهم على عداوته.

وقولهم : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) استبعاد منهم لكون الرسول من البشر أى : ولو شاء الله أن يرسل رسولا ليأمرنا بعبادته وحده. لأرسل ملائكة ليفعلوا ذلك ، فهم ـ

٢٥

لانطماس بصائرهم وسوء تفكيرهم ـ يتوهمون أن الرسول لا يكون من البشر ، وإنما يكون من الملائكة.

ومفعول المشيئة محذوف. أى : ولو شاء الله عبادته وحده لأرسل ملائكة ليأمرونا بذلك ، فلما لم يفعل علمنا أنه ما أرسل رسولا ، فنوح ـ في زعمهم ـ كاذب في دعواه.

وقولهم : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) أى ما سمعنا بهذا الكلام الذي جاءنا به نوح في آباءنا الأولين ، الذين ندين باتباعهم ، ونقتدي بهم في عبادتهم لهذه الأصنام.

ثم هم لا يكتفون بهذا الجمود والتحجر ، بل يصفون نبيهم بما هو برىء منه فيقولون : (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ ، فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ).

والجنّة : الجنون ، يقال جنّ : فلان إذا أصيب بالجنون ، أو إذا مسه الجن فصار في حالة خبل وجنون.

والتربص : الانتظار والترقب ، أى : ما نوح ـ عليه‌السلام ـ الذي يدعى النبوة ، إلا رجل به حالة من الجنون والخبل ، فانتظروا عليه إلى وقت شفائه من هذا الجنون أو إلى وقت موته ، وعندئذ تستريحون منه ، ومن دعوته التي ما سمعنا بها في آبائنا الأولين.

فأنت ترى أن القوم قد واجهوا نبيهم نوحا ـ عليه‌السلام ـ بأقبح مواجهة حيث وصفوه بأنه يريد من وراء دعوته لهم السيادة عليهم ، وأنه ليس نبيّا لأن الأنبياء لا يكونون من البشر ـ في زعمهم ـ وأنه قد خالف ما ألفوه عن آبائهم ، ومن خالف ما كان عليه آباؤهم لا يجوز الاستماع إليه ، وأنه مصاب بالجنون وأنه عما قريب سيأخذه الموت ، أو يشفى مما هو فيه.

وهكذا الجهل والغرور والجحود ... عند ما يستولى على الناس ، يحول في نظرهم الإصلاح إلى إفساد ، والإخلاص إلى حب للرياسة ، والشيء المعقول المقبول. إلى أى شيء غير معقول وغير مقبول ، وكمال العقل ورجحانه ، إلى جنونه ونقصانه.

وصدق الله إذ يقول : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها ، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ..).

ثم يحكى القرآن بعد ذلك أن نوحا ـ عليه‌السلام ـ بعد أن استمع إلى ما قاله قومه في شأنه من ضلالات وسفاهات ، لجأ إلى ربه ـ عزوجل ـ يشكو إليه ما أصابه منهم ويلتمس

٢٦

منه النصر عليهم. فقال : كما حكى القرآن عنه : (رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ).

أى : قال نوح في مناجاته لربه : يا رب انصرني على هؤلاء القوم الكافرين بسبب تكذيبهم لي وتطاولهم على. وسخريتهم منى ، وإصرارهم على عبادة غيرك.

وقد أجاب الله ـ تعالى ـ دعاء عبده نوح فقال : (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) أى : فأوحينا إليه في أعقاب دعائه وتضرعه.

(أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) أى : أوحينا إليه أن ابتدئ يا نوح في صنع السفينة وأنت تحت رعايتنا وحفظنا ، وسنرسل إليك وحينا ليرشدك إلى ما أنت في حاجة إليه من إتقان صنع السفينة ، ومن غير ذلك من شئون.

وفي التعبير بقوله ـ سبحانه ـ (أَنِ اصْنَعِ) إشارة إلى أن نوحا ـ عليه‌السلام ـ قد باشر بنفسه صنع السفينة التي هي وسيلة النجاة له وللمؤمنين معه.

وفي قوله ـ تعالى ـ : (بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) إشارة إلى أن نوحا بجانب مباشرته للصنع بنفسه ، كان مزودا من الله ـ تعالى ـ بالعناية والرعاية وبحسن التوجيه والإرشاد عن طريق الوحى الأمين.

وذلك لأن سنة الله ـ تعالى ـ قد اقتضت أن لا يضيع عمل عباده المخلصين ، الذين يبذلون أقصى جهدهم في الوصول إلى غاياتهم الشريفة.

والباء في قوله (بِأَعْيُنِنا) للملابسة ، والجار والمجرور في موضع الحال من ضمير «اصنع».

والفاء في قوله ـ سبحانه ـ (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) لترتيب مضمون ما بعدها على إتمام صنع السفينة.

والمراد بالأمر هنا : العذاب الذي أعده الله ـ تعالى ـ لهؤلاء الظالمين من قوم نوح ـ عليه‌السلام ـ. ويشهد لذلك قوله ـ سبحانه ـ في آية أخرى : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) أى : من عذابه (إِلَّا مَنْ رَحِمَ).

والمراد بمجيء هذا الأمر : اقتراب وقته ، ودنو ساعته ، وظهور علاماته وقوله ـ تعالى ـ : (وَفارَ التَّنُّورُ) بيان وتفسير لمجيء هذا الأمر ، وحلول وقت إهلاكهم.

وقوله : (فارَ) من الفوران. بمعنى شدة الغليان للماء وغيره. يقال للماء فار إذا اشتد غليانه. ويقال للنار فارت إذا عظم هيجانها. ومنه قوله ـ تعالى ـ (إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ).

٢٧

وللمفسرين في المراد بلفظ (التَّنُّورُ) أقوال منها : أن المراد به الشيء الذي يخبز فيه الخبز ، وهو ما يسمى بالموقد أو الفرن.

ومنها أن المراد به وجه الأرض. أو موضع اجتماع الماء في السفينة ، أو طلوع الفجر .. وقد رجح الإمام ابن جرير القول الأول فقال : وأولى الأقوال بالصواب قول من قال : وهو التنور الذي يخبز فيه ، لأن هذا هو المعروف من كلام العرب .. (١).

ويبدو أن فوران التنور كان علامة لنوح على أن موعد إهلاك الكافرين من قومه قد اقترب.

أى : فإذا اقترب موعد إهلاك قومك الظالمين يا نوح ، ومن علامة ذلك أن ينبع الماء من التنور ويفور فورانا شديدا (فَاسْلُكْ فِيها) فأدخل في السفينة (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ولفظ (زَوْجَيْنِ) تثنية زوج. والمراد به هنا : الذكر والأنثى من كل نوع.

وقراءة الجمهور : (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) بدون تنوين للفظ كل ، وبإضافته إلى زوجين ....

وقرأ حفص (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) تنوين كل ، وهو تنوين عوض عن مضاف إليه. والتقدير : فأدخل في السفينة من كل نوع من أنواع المخلوقات التي أنت في حاجة إليها ذكرا وأنثى ، ويكون لفظ (زَوْجَيْنِ) مفعولا لقوله (فَاسْلُكْ) ولفظ اثنين : صفة له.

والمراد بأهله في قوله ـ تعالى ـ (وَأَهْلَكَ) : أهل بيته كزوجته وأولاده المؤمنين ، ويدخل فيهم كل من آمن به ـ عليه‌السلام ـ سواء أكان من ذوى قرابته أم من غيرهم ، بدليل قوله ـ تعالى ـ في سورة هود : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ، وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ).

وجملة : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) استثناء من الأهل. والمراد بمن سبق عليه القول منهم : من بقي على كفره ولم يؤمن برسالة نوح ـ عليه‌السلام ـ كزوجته وابنه كنعان.

أى : أدخل في السفينة ذكرا وأنثى من أنواع المخلوقات ، وأدخل فيها ـ أيضا ـ المؤمنين من أهلك ومن غيرهم ، إلا الذين سبق منا القول بهلاكهم بسبب إصرارهم على الكفر. فلا تدخلهم في السفينة ، بل اتركهم خارجها ليغرقوا مع المغرقين.

قال الآلوسى : وجيء بعلى في قوله : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) لكون السابق ضارا ، كما جيء باللام في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) لكون السابق نافعا (٢).

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٢ ص ٢٥.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٨ ص ٢٧.

٢٨

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) نهى منه ـ سبحانه ـ لنوح ـ عليه‌السلام ـ عن الشفاعة لهؤلاء الكافرين ، أو عن طلب تأخير العذاب المهلك لهم.

أى : اترك يا نوح هؤلاء الظالمين ، ولا تكلمني في شأنهم ، كأن تطلب الشفاعة لهم أو تأخير العذاب عنهم ، فإنهم مقضي عليهم بالإغراق لا محالة. ولا مبدل لحكمي أو إرادتى.

ويبدو ـ والله أعلم ـ أن هذه الجملة الكريمة ، كانت نهيا من الله ـ تعالى ـ لنوح عن الشفاعة في ابنه الذي غرق مع المغرقين ، والذي حكى القرآن في سورة هود أن نوحا قد قال في شأنه : (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ، وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ، وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ).

ثم أرشد الله ـ تعالى ـ نبيه نوحا إلى ما يقوله بعد أن يستقر في السفينة فقال ـ سبحانه ـ : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ) من أهلك وأتباعك المؤمنين (عَلَى الْفُلْكِ).

أى : السفينة التي علمناك عن طريق وحينا كيفية صنعها بإحكام وإتقان (فَقُلِ) يا نوح على سبيل الشكر لنا ، والتقدير لذاتنا (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا) بفضله وكرمه (مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الذين استحبوا العمى على الهدى ، وآثروا الضلالة على الهداية ، وتطاولوا على نبيهم الذي جاء لسعادتهم.

(وَقُلْ) ـ أيضا ـ يا نوح (رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً) أى : أنزلنى إنزالا ، أو مكان إنزال مباركا ـ أى مليئا بالخيرات والبركات ، خاليا مما حل بالظالمين من إغراق وإهلاك. (وَأَنْتَ) يا إلهى (خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) بفضلك وكرمك في المكان الطيب المبارك.

ثم عقب ـ سبحانه ـ على ما اشتملت عليه قصة نوح من حكم وآداب بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ).

أى : إن في ذلك الذي ذكرناه لك ـ أيها الرسول الكريم ـ عن نوح وقومه (لَآياتٍ) بينات ، ودلالات واضحات ، على أن هذا القرآن من عندنا لا من عند غيرنا ، وعلى أن العاقبة للمؤمنين ، وسوء المنقلب للكافرين.

و «إن» في قوله (وَإِنْ كُنَّا) هي المخففة من الثقيلة ، واللام في قوله (لَمُبْتَلِينَ) هي الفارقة بينها وبين إن النافية ، والجملة حالية ، والابتلاء : الاختبار والامتحان ...

أى : إن في ذلك الذي ذكرناه عن نوح وقومه لآيات واضحات على وحدانيتنا وقدرتنا ، والحال والشأن أن من سنتنا أن نبتلى الناس بالنعم وبالنقم ، وبالخير وبالشر. ليتبين من يعتبر ويتعظ ، وليتميز الخبيث من الطيب ، وليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة ، وإن

٢٩

الله لسميع عليم.

ثم تمضى السورة في حديثها عن قصص الأولين ، فتحكى لنا قصة أقوام آخرين مع نبي من أنبيائهم فتقول :

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤١)

أى : ثم أنشأنا من بعد أولئك القوم المغرقين الذين كذبوا نبيهم نوحا ـ عليه‌السلام ـ ، (قَرْناً آخَرِينَ) غيرهم ، وهم على الأرجح ـ قوم هود ـ عليه‌السلام ـ بدليل قوله ـ تعالى ـ في آية أخرى في شأنهم : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ..). (١).

__________________

(١) سورة الأعراف آية ٦٩.

٣٠

كما أن قصة هود مع قومه ، كثيرا ما تأتى بعد قصة نوح مع قومه.

وقيل : هم قوم صالح ـ عليه‌السلام ـ.

وعلى أية حال فإن سورة «المؤمنون» في عرضها لقصص الأنبياء تحرص على بيان أن استقبال المكذبين لأنبيائهم كان متشابها في القبح والتكذيب.

وقال ـ سبحانه ـ (قَرْناً آخَرِينَ) للإشعار بأنهم كانوا يعيشون في زمان واحد مع نبيهم ، وأنهم كانوا معاصرين له ، ومشاهدين لأحواله قبل البعثة وبعدها.

ثم بين ـ سبحانه ـ أنه امتن عليهم بإرسال رسول فيهم فقال : (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ..).

أى : كان من مظاهر رحمتنا ومنتنا على هؤلاء القوم الآخرين الذين جاءوا بعد إهلاك قوم نوح ، أن أرسلنا فيهم رسولا منهم نشأ بين أظهرهم وعرفوا حسبه ونسبه ، فقال لهم ما قاله كل نبي لقومه : اعبدوا الله وحده ، فإنكم ليس لكم من إله سواه ، لأنه ـ سبحانه ـ هو الذي أوجدكم في هذه الحياة .. (أَفَلا تَتَّقُونَ) بأسه وعقابه إذا ما عبدتم غيره؟!.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما رد به هؤلاء المشركون الجاحدون على نبيهم فقال : (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ ، وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ..).

أى : وقال الأغنياء والزعماء من قوم هذا النبي ، الذين كفروا بالحق لما جاءهم ، وكذبوا بالبعث والجزاء الذي يكون في الآخرة ، والذين أبطرتهم النعمة التي أنعمنا عليهم بها في دنياهم ...

قالوا لنبيهم بجفاء وسوء أدب لكي يصرفوا غيرهم عن الإيمان به : ما هذا الذي يدعى النبوة (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) وكأنهم يرون ـ لغبائهم وانطماس عقولهم ـ أن الرسول لا يكون من البشر ، أو يرون جواز كونه من البشر ، إلا أنهم قالوا ذلك على سبيل المكر ليصدوا أتباعهم وعامة الناس عن دعوته.

ثم أضافوا إلى هذا القول الباطل ما يؤكده في نفوس الناس فقالوا : (يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ) من طعام ، وغذاء ، (وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) من ماء وما يشبه الماء.

ثم أضافوا إلى ذلك قولهم (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ) أيها الناس (بَشَراً مِثْلَكُمْ) في المأكل والمشرب والملبس والعادات .. (أَنَّكُمْ إِذا) بسبب هذه الطاعة (لَخاسِرُونَ) خسارة ليس بعدها خسارة.

٣١

والمتأمل في هذه الآية الكريمة يرى أن الله ـ تعالى ـ وصف هؤلاء الجاحدين بالغنى والجاه ، وأنهم من قوم هذا النبي فازداد حسدهم له وحقدهم عليه ، وأنهم أصلاء في الكفر ، وفي التكذيب باليوم الآخر ، وأنهم ـ فوق كل ذلك ـ من المترفين الذين عاشوا حياتهم في اللهو واللعب والتقلب في ألوان الملذات .. ولا شيء يفسد الفطرة ، ويطمس القلوب ، ويعمى النفوس والمشاعر عن سماع كلمة الحق. كالترف والتمرغ في شهوات الحياة.

لذا تراهم في شبهتهم الأولى يحاولون أن يصرفوا الناس عن هذا النبي ، بزعمهم أنه بشر ، يأكل مما يأكل منه الناس ، ويشرب مما يشربون منه ، والعقلاء في زعمهم ـ لا يتبعون نبيّا من البشر ، لأن اتباعه يؤدى إلى الخسران المبين.

ولقد نهجوا في قولهم الباطل هذا ، نهج قوم نوح من قبلهم ، فقد قالوا في شأنه : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ..).

أما شبهتهم الثانية التي أثاروها لصرف الناس عن الحق. فقد حكاها القرآن في قوله عنهم : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ..). أى : أيعدكم هذا الذي يدعى النبوة ـ وهو بشر مثلكم ـ أنكم إذا فارقتم هذه الحياة وصرتم أمواتا ، وصارت بعض أجزاء أجسامكم ترابا وبعضها عظاما نخرة ، أنكم مخرجون من قبوركم إلى الحياة مرة أخرى للحساب والجزاء؟.

والاستفهام في قوله (أَيَعِدُكُمْ) للإنكار والتحذير من اتباع هذا النبي ، والجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها من الصد عن الاستماع إلى ما جاءهم به نبيهم ، لأنه ـ في زعمهم ـ يؤدى إلى الخسران.

وكرر ـ سبحانه ـ لفظ (أَنَّكُمْ) لبيان حرصهم على تأكيد أقوالهم الباطلة في نفوس الناس ، حتى يفروا من وجه نبيهم.

ثم حكى ـ سبحانه ـ أنهم لم يكتفوا بكل ما أثاروه من شبه لصرف أتباعهم عن الحق بل أضافوا إلى ذلك. أن ما يقوله هذا النبي مستبعد في العقول ، وأنه رجل افترى على الله كذبا ..

فقال ـ تعالى ـ : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ* إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ* إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ).

ولفظ «هيهات» اسم فعل ماض ، معناه : بعد بعدا شديدا ، والغالب في استعمال هذا اللفظ مكررا ، ويكون اللفظ الثاني مؤكدا تأكيدا لفظيا للأول.

٣٢

أى : قال الملأ من قوم هذا النبي لغيرهم ، على سبيل التحذير من اتباعه : بعد بعدا كبيرا ما يعدكم به هذا الرجل من أن هناك بعثا وحسابا وجزاء بعد الموت ، وأن هناك جنة ونارا يوم القيامة.

قال الآلوسى : «وقوله ـ سبحانه ـ : (هَيْهاتَ) اسم بمعنى بعد.

وهو في الأصل اسم صوت ، وفاعله مستتر فيه يرجع للتصديق أو للصحة أو للوقوع أو نحو ذلك مما يفهم من السياق. والغالب في هذه الكلمة مجيئها مكررة .. وقوله ؛ (لِما تُوعَدُونَ) بيان لمرجع ذلك الضمير ، فاللام متعلقة بمقدر ، كما في قولهم : سقيا له. أى : التصديق أو الوقوع المتصف بالبعد كائن لما توعدون .. (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا.). بيان لتماديهم في جحودهم وجهلهم وغرورهم.

أى : إنهم لم يكتفوا باستبعاد حصول البعث والجزاء يوم القيامة بل أضافوا إلى ذلك الإنكار الشديد لحصولهما فقالوا : ما الحياة الحقيقية التي لا حياة بعدها إلا حياتنا الدنيا التي نحياها ، ولا وجود لحياة أخرى ، كما يقول هذا النبي ـ فنحن نموت كما مات آباؤنا ، ونحيا كما يولد أبناؤنا. وهكذا الدنيا فيها موت لبعض الناس ، وفيها حياة لغيرهم (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) بعد الموت على الإطلاق.

ثم أضافوا إلى إنكارهم هذا للدار الآخرة ، تطاولا على نبيهم ، واتهاما له بما هو برىء منه ، فقالوا : (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ..). أى ؛ ما هذا النبي الذي أمركم بترك عبادة آلهتكم ، وأخبركم بأن هناك بعثا وحسابا ، إلا رجل اختلق على الله الكذب فيما يقوله ويدعو إليه (وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) في يوم من الأيام ، فكونوا مثلنا ـ أيها الناس ـ في عدم الإيمان به ، وفي الانصراف عنه.

وهكذا يصور لنا القرآن الكريم بأسلوبه البليغ ، موقف الطغاة من دعوة الحق ، وكيف أنهم لا يكتفون بالانصراف عنها وحدهم ، بل يؤلبون غيرهم بكل وسيلة على الانقياد لهم ، وعلى محاربة من جاء بهذه الدعوة بمختلف السبل وشتى الطرق.

ثم يحكى لنا القرآن بعد ذلك موقف النبي الذي أرسله الله ـ تعالى ـ لهؤلاء القوم الظالمين فيقول : (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ).

أى : قال ما قاله أخوه نوح من قبله : رب انصرني على هؤلاء الجاحدين ، فأنت تعلم ـ

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٨ ص ٣١.

٣٣

يا إلهى ـ أنهم كذبوا ما جئتهم به من عندك.

وجاءت الاستجابة من الله ـ تعالى ـ لهذا النبي ، كما جاءت لأخيه نوح من قبله ، ويحكى القرآن ذلك فيقول : (قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ).

أى : قال الله ـ عزوجل ـ لنبيه : لقد أجبنا دعاءك أيها النبي الكريم ، وبعد وقت قليل من الزمان. ليصبحن نادمين أشد الندم على أقوالهم الباطلة ، وأفعالهم القبيحة ، ولكن هذا الندم لن ينفعهم لأنه جاء في غير أوانه.

والجار والمجرور في قوله (عَمَّا قَلِيلٍ) متعلق بقوله : (لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) أى : ليصبحن عن زمن قليل نادمين ، و «عن» هنا بمعنى بعد ، و «ما» جيء بها لتأكيد معنى القلة.

وأكد ـ سبحانه ـ قوله (لَيُصْبِحُنَ) بلام القسم ونون التوكيد ، لبيان أن هذا الوعيد آت لا ريب فيه ، وفي وقت قريب.

وجاء الوعيد فعلا. وأخبر ـ سبحانه ـ عن ذلك فقال : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ ..). أى : فأهلكناهم إهلاكا تامّا ، بالصيحة التي صاحها بهم جبريل ـ عليه‌السلام ـ حيث صاح بهم مع الريح العاتية التي أرسلها الله عليهم فدمروا تدميرا.

وذكر ـ سبحانه ـ هنا الصيحة فقط مع أن قوم هود قد أهلكوا بها وبالريح الصرصر العاتية للإشعار بأن إحدى هاتين العقوبتين لو انفردت كافية لإهلاكهم ، فقد قال ـ سبحانه ـ في شأن الريح التي أرسلها عليهم : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (١).

وقوله (بِالْحَقِ) حال من الصيحة ، وهو متعلق بمحذوف ، والتقدير ، فأخذتهم الصيحة حالة كونها بالعدل الذي لا ظلم معه ، وإنما هم الذين ظلموا أنفسهم بتكذيبهم لنبيهم.

وقوله سبحانه ـ : (فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) بيان لمصيرهم الأليم. والغثاء : الرميم الهامد الذي يحمله السيل من ورق الشجر وغيره ، يقال : غثا الوادي يغثو إذا كثر غثاؤه.

أى : فصيرناهم هلكى هامدين كغثاء السيل البالي ، الذي اختلط بزبده ، فهلاكا وبعدا لهؤلاء القوم الظالمين ، كما هلك وبعد من قبلهم قوم نوح ـ عليه‌السلام ـ.

__________________

(١) سورة الأحقاف الآية ٢٥.

٣٤

ثم تمضى السورة في استعراضها ـ على سبيل الإجمال ـ لقصص بعض الأنبياء ، قال ـ تعالى ـ :

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠) يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)(٥٢)

أى : (ثُمَّ أَنْشَأْنا) من بعد قوم نوح وقوم هود (قُرُوناً آخَرِينَ) أى : أقواما آخرين من الناس ، كل قوم كانوا مجتمعين في زمان واحد ، كقوم صالح ، وقوم لوط ، وقوم شعيب وغيرهم.

وقوله عزوجل ـ : (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) بيان لمظهر من مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ وإحكامه لشئون خلقه ..

٣٥

أى : ما تسبق أمة من الأمم أجلها الذي قدرناه لها ساعة من الزمان ، ولا تستأخر عنه ساعة ، بل الكل نهلكه ونميته في الوقت الذي حددناه بقدرتنا وحكمتنا.

و «من» في قوله (مِنْ أُمَّةٍ) مزيدة للتأكيد : وفي هذا المعنى قوله ـ تعالى ـ : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ على سبيل الإجمال ، أن حكمته قد اقتضت أن يرسل رسلا آخرين ، متتابعين في إرسالهم. كل واحد يأتى في أعقاب أخيه. ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور ، فقال ـ تعالى ـ : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا ..).

ولفظ (تَتْرا) مصدر كدعوى ، وألفه للتأنيث وأصله : وترى فقلبت الواو تاء ، وهو منصوب على الحال من رسلنا.

أى : ثم أرسلنا بعد ذلك رسلنا متواترين متتابعين واحدا بعد الآخر ، مع فترة ومهلة من الزمان بينهما.

قال القرطبي : ومعنى «تترى» : تتواتر ، ويتبع بعضهم بعضا ترغيبا وترهيبا ..

قال الأصمعى : واترت كتبي عليه ، أتبعت بعضها بعضا إلا أن بين كل واحد منها وبين الآخر مهلة .. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (تَتْرا) بالتنوين على أنه مصدر أدخل فيه التنوين على فتح الراء ، كقولك : حمدا وشكرا .. (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ موقف كل أمة من رسولها فقال : (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ ...).

أى : كلما جاء رسول كل أمة إليها ليبلغها رسالة الله ـ تعالى ـ وليدعوها إلى عبادته وحده ـ سبحانه ـ كذب أهل هذه الأمة هذا الرسول المرسل إليهم. وأعرضوا عنه وآذوه ...

قال ابن كثير : «وقوله : (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) يعنى جمهورهم وأكثرهم ، كقوله ـ تعالى ـ (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٣).

وأضاف ـ سبحانه ـ الرسول إلى الأمة ، للإشارة إلى أن كل رسول قد جاء إلى الأمة

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ٣٤.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٢ ص ١٢٥.

(٣) سورة يس الآية ٣٠.

٣٦

المرسل إليها. وفي التعبير بقوله : (كُلَّ ما جاءَ ..). إشعار بأنهم قابلوه بالتكذيب. بمجرد مجيئه إليهم ، أى : إنهم بادروه بذلك بدون تريث أو تفكر.

فماذا كانت عاقبتهم؟ كانت عاقبتهم كما بينها ـ سبحانه ـ في قوله : (فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ).

أى : فأتبعنا بعضهم بعضا في الهلاك والتدمير ، وجعلناهم بسبب تكذيبهم لرسلهم أحاديث يتحدث الناس بها على سبيل التعجب والتلهي ، ولم يبق بين الناس إلا أخبارهم السيئة. وذكرهم القبيح (فَبُعْداً) وهلاكا لقوم لا يؤمنون بالحق ، ولا يستجيبون للهدى.

قال صاحب الكشاف : «وقوله (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) أى : أخبارا يسمر بها ، ويتعجب منها. والأحاديث تكون اسم جمع للحديث ، ومنه أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتكون جمعا للأحدوثة : التي هي مثل الأضحوكة والألعوبة والأعجوبة. وهي : مما يتحدث به الناس تلهيا وتعجبا ، وهو المراد هنا» (١).

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك جانبا من قصة موسى وهارون ـ عليهما‌السلام ـ فقال : (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ* إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ).

أى : ثم أرسلنا من بعد أولئك الأقوام المهلكين الذين جعلناهم أحاديث (مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا) الدالة على قدرتنا ، وهي الآيات التسع وهي : العصا ، واليد ، والسنون ، والبحر ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم.

وزودناه مع هذه الآيات العظيمة بسلطان مبين ، أى : بحجة قوية واضحة ، تحمل كل عاقل على الإيمان به ، وعلى الاستجابة له.

وكان هذا الإرسال منا لموسى وهارون إلى فرعون وملئه ، أى : وجهاء قومه وزعمائهم الذين يتبعهم غيرهم.

(فَاسْتَكْبَرُوا) جميعا عن الاستماع إلى دعوة موسى وهارون ـ عليهما‌السلام ، (وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) أى ؛ مغرورين متكبرين ، مسرفين في البغي والعدوان.

ثم بين ـ سبحانه ـ مظاهر هذا الغرور والتكبر من فرعون وملئه فقال : (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) وهما موسى وهارون (وَقَوْمُهُما) أى : بنو إسرائيل الذين منهم

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٨٠.

٣٧

موسى وهارون (لَنا عابِدُونَ) أى : مسخرون خاضعون منقادون لنا كما ينقاد الخادم لمخدومه.

فأنت ترى أن فرعون وملأه ، قد أعرضوا عن دعوة موسى وهارون ، لأنهما ـ أولا ـ بشر مثلهم ، والبشرية ـ في زعمهم الفاسد ـ تتنافى مع الرسالة والنبوة ، ولأنهما ـ ثانيا ـ من قوم بمنزلة الخدم لفرعون وحاشيته ، ولا يليق ـ في طبعهم المغرور ـ أن يتبع فرعون وحاشيته من كان من هؤلاء القوم المستضعفين.

قال الآلوسى : «وقوله : (فَقالُوا) عطف على (فَاسْتَكْبَرُوا) وما بينهما اعتراض مقرر للاستكبار ، والمراد : فقالوا فيما بينهم .. وثنى البشر لأنه يطلق على الواحد كقوله ـ تعالى ـ (بَشَراً سَوِيًّا) وعلى الجمع ، كما في قوله : ـ تعالى ـ (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً.). ولم يثن مثل نظرا إلى كونه في حكم المصدر ، ولو أفرد البشر لصح ، لأنه اسم جنس يطلق على الواحد وغيره ، وكذا لو ثنى المثل ، فإنه جاء مثنى في قوله : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) (١) ومجموعا كما في قوله : (... ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (٢). وهذه القصص ـ كما ترى ـ تدل على أن مدار شبه المنكرين للنبوة ، قياس حال الأنبياء على أحوالهم ، بناء على جهلهم بتفاصيل شئون الحقيقة البشرية ، وتباين طبقات أفرادها في مراقى الكمال .. ومن عجب أنهم لم يرضوا للنبوة ببشر ، وقد رضى أكثرهم للإلهية بحجر ..» (٣).

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبة فرعون وملئه فقال : (فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ).

أى : فكذب فرعون وأتباعه موسى وهارون ـ عليهما‌السلام ـ فيما جاءا به من عند ربهما ـ عزوجل ـ فكانت نتيجة هذا التكذيب أن أغرقنا فرعون ومن معه جميعا.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما أعطاه لموسى بعد هلاك فرعون وقومه فقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ).

والضمير في قوله ـ تعالى ـ (لَعَلَّهُمْ) يعود إلى قوم موسى من بنى إسرائيل. لأنه من المعروف أن التوراة أنزلت على موسى بعد هلاك فرعون وملئه ..

أى : ولقد آتينا موسى ـ بفضلنا وكرمنا ـ الكتاب المشتمل على الهداية والإرشاد ، وهو التوراة ، (لَعَلَّهُمْ) أى : بنى إسرائيل (يَهْتَدُونَ) إلى الصراط المستقيم ، بسبب اتباعهم لتعاليمه ، وتمسكهم بأحكامه. فالترجى في قوله (لَعَلَّهُمْ) إنما هو بالنسبة لهم.

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ١٣.

(٢) سورة محمد الآية ٣٨.

(٣) تفسير الآلوسى ج ١٨ ص ٣٦.

٣٨

وقريب من هذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (١).

ثم ساق ـ سبحانه ـ ما يدل على كمال قدرته ، حيث أوجد عيسى من غير أب وجعل أمه مريم تلده من غير أن يمسها بشر. فقال ـ تعالى ـ (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ...).

أى : وجعلنا نبينا عيسى ـ عليه‌السلام ـ ، كما جعلنا أمه مريم ، آية واضحة وحجة عظيمة ، في الدلالة على قدرتنا النافذة التي لا يعجزها شيء.

قال أبو حيان : «قوله : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) أى : جعلنا قصتهما ، وهي آية عظمى بمجموعها ، وهي آيات مع التفصيل ، ويحتمل أن يكون حذف من الأول «آية» لدلالة الثاني ، أى : وجعلنا ابن مريم آية ، وأمه آية» (٢).

وقوله ـ تعالى ـ (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) بيان لجانب مما أنعم به سبحانه ـ على عيسى وأمه.

والربوة : المكان المرتفع من الأرض. وأصلها من قولهم : ربا الشيء يربو ، إذا ازداد وارتفع ، ومنه الربا لأنه زيادة أخذت على أصل المال.

ومعين ؛ اسم مفعول من عانه إذا أدركه وأبصره بعينه ، فالميم زائدة ، وأصله معيون كمبيوع ثم دخله الإعلال. والكلام على حذف مضاف. أى : وماء معين.

أى : ومن مظاهر رعايتنا وإحساننا إلى عيسى وأمه أننا آويناهما وأسكناهما ، وأنزلناهما في جهة مرتفعة من الأرض ، وهذه الجهة ذات قرار ، أى : ذات استقرار لاستوائها وصلاحيتها للسكن لما فيها من الزروع والثمار ، وهي في الوقت ذاته ينساب الماء الظاهر للعيون في ربوعها.

قالوا : والمراد بهذه الربوة : بيت المقدس بفلسطين ، أو دمشق ، أو مصر.

والمقصود من الآية الكريمة : الإشارة إلى إيواء الله ـ تعالى ـ لهما ، في مكان طيب ، ينضر فيه الزرع ، وتطيب فيه الثمار ، ويسيل فيه الماء ويجدان خلال عيشهما به الأمان والراحة.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الحديث عن هؤلاء الأنبياء ، بتوجيه خطاب إلى الرسل جميعا ، أمرهم فيه بالأكل من الطيبات ، وبالتزود من العمل الصالح ، فقال ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً ، إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ).

__________________

(١) سورة القصص الآية ٤٣.

(٢) تفسير البحر المحيط ج ٦ ص ٤٠٨.

٣٩

ووجه ـ سبحانه ـ الخطاب إلى الرسل جميعا ، مع أن الموجود منهم عند نزول الآية واحد فقط ، وهو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للدلالة على أن كل رسول أمر في زمنه بالأكل من الطيبات التي أحلها ـ تعالى ـ وبالعمل الصالح.

وفي الآية إشارة إلى أن المداومة على الأكل من الطيبات التي أحلها الله ، والتي لا شبهة فيها ، له أثره في مواظبة الإنسان على العمل الصالح.

قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : يأمر الله ـ تعالى ـ عباده المرسلين بالأكل من الحلال ، والقيام بالصالح من الأعمال ، فدل هذا على أن الحلال عون على العمل الصالح ، فقام الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ بهذا أتم قيام ، وجمعوا بين كل خير. قولا وعملا. ودلالة ونصحا.

ثم ساق ـ رحمه‌الله ـ عددا من الأحاديث في هذا المعنى منها : أن أم عبد الله ـ بنت شداد بن أوس ـ بعثت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم ، وذلك مع طول النهار وشدة الحر. فرد إليهما رسولها : أنّى كانت لك الشاة؟ ـ أى : على أية حال تملكينها ـ فقالت : اشتريتها من مالي ، فشرب منه ، فلما كان من الغد أتته أم عبد الله فقالت له : يا رسول الله. بعثت إليك بلبن مرثية لك من طول النهار وشدة الحر ، فرددت إلىّ الرسول فيه؟ فقال لها : «بذلك أمرت الرسل. أن لا تأكل إلا طيبا ولا تعمل إلا صالحا».

ومنها : ما ثبت في صحيح مسلم. عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا أيها الناس ، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً ..). وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ، ومطعمه من حرام. ومشربه من حرام ، وملبسه من حرام ، وغذى بالحرام. يمد يديه إلى السماء : يا رب يا رب فأنى يستجاب لذلك» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) تحذير من مخالفة ما أمر به ـ تعالى ـ.

أى : إنى : بما تعملون ـ أيها الرسل وأيها الناس ـ عليم فأجازيكم على هذا العمل بما تستحقون.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً.). جملة مستأنفة.

والمراد بالأمة هنا : الشريعة والدين الذي أنزله الله ـ تعالى ـ على أنبيائه ورسله ، أى : وإن شريعتكم ـ أيها الرسل ـ جميعا هي شريعة واحدة لا تختلف في أصولها التي تتعلق

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٤٧١.

٤٠