وقال ـ سبحانه ـ (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ ..). لأن هناك قلة منهم كانت تعرف الحق معرفة حقيقية ، ولكن المكابرة والمعاندة ومتابعة الهوى .. حالت بينها وبين الدخول فيه ، واتباع ما جاء به النبي صلىاللهعليهوسلم.
وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) ذم لهم على عدم انتفاعهم بالهداية التي أرسلها الله ـ تعالى ـ إليهم.
أى : هؤلاء المشركون ليسوا إلا كالأنعام في عدم الانتفاع بما يقرع قلوبهم وأسماعهم من توجيهات حكيمة ، بل هم أضل سبيلا من الأنعام : لأن الأنعام تنقاد لصاحبها الذي يحسن إليها ، أما هؤلاء فقد قابلوا نعم الله بالكفر والجحود.
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى ذكر الأكثر؟ قلت : كان فيهم من لا يصده عن الإسلام إلا داء واحد ، وهو حب الرياسة ، وكفى به داء عضالا.
فإن قلت : كيف جعلوا أضل من الأنعام؟ قلت : لأن الأنعام تنقاد لأربابها التي تعلفها وتتعهدها ، وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها ، وتطلب ما ينفعها وتتجنب ما يضرها ، وتهتدى لمراعيها ومشاربها ، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ، ولا يعرفون إحسانه إليهم ، من إساءة الشيطان الذي هو عدوهم ، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ، ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك .. (١).
وهكذا نرى الآيات الكريمة تصف هؤلاء المستهزئين برسولهم صلىاللهعليهوسلم بأوصاف تهبط بهم عن درجة الأنعام ، وتتوعدهم بما يستحقونه من عذاب مهين.
* * *
ثم تنتقل السورة بعد ذلك إلى الحديث عن مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ وعن جانب من الآلاء التي أنعم بها على عباده ، فإن من شأن هذه النعم المبثوثة في هذا الكون ، أن تهدى المتفكر فيها إلى منشئها وواهبها وإلى وجوب إخلاص العبادة له ، قال ـ تعالى ـ :
(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥)
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٨٢.