إمّا أن يكون في البحث عن ذات الحجة وإما عن الحجية.
أمّا القسم الأول : وهو البحث عن ذات الحجة أو عن ذات الدليل فتحته ثلاثة أصناف ؛ لأن هذا الدليل الذي نبحث عنه ، عن وجوبه ، وعدم وجوبه ، تارة يكون دليلا يدل بالدلالة اللفظية ـ وهذه مباحث الألفاظ ـ. مثلا البحث عن صيغة (افعل) هل تدل على الوجوب أو لا ـ صيغة النهي هل تدل على الحرمة أو لا ـ العام المخصّص هل يدل على تمام الباقي أو لا ، وهكذا ، هذه كلها مباحث الألفاظ ، ومباحث الألفاظ هي عبارة عن البحث عن ذات الحجة ، وذات الذي يكون دلالته دلالة لفظية.
ومن المعلوم أن مباحث الألفاظ التي يدخل تحتها هذا القسم ، كلها تتميز بمبادئ تصورية وتصديقية لا تحتاجها غالبا بقية المسائل.
مثلا : لا بد في تمام مسائل هذا القسم من أن نعرف معنى الوضع ، ومعنى الدلالة ، ومعنى الظهور ، وما هي علامات الحقيقة والمجاز ، وما هي الطرق لأجل تشخيص الظهور من غيره ـ المعنى الظاهري من غيره ـ هذه مبادئ تصورية وتصديقية يحتاجها مباحث الألفاظ ، ولا يحتاجها مباحث الاستلزامات العقلية ، ولا مباحث حجية خبر الواحد ، وإنما يحتاجها مباحث الألفاظ. إذن فهذا يمكن أن يعتبر صنفا برأسه وهو المباحث التي يبحث فيها عن ذات الحجة ، والتي تكون دلالتها لفظية ، لأن هذا القسم له مبادئ تصورية ، ومبادئ تصديقية مربوطة به.
وأمّا الصنف الثاني : فالبحث فيه عن ذات الحجة الذي يكون دلالته عقلية برهانية ، لا لفظية ، من قبيل الاستلزامات العقلية. مثلا ـ نبحث عن وجوب الشيء وحرمة ضده ، أو وجوب مقدمته ـ فإن هذه الملازمات هي حجج نبحث عن وجوبها ، وهذه الحجج دلالتها دلالة عقلية برهانية قائمة على أساس التلازمات المنطقية والفلسفية بين المحمول والموضوع ، وهذا القسم ينبغي جعله صنفا برأسه ، لأنه يتميز بمبادئ تصورية وتصديقية لا يحتاجها باقي الأقسام ، فإنه في هذا القسم الذي يبحث فيه عن استلزامات الأحكام بعضها لبعض ، لا بد أن نعرف معنى الحكم ، ومبادئ الحكم ، وحقيقة الحكم ، ولا بد
وأن نعرف هل أن هناك توافقا بين الأحكام ، أو لا؟ أو أن هناك تنافرا بين الأحكام أو لا؟ وهذه مبادئ تصورية وتصديقية يحتاجها بحث الاستلزامات ، ولا يحتاجها بحث الألفاظ ؛ فمسألة أن صيغة (افعل) ظاهرة في الوجوب أو لا ، لم يكن يحتاج إلى البحث عن حقيقة الوجوب ، أما هنا عند ما نريد أن نبحث هل أن الوجوب ـ هل يستلزم وجوب المقدمة أو لا؟ هل يستلزم حرمة الضد أو لا؟ حينئذ لا بد وأن نعرف حقيقة الوجوب لنعرف ما هي استلزاماته ، إذن فهذا هو الصنف الثاني في المقام.
الصنف الثالث : هو البحث عن ذات الحجة التي تكون دلالته على الحكم ، لا لفظية ولا عقلية برهانية ، بل من باب تراكم الاحتمالات ، وتراكم القرائن بعضها على بعض ؛ من قبيل البحث عن السيرة مثلا ، أو الإجماع مثلا ، فإن السيرة دلالتها ليست دلالة لفظية ، ولا دلالة عقلية برهانية ، بل هي دلالة من باب تراكم الاحتمال ، كما يقال كل الناس كل الفقهاء قالوا هكذا. فكل قول من هذه الأقوال يوجب احتمالا ، وهكذا إلى أن نحصل على اليقين بالمطلب ، فهذه الدلالة من صنف ثالث. وهذا القسم من الدليل أيضا له مبادئه التصورية ، ومبادئه التصديقية ، التي يختلف بها عن الصنفين السابقين ، لأنه هنا لا بد وأن نعرف أن الاحتمالات كيف تتراكم ، ومتى تتراكم ، وما هي موارد تراكمها ومقتضياتها. هذا كله بحث ضروري لهذا القسم. هذا هو الصنف الثالث من القسم الأول وهو فيما إذا كان البحث عن ذات الحجة.
وأما القسم الثاني : وهو بحث الحجية. فهذا القسم يتميز عن القسم السابق بأصنافه الثلاثة أنه بحاجة إلى سنخ من المبادئ لم يكن القسم الأول بأصنافه الثلاثة محتاجا إليها ، فهذا القسم محتاج إلى تصور معنى الحجية ، ومعنى المنجزية ، والمعذرية ، كما أنه محتاج أيضا إلى البحث عن الألسنة الممكنة للتنجيز والتعذير ، بمعنى أنه ما هي الألسنة الممكنة لجعل الحجية ، وجعل المنجزية والمعذرية ، ويدخل في ذلك ؛ البحث في إمكان جعل الأحكام الظاهرية أساسا ؛ بمعنى أنه هل يعقل جعل الحكم الظاهري أو لا يعقل جعل الحكم الظاهري لاستلزامه المحاذير التي برهن عليها في كلمات ابن قبة وغيره ،
فيدخل في ذلك حينئذ في هذه المبادئ بحث الجمع بين الأحكام الواقعية ، والأحكام الظاهرية.
كل هذه الخصوصيات والنكات لم يكن يحتاجها القسم الأول بتمام أصنافه الثلاثة ، لكن يحتاجها هذا القسم. إذن فيناسب إخراج هذا القسم في مقابل القسم الأول ، والتكلم في هذا القسم عن الحجج على اختلافها ، وبكلتا مرتبتيها عن الحجة التي تسمى بالأمارة ، والحجة التي تسمى بالأصل.
خلاصة تقسيم مباحث علم الأصول
يوجد لحاظان يناسب تقسيم علم الأصول بلحاظهما :
اللحاظ الأول : هو التقسيم باعتبار المراتب الطولية لفحص المجتهد في عملية الاستنباط ، وفي كل مرتبة تقع مجموعة من قواعد علم الأصول ، بحيث لا ينتهى إلى المرتبة الثانية إلّا بعد اليأس من الظفر بقواعد المرتبة السابقة. هذا هو اللحاظ الأول لتقسيم علم الأصول.
اللحاظ الثاني : لتقسيم مباحث علم الأصول ، أن تقسيم القواعد الأصولية حسب مناسبات الحكم والموضوع البحثية ، لا حسب رعاية الرتب الطولية في عملية الاستنباط. وذلك بأن يقال : إنّ هناك مجموعات متعددة من قواعد علم الأصول لكل مجموعة امتياز عن باقي المجموعات بمبادئ تصورية وتصديقية ، تحتاجها هذه المجموعة كلّا أو جلّا ، ولا تحتاجها المجموعات الأخرى.
هذا هو اللحاظ الثاني وبناء على هذا اللحاظ يناسب أن يقسم علم الأصول إلى قسمين :
أ ـ بحث ذات الحجة بأصنافه الثلاثة.
ب ـ بحث الحجية.
هذا هو تمام الكلام في الجهة الثالثة ، وبهذا تم الكلام في الأمر الأول من أمور المقدمة ، وبه تم الجزء الأول بحوله وقوته تعالى وسيتلوه إن شاء الله الجزء الثاني من (بحوث علم الأصول) والحمد لله ربّ العالمين.
فهرس
الإهداء......................................................................... ٣
نفثة مصدور..................................................................... ٥
تمهيد......................................................................... ١٧
١ ـ الجهة الأولى................................................................ ١٧
تعريف علم الأصول............................................................. ١٩
التعريف المشهور................................................................ ١٩
الاعتراض الأول عليه............................................................ ١٩
الاعتراض الثاني................................................................ ٢٢
محاولتان لدفع الاعتراض : المحاول الأولى........................................... ٢٢
المحاولة الثانية.......................................................... ٢٣
الاعتراض الثالث............................................................... ٢٤
مختار السيد الأستاذ لتعريف علم الأصول.......................................... ٢٧
الاعتراض الأول للسيد الخوئي على نفسه.......................................... ٢٨
الاعتراض الثاني................................................................ ٢٨
نقض ما ذكره السيد الخوئي...................................................... ٣١
النقض الأول.................................................................. ٣١
النقض الثاني................................................................... ٣٢
النقض الثالث................................................................. ٣٣
الاعتراض الثاني للسيد الخوئي على نفسه.......................................... ٣٤
الاعتراض الثالث للسيد الخوئي على نفسه......................................... ٣٥
مختار المحقق العراقي في تعريف علم الأصول......................................... ٣٩
نقض مختار المحقق العراقي........................................................ ٤١
الاعتراض الأول على تعريف المحقق العراقي......................................... ٤٢
الاعتراض الثاني على تعريف العراقي............................................... ٤٤
الاعتراض الثالث على تعريف العراقي.............................................. ٤٥
الاعتراض الرابع على تعريف العراقي............................................... ٤٦
مختار أستاذنا السيد الصدر في تعريف علم الأصول................................. ٤٧
شمول التعريف لكل مسائل علم الأصول........................................... ٤٩
عدم شمول التعريف لغير مسائل علم الأصول....................................... ٥٠
ضابط القاعدة الأصولية......................................................... ٥٣
خروج حجية القطع عن علم الأصول.............................................. ٥٩
٢ ـ الجهة الثانية................................................................ ٦١
موضوع علم الأصول............................................................ ٦١
مقدمات عند بحث موضوع علم الأصول.......................................... ٦١
المقدمة الأولى.................................................................. ٦١
المقدمة الثانية.................................................................. ٦١
المقدمة الثالثة.................................................................. ٦١
كلام في الموضوع للمحقق العراقي................................................. ٧٤
الإشكال الأول على العراقي..................................................... ٧٨
الإشكال الثاني على العراقي...................................................... ٧٩
الإشكال الثالث على العراقي.................................................... ٩٦
هل تمايز العلوم ـ بالموضوعات أم بالأغراض....................................... ١٠٣
تشخيص موضوع علم الأصول................................................. ١٠٥
الإشكال على كون الأدلة الأربعة هي موضوع علم الأصول......................... ١٠٩
٣ ـ الجهة الثالثة............................................................... ١١٥
تقسيم مباحث علم الأصول.................................................... ١١٥
القسم الأول................................................................. ١١٥
القسم الثاني.................................................................. ١١٥
القسم الثالث................................................................ ١١٦
القسم الرابع.................................................................. ١١٦
التقسيم باللحاظ الأول........................................................ ١١٧
التقسيم باللحاظ الثاني........................................................ ١٢٠
خلاصة التقسيم.............................................................. ١٢٥