بحوث في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٢٨

كالصلاة في وقت الإزالة ، هل يقع صحيحا مع فعلية الأمر بالإزالة ـ الضد الآخر ـ أو يقع من دون أمر ، ويكون فاسدا باعتبار أن الأمر بالضد يقتضي النهي الغيري عن الضد الآخر ، وهو يقتضي ارتفاع الأمر بالعبادة وفسادها؟.

فمن يقول بالاقتضاء : يحقق بهذه المسألة صغرى لتوجه النهي الغيري إلى العبادة المحتاجة إلى تطبيق كبرى فوقها ، كي يتوصل إلى الحكم الشرعي ، وهذه الكبرى هي أن النهي عن العبادة مفسد لها.

ومن ينكر الاقتضاء : يحقق صغرى ، هي بقاء الأمر الشامل للضد بإطلاقه والتي لا بد وأن ينضم إليها كبرى يتوصل بها إلى الحجة على الحكم الشرعي ، وهذه الكبرى هي حجية الإطلاق في المقام ، فإنه وإن قلنا بأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ، لكن هذا لا يوصل إلى حكم شرعي إلّا بتوسط مسألة أصولية أخرى ، وهي مسألة أنّ النهي عن العبادة يقتضي فسادها ، فمسألة الأمر بالشيء تحقق صغرى لمسألة أنّ النهي عن العبادة يقتضي فسادها.

وهكذا يتضح أن التعديل الذي أورده المحقق النائيني على التعريف ، لا يجدي في تصحيحه ، ودفع المؤاخذة عليه.

وربما يحاول في بعض الكلمات أن يوجّه صحة التعريف من دون إدخال قيد الكبروية ، وذلك عن طريق الاستعانة بكلمة (ممهدة). فالمسائل الأصولية هي تلك المقدمات التي قد مهدت لغرض الاستنباط خاصة. فيخرج بذلك ما لم يكن قد مهّد لذلك ، وإنما مهد لأغراض أخرى كعلم العربية ونحوها.

ولكن هذا الاستدراك لو استطاع أن يفي بإصلاح التعريف ، وإخراج كل تلك المقدمات حتى ما كان من قبيل قواعد الحديث والرجال التي قد يقال إنّ الغرض من تمهيدها هو الاستنباط أيضا ، فهو غير مجد أيضا ، وذلك لأنه لا يتضمن إعطاء مائز موضوعي ، وقاسم مشترك ـ جامع ـ حقيقي لمسائل علم الأصول ، بحيث يكون ثابتا لها في نفس الأمر والواقع ، وإنما كانت من الأصول لأنها قد جمعت من قبل علماء الأصول.

٢١

... الاعتراض الثاني على التعريف المشهور :

إنّ هذا التعريف لا يشمل المسائل الأصولية التي تنتج حكما شرعيا ، وإنما تنتهي إلى ثمرة عملية للمكلفين من قبيل مباحث الأصول العملية التي هي من أمهات المباحث الأصولية ، على الرغم من أنها لا تكون في طريق إثبات الأحكام الواقعية ، وإحرازها ، لأنها ليست ناظرة إلى الواقع ، بل هي معذرة لا أكثر.

وقد أدّى هذا الاعتراض لدى صاحب الكفاية ، إلى أن يضيف قيدا ـ أو التي ينتهي إليها في مقام العمل ـ (١) على التعريف كي يكون شاملا لمسائل الأصول العملية. إلّا أنّ هذه الإضافة ليست في واقعها تعديلا في التعريف ، وإصلاحا له ، لأنّ إضافة هذا القيد لا يحقق جامعا ، وضابطا حقيقيا ، تنطوي فيه مسائل علم الأصول ، بل غاية ما تعني هذه الإضافة أن التعريف كان ناقصا غير شامل لقسم من مسائل الأصول فأريد إدراجها في التعريف مستقلا بكلمة ـ (أو) ـ وهذا ليس علاجا للتعريف ، ولم يجعله جامعا مانعا ، وإلّا لأمكن من أول الأمر عطف كل المسائل المبحوث عنها في الأصول ، ودرجها في التعريف بكلمة (أو). فيقال بأن الأصول علم بمسائل الألفاظ ، أو الملازمات العقلية ، أو الأصول العملية ، أو غير ذلك من مسائل علم الأصول وكيف كان ، هنالك محاولتان لدفع هذه المناقشة عن التعريف :

المحاولة الأولى : ما أفاده المحقق النائيني (قده) ، من أن المقصود باستنباط الحكم الشرعي ليس هو استنباط الحكم الواقعي في الشريعة ، وإنما المراد الأعم من الحكم الواقعي والظاهري الذي يثبت في موارد الأصول العملية التي لا تثبت الواقع.

وعليه فالتعريف جامع لمسائل الأصول العملية أيضا (٢). ولكن هذه المحاولة غير تامة لأنها وإن أصلحت التعريف في شموله للأصول العملية

__________________

(١) حقائق الأصول : ج ١ ص ١٥ ـ ١٦ للسيد الحكيم.

(٢) أجود التقريرات : ج ١ ص ٤ للخوئي.

٢٢

الشرعية التي هي أحكام شرعية ، ولكنها لا تدفع المناقشة كاملة إذ تبقى الأصول العملية العقلية التي ليست بأحكام شرعية ، لا واقعية ولا ظاهرية ، على الرغم من أنها مسائل أصولية.

المحاولة الثانية : ما أفاده المحقق الخوئي (قده) وهي أن ندخل تعديلا على التعريف ، وذلك بأن نقصد بكلمة ـ الاستنباط ـ التوصل إلى الحجة على الحكم الشرعي ، ويكون المراد بالحجة الأعم مما يكون حجة في مقام التنجيز للحكم الشرعي ، أو التعذير عنه. وإذا أردنا التحفظ على معنى كلمة الاستنباط ـ فنتصرف في متعلقه وهو الحكم الشرعي المستنبط ، فنريد به الحجة على الحكم ، لا نفس الحكم (١).

وبذلك تدخل الأصول العقلية باعتبارها حججا ومنجزات ومعذرات عن الأحكام الشرعية.

وقد ذكر هذا التعديل المحقق الأصفهاني ، وأشكل عليه السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ (٢) بأنه لا يشمل إلّا ما كان الحكم الواقعي إلزاميا ، وكان الأصل موافقا له ، أو مخالفا فيكون منجزا أو معذرا ، وأما إذا كان الواقع ترخيصا ، أو عدم حكم ، فلا يكون الأصل حجة على حكم شرعي. ولكن هذا الإشكال غريب في بابه ، فإن الفقيه إذا ما استنبط الحجة على إثبات الأحكام الإلزامية ، كذلك ينبغي أن يستنبط الحجة على الترخيص وانتفائها.

وعلاوة على ذلك فإنّ صياغة الإشكال في غير محلها ، إذ ليس المقصود بالحجة على الحكم ، الحجة على الحكم الموجود في الواقع حتى إذا ما فرض عدمه واقعا يخرج الحجة عن كونه حجة على الحكم الشرعي.

ثم إنّ كلا هذين التعديلين لتصحيح التعريف ، وإدخال الأصول العملية ، يؤديان إلى اندراج مبحث القطع في مسائل علم الأصول ، لأنه بحث عن الحجة

__________________

(١) الأصفهاني ـ الأصول على النهج الحديث : ص ٤.

(٢) محاضرات في أصول الفقه : ج ١ ص ١٠ فياض.

٢٣

والمنجز والمعذر ، وإن كانت الحجية ذاتية مع أنهم ملتزمون بخروج مبحث القطع منها.

... الاعتراض الثالث على التعريف المشهور :

إنّ هذا التعريف يشمل ما ليس من مسائل علم الأصول من قبيل القواعد الفقهية التي يستنبط منها أحكام فرعية (١) ، كقاعدة التجاوز والفراغ ، وقاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، قاعدة نفي العسر والحرج والضرر ، ونحو ذلك من القواعد الفقهية ، والتي لا يبحث عنها في علم الأصول ، فإنها كلها قواعد تمهد لاستنباط الحكم الشرعي منها.

وهذه المؤاخذة على التعريف غير صحيحة أيضا ، وذلك باعتبار أن هذه القواعد الفقهية على قسمين :

أ ـ منها ما يكون قواعد للانتهاء إلى إحراز صغرى الحكم الشرعي من قبيل قاعدة الفراغ والتجاوز ، وأصالة الصحة ونحوها ، فإنها لا تنتج أحكاما كلية ، وإنما تنتج موضوعات الأحكام ، وبذلك يكون إخراجها عن التعريف واضحا ، لأنها ليست لاستنباط الحكم الشرعي كما هو المفروض في التعريف.

ب ـ ومنها القواعد الفقهية التي يستفاد منها أحكاما شرعية كلية ، من قبيل قاعدة نفي العسر والحرج التي يستفاد منها عدم وجوب الوضوء إذا كان حرجا على المكلف.

وكذلك قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، والتي تنتج أن المقبوض بالبيع الفاسد فيه الضمان ، لأنّ البيع يضمن بصحيحه فيثبت الضمان في فاسده أيضا.

وهذه القواعد أيضا خارجة عن التعريف لأنّ المأخوذ في التعريف القواعد التي يستنبط منها حكم شرعي ، والمقصود بالحكم الشرعي الجعل الشرعي ، فلا بد أن تكون القاعدة التي يمهدها الفقيه في طريق إثبات جعل شرعي أو إقامة

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه : ج ١ ص ١٠ فياض.

٢٤

الحجة وهذا يرد بناء على تعديل التعريف في رفع المفارقة السابقة ـ وهذا يستتبع أن يكون ذلك الجعل الشرعي مغايرا مع تلك القاعدة التي وقعت في طريق استنباطه ، وهذا لا يصدق على القواعد الفقهية ، وإنما يصدق على القواعد الأصولية فقط ، كحجية خبر الثقة ، والأصول اللفظية والعملية ، ونحوها ممّا تكون قواعد في طريق استنباط جعول واقعية ، وإلّا فنفس هذه القواعد الشرعية هي جعول ، والمفروض أن تنتج جعولا ، ونوضح ذلك في مثالين للقواعد الفقهية :

المثال الأول :

قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده : فإنها وإن كانت يستفاد منها كبرى الضمان في البيع الفاسد ، لكن هذه الكبرى ليست جعلا آخر استنبط من خلال تلك القاعدة ، وإنما هي نفس تلك القاعدة ، وجزء من مدلولها الضمني أفرزناه بالتحليل والتطبيق على حصص الموضوع ، فلا يصدق عليها أنها قاعدة مهدت لاستنباط جعل آخر ورائها ، كما كان ذلك في المسائل الأصولية.

المثال الثاني :

قاعدة نفي العسر والحرج : فإنها أيضا لا تقع في طريق استنباط جعل آخر ورائها ، وإنما هي بنفسها حكم شرعي كلي مجعول لنفي الأحكام الحرجية ورفعها ، ويستخلص منها بالتطبيق والتحليل لمدلولها الضمني ، حصصا متعددة دون أن تكون تلك الحصص جعولا أخرى يتوصل إلى إثباتها ، أو إقامة الحجة عليها بتلك القاعدة.

نعم ربما تقع هذه القاعدة في طريق إثبات مسألة أصولية كما يستدلّ بها لإثبات البراءة ، وعدم الاحتياط التام على فرض انسداد باب العلم والعلمي ، وحينئذ بهذا اللحاظ تكون في طريق استنباط حكم شرعي لا محالة ، ولا بأس باندراجها في مسائل علم الأصول ، والبحث عنها في مثل ذلك (١).

__________________

(١) وهذا يستدعي منهم أن يبحثوا ضمن مسائل الأصول عن قاعدة نفي العسر والحرج ، بل

٢٥

وأما قاعدة الطهارة فهي على ضوء هذا التعريف ينبغي إدراجها في مسائل علم الأصول أيضا ، لأنها يستفاد منها في الشبهات الحكمية ، الحجة على الحكم الشرعي المجهول ، كأصالة الحل والبراءة.

وعلى هذا الأساس التزم بعضهم بكونها من مسائل هذا العلم أيضا ، وإنما لم يبحث عنها فيها لوضوحها والتسالم عليها ، وهكذا اتّضح أن الاعتراض الموجّه على هذا التعريف المشهور ، هو الاعتراض الأول فقط ، والذي كان يقول إنّ التعريف يعمّ جميع المقدمات والقواعد التي تقع في طريق إثبات الحكم الشرعي ، وإقامة الحجة عليه ، وهي أعم من مسائل علم الأصول.

ولعلّه من أجل ذلك عدل بعضهم عن هذا التعريف المشهور إلى تعريفات أخرى ، وأدخلوا فيها تعديلات وإصلاحا للعيب الذي استبطنه هذا التعريف.

ونحن نتعرّض فيما يلي لما ذكره كل من السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ والمحقق العراقي في مقام إصلاح صيغة التعريف ، وإعطاء جامع حقيقي لمسائل علم الأصول يميزها عن غيرها من المقدمات التي تدخل في عملية الاستنباط.

__________________

عن كل قاعدة فقهية تستطيع أن تثبت أو تنفي حكما ظاهريا ، فإنها تكون في طريق حكم واقعي ورائها ، فتكون أصولية مع أنهم لا يعترفون بذلك. (المؤلف).

٢٦

ما ذكره السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ لتعريف علم الأصول

وأما السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ فقد حاول أن يميز المسائل الأصولية بأنها القواعد التي تمهد للاستنباط ، والتي يصلح كل منها أن يقع بمفرده ، ومن دون حاجة إلى ضم أي قاعدة أصولية أخرى في طريق استنباط الحكم (١) ، وعلى هذا الأساس حكم بالأصولية لكل مسألة لا تحتاج إلى ضم مسألة أصولية أخرى إليها في مجال الاستنباط وإنتاج الحكم ، من قبيل مسألة حجية خبر الثقة التي تصلح بمفردها أن يستنبط منها الحكم الشرعي من رواية الثقة ، دون حاجة إلى مسألة أصولية أخرى. وكذلك من قبيل أصالة البراءة وظهور الأمر في الوجوب ونحوها من المسائل التي تصلح أن تكون بمفردها ، ومن دون حاجة إلى قاعدة أصولية أخرى ، أن تقع في طريق إثبات الحكم الشرعي.

فمثل هذه القواعد والمسائل الصالحة بانفرادها لاستنباط الحكم تكون داخلة في علم الأصول لدى السيد الأستاذ.

أما إذا كانت المسألة بحاجة إلى ضم مسألة أخرى أصولية إليها ، لكي يمكن استنباط الحكم منها ، فلا تكون مسألة أصولية من قبيل وثاقة الراوي ، فإنها بمفردها لا تنتج الحكم بل لا بدّ من أن يضمّ إليها قاعدة أصولية أخرى مثل حجية خبر الثقة التي هي من مسائل علم الأصول ، كي يتم إنتاج الحكم الشرعي ، وكذلك دلالة كلمة الصعيد على المعنى الأعم ، وغيرها من أبحاث اللغة العربية ـ فإنها بمفردها لا تصلح لأن تقوم بعملية الاستنباط. بل لا بد علاوة على ذلك من الاستعانة بمسألة أصولية أخرى من قبيل ظهور صيغة الأمر في قوله تعالى (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) ودلالته على الوجوب.

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه : ج ١ ص ٨ فياض.

٢٧

هذا ما أفاده السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ في إعطاء المائز الحقيقي بين مسائل علم الأصول والمسائل الأخرى ، ثم أورد على نفسه بعض الاعتراضات ، وأجاب عليها ، نقتصر في المقام على ذكر اثنين منها :

الاعتراض الأول (١) :

أ ـ هو أنه بناء على هذا التفسير يلزم أن لا تكون مسألة دلالة الأمر على الوجوب ، وما يناظرها من مباحث الدلالات ، داخلة في مباحث علم الأصول ، لأنها بحاجة دائما إلى ضمّ كبرى حجية الظهور إليها ، لكي ينتهي بها إلى استنباط الحكم ، إذ لا يمكن الاكتفاء بها وحدها في ذلك.

وأجاب عن ذلك :

بأن الأمر وإن كان كذلك ، غير أن مسألة حجية الظهور ليست من مسائل علم الأصول ، ولا يبحث فيها عن كبراها أصلا ، بل هي قاعدة عقلائية واضحة مركوزة بالبداهة لدى كل شخص ، فليست مسألة دلالة الأمر على الوجوب مثلا ، محتاجة إلى مسألة أصولية كي يكون نقضا على ما ذكرناه لتميّز علم الأصول.

الاعتراض الثاني :

ب ـ وأورد ثانيا على نفسه النقض بمسألة اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده ، فإنها مسألة أصولية رغم افتقارها إلى مسألة أصولية أخرى وهي مسألة أن النهي عن العبادة يقتضي الفساد كي يتم الاستنباط ، ولا تكفي بمفردها لذلك.

وأجاب عن ذلك :

إنّ هذه المسألة وإن كانت بحاجة إلى مسألة أصولية أخرى في إنتاج الحكم ببطلان عبادة الضد ، ولكن على القول بعدم الاقتضاء لا تحتاج إلى ضم مسألة أصولية أخرى ، بل تكفي نفس هذه المسألة وهي أن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده ، كي تنتج بمفردها الحكم بصحة عبادة الضد.

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه : ج ١ ص ٩. فياض

٢٨

ويكفي لصيرورة المسألة أصولية أن تحتوي على خصائص المسألة الأصولية على أحد التقادير والأقوال فيها ، أي يكفي في صحة إدراج مسألة في مسائل علم الأصول ، أن تكون صالحة لأن تقع بمفردها في طريق الاستنباط ولو على أحد القولين ، أي النفي والإثبات.

وهكذا حاول السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ أن يتخلص مما كان قد ورد عليه من النقض على المائز الذي أفاده في تعريف مسائل علم الأصول (١).

__________________

(١) ويكفي في الرد عليه : إنّ هذا التعريف تعريف دوري ، بجعل المسألة الأصولية ما لا تحتاج إلى مسألة أصولية أخرى ، ومثل هذا التعريف لا يجدي إلّا لمن يحدّد مسبقا ما يكون من مسائل الأصول وما لا يكون.

أما أن يتحدد بهذا التعريف مسائل علم الأصول فهو غير ممكن ، لأنه يدور في حلقة مفرغة ، حيث لا بد في التعريف أن يفهم ما هي مسائل الأصول ليتبنّى احتياج المسألة الأصولية إلى مسألة أصولية أخرى ، أو عدم احتياجها إلى مسألة أصولية أخرى.

ولكن قد يجاب على هذا الإشكال بأن المقصود هو أن المسألة الأصولية إذا لم تكن بحاجة إلى مسالة أخرى غير صغراها التي تنقح موضوعها فهي مسألة أصولية وهذا لا دور فيه. (المؤلف).

٢٩
٣٠

نقض ما ذكره السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ على ضوء

الاعتراضات الثلاث التي وجهت للتعريف المشهور

ولنأخذ ما ذكره السيد ـ دام ظله ـ بالدرس على ضوء الاعتراضات الثلاث التي وجهت إلى التعريف المشهور ، لنرى هل يسلم منها هذا التعريف ويتخلص من مشاكلها أم لا؟.

وهل يمنى بشيء منها كما مني التعريف المشهور أم لا؟.

الاعتراض الأول :

ولنبدأ بالاعتراض الأول الذي كان يقول إنّ التعريف ليس جامعا مانعا ، لأنه لا يبرز مائزا محددا يلمّ بمسائل الأصول كلها ، ويمنع من دخول غيرها ، فنقول :

إنّ هذه المؤاخذة متوجهة أيضا على ما ذكره ـ دام ظله ـ للتميز بين مسائل علم الأصول وغيرها ممّا يتدخل في عملية الاستنباط.

ولتوضيح ذلك نذكر فيما يلي تعليقات ثلاث على كلامه ـ دام ظله ـ تبرز انثلام المائز الذي أفاده في جهة من الجهات ، وعدم صلاحيته ، لكي يكون تعريفا لعلم الأصول :

التعليقة الأولى :

ونتساءل فيها ما المقصود من كون المسألة تقع بمفردها ومن دون حاجة إلى مسألة أصولية أخرى في طريق الاستنباط؟ هل المقصود أن تكون كذلك دائما في جميع الحالات ، أو يكفي كونها كذلك ولو في مرة واحدة بنحو الموجبة الجزئية؟.

٣١

فإن قيل بالأول : لزم منه خروج أكثر مسائل الأصول عن علم الأصول ، لأنها في أكثر الأحيان يحتاج بعضها إلى بعض في مجال الاستنباط.

فمثلا : لو كانت ثمة رواية ظنية السند وظنية الدلالة على وجوب الجمعة ، فحينئذ تكون مسألة دلالية الأمر على الوجوب التي هي من مسائل علم الأصول محتاجة في مثل هذا المورد إلى مسألة حجية خبر الثقة ـ التي هي أيضا من مسائل علم الأصول ـ كي تتم عملية الاستنباط ، فينبغي أن لا تكون مسألة أصولية ، وكذلك مسألة حجية الخبر حيث احتاجت إلى مسألة دلالية الأمر على الوجوب فلا تكون أصولية أيضا.

وإن قيل بالثاني ، على أن يكون المقصود ، صلاحية المسألة لكي تقع بمفردها في الاستنباط ولو في مورد واحد تكون فيه سائر نواحي البحث والاستنباط قطعية ، كما إذا كانت سنة قطعية ، فتكون مسألة ظهور الأمر في الوجوب كافية بمفردها لاستنباط الحكم ، فهذا جوابه :

إنّ كثيرا من المسائل غير الأصولية أيضا تصلح أن تقع بمفردها ومن دون حاجة إلى مسألة أصولية في طريق الاستنباط في بعض الموارد ، وذلك حيث تكون سائر الجهات قطعية ، فكلمة (الصعيد) لو افترضنا ورودها في لسان دليل قطعي سندا ودلالة كما لو كان كتابا ، أو كما لو صرّح بالوجوب حينئذ يكفي تشخيص مدلولها ولكي تقوم بعملية الاستنباط بمفردها. وعليه فلا بد من أن تكون مسألة أصولية حسب هذا المائز.

التعليقة الثانية :

إنّ هناك بعض المباحث التي هي من مسائل هذا العلم ، على رغم أنها تحتاج إلى مسألة أصولية أخرى ، كي تنتج الحكم الشرعي ، من قبيل المباحث التي يراد بها تشخيص أقوى الظهورين ، أو كالبحث عن الإطلاق الحكمي أو العموم الشمولي أو العموم البدلي ، أو كالبحث عن الدلالة المنطوقية أو الدلالة المفهومية ، وما إلى ذلك من أشباهها ، فإنها كلها لا تكون منتجة في مجال الاستنباط ، إلّا بعد ضم كبرى الجمع العرفي ، وتقديم الأظهر على الظاهر في

٣٢

الحجية ، وهي مسألة أصولية. ولكن السيد الأستاذ لم يخرجها عن كونها مسائل أصولية كما أخرج مسألة حجية الظهور ، وذلك بدعوى أن مسألة الجمع العرفي من المسائل الارتكازية البديهية التي لا نقاش فيها ، ولكن من الواضح أن هذا الكلام في نفسه باطل إذ إنّ كون المسألة واضحة المدرك ، وبديهية البرهان ، لا تغير من كونها مسألة من هذا العلم ، ولهذا كانت بديهيات مسائل علم الحساب من علم الحساب بلا إشكال.

التعليقة الثالثة :

وهي ترجع إلى ما أفاده في جواب النقض الثاني الذي أورده على نفسه ، من ـ إنّ مسألة اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده ـ لا تصلح على أساس الميزان الذي أفاده ـ دام ظله ـ أن تكون من مسائل علم الأصول ، سواء في ذلك أن يقال بالاقتضاء ، أو بعدمه ، فإن من الخطأ أن يتصور ثبوت الحكم واستنباط صحة عبادة الضد بمجرد القول بعدم الاقتضاء من دون حاجة إلى مقدمة أصولية أخرى ، إذ حتى على التقدير في المسألة ، لا بد للفقيه في مقام استنباط الحكم بصحة الضد المأمور به ، من أن يضم إحدى مقدمتين كلتاهما من مسائل الأصول حتى يثبت صحة العبادة.

فإنّ الأمر بالإزالة مثلا ، وان لم يقتض حرمة العبادة للضد ، لكنه موجب لزوال الأمر بها في عرض الأمر بالإزالة ، باعتبار أنه طلب للضدين ، فلا بد إمّا من إثبات الأمر الترتبي وهذه مسألة أصولية ـ أو إثبات أن سقوط الخطاب والأمر لا يستتبع سقوط الملاك ، وهو وحده كاف في مقام التقرّب والتعبد ـ وهي مسألة أصولية أيضا ـ ، ومن دون ضم إحدى هاتين المسألتين لا يمكن تصحيح عبادة الضد.

وعليه : فكما أنه على القول بالاقتضاء نحتاج إلى ضم مسألة أن ـ النهي عن العبادة يوجب الفساد ـ لكي نتوصل إلى استنباط الحكم بفساد العبادة ، وعدم إجزائها ، كذلك على القول بعدم الاقتضاء نحتاج إلى ضم مسألة أصولية كي نستنبط الحكم بالصحة.

فمسألة اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده ، بكلا طرفيها وتقديريها

٣٣

الإثباتي والسلبي ، لا تصلح أن تقع بمفردها مع الاستغناء عن مسألة أصولية في طريق الاستنباط ، فلا بد من إخراجها عن مسائل علم الأصول.

وهكذا يتضح أن ما أفاده الأستاذ ـ دام ظله ـ في التمييز بين مسائل علم الأصول وغيرها ، لا يسلم من الاعتراض الأول الذي كان يرد على التعريف المشهور.

الاعتراض الثاني :

والذي كان يدعي خروج مباحث الأصول العملية عن التعريف المشهور ، لعدم إنتاجها أحكاما شرعية واقعية ، فقد أجاب عنه الأستاذ ـ دام ظله ـ بأنا نقصد من الحكم الأعم من الظاهري والواقعي ، أي مطلق الوظيفة العملية وتحصيل المنجز والمعذر ، فيشمل التعريف الأصول اللفظية ، والعملية ، والشرعية ، والعقلية (١).

ولكن هذا الجواب الذي كان صحيحا صالحا لتعديل التعريف المشهور كما تقدم ، لا ينسجم مع تصورات السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ عن مسائل علم الأصول ، لأنه ينبثق منه نتيجتان طوليتان ، تترتب إحداهما على الأخرى ، وكلاهما مما لا يرضى بها الأستاذ.

أولا : ينتج منه أن تكون مسألة حجية القطع ، مسألة أصولية ، لأنها تقع في طريق استنباط الحجة ، والمنجز أو المعذر للحكم الشرعي ، مع أنه يصرح هناك بأنها ليست من مسائل علم الأصول.

ثانيا : لو كانت مسألة حجية القطع أصولية ، فسوف تخرج كل مسائل علم الأصول أو جلّها عن التعريف بناء على الميزان الذي أفاده الأستاذ ، لأنّ مسائل من قبيل حجية خبر الثقة ، أو الاستصحاب ، أو أصالة البراءة ، أو غيرها ، بحاجة في مقام الانتهاء إلى الوظيفة العملية إلى أن تنضم إليها مسألة حجية القطع ، حيث يقطع فيها بالحكم الظاهري ، وبذلك تخرج عن تعريف علم الأصول بناء

__________________

(١) المصدر السابق.

٣٤

على تصور السيد الأستاذ من أن كل مسألة تحتاج إلى ضم مسألة أخرى دائما ، فهي ليست من مسائل علم الأصول (١).

الاعتراض الثالث :

والذي كان يدعي اندراج القواعد الفقهية في التعريف ، فلقد أجاب عنه السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ تبعا للمحقق الأصفهاني ، بسنخ ما أجبنا به على هذه المؤاخذة في التعريف المشهور ، حيث أفاد الأستاذ بأن الاستنباط له معنيان :

أ ـ الاستنباط التوسيطي : وهو أن تكون المقدمة مغايرة للنتيجة المستنبطة ، ولكن ملازمة لها ، من قبيل دلالة الأمر على الوجوب المغاير لوجوب السورة ، ولكن ملازم له في مجال الاستنباط.

ب ـ الاستنباط التطبيقي : وهو أن تكون المقدمة غير مغايرة للنتيجة ، وإنما النتيجة تطبيق من تطبيقاتها ، كتطبيق قاعدة ما يضمن بصحيحه على البيع الفاسد ، واستنتاج الضمان فيه.

وإذا كان الاستنباط على نحوين : توسيطي وتطبيقي ، فالذي يكون من مسائل علم الأصول هو القاعدة التي تقع في مجال الاستنباط التوسيطي لا التطبيقي ، فالقواعد الفقهية ، والتي لا يستنبط منها الحكم إلّا بنحو التطبيق ، خارجة عن تعريف علم الأصول.

وتعليقا على هذا الكلام الذي أفاده الأستاذ ـ دام ظله ـ نقول :

بأن القاعدة الفقهية أيضا تقع في مجال الاستنباط التوسيطي ، بحيث يكون الحكم والنتيجة المستنبطة مغايرا للمقدمة التي استنبطناه منها ، وذلك عن طريق توسطها لإثبات موضوع حكم آخر.

فمثلا قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، تحقق موضوعا لحكم آخر

__________________

(١) لو كان المقصود من الحجة ، الحجة الأعم من الذاتية والجعلية ، فلا يرد هذا الإشكال في المقام ، لأنّ تلكم المسائل الأصولية تصلح بمفردها أن تقع في طريق استنباط الحجة ولو الجعلية على الحكم الشرعي. (المؤلف).

٣٥

هو الحكم التكليفي بوجوب أداء الدين وما اشتغلت به الذمّة. فكما أن المسائل الأصولية تقع في طريق الاستنباط التوسيطي ، كذلك القاعدة الفقهية أيضا ، ولكن الفارق بينهما فارق من ناحية أن المسألة الأصولية تقع في طريق الاستنباط التوسيطي للحكم الشرعي الكلي ، كوجوب السورة مثلا المستنبط من دلالة الأمر على الوجوب ، وأما القاعدة الفقهية فيستنبط منها حكم جزئي ، لأنها تنقح موضوع حكم آخر يثبت بدليله لا بهذه القاعدة. فوجوب وفاء الدين مثلا ، حكم ثابت بدليله ، وقاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده لا ينتج أصل هذا الحكم ، وإنما ينتج انطباقها وفعليتها في مصداق ومورد معين وهو البيع الفاسد مثلا.

فإذا اتضح أن الاستنباط التوسيطي على نحوين ، حينئذ نسأل الأستاذ ـ ما ذا يقصد بالاستنباط التوسيطي؟.

فإن كان يقصد ما يعم كلا المعنيين للاستنباط التوسيطي ، إذن فالتعريف شامل للقواعد الفقهية أيضا ، لأنها تقع في مجال الاستنباط التوسيطي بالنحو الثاني.

وإن كان يقصد المعنى الأول من التوسيط خاصة ، كما هو الذي ينبغي أن يلتزم به ، لأنّ المفروض من مسائل علم الأصول استنباط الحكم الكلي لا الجزئي ، فسوف يخرج بعض مسائل الأصول على بنائه عن التعريف ، فمسألة أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده لا يستنبط منها حرمة الضد ـ التي تكون حكما كليا ـ لأنها ليست بحكم فقهي يقبل التنجيز والتعذير ، وإنما النتيجة المترتبة عليها على مباني الأستاذ هي صحة الصلاة وبطلانها ، فإنه على القول بالاقتضاء تقع الصلاة فاسدة فتبطل ، وعلى القول بعدم الاقتضاء تصح.

لكن من الواضح أنّ صحة الصلاة ـ الضد ـ أو بطلانها ، ليس حكما كليا استنبط من قاعدة الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضد ، بل الحكم الكلي بالعبادة وشرائطها أمر ثابت بدليله ، وإنما هذه القاعدة الأصولية تنقح موضوع ذلك الحكم والتعبد به مثلا ، فتقع صحيحة ، أو أنها محرمة فتقع فاسدة ، فشأنها شأن القواعد الفقهية التي تقع في مجال الاستنباط التوسيطي بالنحو الثاني.

٣٦

على أن هذه الثمرة في نفسها غير تامة بعد الالتفات إلى أنّ حرمة الضد ليست حرمة قابلة للتنجيز والتعذير ، والتعبد والتقرب إلى المولى ، لأنها غيرية ، فإذا التفتنا إلى أنها ليست حكما فقهيا ـ ولذلك لم يعتبرها الأستاذ أنها الحكم الشرعي المستنبط ـ كذلك نلتفت إلى أنها لا تكون موجبة لبطلان العمل ، لأنها ليست حرمة حقيقية مبعدة كي تمنع عن الصحة ، كما اعترف بذلك الأستاذ في مسألة الضد.

وعليه : فأصل هذه النتيجة التي تصورها ـ دام ظله ـ لمسألة الضد ليست بصحيحة.

ولكن هذا النقض بمسألة الضد إنما يتوجه على مباني السيد الأستاذ.

وأما على مبانينا : فنحن نتصور لهذه المسألة نتيجة فقهية هي حكم شرعي كلي ، وبذلك تكون كسائر مسائل الأصول ، واقعة في طريق الاستنباط للحكم الشرعي الكلي ، فتتميز من القواعد الفقهية التي لا تكون في طريق الاستنباط التوسيطي للحكم الكلي. ولهذا نحن أجبنا أيضا على النقض بالقواعد الفقهية ، واندراجها في التعريف المشهور لعلم الأصول بسنخ الجواب الذي أفاده الأستاذ دون أن نلتزم بهذا النقض.

وتوضيح ذلك : إن مسألة الضد تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي الترتبي على العبادة بناء على القول بعدم الاقتضاء ، وإمكان الترتب ، وواضح أن ثبوت الأمر الترتبي في إطلاق الأمر بعبادة الضد ، حكم شرعي استنبطناه بقاعدة الضد بالتوسيط على النحو الأول ، أعني باستنباط الحكم الشرعي ابتداء لا باستنباط موضوعه كما هو واضح.

هذا تمام الكلام حول التعريف الذي أفاده الأستاذ ـ دام ظله ـ.

٣٧
٣٨

ما ذكره المحقق العراقي (قدس‌سره)

في تعريف علم الأصول

وأما المحقق العراقي فقد حاول أن يعرف علم الأصول ويميز مسائله عن المقدمات الأخرى التي يحتاجها الفقيه في عملية الاستنباط ، بإعطاء ميزان آخر ، وحاصله : إن المدار في المسألة الأصولية على وقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعي بنحو يكون ناظرا إلى إثبات الحكم بنفسه ، أو بكيفية تعلقه بموضوعه (١) فكل مقدمة من مقدمات الاستنباط تكون بصدد إثبات أصل الحكم أو كيفيته ـ ونقصد بالإثبات ما يعم الإثبات التنجيزي والتعذيري فهي مسألة أصولية ، فمسألة دلالة الأمر على الوجوب مثلا ، مسألة أصولية باعتبار أنها ناظرة وراجعة إلى إثبات الحكم ، وكذلك مسألة حجية خبر الثقة ، أو الاستصحاب ، أو غيره من الأصول العملية ، فإنها كلها ترجع إلى إثبات الحكم إثباتا تنجيزيا ، أو تعذيريا. ومثل هذا لا يكون في المقدمات الأخرى للاستنباط ، من قبيل مدلول كلمة الصعيد ، أو وثاقة الراوي ، فإنها مسائل مستقلة في ذاتها ، لا ترتبط بالحكم أو بكيفيته ، وإن كانت قد تقع موضوعا للحكم ، ويكون لها دخل في الاستنباط.

ولقد أسيء فهم هذا الميزان الذي أفاده المحقق العراقي من قبل بعضهم ، فاعترض عليه بأنه يلزم من ذلك خروج مثل مباحث العموم والإطلاق ، والجملة الشرطية ونحوها عن مسائل الأصول ، لأنها من قبيل البحث عن مدلول كلمة (الصعيد) مثلا ، لا تكون ناظرة إلى الحكم ، وإنما ترجع إلى تحديد متعلق الأحكام وموضوعاتها.

ومثل هذا الاعتراض ناتج من عدم التوصل إلى حاقّ مقصود المحقق

__________________

(١) بدائع الأفكار بتصرف : ج ١ ص ٢٤ ـ منهاج الأصول : ج ١ ص ٢١.

٣٩

العراقي ، فإنّه من الواضح الفرق بين مسائل الإطلاق والمفهوم والعموم عن مسألة مدلول كلمة (الصعيد) مثلا.

فالإطلاق وإن كان بحثا عن موضوع الحكم ومتعلقه ، كما أن كلمة (الصعيد) موضوع للحكم ، غير أنه ليس بحثا عن ذات الموضوع في نفسه ، وإنما بحث عن الموضوع بما هو موضوع للحكم ، أي بحث عن علاقة الحكم بموضوعة ، وكيفية تعلقه به ، فهو بحث عن خصوصية في الحكم ، ولذلك لا يتصور الإطلاق من دون افتراض تعلق الحكم بالموضوع. وأما البحث عن مدلول كلمة (الصعيد) ، وأنه لمطلق وجه الأرض أم لا ، فليس بحثا عن الموضوع بما هو موضوع ، وإنما هو بحث عن ذات الموضوع في نفسه كما هو واضح.

وكذلك الحال في المفهوم ، فإنه أيضا بحث عن كيفية تعلق الحكم ، وأنه بنحو ينتفي عند الانتفاء ، فهو بحث عن العلاقة بين الحكم وما تعلق به ، وليس بحثا عن مدلول مستقل في نفسه لا علاقة له بالحكم.

وبهذا البيان ظهر أيضا وجه خروج بحث المشتق عن مسائل الأصول ، فإنه ليس مسألة أصولية ، إذ لا يبحث فيه إلّا عن مدلول ذات الموضوع المشتق في نفسه ، لا عن كيفية تعلق الحكم به.

وأمّا العموم وأدواته التي يبحث عنها في علم الأصول كالبحث عن مدلول كلمة (كل) ، فهو أيضا بحث عن كيفية تعلق الحكم بموضوعه ، بناء على أن هذه الأدوات موضوعة للدلالة على استيعاب الحكم تمام أفراد مدخولها ، فإنه بحث في علاقة الحكم بموضوعه ، وليس بحثا عن ذات الموضوع (١).

__________________

(١) إنّما قيدنا بهذا المبنى ، لأنه بناء على المبنى الصحيح ، والذي يختاره المحقق العراقي نفسه أيضا ، من أن أدوات العموم موضوعة للدلالة على تجمع الأفراد تحت العنوان المفروض في نفسه ، ولهذا نتعقّل العموم في قولنا ـ كل رجل ـ من دون حكم أيضا ، لأنه بناء على ذلك لا ينطبق الميزان الذي أفاده في تعريف علم الأصول على بحث العموم ، لأنّه بحث عن ذات الموضوع لا الموضوع بما هو موضوع ، كي يكون راجعا إلى البحث عن علاقة الحكم بموضوعه ، ولذلك يعقل هذا البحث في ـ كل رجل ـ دون احتياج إلى افتراض حكم عليه ، أو تعلق حكم به. (المؤلف).

٤٠