بحوث في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٢٨

إذن ليس هو أن يكون العرض مع الواسطة مجعولين بجعل واحد ، بل الميزان هو أن الواسطة هل تزيد على الموضوع بشيء أو لا تزيد؟.

فإن كانت تزيد على الموضوع بشيء ، فالعرض ليس بذاتي. وإن كانت لا تزيد فالعرض ذاتي. وأمّا مسألة أن الواسطة مجعولة مع العرض بجعل واحد ، أو بجعلين ، فهذا ميزان العرض الأولي ، لا ميزان العرض الذاتي. والعرض الذاتي أوسع من العرض الأولي.

١٠١
١٠٢

تمايز العلوم بالموضوعات أو بالأغراض؟

من مجموع ما تقدم تبين كذلك ما هو مشهور فيما بينهم من نزاع ، من أن تمايز العلوم هل يكون بتمايز الموضوعات أو بتمايز الأغراض؟.

فإنّ هذا التقابل بين الموضوع وبين الغرض ، بناء على التفسير المشهوري للعرض الذاتي ، وهو أن يراد من الذاتية في العرض الذاتي الذاتية بلحاظ المحلية ، حينئذ يكون الغرض أمرا في مقابل الموضوع. فيقال مثلا ـ بأن موضوع علم النحو هو الكلمة ، والغرض من علم النحو هو صيانة اللسان عن الخطأ. أو موضوع علم الطب هو مزاج الإنسان ، وغرض علم الطب هو صحة المزاج. هذا لو قلنا بأن معنى الموضوع ما يكون محطا ومحلا للأعراض ، ومحلا للمحمولات ، حينئذ يكون عندنا موضوع وفي مقابله غرض ، ويقال بأن التمايز بالموضوعات أو بالأغراض!.

أمّا بناء على ما فسّرنا من أن المراد بالأعراض الذاتية ، الذاتية بلحاظ المنشئية والعلية لا المحلية ، إذن فنفس الغرض يكون موضوعا أيضا ، إذا كان هناك علم كعلم الطب له غرض وحداني ، فهذا الغرض بنفسه يصلح أن يكون موضوعا لعلم الطب ، وتكون قضايا علم الطب باحثة عن أحواله ، باعتبار أن أسباب الغرض أحوال وأعراض له ، على ما ذكرنا من أن العلة الغائية يكون معلولاتها عوارض ذاتية بالنسبة إليها. فبناء على أن معنى العرض الذاتي أن الذاتية هي التي تكون بلحاظ المنشئية والعلية ـ فيكون موضوع العلم منشأ لمحمولاته لا محلا لمحمولاته ـ والمنشأ كما قد يكون منشأ بنحو العلة الفاعلية ، يكون منشأ بنحو العلة الغائية ، كما تقدم.

إذن فلا يبقى تقابل بين الموضوع والغرض ، حتى يبحث هل أن تمايز العلوم بالأغراض أو بالموضوعات. بل بحسب الحقيقة إن كل غرض يفرض

١٠٣

لعلم ، فهو إمّا بنفسه يكون موضوعا لذلك العلم ، ويكون البحث عن عوارضه بمعنى معلولاته الغائية ، وإمّا أن يكون موضوع العلم عبارة عمّا يكون سببا له ، ومنشأ له. فإذا بطل التقابل بين الموضوع والغرض ، بطل هذا البحث ، وتبيّن أن تمايز العلوم دائما بالموضوعات.

١٠٤

بيان موضوع علم الأصول

بعد أن انتهينا من البحث في المقدمات التي اعتاد علماء الأصول أن يذكروها مقدمة لتعريف علم الأصول ، وتشخيص موضوعه ، نبدأ الآن في بيان هذا الموضوع فنقول :

إنّ علماء الأصول قد وقعوا في حيص وبيص ، وذهبوا مذاهب شتى في موضوع علم الأصول.

فبعضهم قال بأن موضوع علم الأصول هو الأدلة الأربعة بما هي أدلة ، بحيث أخذ قيد الدليلية في موضوع العلم.

وبعضهم ذهب إلى أن موضوع علم الأصول هو الأدلة الأربعة بما هي هي ، لا بما هي أدلة ـ ذوات الأدلة من دون أخذ قيد الدليلية ـ.

وبعد أن أشكل على كلا القولين ، كما ذكر صاحب (الكفاية) (١) ، ذهب جملة من المحققين إلى أنه لا يوجد موضوع لعلم الأصول.

وقال آخرون : بأنه يوجد له موضوع ، ولكنه غامض مجهول كنهه ، وإنما يعبّر عنه تعبير إجمالي ، فيقال : بأنه الكلي المنطبق على موضوعات مسائله.

وصياغة هذا الإشكال على كلا المسلكين هو أن يقال :

إنه من غير المناسب أن تجعل الأدلة الأربعة موضوعا لعلم الأصول ، لا بما هي أدلة ، ولا بما هي هي ، وذلك لأن موضوع العلم يجب أن يكون منطبقا على موضوعات مسائله ، وموضوعات مسائل علم الأصول لا ينطبق عليها الأدلة الأربعة على المسلكين. فمثلا في موارد الأصول العملية موضوع المسألة هو الشك بالتكليف ، والشك بالتكليف ليس عقلا ، ولا كتابا ، ولا سنة ، ولا

__________________

(١) حقائق الأصول : ج ١ ص ١٢.

١٠٥

إجماعا. إذن فكيف يفرض أن موضوع علم الأصول هو الأدلة الأربعة مع أن موضوع المسألة في الأصول العملية شيء آخر غير الأدلة الأربعة؟.

وكذلك الكلام في أبحاث الاستلزامات لأن الموضوع في أبحاث المستلزمات هو التكليف ، فيقال : هل إن التكليف بإيجاب شيء يستلزم التكليف بإيجاب مقدمته ، أو لا يستلزم التكليف بإيجاب مقدمته؟ والتكليف هنا ليس ممّا ينطبق عليه عنوان الأدلة الأربعة ، سواء أخذت بما هي أدلة ، أو بما هي هي ، فإنّ التكليف كذلك ليس عقلا ، ولا آية ، ولا حديثا ، ولا إجماعا.

إذن موضوع المسألة في باب الاستلزامات كموضوع المسألة في باب الأصول العملية ، لا ينطبق عليه عنوان الأدلة الأربعة على كلا الوجهين بما هي أدلة ، أو بما هي هي. وكذلك الحال في مسائل الحجج والحجية ، مثلا يقال :

بأن الشهرة حجة ، وموضوع المسألة هو الشهرة ، والشهرة ليست مصداقا للأدلة الأربعة ، فلا هي عقل ، ولا كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع ، سواء أخذنا الأدلة بما هي أربعة ، أو بما هي هي. وعلى كل حال فالبحث عن حجية الشهرة ليس بحثا عن الأدلة الأربعة.

نعم يظهر الفرق بين هذين المسلكين ، عند البحث عن حجية ظواهر الكتاب الكريم ، فإنه إذا كان موضوع علم الأصول الأدلة الأربعة بما هي أدلة ، وبما هي حجة ، إذن فلا يمكن البحث عن حجيتها في علم الأصول ، لأن الحجية أخذت جزءا ، أو قيدا في موضوع العلم. وموضوع العلم لا يبحث عنه في ذلك العلم ، وأمّا إذا كان موضوع العلم ذوات الأدلة الأربعة ، لا بما هي حجة ، إذن لا بأس بأن يكون بحث حجية ظواهر الكتاب الكريم داخلا في مسائل علم الأصول.

إذن بالنسبة إلى أبحاث الحجج ، بعض أبحاث الحجج لا يدخل على كلا التصورين من قبيل البحث عن حجية الشهرة ، وبعض أبحاث الحجج يدخل على أحد التصورين ، ويخرج على التصور الآخر ، كبحث حجية ظواهر الكتاب الكريم.

وبعض أبحاث الحجج كبحث حجية خبر الواحد وقع الكلام فيه ، هل أنه

١٠٦

من قبيل حجية ظواهر الكتاب ، أو من قبيل حجية الشهرة؟.

فقيل من ناحية : إنه من قبيل حجية الشهرة ، فهو خارج على كلا التصورين ، سواء أكان موضوع علم الأصول هو الأدلة الأربعة بما هي أدلة أربعة ، أو بما هي هي ، لأن الخبر الواحد هو موضوع المسألة ، والخبر الواحد هنا ليس كتابا ، ولا سنة ، ولا إجماعا ، ولا عقلا. إذن فمسألة حجية خبر الواحد كمسألة حجية الشهرة ، خارجة على كلا التصورين.

وقيل من ناحية أخرى : إنّ مسألة حجية خبر الواحد كمسألة حجية ظواهر الكتاب الكريم ، فإنه بناء على كون موضوع علم الأصول هو ذوات الأدلة ، فحينئذ يكون هذا بحث أيضا عن حجية الأدلة الأربعة بأحد العنايات الموجودة في بطون الكتب كالكفاية ، وغيرها. ولعلّ أشهر هذه العنايات هو توسيع نطاق السنة ـ بأن يقال : بأن المراد من السنة ما يشمل الخبر الحاكي ـ فحينئذ يكون البحث عن حجية الخبر بحثا عن حجية السنّة.

ويبقى فقط مباحث الألفاظ ، فإنها تدخل في موضوع علم الأصول ، التي موضوعها اللفظ ، من قبيل ـ صيغة افعل ـ فيبحث في أنها تقتضي الوجوب أو لا! فإذا فرض أن موضوع المسألة هو ـ صيغة افعل ـ الواردة في الكتاب والسنّة ـ حينئذ يقال : إنّ هذا كتاب ، هذا سنّة.

هذا خلاصة الاعتراض الذي اعترض به على كون الأدلة الأربعة موضوعا لعلم الأصول. فيتلخص من هذا الاعتراض : إنه إذا جعلت الأدلة الأربعة موضوعا لعلم الأصول ، فهذا لا يناسب ، لا مع بحث الأصول العملية على كلا التصورين ، ولا مع بحث الاستلزامات على كلا التصورين ، ولا مع بحث الحجج لبعض مباحث الحجج على كلا التصورين ، وبالنسبة إلى بعضها على أحد التصورين نعم قد يناسب مباحث الألفاظ فقط.

١٠٧
١٠٨

الرد على كون الأدلة الأربعة موضوعا

لعلم الأصول

بحسب الحقيقة إنّ الإشكال المتقدم على كون الأدلة الأربعة موضوعا لعلم الأصول ، لا أساس له من الصحة ؛ حيث أن هذا الإشكال نشأ من الجمود في مقام تطبيق قانون موضوع العلم. وتوضيح أن هذا الإشكال غير صحيح يتبين ببيان عدة أمور :

الأمر الأول : إنّ هذا الإشكال نشأ من الجمود في مقام تطبيق قانون موضوع العلم ، حيث أنهم في مقام اقتناص موضوع علم الأصول ، كانوا يفتشون عن موضوعات المسائل في علم الأصول حسب تدوينها في الخارج ، ليجدوا هل أنه يوجد عنوان كلي جامع بين موضوعات المسائل حسب تدوينها ؛ فيرون مثلا أن خبر الواحد حجة ، وصيغة (افعل) ظاهرة في الوجوب ، والعقل يحكم بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، والشك في التكليف مجرى للبراءة. إذن فما هو الجامع بين هذه العناوين؟

وحيث أنهم أرادوا أن ينتزعوا الجامع من هذه العناوين والمسائل بحسب تدوينها الخارجي ، وقعوا في هذا الإشكال. ونحن قد أشرنا سابقا بأن هذا المنوال لو كان متبعا في الفلسفة العالية لتعذر إيجاد موضوع لها ، فضلا عن الأصول ، فإنّه في الفلسفة العالية لو أريد الحصول على موضوع للفلسفة العالية بلحاظ موضوعات المسائل حسب تدوينها الخارجي ، لما حصلنا على جامع أيضا لتعدد موضوعات مسائلها كما في مقولة العقل موجود ، النفس موجود ، الحركة في الكيف موجود ، الحركة في الكم موجود ، الفلك موجود. وهكذا لو أردنا أن نلاحظ موضوعات مسائل الفلسفة العالية حسب تدوينها ، لما كان لها إذن موضوع ، وإنما كان لها موضوع باعتبار أن موضوع العلم لا ينتزع بلحاظ

١٠٩

تدوين مسائله ، بل بلحاظ روح مسائله ووضوحها. وفي الفلسفة العالية قالوا بأن موضوع العلم هو الوجود المطلق بما هو وجود ، وعكسوا التدوين فقالوا بأن الجوهر موجود يعني الوجود جوهر ، وهكذا الوجود عقل ، والوجود نفس ، إذن فالوجود هو الجامع. إذن فنحن في مقام انتزاع موضوع العلم لا نجمد على موضوعات المسائل حسب تدوينها الخارجي لننتزع موضوعا بحسب التدوين ، الفعلي الخارجي للمسألة وإنما الميزان في اقتناص موضوع العلم هو أن يكون منطبقا على ما هو روح الموضوع في المسألة ، بحسب تدوينها الخارجي الفعلي.

الأمر الثاني : هو أن موضوع العلم ، وإن كان يبحث في ذلك العلم عن عوارضه ، ولكن ليس المقصود في البحث عن عوارضه أن يكون نسبته إلى محمولات مسائل ذلك العلم نسبة المحل إلى عرضه ، لأننا أوضحنا أن المقصود من العرض في المقام العروض بلحاظ المنشئية والاستتباع ، لا بلحاظ المحلية ـ فليس المقصود من العروض الحالّة ـ حيث تكون نسبة محمولات المسائل إلى موضوع العلم نسبة الأحوال إلى محلّها ، والأعراض إلى مصبّها ، بل قد تكون نسبة موضوع العلم إلى محمولات المسائل نسبة العلة إلى معلولاتها ، والمؤثر إلى آثاره ؛ بأن يبحث في علم عن النور مثلا ، فيتكلم عن آثار النور ومعلولاته ، ونتائجه ، فلا يلزم أن تكون محمولات المسائل أعراضا بمعنى أحوالا ثابتة ، بل بمعنى نتائج وشئون وتبعات ، ولو كانت هذه التبعية بلحاظ المنشئية ، لا بلحاظ المحلية.

الأمر الثالث : إن مسائل علم الأصول كما تبيّن في تعريف علم الأصول ، هي عبارة عن القواعد المشتركة في القياس الفقهي ـ أي في الاستنباط ـ وكان المقصود كما سبق ، من القياس الفقهي ـ يعني القياس الذي يقيم الحجة ، وينجّز ، ويعذّر عن الواقع ، هذا القياس المنجز والمعذر ، كلّ ما يكون قاعدة مشتركة فيه فهي قاعدة أصولية ، وحيث أن كل مسألة من مسائل علم الأصول إنما تكون دخيلة في قياس التنجيز والتعذير بوجودها الواصل ـ لا بوجودها النفس الأمري ـ ولهذا بحسب الحقيقة فإنّ القاعدة الأصولية عبارة عن الوجود الواصل ـ لا الوجود النفس الأمري ـ.

١١٠

فمثلا حجية خبر الواحد ـ لو كان المولى يجعل الحجية للخبر الواحد ـ ولم نستطع إثباتها بحسب مقام الإثبات ، فلا يكون لها أثر في التنجيز والتعذير ، وإنما تكون منجزة ، وحجة بوجودها الواصل ، لا بوجودها الواقعي. فالقواعد الأصولية بحسب الحقيقة هي إثباتات هذه العناوين ـ يعني إثبات حجية خبر الواحد ـ ـ لا ذات حجية الخبر الواحد في اللوح المحفوظ ـ لأن ذات حجية خبر الواحد في اللوح المحفوظ ، إذا لم يثبت ، فبحسب مقام الإثبات لا يكون واقعا في قياس التنجيز والتعذير ، وإنما يقع في قياس التنجيز والتعذير بوجوده الإثباتي ، لا بوجوده الثبوتي.

فإذا اتضحت هذه الأمور الثلاثة ، يتضح حينئذ أن ما ذكره المتقدمون من أن موضوع علم الأصول هو الأدلة الأربعة في غاية الوجاهة ، وذلك لأن علم الأصول هو العلم بإثباتات القواعد المشتركة في القياس الفقهي ، وحينئذ لا بد من فرض حجة ومرجع مفروغ عن حجيته قبل علم الأصول ، لكي يكون هو الواسطة في إثبات هذه القواعد المشتركة ، لأنه لا يصح أن نثبت القاعدة المشتركة بواحدة مثلها ، ولا القواعد المشتركة بواحدة منها.

إذن فلا بد لإثبات هذه القواعد المشتركة من فرض مرجع وحجة فوقانية ، ثابتة حجيتها قبل هذا العلم ، ويكون ذاك المرجع الفوقاني هو المرجع في إثبات هذه القواعد المشتركة ، إمّا مباشرة أو بالواسطة ، إذن ما هو ذاك المرجع الذي تكون حجيته ثابتة قبل علم الأصول؟ وفي علم الأصول نثبت به القواعد المشتركة؟.

فالقدماء كانوا يقولون : إن المصادر الأربعة مصادر مفروغ عن حجيّتها قبل علم الأصول يعني أنه لا كلام في حجية العقل ، ولا كلام في حجية السّنة ، ولا كلام في حجية الإجماع. وبهذه المصادر نثبت القواعد المشتركة إمّا بواسطة وإمّا بلا واسطة بل مباشرة ؛ مثلا قاعدة الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته نثبتها بالعقل ، وقاعدة البراءة أو حجية خبر الواحد : نثبتها إما بالعقل ، أو بالإجماع ، أو بالسنّة ، أو بالكتاب.

إذن تمام قواعد علم الأصول لا بد من الانتهاء في إثباتها إلى أحد هذه

١١١

الأدلة الأربعة المفروض حجيتها في المرتبة السابقة على علم الأصول.

وبناء على هذا يصح أن يقال : بأن موضوع علم الأصول هو هذه الأدلة الأربعة ، ومحمولات المسائل في علم الأصول هو إثبات هذه الأدلة الأربعة للقواعد المشتركة.

وقد بيّنا فيما سبق أنّ المحمول لا يلزم أن تكون نسبته إلى الموضوع نسبة الحالّ إلى المحل ، بل نسبة المعلول إلى العلّة ، وفي المقام الأدلة الأربعة موضوع لعلم الأصول من حيث أنه يتوصل بها لإثبات قاعدة مشتركة ، سنخ ما يقال في علم المنطق إنّ موضوع علم المنطق هو المعلوم التصوري والمعلوم التصديقي من حيث يتوصل به إلى مجهول تصوري أو مجهول تصديقي ؛ وهنا يقال : إن موضوع علم الأصول هو الأدلة الأربعة من حيث إثباتها للقواعد المشتركة ، أو إثبات واحدة من القواعد المشتركة.

وبناء على هذا فلا يأتي واحد من الإشكالات السابقة وذلك لأنها كانت مبنية على النظر إلى تدوين المسألة ، لأنّ المسألة هكذا تقول ـ الشهرة حجة ، الشك في التكليف مجرى البراءة. إذن فموضوع المسألة هو الشهرة ، هو الشك في التكليف ـ بينما ليس هذا هو ميزان المطلب ؛ بل موضوع المسألة روحا ودقة دائما هو الأدلة الأربعة ، إما بلا واسطة ، أو مع الواسطة ، ـ فعند ما نبحث في أن الشهرة حجة أو لا ـ يعني هل أن أحد الأدلة الأربعة يثبت حجية الشهرة أو لا يثبتها لأن ما يثبت به القاعدة المشتركة منحصر في الأدلة الأربعة.

إذن فالبحث دائما يقع عن خصوصيات الأدلة الأربعة وشئونها ، لكن شئونها لا بما هي كتاب معجز ، ولا بما هي سنّة بليغة نبوية ، ولا بما هو عقل مجرد عن المادة. فإن هذا بحث يرجع فيه إلى علوم أخرى ؛ بل شئونها بما هي مستدعية لإثبات قواعد مشتركة في الفقه ، فكما أن المنطقي يبحث عن المعلومات التصورية والتصديقية من حيث شأن واحد من شئونها ، وهو شأن إيصالها إلى مجهول تصوري ، أو مجهول تصديقي ـ لا من حيث هويتها وتجردها عن النفس ، وعن المادة ، ونحو ذلك ، بل من حيث الإيصال إلى مجهول تصوري ، أو مجهول تصديقي ـ كذلك العالم الأصولي فإنه يبحث عن

١١٢

الأدلة الأربعة من حيث إيصالها إلى مجهول تصديقي من القواعد المشتركة في الفقه.

إذن فكون الأدلة الأربعة ليست منطبقة على موضوعات المسائل حسب تدوينها الخارجي ، هذا لا يؤدي إلى الإشكال في المقام ، وإلّا لأثبت إشكالا في غير هذا المقام أيضا ، وحتى في الفلسفة العالية.

وإنما روح المطلب وحقيقته ، كما نقول : من أن الأصولي عند ما يدخل في علم الأصول ليس معه رأس مال إلّا الأدلة الأربعة ـ الكتاب ، والسنّة ، والعقل ، والإجماع ـ وإن كنّا لا نقبل بأن يكون حجية الإجماع قبل علم الأصول بل إنّ حجيته بعد علم الأصول.

إذن فالعالم الأصولي يبحث عن إثبات هذه الأدلة الأربعة وكيفية التوصل بها إلى القواعد المشتركة في الاستنباط ، وهذا هو معنى أن الأدلة الأربعة هي موضوع علم الأصول ، وهذا الإشكال كالإشكالات السابقة نشأ من الجمود على الألفاظ والعناوين ، دون الالتفات إلى روح المطلب.

ومن المحتمل قويا أن أولئك الذين قيّدوا وقالوا : بأن موضوع علم الأصول هو الأدلة الأربعة بما هي أدلة ، إنما كان مقصودهم هذا البيان ، يعني الأدلّة الأربعة من حيث أنّه يتوصل بها إلى مجهول تصديقي شرعي ، يعني إلى قاعدة مشتركة في القياس الفقهي. وهذا أيضا تنبيه على نكتة صحيحة في نفسها.

هذا هو تمام الكلام في بيان موضوع علم الأصول ، وهكذا تم الكلام في الجهة الأولى ، كما أنه تمّ الكلام في الجهة الثانية ، وبقي عندنا الجهة الثالثة وهي تقسيم مباحث علم الأصول ، كل هذه الجهات الثلاثة يبحث عنها في الأمر الأول ، كما نوّهنا إلى ذلك في بداية الكلام حول علم الأصول.

١١٣
١١٤

الجهة الثالثة

من الأمر الأول

تقسيم مباحث علم الأصول

ذكر السيد الأستاذ في مقام تقسيم مباحث علم الأصول ، أن القواعد الأصولية تنقسم إلى أربعة أقسام :

القسم الأول : القواعد التي تؤدي إلى العلم الوجداني بثبوت الحكم ، وهي أبحاث الاستلزامات كقاعدة الملازمة بين وجوب شيء ووجوب ضدّه أو وجوب مقدمته أو حرمة ضده. فإن هذه الملازمة على فرض ثبوتها توجب العلم الوجداني بالحكم.

القسم الثاني : القواعد التي توجب العلم التعبدي بالحكم ، لا العلم الوجداني. وهذا القسم يدخل تحته صنفان :

أ ـ الصنف الأول : يكون البحث فيه عن الصغرى ـ صغرى الحجة ، كأن يقال : إن صيغة (افعل) ظاهرة في الوجوب والعام المخصّص ظاهر في تمام الباقي.

ب ـ الصنف الثاني : يكون البحث فيه عن كبرى الحجة ، لا صغرى الحجة ، أي البحث عن حجية الحجة ، من قبيل البحث عن حجية الظهور ـ كحجية ظهور الكتاب الكريم ، أو حجية الشهرة ، أو حجية خبر الواحد ، ونحو ذلك من الأبحاث المربوطة بكبرى الحجة.

هذان الصنفان يشكلان القسم الثاني ، فعنوان هذا القسم هو القواعد التي تؤدي إلى العلم التعبدي بالحكم سواء أكان البحث فيها عن صغرى الحجة كما

١١٥

في الصنف الأول ، أو عن كبرى الحجة كما في الصنف الثاني.

القسم الثالث : القواعد التي تقرر الوظائف العملية الشرعية من قبيل أصالة البراءة الشرعية أو أصالة الاحتياط الشرعي ، فإن الفقيه إذا لم يجد قاعدة توجب العلم الوجداني ، ولا العلم التعبدي ، رجع إلى القواعد التي تقرر الوظائف العملية الشرعية من قبيل البراءة والاحتياط الشرعيين.

القسم الرابع : الأصول العملية العقلية ، التي ينتهي إليها الفقيه إذا لم يجد القاعدة التي تقرر الوظيفة العملية الشرعية ، كقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، أو قاعدة وجوب الاحتياط ، أو أصالة الاشتغال العقلي (١). هذه هي الأقسام الأربعة لمباحث علم الأصول.

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه : ج ١ ص ٦ ـ ٧ ـ ٨ فياض. أجود التقريرات ـ الخوئي : ص ٩. فوائد الأصول ـ الكاظمي : ص ٨.

١١٦

تحقيق الكلام في مقام تقسيم

مباحث علم الأصول

وتحقيق الكلام في المقام أننا نتصور لحاظين للتقسيم :

اللحاظ الأول : أن يكون التقسيم بلحاظ عملية الاستنباط ، بمعنى أننا نريد أن نحدد ونميز في التقسيم ، القواعد التي تستند إليها عملية الاستنباط في المرتبة الأولى ، وفي المرتبة الثانية ، وفي المرتبة الثالثة ، والرابعة ، بدعوى أن عملية الاستنباط تستند إلى أربع رتب من القواعد ، لا ينتهي إلى الثانية منها ، إلّا بعد فقدان الأولى ، فيكون التقسيم بلحاظ عملية الاستنباط ، بدعوى أن هذه الأقسام الأربعة مترتبة ترتبا طوليا بلحاظ عملية الاستنباط.

فالفقيه عند ما يريد أن يستنبط يفتش عن القسم الأول ، فإن لم يجد فإلى الثاني ، فإن لم يجد فإلى الثالث ، وإلّا فإلى الرابع.

هذا لحاظ في التقسيم ، وهو لحاظ عملية الاستنباط ، والترتب الطولي بين بعض هذه الأقسام وبعضها الآخر بالنسبة إلى عملية الاستنباط. ولعلّ ظاهر كلام السيد الأستاذ هو النظر إلى هذا اللحاظ.

ويرد على هذا التقسيم عدة إشكالات :

أولا : إنّ القسم الثاني ليس مرتبا وفي طول فقدان القسم الأول ، يعني إنّ القسم الأول هو القواعد التي توجب العلم الوجداني بالحكم ، والقسم الثاني هو القواعد التي توجب العلم التعبدي ، والحجية الشرعية بالحكم ، وهذا القسم الثاني ليس موقوفا على فقدان القسم الأول ، وذلك بناء على ما هو المشهور من أن حجية الأمارات غير مشروطة بانسداد باب العلم ؛ أي إنّ الأمارة حجة سواء أكان يمكن تحصيل العلم الوجداني على الحكم الشرعي ، أو كان لا يمكن

١١٧

تحصيل العلم الوجداني على الحكم الشرعي ، فليس هناك طولية بين القسم الثاني والقسم الأول بحيث أن الفقيه يجب عليه أن يفحص وييأس من الحصول على قاعدة توجب العلم الوجداني ، وبعد هذا ينتهي إلى الأمارات والحجج ؛ هذا المطلب غير لازم بناء على ما هو المشهور من أن حجية الأمارة غير مشروطة بعدم التمكن من تحصيل العلم.

ثانيا : إنّه إذا كان الملحوظ هو الترتب الطولي بلحاظ عملية الاستنباط فكان لا بد وأن تجعل العلوم التعبدية ـ التي جعلت قسما ثانيا ـ أيضا ذات مراتب ، لأن بعضها مترتب على عدم بعضها الآخر ، إذا كان الملحوظ هو الطولية ، فمثلا العلم التعبدي المعمول في طرق الدلالة مقدم على العلم التعبدي المعمول في طرف السند. وتوضيح ذلك أنه لو كان يوجد عندنا قرآن كريم يكون ظاهره الوجوب ، وعندنا خبر واحد ظني السند ، يكون ظاهره الحرمة ؛ فهنا في القرآن الكريم علم تعبدي في جانب الدلالة ، لأن سنده وجداني ، وفي خبر الواحد علم تعبدي في جانب السند لأنّ سنده ظني ؛ والمختار وفاقا للسيد الأستاذ أن العلم التعبدي المجعول في طرف الدلالة ، مقدّم على العلم التعبدي المجعول في طرف السند.

ولهذا نبني في الفقه أن الخبر الواحد لا يعارضه ظهور الآية الكريمة ، وأن الفقيه يجب عليه أولا أن يعمل بظهور الآية فإن لم يجد ، يرجع إلى ظهور الرواية. إذن فهذا ترتب بين العلم التعبدي المجعول بلحاظ الدلالة والعلم التعبدي المجعول بلحاظ السند ، مع أن هذه الطولية لم تبرز في المقام.

ثم ما ذا يصنع هذا التقسيم مع الاستصحاب؟ مع أن الاستصحاب في طول الأمارات وقبل الأصول ، فكأنه أيضا مرتبة بذاتها بحيث يكون بعد فقد الأمارات ، ويكون مقدّما على أصالة البراءة ، وأصالة الاحتياط ؛ فلو كان الملحوظ هو استيعاب الرتب الطولية والترتب الطولي للقواعد بلحاظ عملية الاستنباط ، إذن لكان من المناسب أن يجعل الاستصحاب مرتبة برأسه أيضا باعتباره حدّا وسطا ومرتبة وسطا في عملية الاستنباط ، فهو بعد الأمارات وقبل الأصول.

١١٨

ثالثا : إنّ ما فرض من الطولية بين الأصول العملية العقلية ، والأصول العملية الشرعية ، ليس صحيحا على الإطلاق ، فإنّ بعض الأصول العملية العقلية يكون قبل الأصل العملي الشرعي ، لا بعد فقدان الأصل العملي الشرعي :

وتوضيح ذلك ، أنه عندنا أصلان :

أ ـ أصالة البراءة في موارد الشبهة البدوية.

ب ـ أصالة الاشتغال في أطراف العلم الوجداني.

أمّا أصالة الاشتغال ففيها مبنيان ومذهبان :

أ ـ المبنى الأول : أن تكون أصالة الاشتغال التي يحكم بها العقل في أطراف العلم الإجمالي أصلا تعليقيا بمعنى أن العقل يحكم بأصالة الاشتغال معلقا على عدم مجيء الرخصة من قبل الشارع ، فلو جاءت الرخصة من قبل الشارع ، ارتفع موضوع حكم العقل بأصالة الاشتغال التعليقية.

ب ـ المبنى الثاني في أصالة الاشتغال : هو أن العقل يحكم في أطراف العلم الإجمالي بأصالة الاشتغال تنجيزيا لا تعليقيا ، يعني لا بمعنى كونه مشروطا بعدم مجيء الترخيص من قبل الشارع ، بل العقل يحكم بأصالة الاشتغال رأسا وبتّا.

وحينئذ أصالة الاشتغال التعليقية يصح أن يقال بأنها في طول البراءة الشرعية ، وفي طول الأصول الشرعية ، يعني أن الفقيه إن وجد براءة شرعية فلا تصل به النوبة إلى أصالة الاشتغال ، وإن لم يجد براءة شرعية انتهى إلى أصالة الاشتغال. هذه أصالة الاشتغال التعليقية.

وأمّا أصالة الاشتغال التنجيزية ، فهذه مقدّمة على البراءة الشرعية ؛ يعني أن أصالة الاشتغال التنجيزية : أن العقل يحكم بلزوم الاحتياط على كل حال ، ومع حكم العقل بذلك يستحيل جعل البراءة من قبل الشارع ، لأنها تكون مناقضة لحكم العقل. إذن فتكون البراءة الشرعية في طول عدمه ـ لا العكس ، وبهذا يتضح أن الطولية متعاكسة هنا ـ فأصالة الاشتغال التعليقية في طول عدم البراءة

١١٩

الشرعية ، والبراءة الشرعية في طول عدم أصالة الاشتغال التنجيزية.

إذن فالأصول العملية العقلية ليس تمام صيغها ومدّعياتها في علم الأصول تقع في القسم الرابع ، يعني تقع في طول فقدان الأصول الشرعية ؛ بل بعض صيغها وبعض مدّعياتها ، تكون حاكمة على الأصول العملية الشرعية. فالطولية على الإطلاق غير مسلمة بين القسم الرابع والقسم الثالث.

ومن هذا كله يتضح أن التقسيم إذا كان الملحوظ فيه هو بيان المراتب الطولية للقواعد الأصولية في عملية الاستنباط ، إذن فهذا التقسيم ليس مفيدا ، وذلك لأن القسم الثاني ليس في طول الأول ، وكذلك لأن القسم الثاني في داخله يوجد مراتب طولية أيضا ، وثالثا لأن القسم الرابع ليس في طول الثالث على الإطلاق.

هذه هي ملخص الإشكالات الثلاثة ، وبهذا انتهى الكلام في اللحاظ الأول.

اللحاظ الثاني : هو أن نقسم مباحث علم الأصول بلحاظ المناسبات البحثية ، لا بلحاظ عملية الاستنباط ، بل بلحاظ مناسبات بحثية راجعة إلى نفس علم الأصول بقطع النظر عن الفقيه ، وعملية الاستنباط في الفقه. ومعنى تقسيم علم الأصول بلحاظ مناسبات بحثية ، يعني إذا كان علم الأصول يتكون من مجموعات ، وكل مجموعة من هذه المجموعات تتميز عن غيرها من المجموعات بمبادئ تصورية ، ومبادئ تصديقية ، تختلف بها عن المبادئ التصورية والمبادئ التصديقية التي تحتاجها المجموعة الأخرى من مجموعات علم الأصول ، حينئذ يصح أن نقسم علم الأصول إلى مجموعات ويكون نكتة التقسيم أن كل مجموعة من هذه المجموعات ، وكل قسم من هذه الأقسام ، يتميز بمبادئ تصورية وتصديقية عن بقية الأقسام.

فإن كان هذا هو اللحاظ ، إذن فهذا اللحاظ المتبع في هذا التقسيم المطلق المبهم ، لم يبرز بشكل مفصّل ، أنه كيف يتميز كل قسم من هذه الأقسام ، بمبادئ تصورية وتصديقية ، يختلف بها عن الأقسام الأخرى. ونحن إذا أردنا بهذا اللحاظ أن نقسم علم الأصول ينبغي أن نقول : إن البحث في علم الأصول

١٢٠