بحوث في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٢٨

نقض التعريف الذي ذكره المحقق العراقي لعلم الأصول

تقدم في كلام المحقق العراقي أن المسألة الأصولية هي كل مسألة تكون ناظرة مباشرة إلى إثبات حكم شرعي ، أو خصوصية فيه ، فهي قاعدة أصولية ، وكل قاعدة لا تكون كذلك فهي ليست قاعدة أصولية إلّا أن يكون لها نظر مباشر إلى الحكم ، أو خصوصية فيه ، فمثلا صيغة (افعل) وظهورها في الوجوب ناظرة مباشرة إلى إثبات أصل الحكم الشرعي ، وهذا غير كلمة (الصعيد) فإنه يبحث فيها هل أن هذه الكلمة موضوعة في لغة العرب للتراب ، أو موضوعة لمطلق وجه الأرض في قوله تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) فإنّ البحث في هذه الكلمة على ما تقدم ، وإن كان دخيلا في استنباط الحكم الشرعي ، وذلك فيما إذا كانت كلمة (الصعيد) موضوعا لحكم شرعي ، إلّا أنه لا ينفع في كونها قاعدة أصولية ، لأنّ البحث في نفس كلمة (صعيد) غير متعرض مباشرة لإثبات أصل الحكم ، أو خصوصية فيه.

بل تمام ما تتعرض له هذه الكلمة هو تشخيص مدلول هذه الكلمة من حيث هي ، بقطع النظر عن وقوعها موضوعا لحكم شرعي.

إذن فهي مسألة لغوية صرفة. وهكذا الحال في وثاقة زرارة مثلا ، فإنّ وثاقته بنفسها غير متعرضة لإثبات أصل الحكم ، أو خصوصية فيه ، وإن كان لها دخل في مقدمات استنباط الحكم.

فإذن تعريف المحقق العراقي القائل : بأن كل قاعدة أصولية لا بد وأن تتعرض بنفسها مباشرة إلى إثبات أصل الحكم ، أو خصوصية فيه وعليه ، فكل قاعدة تكون داخلة في مقدمات الاستنباط دخولا غير مباشر لإثبات أصل الحكم بنفسها ، أو خصوصية فيه ، فهي ليست قاعدة أصولية.

٤١

إلّا أنّ هذا التعريف غير جامع ، كما أنه غير مانع ، ولذلك يتوجه عليه اعتراضات نذكر في المقام بعضها :

الاعتراض الأول :

هو أنه يوجد هنالك قواعد تذكر في الفقه وهذه القواعد تتعرض بنفسها لإثبات أصل الحكم الشرعي ، أو خصوصية فيه ، فهي إذن واجدة لنفس النكتة التي ذكرها المحقق العراقي وعلى الرغم من هذا فهي لم تذكر في الأصول ، بل من المتفق عليه أنها ليست مسألة أصولية.

فلو كان تمام الملاك في القاعدة الأصولية هي النكتة التي ذكرها المحقق العراقي لكانت هذه القاعدة الفقهية أصولية لا محالة ، وعلى سبيل المثال نذكر اثنتين منها :

أ ـ المثال الأول : هل أن دليل الأمر إذا نسخ من الوجوب يبقى دالّا على الجواز؟ أو لا يبقى دالّا على الجواز؟.

فهنالك من يقول بأن دليل الأمر بعد نسخ الوجوب تبقى دلالته على الجواز ، وذلك بدعوى أن دليل الأمر يدلّ على شيئين : كلي الجواز ، وخصوصية الوجوب. وهنا إذا نسخ الوجوب فنسخه لا يضر ببقاء أصل الجواز ، فالجواز إذن يبقى ولا يذهب مع الوجوب في منسوخيته وهذا بحث أصولي قطعا.

وهنا بحث فقهي آخر ذكر في (المكاسب) في بحث المقبوض بالعقد الفاسد ، بحث فيه ، هل أن أدلة الإمضاء من قبيل (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (١) (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (٢) تثبت كون السلعة مثلا مضمونة بالثمن المقرر في مقام المعاملة؟ فإذا باع كتابا بدينار مثلا ، فمقتضى أدلة الإمضاء أن يكون الكتاب مضمونا على المشتري بالدينار.

فالقاعدة هذه تثبت أولا مضمونية الكتاب ، وتثبت ثانيا كونه مضمونا بالثمن المقرر وهو الدينار.

فإذا ثبت بطلان المعاملة ، وأن الثمن لم يكن ثمنا للكتاب ، فهل يمكن أن

__________________

(١) سورة المائدة : ١.

(٢) سورة البقرة : ٢٧٥.

٤٢

نثبت بدليل الإمضاء أصل الضمان ، أو لا يمكن؟.

هنالك من يدّعي إثبات أصل الضمان بدليل الإمضاء وذلك بدعوى أن دليل الإمضاء يثبت أمرين :

كلي الضمان ، وأن السلعة مضمونة بالثمن ، فإذا ثبت أن المعاملة فاسدة ، يعني ثبت أنها غير مضمونة بالثمن ، فيبقى أصل الضمان ، أي تبقى السلعة مضمونة بالجملة بدليل الإمضاء ولو بالمثل ، أو القيمة.

وهذا البحث سنخ بحث أن دليل الأمر بعد نسخ الوجوب هل يبقى دالّا على إثبات أصل الجواز ، أو لا يبقى؟.

فهذا بحث أصولي ناظر إلى إثبات نفس الحكم وكذلك البحث الفقهي التالي وهو : هل أن دليل الإمضاء إذا تبين عدم صحة المعاملة ، وعدم الضمان بالثمن ، يبقى دالّا على إثبات أصل الضمان ، أو لا يبقى؟ وهذا أيضا بحث في قاعدة فقهية استدلالية ناظرة إلى إثبات أصل الحكم.

فلا بد إذن من تحصيل فرق بين القاعدتين. ولا يكفي إبراز تلك النكتة التي ذكرها المحقق العراقي ، وهي كون القاعدة الأصولية هي التي تكون ناظرة إلى إثبات أصل الحكم ، لأنّ كثيرا من القواعد الفقهية تشترك في النكتة ، في حين أنها قواعد فقهية مسلمة. فلا بد من إبراز فارق آخر يكون وحده كافيا لحلّ هذه المشاكل ، وبلا حاجة إلى دعوى ضم كون القاعدة الأصولية ناظرة إلى إثبات نفس الحكم.

ب ـ المثال الثاني : وهو مسألة فقهية تبحث في أنّ الدليل الذي يدلّ على مطهّرية شيء ، هل يدلّ ذلك الدليل بالملازمة على طهارة ذلك الشيء ، أو لا يدل؟.

ذهب بعضهم إلى أن هذا الدليل يدلّ بالملازمة على طهارة ذلك الشيء. وبناء عليه تكون هذه المسألة الفقهية ناظرة إلى إثبات أصل الحكم ـ وهو الطهارة فإنها حكم شرعي وضعي ـ.

والتعريف الذي اختاره المحقق العراقي شامل لهذه المسألة ، فيجب أن

٤٣

تكون من مسائل علم الأصول ، في حين أنها مسألة فقهية متسالم عليها. فكما أن هذا التعريف شامل لبعض المباحث الأصولية كمسألة أن الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده ، أو لا يقتضي النهي عن ضده ، فالقائل بالاقتضاء يثبت فساد العبادة بالملازمة ما بين الأمر بالشيء والنهي عن ضده ، وذلك كالصلاة والإزالة. فعلى القول بالاقتضاء يأتي القول بفساد الصلاة بالملازمة.

وكذلك بحث مقدمة الواجب فقد بحث فيها بأن الأمر بالشيء هل يستلزم وجوب المقدمة؟ فالقائل بوجوب المقدمة يستدل بمسألة أن الأمر بالشيء أمر بمقدمته ، أو يستلزم وجوب مقدمته.

وإذن فكما أن التعريف يشمل مثل هذه المباحث الأصولية التي يكون نظرها إلى إثبات أصل الحكم ، فكذلك يشمل هذه المباحث الفقهية والمسائل الفقهية التي تباشر إثبات أصل الحكم ، أو خصوصية فيه بنفسها.

الاعتراض الثاني :

وهذا الاعتراض مبني على التصور المشهوري للثمرة في بحث أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده.

وقد تقدم أن المشهور في مقام تصوير الحكم المستنبط من هذه المسألة ، هو أنه إذا كان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ، فالصلاة تكون باطلة ، وذلك لأنها منهي عنها ، ومأمور بالضد الآخر. وتكون صحيحة ، لأنّ الأمر بالإزالة لا يقتضي النهي عن العبادة.

ولكن هذا غير صحيح ، إذ يمكن أن يقال بأن قاعدة أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ، أو لا يقتضي النهي عن ضده ـ ليست ناظرة بنفسها إلى إثبات الصحة والبطلان ، ولا تفيد بنفسها صحة الصلاة أو بطلانها ، وإنما الصلاة تكون باطلة بمفاد دليل ـ أن النهي عن العبادة يقتضي فسادها ـ فالبطلان مدلول هذا القانون ، وليس مدلولا لقانون ـ أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ـ إذ إن هذا القانون ليس ناظرا إلى بطلان الصلاة ، بل بعد وجود هذا القانون نرجع إلى قانون آخر وهو قانون أن ـ النهي عن العبادة يقتضي فسادها ـ وهذا القانون

٤٤

هو الناظر إلى الصحة والبطلان ، وإلى إثبات اصل الحكم.

وكذلك الميزان الذي أفاده المحقق العراقي لا ينطبق على القول بعدم الاقتضاء ، فإن عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه ، ليس هو المصحح للصلاة ، بل الناظر إلى صحة الصلاة حينئذ هو إطلاق خطاب (صلّ) لأنّ هذا الإطلاق لا يمنعه عن إثبات صحة الصلاة إلّا النهي عنها ، والمفروض أن لا نهي في المقام.

إذن فعدم الاقتضاء ليس مفاده بنفسه صحة الصلاة ، وإنما الصحة مستفادة من إطلاق خطاب (صلّ) بعد فرض عدم المانع من هذا الإطلاق.

وكذلك الاقتضاء ليس مفاده بنفسه بطلان الصلاة ، وإنما البطلان مستفاد من قانون أن ـ النهي عن العبادة يقتضي فسادها ـ.

إذن فالنكتة التي ذكرها المحقق العراقي ميزانا للقاعدة الأصولية ، وهي كونها ناظرة إلى إثبات أصل الحكم بنفسها ، هذه النكتة غير موجودة في قاعدة أن ـ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ـ بناء على أن الحكم المستنبط من هذه القاعدة هو الحكم بالصحة والبطلان ، بل الصحة والبطلان مستفادان من قانونين ودليلين آخرين غير هذه القاعدة.

الاعتراض الثالث :

وهذا الاعتراض يقول بأن التعريف شامل للقواعد المنطقية باعتبار أنها تكون ناظرة إلى إثبات أصل الحكم عند ما تقع في مقام الاستنباط ، فمثلا حينما يرتب الفقيه قياسا يستنبط به وجوب السورة فيقول : وجوب السورة قام عليه خبر الثقة ، وكل ما قام عليه خبر الثقة فهو ثابت تعبدا ، فوجوب السورة ثابت تعبدا.

وهذه المقدمة المنطقية قد أثبت بها الحكم فكان نظرها إلى إثبات أصل الحكم باعتبار أن مفاد الشكل الأول هو أنه إذا كان الحدّ الأصغر مصداقا للحدّ الأوسط ، وكان الحدّ الأوسط مصداقا للحدّ الأكبر ، فيكون الحد الأصغر مصداقا للحدّ الأكبر.

فنظر هذا الشكل إلى إثبات أصل الحكم ، أو إلى إثبات نتيجة هي هنا حكم

٤٥

شرعي ، وعليه : يكون التعريف الذي اختاره المحقق العراقي ، شاملا لمثل هذه القواعد المنطقية ، باعتبار نظرها إلى إثبات أصل الحكم ، والمفروض أنها قواعد منطقية ليست من علم الأصول ، فتعريفه غير مانع ، بل وغير جامع ، كما عرفت.

الاعتراض الرابع :

لقد ذكر المحقق العراقي أن المسألة والقاعدة الأصولية ، هي التي تكون ناظرة إلى إثبات أصل الحكم ، أو خصوصية فيه.

ونحن نسأل المحقق : ما هو المقصود بالإثبات؟ هل المقصود الإثبات اللفظي ، أو مطلق الإثبات سواء أكان لفظيا ، أو معنويا؟.

فإن كان مراده الإثبات اللفظي بالخصوص ، فحينئذ تخرج مباحث الاستلزامات عن علم الأصول ، وذلك كاستلزام الأمر بالشيء للنهي عن ضده ، وكاستلزام الأمر بالشيء للأمر بمقدمته ، وأمثال هذه المباحث ، فإنها ليس لها دلالة لفظية ، بل دلالتها معنوية مع أنه لا إشكال في أصوليتها.

وإن كان مراده مطلق الإثبات ، فحينئذ يلزم دخول بعض المسائل الرجالية في هذا التعريف ، وذلك كوثاقة الراوي ، لأنّ وثاقة الراوي دليل على صدقه ، وهذا يدلّ على ثبوت الحكم الذي نقله. فوثاقة الراوي ناظرة إلى إثبات أصل الحكم الشرعي إثباتا معنويا لا لفظيا كما هو ظاهر. فيلزم عليه أن تكون مشمولة للتعريف ، وتكون من مسائل علم الأصول ، في حين أنها خارجة عنه.

وبهذا يتبين أن ما ذكر من التعريفات الثلاثة ، لا يمكن المساعدة عليه. فلا بد من تعريف لعلم الأصول يكون جامعا مانعا ، لا ترد عليه هذه الإشكالات بكونه جامعا لجميع المسائل الأصولية ، ومانعا لدخول غيرها فيه ، ومقتدرا على تمييز مسائل هذا العلم عن غيره.

٤٦

تعريف علم الأصول الذي اختاره أستاذنا

السيد الصدر ـ دامت إفاضاته ـ

قال حفظه المولى :

علم الأصول : هو العلم بالعناصر المشتركة في الاستدلال الفقهي خاصة والتي يستعملها الفقيه أدلة على الجعل الشرعي.

وتوضيح ذلك :

إنّ نسبة علم الأصول إلى علم الفقه ، هو نسبة علم المنطق إلى جميع مسائل العلوم الأخرى ، فإنّ قاعدة الشكل الأول مثلا القائلة بأنه إذا كان الحد الأصغر مصداقا للحد الأوسط ، وكان الحد الأوسط مصداقا للحد الأكبر ، فالنتيجة : كان الحد الأصغر مصداقا للحد الأكبر ، فهذه قاعدة مشتركة بين جميع العلوم لم يؤخذ فيها مادة من هذا العلم دون ذلك العلم.

فمثل هذه القاعدة من حيث المادة مأخوذة (لا بشرط شيء) فيمكن أن يستدل بها في جميع العلوم ، نعم مواد هذه القاعدة تختلف باختلاف العلوم ، فالاستدلالات العلمية كلها فيها جهة اشتراك وجهة اختلاف ، فجهة الاشتراك عبارة عن القواعد التي تحدد كيفية الاستدلال كقاعدة إنتاج الشكل الأول ، وجهة الاختلاف عبارة عن القواعد التي تحدد مواد القياس ، فمثلا بالنسبة إلى العلوم الطبيعية يقال : هذا المعدن حديد ، وكل حديد يتمدد بالحرارة ، فالمعدن يتمدد بالحرارة.

ويقال كذلك بالنسبة للعلوم الرياضية :

عدد سبعة لا ينقسم إلّا على نفسه ، وكل ما لا ينقسم إلّا على نفسه فهو عدد أولي ، فعدد سبعة هو عدد أولي.

٤٧

فهنا جهة الاشتراك بين القياسين هي قاعدة الشكل الأول وجهة الاختلاف هي المواد المؤلف منها القياس الأول والثاني.

فإنّ المواد مختلفة ، لأنّ مواد القياس الأول هي ـ الحديد معدن ، ومواد القياس الثاني هي ـ عدد سبعة لا ينقسم إلّا على نفسه ـ.

فالحاصل : إنّ هناك قواعد مشتركة بين جميع الاستدلالات العلمية ، لأنها مأخوذة (لا بشرط) من حيث المادة ، وهناك قواعد يتميز بها كل علم عن الآخر ، لأنها مأخوذة (بشرط شيء) من حيث المادة.

وعلم المنطق وظيفته بيان تلك القواعد المشتركة المأخوذة (لا بشرط) من حيث المادة ، هذه هي نسبة علم المنطق إلى سائر العلوم ، ونفس هذه النسبة موجودة في علم الأصول بالنسبة إلى علم الفقه.

وبيان ذلك : إن الاستدلال الفقهي في أي باب كان ، فيه جهتان :

أ ـ إحداهما : قواعد مشتركة أخذت (لا بشرط) من حيث المادة.

ب ـ والثانية : قواعد أخذت (بشرط شيء) من حيث المادة.

فمثلا : حجية خبر الواحد من مقدمات الاستنباط ورواية زرارة الدالة على وجوب السورة مثلا ، هي أيضا من مقدمات الاستنباط ، إلّا أنّ حجية خبر الواحد من القواعد المشتركة في الاستدلال ، لأنها مأخوذة (لا بشرط) من حيث المادة ، لأنه يمكن أن يثبت بحجية خبر الواحد كثير من الأحكام غير وجوب السورة ، ففي كل مادة من فعل المكلّف يمكن أن يثبت الحكم فيها بحجية خبر الواحد.

وهذا بخلاف رواية زرارة المتضمنة لوجوب السورة ، فلا يثبت بها إلّا وجوب السورة ، ولا يثبت بها حكم الصوم مثلا.

فرواية زرارة من المقدمات المادية في الاستدلال الفقهي المأخوذة (بشرط شيء) ، وبها يتميز علم الحديث عن غيره من سائر العلوم بخلاف حجية خبر

٤٨

الواحد ، فإنها من المقدمات الصورية المشتركة في الاستدلال الفقهي ، وهذا معنى قولنا في التعريف : إنّ علم الأصول هو العلم بالقواعد المشتركة في الاستدلال الفقهي خاصة.

فكل مقدمة كانت دخيلة في الاستنباط ، وكانت مأخوذة على نحو (اللابشرط) من حيث المادة ، بحيث تصلح لأن تجري في كل فعل من أفعال المكلفين ، فهي مقدمة أصولية.

وكل مقدمة أخذت (بشرط شيء) من حيث المادة ، أي إنها لا تثبت إلّا حكم الموضوع الذي تعرضت له ، فهي مقدمة أجنبية عن علم الأصول.

هذا هو توضيح ما ذكرناه في التعريف ، ولا بد بعد ذلك من أن نبيّن شمول هذا التعريف لجميع مسائل علم الأصول ، وعدم كونه شاملا لغيرها من المسائل الأجنبية عنه.

والآن سوف نتعرض لكلا المقامين :

المقام الأول : شمولية التعريف لكل مسائل علم الأصول :

ويتضح ذلك بواسطة الاستقراء ، أي استقراء جميع القواعد الأصولية ، فإنّا لو استقرأناها كلها لوجدناها واجدة للنكتة المذكورة ، وهي كونها مأخوذة على نحو (اللابشرط) من حيث المادة ، أعني أفعال المكلفين.

ثم إن هذه القواعد والمقدمات المأخوذة على نحو (اللابشرط) من حيث المادة هي على قسمين :

القسم الأول : أن تكون مأخوذة (بشرط شيء) بالنسبة للحكم الذي يثبت بها ، فمثلا : ظهور صيغة (افعل) في الوجوب ، هي من حيث المادة مأخوذة على نحو (اللابشرط) لأنه يمكن أن يثبت بها وجوب أي فعل من أفعال المكلف ، ولكنها مأخوذة (بشرط) من حيث نوعية الحكم ، حيث أنه لا يمكن أن يثبت بها إلّا الوجوب ، فهي لا تثبت غيره من بقية الأحكام.

القسم الثاني : هو ما كان مأخوذا على نحو (اللابشرط) من الحيثيتين أي

٤٩

من حيث المادة ، ومن حيث نوع الحكم كالاستصحاب مثلا ، فيجري في كل فعل من أفعال المكلفين ، كما أنه لا يختص بنوع معين من الحكم ، فهو كما يثبت الوجوب يثبت الحرمة ، والكراهة ، وغيرها من الأحكام الخمسة.

والجامع بين هذين القسمين هو كونهما مأخوذين في الاستدلال على نحو (اللابشرط) من حيث المادة ، ويكفي في أصولية المسألة أن تكون كذلك من حيث المادة فقط ، وإن كانت مأخوذة (بشرط شيء) من حيث نوع الحكم.

المقام الثاني : عدم شمولية التعريف لغير المسائل الأصولية :

ويتضح ذلك بما يلي :

فإننا لو أخذنا مسائل علم الحديث ، أي المسائل الموجودة في الكتب الأربعة ، وهي عبارة عن الروايات ، نجد هذه المسائل لها دخل في الاستنباط ، إلّا أنّ هذا التعريف لا ينطبق عليها ، وذلك لأنها من حيث المادة مأخوذة على نحو ال (بشرط شيء) ، وذلك لأنّ الرواية الدالة على وجوب السورة ، لا يمكن أن يستفاد منها حرمة الصوم في العيدين. وحينئذ لا يصدق عليها أنها قاعدة مشتركة في الاستنباط الفقهي خاصة ، حيث قد عرفت أنها مأخوذة (بشرط شيء) من حيث المادة. فالحاصل : إن الرواية لا يستنبط منها إلّا في هذه المادة الخاصة التي تضمنتها ، وهي السورة. هذا بالنسبة إلى علم الحديث.

وكذلك بالنسبة لمسائل علم اللغة البحتة : فإنها خارجة عن هذا التعريف ، وذلك كلفظ (الصعيد) وأنه ظاهر في مطلق وجه الأرض ، أو خصوص التراب ، فإنّ هذه المسألة لا يثبت بها إلّا الحكم الذي أخذ في موضوعه لفظ (الصعيد). وأمّا ما عداه ممّا لم يؤخذ في موضوعه لفظ (الصعيد) ، فلا يثبت بها ، فهذه المسألة أيضا (بشرط شيء) من حيث المادة ، حيث لا يستنبط منها إلّا في هذه المادة الخاصة ـ أعني هذا الفعل الذي أخذ في موضوعه لفظ (الصعيد) ـ وحينئذ فلا يصدق عليها أنها قاعدة مشتركة في الاستنباط الفقهي خاصة.

وهذا هو الذي جعل علماء الأصول يتعرضون لبعض المسائل اللغوية في الأصول دون بعضها الآخر. فنراهم قد تعرضوا لكل مسألة كانت مأخوذة على

٥٠

نحو (اللابشرط) من حيث المادة كمسألة ظهور الصيغة في الوجوب ، فإنها مسألة لغوية تعرض لها علماء الأصول في كتب الأصول باعتبار أنها مأخوذة على نحو (اللابشرط) من حيث المادة ولم يتعرضوا للمسائل اللغوية المأخوذة (بشرط شيء) من حيث المادة كظهور لفظ (الصعيد) لكونها مأخوذة على نحو (البشرطشيء).

أيضا القواعد الاستدلالية في الفقه والقواعد الفقهية تخرج عن التعريف ، فمثلا : هناك قاعدة فقهية بعنوان : أن ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، وهناك قاعدة استدلالية في الفقه تكون مبدأ استدلاليا لتلك القاعدة وهي : إن دليل الصحة هل يثبت به الضمان بالغرامة إذا بطل الضمان بالمعاوضة ، أو لا يثبت به ذلك؟.

هذه قاعدة استدلالية في الفقه هي مبدأ لتلك القاعدة الفقهية ـ وهاتان القاعدتان لا ينطبق عليهما التعريف ، لأنهما قد أخذ فيهما مادة معينة. إذ لا يستنبط منهما إلّا الضمان للمأخوذ بالعقد الفاسد دون سائر الأشياء الأخرى.

إذن فالقاعدة الفقهية والقاعدة الاستدلالية في الفقه ، هي مقدمة مادية وليست مقدمة مشتركة بالاستدلال الفقهي ، إذن فلا يشملها التعريف.

بقي عندنا قواعد علم الرجال ، ومسائل علم المنطق ، وقواعد علم الرجال ، من قبيل وثاقة زرارة ، ووثاقة زرارة أيضا لا تدخل في التعريف ، لأنّ وثاقة زرارة ، وإن كانت تفيد في استنباط حكم أي مادة ، لأن زرارة قد يخبر بوجوب الصوم ، كما قد يخبر بوجوب السورة ، ولكن وثاقة زرارة ليست من المقدمات الداخلة في الاستدلال الفقهي ، لأنّ مرادنا بالاستدلال الفقهي القياس الأخير الذي يباشره الفقيه بما فيه من كبرى وصغرى.

وهنا حينما نريد أن نتصور دخول وثاقة زرارة في مقام الاستنباط ، نراها داخلة في قياس ما قبل الأخير ، لا في القياس الأخير. لأننا إذا رأينا رواية لزرارة تدلّ على وجوب السورة ، فهكذا نرتب قياسين :

نقول في القياس الأول :

٥١

هذا خبر زرارة ، وزرارة ثقة ، هذا خبر الثقة. هذا القياس دخلت فيه المقدمة الرجالية وهي أن زرارة ثقة ، ونتيجة هذا القياس ، أن هذا خبر الثقة.

ثم بعد هذا نرتب القياس الأخير فنقول :

وجوب السورة أخبر به الثقة ، وكل ما أخبر به الثقة فهو ثابت ، فوجوب السورة ثابت.

إذن وثاقة زرارة التي هي مسألة رجالية ، هي بحسب الحقيقة مقدمة قياس ما قبل الأخير ، وليست مقدمة في القياس الأخير ، إذن مسائل علم الرجال خارجة عن التعريف بهذا الاعتبار.

وأما القياس الأخير فهو مكوّن من مقدمتين :

الصغرى : هي من علم الحديث وهي إن وجوب السورة أخبر به الثقة ، وهذا شغل علم الحديث. فالصغرى إذن هي من مسائل علم الحديث التي هي مقدمات مادية.

والكبرى : وهي أن كل ما أخبر به الثقة فهو ثابت ، مقدمة مشتركة أصولية.

وعلى هذا الأساس يعرف أن القواعد المنطقية خارجة عن التعريف أيضا لأنّ قاعدة إنتاج الشكل الأول مثلا ، لا تشكل مقدمة في القياس الأخير ، وإنما هي برهان إنتاج القياس الأخير.

وعلى هذا الأساس يصح أن يقال بأن علم الأصول هو العلم بالقواعد المشتركة في الاستدلال الفقهي خاصة يعني في القياس الأخير ، فالقياس الأخير الذي يستدلّ به على الحكم الشرعي ، سواء مقدماته الصغروية ، أو مقدماته الكبروية ، أي مقدمة من تلك المقدمات كانت مقدمة مشتركة ، فهي من علم الأصول سواء وقعت صغرى في القياس الأخير ، أو وقعت كبرى في القياس الأخير ، وأي مقدمة من المقدمات في القياس الأخير لم تقع مشتركة ، وإنما كانت مادية بمعنى أنها مأخوذة (بشرط شيء) بشرط مادة معينة ، فمثل هذه لا تكون قاعدة أصولية.

٥٢

الضابط للقاعدة الأصولية

ومن هنا ، وعلى أساس ما تقدم ، صح أن يقال بأن الضابط في القواعد الأصولية هو اجتماع أمرين :

الأمر الأول : كون المقدمة واقعة في القياس الأخير ، بمعنى أنها صالحة للوقوع ، لا إنها واقعة بالفعل.

الأمر الثاني : إنّ هذه المقدمة التي تقع في القياس الأخير ، يجب أن تكون مقدمة مشتركة ، يعني أنها مأخوذة (لا بشرط) من حيث المادة.

ومجموع هذين الأمرين يتوفران بحسب الحقيقة في تمام مباحث علم الأصول المتعارفة ، فإنّ مباحث الأصول والحجج كلها تقع كبريات في القياس الأخير ، وهي أيضا مقدمات مشتركة ، وليست مادية ، وأبحاث الظواهر بتمامها أيضا تقع صغريات في القياس الأخير ، وهي أيضا مقدمات مشتركة ، وليست مادية ، وأبحاث الاستلزامات العقلية أيضا تقع في القياس الأخير ، لأنها تنفي الحكم ، أو تثبت الحكم ، وهي أيضا مقدمات غير مادية ، لأنه لم يؤخذ في موضوعها مادة دون مادة.

إذن فهذه الأبحاث كلها واجدة لهذين الشرطين ، وهي أنها مقدمة في القياس الأخير وليست مادية ، ويكفي هذا في أصولية المسألة. وباقي المسائل التي هي مقدمات في الاستنباط فاقدة لأحد هذين الشرطين ، فإمّا أنها مقدمة في قياس ما قبل الأخير كالمسائل الرجالية ، وإمّا أنها مقدمة مادية غير مشتركة من قبيل مسائل علم الحديث.

وبحسب الحقيقة إنّ هذا الضابط الذي ذكرناه ليس مجرد عنوان منتزع عن الأبحاث الواقعة في علم الأصول خارجا ، بحيث رأينا الأبحاث الواقعة ، وفكّرنا

٥٣

أن ما هو الجامع المانع بين هذه المقدمات الواقعة ، فاخترعنا هذا الجامع المانع ، كما هو الحال في الضوابط السابقة التي كانت تقول بأن القاعدة الأصولية ما كانت بمفردها تكفي للاستنباط ، أو كانت ناظرة بلسانها للحكم الشرعي. وهذه كلها تجشمات من أجل تحصيل الجامع المانع لتصحيح كلمات الأصوليين في المقام. وإلّا فيبقى هذا السؤال :

إنه ما هي النكتة التي من أجلها اختير خصوص هذه المقدمات دون غيرها من المقدمات؟ تبقى بلا نكتة ، أن القاعدة التي تكفي مع القاعدة التي لا تكفي بمفردها ، أي فرق بينهما من حيث غرض الأصولي بما هو أصولي؟ لما ذا فرق بين هاتين القاعدتين القاعدة التي لها نظر إلى الحكم الشرعي ، وبين القاعدة التي ليس لها نظر إلى الحكم الشرعي؟ بالآخرة لما ذا فرق عالم الأصول ما بينهما ، العضدي والحاجبي مثلا لما ذا فرق ما بين هذين القسمين؟ تلك الضوابط اشتهائية من أجل تصحيح ما وقع لا من أجل توجيه ما وقع.

أمّا الضابط الذي نقول به ، فهو ضابط يصحح ما وقع ، ويوجّه ما وقع ، لأنّ نكتة مناسبات الحكم والموضوع معه. فإنّ علم الأصول أساسا بحسب الحقيقة نشأ في طول علم الفقه ، وفي أول الأمر كان الناس فقهاء ، وكانوا ينظرون فيما إذا كانت القاعدة مناسبة مع المسألة الفلانية ، فيذكرونها في تلك المسألة ، قاعدة من القواعد الاستدلالية في باب المقبوض بالعقد الفاسد ، يذكرونها في المعاملات مثلا ، قاعدة أخرى : إنّ الدليل الذي دلّ على المطهرية هل يدلّ على الطهارة ، أو لا يدلّ؟ وهكذا قواعد من هذا القبيل يذكرونها في مواضعها المناسبة.

وبقي الفقه فقها ، ثم التفتوا إلى أن هناك قواعد ، وهذه القواعد لا مادية ومأخوذة (لا بشرط) من حيث المادة يعني نسبتها إلى تمام أفعال المكلفين منذ ولادة المكلف إلى موته من أول الطهارة إلى آخر الديات على حدّ واحد ـ مثل هذه القواعد أين يضعونها؟.

أيضعونها في المعاملات؟ أو يضعونها في العبادات؟ أو يضعونها في الأحكام والإيقاعات؟ من أجل هذا أفردوها في بحث مستقل باعتبار كونها قواعد

٥٤

مشتركة من دون أن يهمهم في المطلب أن تكون هذه القواعد بمفردها كافية للاستنباط أو لا ، أو أن يكون لها عين ناظرة إلى نفس الحكم أو لا.

هذه خصوصيات ليس لها دخل في نكتة تأسيس هذا العلم ، وإنما نكتة تأسيس هذا العلم هو أنهم حصلوا على قواعد من هذا القبيل لا يناسب إدراجها في أي مسألة من مسائل علم الفقه ، ولهذا جعلوها مستقلة في المقام.

هذا من ناحية أحد الشرطين ، وهو شرط أن تكون المقدمة مشتركة ، لا مقدمة مادية ، أي مأخوذة (لا بشرط) من حيث المادة.

وكذلك أيضا من الواضح المناسبة للشرط الثاني ، وهو أن تكون المقدمة مقدمة في القياس الأخير ، يعني أن تكون من المبادئ التصديقية المباشرة لا أنها من مبادئ المبادئ ، ومن مبادئ مبادئ المبادئ ، إذ من الواضح أنه كلما ازداد الفاصل عن العلم ، وتتبعنا الأصول الأولية للمبادئ ، وصلنا إلى دوائر أوسع من هذا العلم ، يعني وصلنا إلى مقدمات مؤثرة في مجموعة من العلوم ، لا في هذا العلم بالخصوص. وتلك المقدمات التي تكون مؤثرة في مجموعة من العلوم لا في هذا العلم بالخصوص ، حينئذ يحسن أن تكتب في أصول مجموع تلك العلوم ، لا في أصول الفقه بالخصوص. ففي كل صنعة ، وفي أصول هذه الصنعة ، ننقح المبادئ التصديقية لتلك الصنعة ، لا المبادئ ومبادئ المبادئ وهكذا ، وإلّا لكان أصول كل علم عبارة عن تمام الأصول الدخيلة في المبادئ التصديقية للعلوم الأخرى أيضا.

إذن فهذا الضابط بحسب الحقيقة ليس مجرد ضابط انتزاعي من كلماتهم ، بل هو ضابط أيضا ثبوتي في نفسه ، يعني لو كنّا نريد أن نؤسس من الآن علم الأصول فيجب أن نؤسسه ضمن هذا الضابط ، ونقول بأننا نبحث عن القواعد التي تتميز بهاتين النكتتين ، أولا : إنها مقدمات في القياس الأخير ، وثانيا : إنها مقدمات مشتركة لا مقدمات مادية.

ونحن أشرنا منذ قليل إلى أن بعض القواعد الأصولية (لا بشرط) من حيث المادة ، ولكنها (بشرط شيء) من حيث نوع الحكم من قبيل صيغة (افعل) ، فإنها (بشرط شيء) من حيث نوع الحكم ، و (لا بشرط) من حيث المادة فيثبت بها

٥٥

الوجوب ، ولا يثبت بها الكراهة مثلا ، وهذا يكفي في أصولية القاعدة والمسألة ، ولكن هذا متى يكون؟.

يكون فيما إذا كان نوع الحكم سيّالا في الفقه ، لا يختص بباب دون باب ، من قبيل الوجوب وسائر الأحكام التكليفية الخمسة ، فإنها سيّالة في الفقه ، لا تختص بباب دون باب ، من قبيل الصحة والبطلان فإنّ الصحة والبطلان سيّال في الفقه ، يشمل العبادات ، والمعاملات ، والإيقاعات ، كلها فيها صحة وبطلان ، كل بحسبه ، فحينئذ صيغة (افعل) هل تدلّ على الوجوب ، أو لا تدلّ؟.

هذه القاعدة مخصوصة بنوع مخصوص من الحكم وهو الوجوب ، ولكن الوجوب سيّال في الفقه. فكما أنّ الوجوب يأتي في باب الطهارة ، يأتي في باب الصلح. في باب الإجارة ، يمكن أن يكون الصلح واجبا ، ويمكن أن تكون الإجارة واجبة ، ويمكن أن يكون فسخ العقد واجبا ، وهكذا الحكم التكليفي ، وهو الوجوب ، فإنه لا يختص بباب دون باب.

ففي مثل ذلك ، النكتة الأصولية موجودة ، وهي أن هذا مطلب ، نسبته إلى تمام المباحث الفقهية على حدّ واحد ، فلا بد وأن يذكر بصورة مستقلة ، ولهذا ذكرت صيغة (افعل) في علم الأصول ، ولهذا وجدت مسألة أخرى ، وهي أن النهي عن الشيء هل يقتضي بطلانه؟ سواء أكان عبادة ، أو معاملة ، أو إيقاعا ، أو لا يقتضي؟.

هذه القاعدة من حيث المادة (لا بشرط) لأنها تأتي في أي فعل من الأفعال يتصور فيه الصحة والبطلان كالوجوب فإنّه حكم سيّال في الفقه ، لا يختص بباب دون باب ، ولهذا عقدت له مسألة في علم الأصول.

وأما إذا فرض أنّ هناك قاعدة تختص باب دون باب من قبيل ، الدليل الدالّ على مطهرية شيء ، هل يدلّ على طهارته أم لا؟ مثل هذه القاعدة وإن أخذ فيها الشيء المجمل والمبهم القابل للانطباق على أي شيء في العالم ، إذن فهي من حيث المادة (لا بشرط) ، ولكن من حيث نوع الحكم أخذ فيها نوع حكم مخصوص ، وهو الطهارة ، وحيث أن الطهارة مخصوصة في كتاب مخصوص أيضا لا يحتمل ، ولا يتوقع أن تذكر هذه القاعدة في كتاب الصلح مثلا ، ولهذا

٥٦

تركت إلى باب الفقه لكي تذكر في كتاب الطهارة ، لا في كتاب الصلح.

فمن هنا يتضح أن القاعدة الأصولية هي التي تكون (لا بشرط) من حيث المادة ، وتكون من حيث نوع الحكم إمّا (لا بشرط شيء) وإمّا (بشرط شيء) بشرط نوع مخصوص ، لكن على شرط أن يكون هذا النوع سيّالا ساريا في مختلف الفقه.

وأما إذا كان (بشرط شيء) من حيث الحكم ، وكان نوع الحكم موقوفا على باب معين من أبواب الفقه فقط ، إذن فهذا أيضا يذكر في ذلك الباب ويصبح بحسب الحقيقة من أصول ذلك الباب ، لا من أصول الفقه كله ، فأصول الفقه شيء ، وأصول كتاب الطهارة شيء آخر ، فهنا يصبح من أصول كتاب الطهارة ، أو من أصول كتاب الضمان مثلا ، لا من أصول الفقه بتمامه.

وأما إذا كان مأخوذا (بشرط شيء) من حيث نوع الحكم ، لكن نوع الحكم سيّال كالوجوب ، فلا بأس بأصوليته ، وكذا لو كان مأخوذا (لا بشرط) من حيث نوع الحكم أصلا ، فلا بأس بأصوليته كحجية خبر الواحد ، والاستصحاب ، ونحو ذلك.

وهكذا تبين كون التعريف صحيحا ثبوتا وإثباتا.

أمّا ثبوتا : فلأنه يعني أنه هو في نفسه هو الذي ينبغي أن يؤسّس على أساسه علم الأصول بقطع النظر عن عمل الحاجبي والعضدي.

وأما إثباتا : فلأنه منطبق على عمل الحاجبي والعضدي أيضا انطباقا دائميا ، أو غالبيا ملحقا بالدائمي.

وبهذا تبين ما هو تعريف علم الأصول ، وبذلك تم الكلام في الجهة الأولى من الجهات الثلاث. إلّا أننا سوف نخرج في البحث الآتي مسألة حجية القطع عن علم الأصول :

٥٧
٥٨

حجية القطع

أشرنا سابقا إلى أننا سوف نخرج مسألة حجية القطع عن علم الأصول ، ونوضح ذلك فنقول :

إنّ حجية القطع خارجة بنكتة أنّ علم الأصول هو العلم بالقواعد المشتركة الواقعة في القياس الأخير ، وحجية القطع لا تثبت به المقدمة ، وإنما تثبت به مقدمية المقدمات في تمام مسائل علم الأصول.

فمثلا حجية خبر الواحد هي مقدمة مشتركة واقعة في القياس الأخير لإقامة الحجة على الواقع ، لكن حجية خبر الواحد لا تثبت بحجية القطع ، وإنما تثبت بأدلتها من الروايات ، وآية النبأ ، أو غير ذلك. لكن صلاحيتها لأن تقع مقدمة لإقامة الحجة على الواقع ، ومقدميتها في هذا القياس فرع حجية القطع ، إذ لو لم يكن القطع حجة ، لم تكن حجية هذا الخبر ثابتة في علم الأصول ، لأن كل إثبات ينتهي إلى القطع ، فإذا لم يكن القطع حجة ، فلا تصلح حجية خبر الواحد لأن تقع مقدمة لإقامة الحجة على الواقع.

إذن حجية القطع ليست وظيفتها إثبات مقدمة حجية خبر الواحد مثلا ، وليس هو بنفسه مقدمة من المقدمات ، وإنما هو بنفسه تثبت به مقدمية جميع المقدمات المذكورة في علم الأصول ، فلا بد من فرض وجوده في مرتبة سابقة على علم الأصول ، وإن شئتم قلتم : كما أن في علم الفقه قواعد مشتركة ، كان ينبغي عزلها عن علم الفقه ، وجعلها في علم آخر أسبق من علم الفقه ، كذلك حجية القطع ، هي قاعدة مشتركة في تمام المسائل الأصولية لأنها دخيلة في مقدمية سائر المقدمات المبحوث عنها في علم الأصول ، ومن هذه الناحية كان لا بد من فرض كونها في مرتبة سابقة على بحث تلك المقدمات.

إلى هنا انتهى الكلام في الجهة الأولى بتمامها ثم سوف ندخل في الجهة الثانية التي يقع الكلام فيها في موضوع علم الأصول.

٥٩
٦٠