بحوث في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٢٨

هل المناط هو الذاتية في العروض والحمل بلحاظ مرتبة الوجود ، أو الذاتية في العروض والحمل بلحاظ مرتبة التحليل؟.

ففي كل من المرتبتين الحمل والعروض يكونان متلازمين متى صدق أحدهما حقيقة صدق الآخر حقيقة ، وإنما ينفك أحدهما عن الآخر إذا أخذنا الحمل من مرتبة ، والعروض من مرتبة أخرى ، إذا أخذنا الحمل من مرتبة الوجود ، وأخذنا العروض من مرتبة التحليل ، حينئذ ينفك أحدهما عن الآخر. وأما العروض والحمل بلحاظ مرتبة واحدة فهما لا يكاد ينفك أحدهما عن الآخر.

فحتى يصح كلام المحقق العراقي ، لا بد وأن يصاغ بهذا التعبير ، بأن يقال : بأن المناط في الذاتية سواء أكان عروضا أو حملا ، هو العروض والحمل في مرتبة واحدة ، إمّا مرتبة الوجود وإمّا مرتبة التحليل.

الإشكال الثالث على المحقق العراقي :

وهو الذي يتضح به حقيقة الحال ، وحاصله أن مراد الحكماء من العرض الذاتي ليس هو ما كان عروضا أو حملا بلحاظ مرتبة التحليل فقط ، ببرهان أن لو كان مرادهم هذا ، للزم أن يكون عوارض النوع غريبة عن الجنس ، وغير ذاتية للجنس ، مع أننا نقلنا لكم أن الحكماء يصرحون بأن عوارض النوع جزء من علم الجنس. إذن فليس مرادهم هذا ، كما أنه ليس مرادهم من الذاتية ، الذاتية عروضا وحملا بلحاظ مرتبة الوجود ، إذ لو كان هذا هو مقصودهم ، إذن للزم أن يكون العرض الذي يعرض بواسطة أمر خارجي أعم أو أخص أيضا ، عرضا ذاتيا ، لأنه يصح حمله عليه ، ويصح عروضه بلحاظ مرتبة الوجود حقيقة ، مع أنهم اتفقوا على أن العرض الذي يعرض بواسطة أمر خارجي أو أخص خارجي ، هذا ليس عرضا ذاتيا.

ومن هنا يعرف أن مقصودهم من العرض الذاتي هنا شيء آخر غير الذاتية بلحاظ العروض والحمل أصلا ، لا في مرتبة التحليل ولا في مرتبة الوجود ، وتوضيح هذا الشيء الآخر هو أنّ مقصودهم من الذاتية هو الذاتية بلحاظ

٨١

المنشئية ، منشئية موضوع المسألة لمحمول المسألة ، وتوضيحه :

إنّ موضوع المسألة له نسبتان إلى محمول المسألة نسبة المحلية ونسبة المنشئية.

فتارة يلحظ موضوع المسألة بلحاظ النسبة المحلية للمحمول بما هو محل له ، ومعروض له على حد محلية الجسم للبياض ، والجسم للحركة ، وهذا اللحاظ هو الذي جرى عليه المحقق العراقي.

وتارة أخرى يلحظ موضوع المسألة بالنسبة إلى محمول المسألة بلحاظ النسبة المنشئية ، لا بلحاظ النسبة المحلية ، أي بما هو منشأ له ، وعلة له ، ومستتبع له. والذاتية بلحاظ المنشئية يختلف معناها عن الذاتية بلحاظ المحلية ، فإنّ الذاتية بلحاظ المحلية معناها ما قاله المحقق العراقي ، وهو كون العرض يعرض للموضوع حقيقة ولو بواسطة تعليلية ، فالحرارة مثلا بالنسبة إلى الماء إذا لاحظنا المحلية ، فهذه المحلية محلية حقيقية وذاتية لأن الحرارة محلها حقيقة هو الماء.

وأما النسبة المنشئية يعني كون الموضوع منشأ وعلة في إيجاد العرض ، وهذا المعنى يختلف عن المعنى لتلك النسبة المحلية ، والنسبة بينهما العموم من وجه ، فقد تجتمع الذاتية في المحلية والمنشئية ، وقد تفترقان ، ومثال الاجتماع كما في النار حارة فإنّ النار محل للحرارة ومنشئا للحرارة حقا ، ومثال الافتراق كما في حرارة الماء بسبب مجاورة النار ، فحرارة الماء هنا إذا لاحظناها مع الماء بالنسبة المحلية ، فهي عرض ذاتي ، لأن محلها هو الماء فهي عرض ذاتي للماء ، وليست عرضا ذاتيا لمجاورة النار.

وهنا أيضا إذا لاحظنا حرارة الماء في هذا المثال بالنسبة المنشئية فليس الماء منشأ حقيقيا للحرارة. فإذن صدقت المحلية الحقيقية ، ولم تصدق المنشئية. وهنا أيضا إذا لاحظنا الحرارة العارضة على موضوعها وهو الماء بسبب مجاورته للنار التي هي بمثابة الحيثية التعليلية التي صارت سببا لتسخين الماء وحرارته ، إذا لاحظنا الحرارة مع تلك الحيثية التعليلية نرى المنشئية الحقيقية ثابتة ، فإن مجاورة النار منشأ حقيقة لتسخين الماء وحرارته ولكن

٨٢

المحلية الحقيقية غير ثابتة ، لأنّ مجاورة النار لا معنى لاتصافها بالمحلية وعروض الحرارة لها. إذن فقد صدقت المنشئية الحقيقية ، ولم تصدق المحلية.

إذن فما هو ذاتي المنشئية ، وما هو ذاتي المحلية بينهما عموم من وجه ، قد يجتمعان وقد يفترقان. فإذن عندنا مطلبان متغايران المحلية الحقيقية والمنشئية الحقيقية.

وكلام المحقق العراقي كان مبنيا على أن الميزان في الذاتية هو المحلية الحقيقية بلحاظ مرتبة التحليل فقط. وإلّا يلزم أن يكون عوارض النوع غريبة عن الجنس ، ولا بلحاظ عالم الوجود وإلّا يلزم أن تكون الأقسام الستة كلها عوارض حقيقية ، بل بحسب الحقيقة إنّ الميزان في الذاتية هو الذاتية بحسب المنشئية. فالعرض الذاتي عبارة عن العرض الذي يكون موضوع المسألة منشأ له ، ومستتبعا له ، إما بلا واسطة ، أو مع الوسائط. وإذا فسّرنا العرض الذاتيّ بهذا التفسير نعرف نكتة ما قرره الحكماء من كون العارض الذي يعرض بلا واسطة. أو بواسطة أمر مساوي سواء أكان داخليا ، أو خارجيا ، عرضا ذاتيا ، واعترفوا بأن هذه الثلاثة أعراض ذاتية كما صرّح المحقق الطوسي في (شرح الإشارات) ، بأن العرض الذي يعرض للموضوع بلا واسطة ، أو بواسطة أمر مساوي ، داخلي أو خارجي ، هو عرض ذاتي ، وأما العرض الذي يعرض للموضوع بواسطة أمر أعم ، أو أمر أخص ، أو مباين ، فهذا ليس عرضا ذاتيا (١).

هذه الدعاوى تتبين نكتتها بناء على التفسير الذي ذكرناه للعرض الذاتي. والآن نأخذ هذه الدعاوى واحدة واحدة ونفسرها :

الدعوى الأولى : وهي إنّ العرض الذي يعرض للموضوع بلا واسطة ، فهو عرض ذاتي. وهذا واضح لانطباقه على التفسير باعتبار أن فرض كونه بلا واسطة هو فرض كون الموضوع منشأ وحده ، وكافيا في وجود المحمول ، إذن فالمنشئية

__________________

(١) لأنه من الواضح أن معنى كونه يعرض بواسطة الأخص أو المباين ، يعني أن الموضوع وحده لا يكفي لعروضه ما لم ينضم الأخص أو المباين ، فمنشئية الموضوع للعرض ليست منشئية ذاتية فلا يكون عرضا ذاتيا. (المؤلف).

٨٣

الحقيقية التي هي ميزان العرض الذاتي محفوظة.

الدعوى الثانية : وهي إنّ العرض الذي يعرض للموضوع بواسطة أمر مساوي ، هو عرض ذاتي سواء أكان المساوي داخليا كالفصل ، أو خارجيا.

هذا المطلب أيضا منطبق على التفسير الذي ذكرناه وبرهان الانطباق هو : إنّ هذا العرض إذا فرضنا أنه يعرض على الموضوع بواسطة أمر مساوي ، حينئذ ننقل الكلام إلى تلك الواسطة المساوية ، فنقول : تلك الواسطة المساوية هل تعرض على الموضوع بواسطة أمر أعم ، أو بواسطة أمر أخص ، أو مساوي ، أو بلا واسطة؟.

إما أنها تعرض على الموضوع بواسطة أمر أخص فهو خلف كونها مساوية ولكانت أخص حينئذ ، لأن ما يعرض بواسطة الأخص هو أخص.

وإما أنها تعرض على الموضوع بواسطة أمر أعم فهو خلف أيضا ، ولكانت أعم لأن ما يعرض بواسطة الأعم هو أعم. إذن فلا يبقى إلّا شقّان :

أ ـ أن تكون الواسطة تعرض على الموضوع بلا واسطة أصلا.

ب ـ أو تعرض على الموضوع بواسطة أمر مساوي أيضا.

فإن كانت تعرض على الموضوع بلا واسطة أصلا ، فهذا معناه أن الموضوع يستتبع الواسطة بذاته ، ويستتبع ما يعرض بواسطتها بتبعيتها ، فيصير الموضوع علة الواسطة ، وعلة لما يعرض بهذه الواسطة ، وبهذا تحفظ المنشئية الحقيقية.

وإن فرض أن الواسطة تعرض على الموضوع بواسطة مساوية ، نقلنا الكلام إلى واسطة الواسطة المساوية أيضا ، ونكرر فيها نفس البرهان إلى أن ننتهي أخيرا ، منعا للتسلسل ، إلى واسطة مساوية تعرض على الموضوع بلا واسطة ، وبهذا يترتب تسلسل المحمولات كلها.

وينتهي في منشئيته إلى الموضوع نفسه ، فيصير الموضوع منشأ لتمام هذه الوسائط الطولية المترتبة ، وهذا هو معنى الذاتية.

٨٤

فبهذا نبرهن أن العرض الذي يعرض للموضوع بواسطة أمر مساوي ، هو عرض ذاتي سواء أكانت الواسطة المساوية داخلية أو خارجية.

الدعوى الثالثة : وهي أن العرض الذي يعرض للموضوع بواسطة أمر أخص ، ليس عرضا ذاتيا. وهذا المطلب أيضا واضح ، فمثلا العرض الذي يعرض للحيوان بواسطة الضاحكية ، أو التعجب ، أو الإنسانية التي هي أمور أخص من الحيوان ، هذا العرض ليس عرضا ذاتيا للحيوان لما ذا؟.

لأنّ المنشئية غير محفوظة فإنّ معنى هذا أن الضحك مثلا يعرض على الحيوان بواسطة أمر أخص ، وهو المتعجب ، أو الإنسانية. إذن فموضوع القضية وهو الحيوان لم يصبح منشأ بذاته المحمول ، بل احتاج زائدا على وضع هذا الموضوع إلى وضع مطلب آخر من أجل أن يترتب المحمول ، وهذا معناه أن المنشئية ليست منشئية ذاتية. أمّا كيف صارت عوارض النوع ذاتية للجنس بالنحو الذي ذكرنا فيما مرّ ، فهذا له بحث آخر.

إلى هنا تبين أن مقتضى القاعدة أن عوارض النوع ليست ذاتية بالنسبة إلى الجنس. لكن هذا له تخريج آخر يأتي إن شاء الله في بحث الإشكال الثالث إذن تبرهنت هذه الدعوى أيضا وهو أن العرض الذي يعرض على الموضوع بواسطة أمر أخص هذا ليس ذاتيا ، لأنّ المنشئية الحقيقية غير محفوظة.

الدعوى الرابعة : إنّ العرض الذي يعرض للموضوع بواسطة أمر أعم سواء أكان الأعم ذاتيا كالجنس مع النوع ، أو أجنبيا ، هذا العرض ليس ذاتيا أيضا.

هذا المطلب أيضا واضح ويتبرهن عليه بما ذكرناه ، لأنّ محمول القضية إذا كان يعرض على موضوع القضية بواسطة أمر أعم ، كما في قولنا ـ الإنسان متحرك ، والحركة تعرض على الإنسان بواسطة أمر أعم ، وهو كونه جسما ، فحينئذ الخصوصية التي زاد بها الإنسان على ذاك الأمر الأعم ، تلك الخصوصية التي زاد بها ، تكون أجنبية عن دائرة المنشئية ، ويكون ضمها من قبيل ضم الحجر إلى جنب الإنسان ، وتكون خارجة عن دائرة المنشئية. إذن فلم يصبح الموضوع بحدّه منشأ بل أصبح جزءا منه ، وليس منشأ وحده. وعليه : فلا تكون المنشئية

٨٥

للموضوع بحدّه محفوظة ، ولا تكون الحركة من العوارض الذاتية للإنسان ، بل ولا للحيوان ، لأنها تعرض بواسطة أمر أعم ، فالمنشئية للإنسان بحدّه ، أو للحيوان بحدّه ، غير محفوظة في المقام.

الدعوى الخامسة : وهي إنّ العرض الذي يعرض للموضوع بواسطة أمر مباين ، هو عرض غير ذاتي ، من قبيل البطء والسرعة التي تعرض على الجسم بواسطة أمر مباين وهو الحركة مثلا. وهذا القسم بحسب الحقيقة هو من إضافات علماء الأصول ، وليس موجودا في التقسيم الأصلي.

وتوضيح النكتة في ذلك : إن علماء الأصول قصدوا من الأخص والأعم والمساوي عنوانا منطبقا على الموضوع. فإن كان أخص منه سمّوه بالأخص ، وإن كان مساويا له بالصدق سموه بالمساوي ، وإن كان أعم منه صدقا سموه بالأعم. والجامع بين الأعم والمساوي والأخص ، هو أن يكون منطبقا عليه بمعنى أن يكون عنوان الواسطة منطبقا على الموضوع. وحينئذ نضطر إلى جعل عنوان في مقابل ذلك ، وهو عنوان المباين ، لأن المباين غير منطبق على الموضوع ، بل أمر مباين ومغاير له بحسب الخارج. فالمباين يصير في مقابل الأقسام الثلاثة كلها ، في مقابل ما يعرض بواسطة الأعم والأخص والمساوي ، هكذا قال علماء الأصول.

بينما المراد وما ينبغي أن يكون مرادا من الأعم والأخص والمساوي ليس هو الأعم والأخص والمساوي بحيث يكون منطبقا عليه ، ويكون أخص منه ، أو مساويا له ، أو أوسع منه في الصدق ، بل المراد من ذلك كله الأعم والأخص والمساوي موردا ، سواء أكان منطبقا عليه أو لم يكن.

فمثلا : حينما نقول بأن العرض الذي يعرض للموضوع بواسطة أمر مساوي هو عرض ذاتي ، لا نريد بالأمر المساوي ما يكون منطبقا على الموضوع ، بل ما يكون موردا متكافئا معه بحيث متى ما كان هذا موجودا كان هذا موجودا ، التكافؤ في المورد لا الانطباق ، والصدق على مورد واحد هو النكتة في جعل هذا عرضا ذاتيا.

فلو فرضنا أن موضوعا كان علة لعرض من الأعراض ، وكان ذاك العرض

٨٦

علة لعرض آخر من الأعراض ، فهذا العرض الثاني عارض على الموضوع الأصلي بواسطة أمر مساوي وهو العرض الأول ، والعرض الأول هنا مباين وجودا مع الموضوع ، لأن الموضوع بنفسه يستتبع العرض الأول بلا واسطة ، ويستتبع العرض الثاني بواسطة العرض الأول ، ولهذا صرّح المحقق الطوسي في (شرح الإشارات) في مقام التمثيل للعرض الذي يعرض للموضوع بواسطة أمر مساوي قال كالعرض الذي يعرض للموضوع بواسطة فصله ، أو بواسطة عرض آخر ذاتي له ، مع أن العرض الآخر هذا مغاير له وجودا.

إذن ليس المقصود من الأعم والمساوي والأخص ما يصدق عليه ويكون أخص أو أوسع منه صدقا ، أو مساويا له في الصدق ، بل المقصود الأعمية والأخصية والمساواة ، بحسب المورد سواء انطبق عليه أو لم ينطبق. إذن المباين رجع إلى هذه الأقسام ولا يكون قسما برأسه.

وبهذا اتّضح أن تمام الدعاوى في المقام قد تبرهنت على أساس هذا التفسير ، على أساس تفسير العرض الذاتي بأنه ما كانت ذاتيته بلحاظ المنشئية ، منشئية الموضوع للمحمول ، لا بلحاظ محلية الموضوع للمحمول.

وعليه : فالعرض الذاتي هو ما يعرض بلا واسطة أصلا ، أو بواسطة أمر مساوي داخلي أو خارجي ، دون ما يعرض بواسطة أمر أخص ، أو أعم ، أو مباين.

هذا تمام الكلام في الجواب عن الإشكال الأول المعنون في أول البحث.

لكن بقي عندنا عدة أمور لا بد من التنبيه عليها تباعا :

الأمر الأول : وهو أننا قلنا : إنّ الملحوظ في الذاتية ليس هو نسبة المحلية ، بل هو نسبة المنشئية والعلّية ، فكون شيء محلا ، أو مادة للعرض ، بحيث يكون معروضا له ، هذا ليس هو مناط الذاتية ، لكن يجب الالتفات هنا إلى مطلب وهو : إن المعروض ، يعني حامل العرض ، هو بحسب الحقيقة أحد العلل بالنسبة إلى العرض ، لأنه علة مادية له ، حيث ذكر الحكماء أن العلل أربعة للشيء : ـ المادة ـ الصورة ـ الفاعل ـ الغاية ـ.

٨٧

المادة هي بنفسها علة بنحو من الأنحاء ، وبمعنى من المعاني للعرض أيضا ، ولكن هذه العلة طبعا ليست علة تامة. مثلا ـ الخشب مادة للسرير ـ الخشبية علة مادية للسريرية ، لكن لا يكفي من أجل أن يصير الخشب سريرا أن يكون خشبا ، بل لا بد وأن ينضم إلى ذلك ، العلة الفاعلة والعلة الغائية ـ يأتي نجار ، ويقصد أن يصنع سريرا من أجل النوم. ـ حينئذ يتحوّل هذا الخشب إلى سرير. فهي علة مادية بمعنى كونها بالإمكان والقبول ، دون أن تستتبع حتما وجود السرير ، وحينذاك لا يكون العرض عرضا ذاتيا بالنسبة إلى المادة ، لأن المادة لا تستتبع ذلك العرض ، وإنما هي محل له ، فلو أردنا أن نؤسس علما نجعل موضوعه الخشب مثلا ، فليس السريرية عرضا ذاتيا بالنسبة إلى ذلك الخشب ، لأن مادة الخشب وإن كانت علة مادية للسريرية بمعنى أنها حامل السريرية ، ولكنها لا تستتبع السريرية بل هي بالإمكان من ناحية السريرية.

نعم قد يتفق أن تكون المادة سنخ مادة يكون فرضها في الخارج منطويا دائما ومساوقا دائما لفرض تمامية الفاعل والغاية أيضا ، بحيث يكون فرض المادة في الخارج مساوقا لفرض الفاعل والغاية أيضا من قبيل النبات ـ فمادة النبات ـ يعرض له أعراض من الموت ، والحياة ، والتغذية ، والنمو ونحو ذلك. لو أسّسنا علما نبحث فيه عن هذه المادة المخصوصة لبحثنا عن هذه الأعراض لأنها أعراض ذاتية للمادة ، وإن كان بحسب الحقيقة فاعل هذه الأعراض فاعل فوق الطبيعة. وليست المادة هي فاعلة النمو ، والتغذية ، والتوليد ، والموت ، والحياة ، ونحو ذلك ، فما هو الفاعل لهذه الأعراض ـ فاعل غير طبيعي هو فوق الطبيعة.

ولكن حيث أن فرض هذه المادة المستعدة خارجا مساوق تمامية المطلب ، لأن الفاعل لا قصور فيه من حيث أنه فاعل ، وإنما ينتظر فقط لفرض أن تكون المادة مستعدة ، وبمجرد أن تكون المادة مستعدة تفاض عليها أعراضها من الموت ، والحياة ، والنمو ، وغيره ، ففي مثل ذلك يكون العرض عرضا ذاتيا بالنسبة إلى المادة ، لأن المادة تستتبع العرض ولو باعتبار أن فرضها في الخارج مساوق لفرض تمامية سائر الجهات ، ولا نريد بكون شيء عرضا ذاتيا لشيء

٨٨

آخر ، إلّا أن فرضه في الخارج مساوق لفرض تمامية سائر الجهات ، ومستتبع لهذه الأعراض مع عدم عروض آخر مثل هذا العرض.

الأمر الثاني : هو أننا بيّنا أنّ العرض الذي يعرض للشيء بواسطة أمر أخص ، هذا عرض غريب ، وليس عرضا ذاتيا ، وذلك باعتبار أن معنى كونه بواسطة أمر أخص ، يعني أن هذا الموضوع بمفرده وحده في الخارج لا يكفي لترتب هذا العرض ، ما لم ينضم إليه ذلك الأمر الأخص ، مثلا ، العرض الذي يعرض على الإنسان العراقي ، هذا يكون عرضا غريبا ، وليس ذاتيا بالنسبة إلى طبيعي الإنسان ، لأنّ فرض الإنسان لا يكوّن ترتب هذا العرض واستتباعه ، وإنما يحتاج إلى أمر زائد على ذلك ، وهو كونه عراقيا. إذن فهو عرض غير ذاتي بعد البناء على أن المناط في الذاتية هو المنشئية ، كما تقدم توضيحه في الدعوى الثالثة من الدعاوى الخمسة.

لكن نستثني من ذلك صورة واحدة لا يأتي فيها البرهان الذي برهنا به على أن العرض الذي يعرض بواسطة الأخص ليس ذاتيا وهي صورة عروض الفصل على الجنس ، كعروض ـ الناطقية على الحيوان ـ فإنّ الناطقية بحسب الدقة تعرض على جنس الحيوان وعلى كلي الحيوان بواسطة أمر أخص ، وهو كون ـ بعض الحيوان ناطقا ـ وهذا البعض أخص من طبيعي الحيوان. إذن فناطق الذي هو الفصل يعرض على الحيوان الذي هو الجنس بواسطة أمر أخص وهو ، بعض الحيوان ، نقول : بعض الحيوان ناطق ، إذن فالحيوان ناطق ، فقد عرض الفصل على الجنس بواسطة أمر أخص الذي هو ـ بعض الحيوان ـ الموجبة الجزئية بعض الحيوان ناطق.

مع هذا نقول : بأن الفصل عرض ذاتي بالنسبة إلى الجنس ، وذلك لأنّ الفصل هنا وهو ـ ناطق ـ الذي يعرض على بعض الحيوان ليس المقصود من هذا البعض الذي عرض عليه الفصل بل إننا أضفنا إلى الحيوان شيئا ثم عرض له الفصل ، البعض هنا ليس معناه أننا أخذنا الحيوان ، وأضفنا إليه العراقي ، أو الشرقي ، أو الغربي ، ثم عرض له الفصل ، ليس هكذا ، إذ لو كان هكذا إذن لم

٨٩

يكن الفصل فصلا ، بل كان الفصل ذاك الأمر الذي دخل في عنوان ـ بعض الحيوان ـ وهو خلف.

إذن فبعض الحيوان الذي يعرض عليه الفصل يستحيل أن يزيد على ذات الحيوان بشيء ، إذ لو كان يزيد على ذات الحيوان بشيء إذن لكان ذاك الشيء هو الفصل ، وكان ما نقول عنه إنه فصل ، عرضا خاصا ولم يكن فصلا ، وهو خلف.

إذن فالفصل وإن كان بحسب الدقة يعرض على بعض الحيوان ، وبواسطة عروضه على بعض الحيوان يعرض على الحيوان ، فهو بحسب هذا التصور عرض بواسطة أمر أخص ، لكن هذا الأمر الأخص ـ وهو بعض الحيوان ـ عين ذلك الأمر الأعم لم نضف إليه شيئا زائدا وباعتبار هذا الشيء الزائد صار له فصل ، إذن لكان ذاك الشيء الزائد هو الفصل ، ولكان قد تفصّل قبل الفصل ، وهذا خلف.

إذن فالفصل هنا عرض بواسطة أمر أخص على الحيوان وهو بعض الحيوان ومع هذا هو عرض ذاتي ، وهذا بخلاف الأمر الأخص في سائر الموارد والفرق بين الأمرين هو أن الأمر الأخص الذي عرض بواسطته الفصل هنا هو ـ بعض الحيوان لا يزيد على الحيوان بشيء ، بينما في غيره من الموارد الأخص يزيد بشيء ، كالعراقي ، والإنسان ، فالعراقي يزيد على الإنسان بالعراقية.

فالأمر الأخص متى ما كان يزيد على الأمر الأعم بشيء ، فالعرض الذي يعرض بتوسطه عرض ليس ذاتيا ، ومتى ما كان الأخص الذي يعرض العرض بواسطته على الأمر الأعم ، يستحيل أن يزيد على الأمر الأعم بشيء. إذن فهو بحسب الحقيقة عرض ذاتي وليس عرضا غريبا.

وهذه النكتة فلتكن على ذكر منها لأنها سوف تدخل معنا على الخط في الإشكال الثالث ، وهو بعد أن سلمنا بأنه يبحث عن العوارض الذاتية ، ولا يجوز البحث عن العوارض الغريبة ، كما سوف نوضحه في الإشكال الثاني إن شاء الله. والحال هذه كيف يمكن تطبيق هذه النكتة على سائر العلوم بحيث أن هذه العلوم يبحث فيها عن محمولات موضوعات المسائل ، وموضوع المسألة أخص من

٩٠

موضوع العلم ، فقد عرض المحمول على موضوع العلم بواسطة أمر أخص ، وهو محمول المسألة ـ.

وهذه النكتة يتضح فيها مطلب ، وهو : إن الفصول أعراض ذاتية بالنسبة إلى الجنس. إذن فأعراض الفصول أيضا ذاتية بالنسبة إلى الجنس ، لأننا بيّنا فيما سبق أن العرض الذي يعرض على الموضوع بواسطة أمر ذاتي أيضا ، يكون ذاتيا ، لأنه معلول المعلول ، وتابع التابع ، فهو مستتبع بالواسطة ، فإذا تبرهن بهذه النكتة أن الفصول أعراض ذاتية بالنسبة للأجناس ، يتبين أن الأعراض الذاتية للفصول هي أعراض ذاتية للأجناس أيضا ، لأنه يصير من قبيل العرض الذي يعرض للموضوع بواسطة أمر مساوي ، فيكون أيضا عرضا ذاتيا.

وبهذا يعرف أن عوارض النوع ذاتية أيضا بالنسبة إلى الجنس ، وإن كانت العوارض تعرض بواسطة أمر أخص بحسب الحقيقة ، لأن النوع أخص من الجنس ، ولكن حيث أن نوعية هذا النوع بفصله ، وحيث أن الفصل عرض ذاتي بالنسبة إلى الجنس بالبرهان ، وهذا العرض ذاتي بالنسبة إلى الفصل ، إذن فهذا العرض بالنسبة إلى الجنس يكون عرضا ذاتيا أيضا.

وما تقدم من أن العرض الذي يعرض للموضوع بواسطة أمر أخص ليس ذاتيا يختص مدعى وبرهانا بما إذا كان الأخص من قبيل العراقي مع الإنسان ، لا من قبيل النوع مع الجنس. هذا هو الأمر الثاني الذي يجب التنبيه إليه.

وإلى هنا تم الكلام في الإشكال الأول وهو عبارة عن تحديد العرض الذاتي.

فتبين ما هو حدّ العرض الذاتي.

وتبين أن مناط العرض الذاتي هو نسبة المنشئية ، وكون المنشئية منشئية حقيقية ، إما بلا واسطة ، أو بواسطة أمر مساوي.

وتبين أن العرض الذي يعرض بلا واسطة ، أو بواسطة أمر مساوي ، هذا عرض ذاتي بالبرهان.

وأما العرض الذي يعرض بواسطة أمر أعم ، فهو ليس عرضا ذاتيا.

٩١

وأما العرض الذي يعرض بواسطة أمر أخص فهذا فيه تفصيل ، فإن كان هذا الأخص من قبيل الفصول مع الأجناس ، فالعرض ذاتي ، وفي غيره ليس عرضا ذاتيا كما أشرنا إلى استثناء هذه الصورة في عروض الفصول على الأجناس من قبيل عروض الناطقية على الحيوان بواسطة أمر أخص وهو بعض الحيوان ، لكن لما كان هذا الأمر الأخص لا يزيد بشيء على الأعم الذي هو الجنس ـ الحيوان ـ في مثل ذلك فقط يكون العرض هذا عرضا ذاتيا أيضا ، وإن عرض بواسطة أمر أخص. ومن هنا كانت الفصول أعراضا ذاتية لأجناسها ، وأعراض هذه الفصول أيضا هي أعراض ذاتية لها ، وبالتبع أعراض ذاتية لأجناسها أيضا.

وبعد ذلك يقع الكلام في الإشكال الثاني والثالث وبحسب الحقيقة : فإنّ نكات المطلب وإن كان دفع بها الإشكال الثاني والثالث إلّا أننا مع هذا سوف نذكر الإشكال الثاني إن شاء الله تعالى ، وهو : هل يجب أن يبحث عن العوارض الذاتية للموضوع ، أو لا يجب؟.

الإشكال الثاني : هل يجب أن يبحث عن العرض الذاتي للموضوع أو لا يجب؟.

الجواب على هذا الإشكال وإن صار واضحا مما تقدم بناء على ما بيّناه من أن الميزان في العرض الذاتي هو الذاتية في المنشئية ، لا الذاتية في المحلية ـ يعني كون الموضوع علة ومنشأ بذاته لذلك العرض بعد أن وضحنا ذلك وطبقناه على الأقسام السبعة المعروفة ، واتضح أيضا بالبرهان أن العرض الذي يعرض للموضوع بلا واسطة ، أو بواسطة أمر مساوي ، يكون عرضا ذاتيا ، وأمّا ما يعرض بواسطة أمر أعم يكون عرضا غريبا وأن ما يعرض بواسطة أمر أخص ، يكون عرضا غريبا أيضا ، إلّا ما استثني من ذلك ، وهو عروض الفصل على الجنس ، وعروض عوارض الفصل والنوع بالنسبة إلى الجنس ، فإنها عوارض ذاتية ، وإن كانت بواسطة أمر أخص ، وكل ذلك تقدمت نكاته.

كما أننا بيّنا أن المنشئية التي هي ميزان العرض الذاتي قد تكون بلحاظ كون الموضوع علة فاعلية للعرض ، وقد تكون باعتبار كون الموضوع علة مادية

٩٢

للعرض ، مع فرض تمامية سائر الأجزاء ـ مادة النبات ـ وهذا تقدم توضيحه فيما سبق.

ونضيف إلى ذلك ونقول : بأنّ المنشئية قد تكون بلحاظ كون الموضوع منشأ وعلة غائية للعرض ، فإنّ العلة الغائية أيضا لها منشئية بالنسبة إلى معلولها. فإذا فرضنا أن هناك مجموعة من التدبيرات الكونية لجسم الإنسان ، فهذه التدبيرات الكونية لجسم الإنسان كلها لها علة غائية واحدة وهي صحة الإنسان ـ كون مزاجه بالنحو الفلاني المسمى بالصحة ـ إذن هذه الصحة هي علة غائية لمجموع هذه التدبيرات الطبيعية التي تكون موجبة للصحة ، ومحققة للصحة.

في هذا المقام أيضا يكون للصحة منشئية لهذه التدبيرات ولهذه العوارض ، لكن منشئية الصحة لهذه التدبيرات ليست على نحو العلة الفاعلية ، بل على نحو العلة الغائية ، ولهذا تكون متأخرة عن هذه التدبيرات وجودا كما هو شأن العلة الغائية ، فإنّ العلة الغائية متأخرة وجودا عن معلولها بحسب الخارج ، لكن لها نحو من المنشئية بتلك التدبيرات والعوارض التي تكون العلة الغائية منها هي الصحة ، وبهذا يعرف معنى قولنا فيما سبق : إنه إذا كانت مجموعة من العوارض والمحمولات مؤثرة في غرض واحد من قبيل محمولات علم الطب المؤثرة في غرض واحد وهو صحة الإنسان ، فحينئذ يمكن أن يجعل نفس هذا الغرض الواحد ، وهو صحة الإنسان ، موضوعا للعلم ، ويكون البحث عن عوارضه الذاتية بلسان البحث عن أسبابه ومقدماته وموانعه.

ويتضح معنى هذا الكلام باعتبار أن الصحة إذا كانت علة غائية لمجموعة من الأحوال والتدبيرات ، إذن فهذه العلة الغائية لها المنشئية لتلك الأحوال والتدبيرات ، فتكون تلك الأحوال والتدبيرات بمثابة الأعراض الذاتية لها ، لأن الميزان في ذاتية العرض هو المنشئية كما سبق ، والمنشئية كما تتصور في العلة الفاعلية ، كذلك تتصور في العلة الغائية ، فيصح أن يجعل علة غائية ـ ما ـ في الطبيعة موضوعا لعلم ، ويبحث في ذلك العلم عن أسباب تلك العلة في الخارج ، لأن أسبابها عوارض ذاتية لها ، بمعنى المنشئية ، باعتبار أن العلة الغائية لها نحو من المنشئية لمعلولاتها.

٩٣

وإذا اتضح كل الذي قدمناه يتضح الجواب عن الإشكالات التي أثيرت في المقام ـ وإنما أتينا على ذكر ما تقدم من اعتبار المنشئية بلحاظات الموضوع المختلفة ، باعتبار كونه علة مادية وفاعلية وغائية ، لأن هناك من أنكر وجوب البحث عن العوارض الذاتية للموضوع كالمحقق الأصفهاني حيث قال (١) : لما ذا يجب أن يبحث في العلم عن العوارض الذاتية لموضوع ذلك العلم ، وأنكر وجوب ذلك في العلم. وكذلك السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ ذكر أنه لا يلزم أن يبحث في العلم عن العوارض الذاتية لموضوع العلم (٢) ، بل ولا لموضوع المسألة نفسها أيضا ، ويمكن عقد مسألة يكون محمولها عرضا غريبا لموضوعها ويبحث عنه ولا مانع من ذلك.

هذا الكلام جوابه يتضح في مجموع أمرين :

أ ـ هو أن المقصود من الذاتية في العوارض الذاتية هو في المنشئية والعلية كما أوضحناه.

ب ـ هو أن أولئك الذين قالوا بشرط أن يبحث في العلم عن العوارض الذاتية ، يقصدون بذلك البحث البرهاني خاصة ـ يعني حينما يراد أن يكون العلم علما برهانيا لا بد أن يكون البحث عن العوارض الذاتية ، لا أنه كلما وقع بحث ، ولو بنحو الجدل ، أو الخطابة ، أو السفسطة ، لا بد وأن يكون البحث بحثا عن العوارض الذاتية. بل كلما أريد العلم الحق ، وهو العلم البرهاني في نظر المنطق الأرسطي ، حينئذ لا بد وأن يكون البحث بحثا عن العوارض الذاتية.

إذا اتضح ما هو مقصودهم في المقام ، حينئذ يمكن توجيهه وذلك بأن العلم بثبوت المحمول للموضوع يكون على نحوين :

النحول الأول : أن نعلم بثبوت المحمول للموضوع ، ولكن مع العلم باستحالة أن لا يكون ثابتا له. مثلا : نعلم بأن زيدا فقير ، لكن لا نعلم بأن زيدا

__________________

(١) نهاية الدراية : مجلد ١ ص ٣.

(٢) أجود التقريرات هامش ص ٥ ـ ٦.

٩٤

يستحيل أن لا يكون فقيرا ، وإنما نعلم بثبوت المحمول للموضوع دون أن نعلم باستحالة أن لا يكون فقيرا.

هذا العلم في نظرهم ليس علما برهانيا ، بل هو علم قابل للزوال وللمحو ، لأنه علم بثبوت المحمول للموضوع ، يعني ثبوت الفقر لزيد ، لا بلحاظ الحيثية المستدعية بالضرورة لذلك.

النحو الثاني : أن نعلم بثبوت المحمول للموضوع ، ونعلم بأنه يستحيل أن لا يكون الموضوع موصوفا بهذا المحمول. مثلا : نعلم بأن زوايا المثلث تساوي قائمتين ، ونعلم بأنه يستحيل أن لا تكون زوايا المثلث مساوية لقائمتين. هذا العلم هو الذي يصطلحون عليه بالعلم البرهاني ، وهذا يكون حين يكون الموضوع بنفسه مستدعيا للمحمول ، أو يكون هناك حد أوسط بين المحمول والموضوع ، ويكون هذا الحد الأوسط مستدعيا للمحمول ، وهو بنفسه ناشئ من الموضوع ، بحيث يكون المحمول ناشئا من الحد الأوسط ـ أي ثبوت المحمول للموضوع ناشئ من الحد الأوسط ، والحد الأوسط ناشئ من الموضوع. في مثل هذه الحالة حينئذ يصبح العلم علما برهانيا لأنه علم بأن المحمول يستحيل أن يتخلف عن الموضوع ، لأن الموضوع مستدع له بلا واسطة ، أو بواسطة الحد الأوسط ، هذا الذي يسمونه بالعلم البرهاني.

وهم حين يقولون بأنه يجب أن يبحث في العلوم عن العوارض الذاتية ، يريدون بذلك ، العلم البرهاني الذي يطلب علما برهانيا ـ يعني يطلب علما بثبوت المحمول للموضوع ، وعلما بأنه يستحيل أن لا يكون المحمول ثابتا للموضوع ، ومثل هذا لا يتصور إلّا في العوارض الذاتية ، بالمعنى الذي نحن بيّناه للعوارض الذاتية ، يعني الذاتية من حيث المنشئية ، فإن العرض إذا كان ذاتيا للموضوع من حيث المنشئية ، بمعنى أن يعرض عليه بلا واسطة ، أو بواسطة أمر مساوي ، هو الحد الأوسط ، فحينئذ يكون العلم بثبوت المحمول للموضوع علما برهانيا.

وأما إذا لم يكن هكذا ، وكان المحمول قد علم بثبوته للموضوع ، لكن لم يعلم لا بمنشئية الموضوع له بلا واسطة ، ولا بمنشئيته لشيء ، ذاك الشيء يكون

٩٥

منشأ له ، ففي مثل هذا يكون هذا العلم علما قابلا للزوال ، لأنه يعلم بثبوت هذا المحمول للموضوع ، ولكن يحتمل زوال هذا المحمول عن الموضوع ـ إذ لا علم باستحالة أن لا يكون ثابتا له ـ.

وبحسب الحقيقة إنّ هذا الإشكال نشأ من عدم أخذ مجموع هذين الأمرين يعين الاعتبار ، وهو أن المراد بالعرض الذاتي الذاتية بلحاظ المنشئية على ما تقدم ، وأيضا هو أن مراد أولئك الذين يقولون بأن البحث يجب أن يكون عن العوارض الذاتية ، مرادهم بذلك خصوص البحث البرهاني ، يعني البحث الذي يطلب علما برهانيا ، والعلم البرهاني لا يكون إلّا بين العرض الذاتي وموضوعه. وأمّا ما بين غير العرض الذاتي وموضوعه فلا يكون برهانا. إذن فهذا الإشكال اتضح جوابه على ما بيّناه.

الإشكال الثالث على المحقق العراقي : إذا كان لا يبحث في العلم إلّا عن العوارض الذاتية ، كيف يطبق ذلك على سائر العلوم؟ وبمعنى آخر : إذا كان العرض الذي يعرض بواسطة أمر أخص عرضا غير ذاتي ، إذن فكيف نصنع في جملة العلوم التي يبحث فيها عن محمولات موضوعات المسائل وموضوع المسألة أخص من موضوع العلم؟ إذن فقد عرض المحمول على موضوع العلم بواسطة أمر أخص ، وهو محمول المسألة.

ومثال ذلك : موضوع العلم هو الجنس مثلا ، وموضوع المسألة هو النوع مثلا. والمحمول قد عرض على النوع أولا ، وعرض على الجنس بواسطة أمر أخص ، وهو النوع فيكون إذن عرضا غريبا؟.

هذا الإشكال أيضا ظهر جوابه مما قلناه ، وذلك أننا بيّنا أن العرض الذي يعرض بواسطة أمر أخص ، وإن كان غريبا ، وليس ذاتيا. ولكن يخرج من ذلك استثناء واحد برهنّا عليه ، وهو عروض الفصل على الجنس ، وعروض ما يعرض على الجنس يتبع الفصل ، فإنّ هذا عرض ذاتي كما برهنا عليه ، إذن فلا يبقى إشكال أيضا من هذه الناحية.

فلنفرض أن موضوع العلم هو الجنس ، وموضوع المسألة هو النوع ، ومحمول المسألة عرض على النوع ، وبتوسط النوع عرض على الجنس. فهذا

٩٦

بناء على ما حققناه من أن ميزان العرض الذاتي هو المنشئية ، وبناء على ما أوضحناه من أن عروض الفصل على الجنس ذاتي بهذا الملاك ـ وهو أن لا تزيد الواسطة الأخص عن ذات الأعم بشيء ـ وكذلك كل ما يعرض بتبع الفصل وفي طوله ، إذن فهذا المحمول يكون عرضا ذاتيا بالنسبة إلى موضوع العلم ، وإن كان قد عرض بواسطة أمر أخص.

إلى هنا انتهى الكلام عن الإشكالات الثلاثة التي وجهت على المقدمة الثالثة والثانية.

وإلى هنا انحلت عندنا المشاكل الثلاثة كلها التي أشرنا إليها في بداية البحث.

المشكلة الأولى وهي : إنّ ما هو ميزان العرض الذاتي وتبين أن ميزانه ينطبق على ما يعرض بواسطة أمر مساوي ، أو بلا واسطة ، أو بواسطة أمر أخص ، إذا كان هذا الأخص من قبيل الفصل بالنسبة إلى الجنس ، على أن لا تزيد الواسطة الأخص عن ذات الأعم بشيء.

كما أن المشكلة الثانية وهي : إنه لما ذا يشترط أن يبحث في كل علم عن عوارض موضوعه الذاتي ، هذا أيضا انحلّ بعد الالتفات إلى أن المراد من البحث البحث البرهاني الذي ينتج علما برهانيا ، لا يكون إلّا بين الموضوع وعرضه الذاتي ، أي بين شيء وشيء يعرض عليه بلا واسطة ، أو بواسطة أمر آخر يكون ذاك الآخر عرضا ذاتيا له ، وهو المسمى بالحد الأوسط في البرهان.

والمشكلة الثالثة انحلت كذلك وهي أنه كيف يكون محمولات المسائل أعراضا ذاتية لموضوع العلم ، مع أنها تعرض لموضوع العلم بواسطة أمر أخص ، وهو موضوع المسألة؟.

وكان الجواب : إن موضوع المسألة بمثابة النوع بالنسبة إلى الجنس ، وقد تقدم معنا أن عروض الفصل على الجنس ذاتي ، وكذلك كل ما يعرض بتبعه ، وفي طوله ، فتكون هذه المحمولات أعراضا ذاتية أيضا ، فلا إشكال في المشاكل الثلاثة.

٩٧

إلى هنا كدنا ننتهي من المقدمات التي يذكرها علماء الأصول في تعريف علم الأصول ، إلّا أننا سوف نبحث في الإشكال الذي طرحه المحقق الأصفهاني وغيره على ضابط العرض الذاتي الذي يعرض بواسطة أمر أخص ، وسوف نبحث أيضا في ضابط تمايز العلوم بالموضوعات أو بالأغراض :

٩٨

ضابط العرض الذاتي الذي يعرض

بواسطة أمر أخصّ

تبين مما تقدم وجه الخلل فيما أفاده جملة من المحققين كالمحقق الأصفهاني (١) وغيره ، حيث ذكروا أن ضابط كون العرض الذي يعرض بواسطة أمر أخص ذاتيا ، أن هذا الأمر الأخص الذي صار واسطة ، إن كان مجعولا بنفس جعل الموضوع ، فالعرض العارض بواسطته يكون ذاتيا للموضوع ، وإن كان مجعولا بجعل آخر ، فالعرض العارض بواسطته يكون غريبا بالنسبة إلى الموضوع مثال ذلك :

العرض الذي يعرض للإنسان بواسطة كونه عراقيا ، هنا الواسطة وهي العراقي ، مجعولة بجعل آخر غير جعل الموضوع وهو الإنسان ، فالواسطة مجعولة بجعل آخر زائد على جعل نفس الإنسان. في مثل ذلك يكون العرض غريبا كما تقدم.

ومثال العرض الذاتي من قبيل الجسمية الذي يعرض على الموجود بواسطة كونه جوهرا ، فإنّ الموجود ما لم يصبح جوهرا ، لا يعقل أن يصبح جسما. إذن فالجسمية تعرض للموجود بتوسط كونه جوهرا. والجوهرية أخص من الموجود ، فالموضوع هنا الموجود ، والواسطة هي الجوهرية ، والعرض هو الجسمية.

لكن حيث أن الجوهرية مع نفس الموجود مجعولان بجعل واحد ، لا بجعلين ، فيكون العرض الأخص عرضا ذاتيا.

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ١ ص ٣ ـ ٤.

٩٩

إذن فقد تلخص من هذا بأن العوارض التي تعرض بواسطة أمر أخص كأنها على نحوين :

أ ـ إن كان العرض مع الواسطة مجعولين بجعل واحد ، إذن فالعرض ذاتي بالنسبة إلى الموضوع.

ب ـ إن كان العرض مع الواسطة مجعولين بجعلين ، إذن فالعرض غريب عن الموضوع.

إذن فقد جعلوا الميزان في الذاتية والغرابة في العرض الذي يعرض بواسطة أمر أخص ، كون الواسطة مع العرض مجعولين بجعل واحد أو بجعلين.

وهذا الكلام اتضح مما ذكرنا عدم صحته ، وذلك لأنّ كون الواسطة مع العرض مجعولين بجعل واحد على نحو جعل الجوهرية والجسمية هذا إنما يصحح كون العرض أوّليا ، وهذا ميزان العرض الأوّلي الذي يعرض أولا وبالذات.

أما العرض الذاتي فهو أوسع من ذلك فقد أوضحنا أن العرض الذاتي قد يكون معلولا لعرض ذاتي بحيث ينتهي إلى الموضوع ، فلا يلزم أن يكون العرض الذاتي مجعولا مع الواسطة بجعل واحد ، بل يمكن أن يكون العرض مجعولا بجعل آخر ، وواسطته مجعولة بجعل آخر ، ومع هذا يكون ذاتيا بالنسبة إليه ، لأنّ مرادنا من الذاتية هي الذاتية بلحاظ المنشئية ، إمّا بلا واسطة أو مع الواسطة. فكأن هذا الكلام الذي صدر من هؤلاء المحققين خلط بين العرض الأولي والعرض الذاتي ، فهناك اصطلاحان : اصطلاح العرض الذاتي ، واصطلاح العرض الأولي.

فالعرض الأولي لعلّه يصح في هذا الميزان ، وهو : إنّ العرض إذا كان بواسطة فلا يكون أوليا إلّا إذا كانت الواسطة مجعولة بنفس جعله ، بحيث يطرءان معا على الموضوع.

وأمّا العرض الذاتي فهو أوسع من ذلك فإنّ العرض الذي يعرض بتوسط عرض ذاتي يكون أيضا ذاتيا ، ويكون اليقين الحاصل فيه يقينا برهانيا. فالميزان

١٠٠