بحوث في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٢٨

الجهة الثانية

موضوع علم الأصول

مقدمات عند ذكر موضوع علم الأصول :

اعتاد علماء الأصول عند الكلام على موضوع علم الأصول ، أن يذكروا ضوابط وقواعد معينة ، ادّعوا أنهم أخذوها من الحكماء والفلاسفة ، وساروا في مقام تطبيق هذه القواعد الكلية على علم الأصول وغيره من العلوم الداخلة في محل ابتلائهم ، ومن هناك وقعوا في إشكالات واعتراضات.

ورغم أن الدخول في ذلك ليس بمهم إلّا أننا سوف نجاري علماءنا فيما فعلوا ، ونقدم ثلاث مقدمات ، كل مقدمة في كلمة من هذه الكلمات التي نقلوها عن الحكماء ، وإن كان بعض ما نقلوه ليس له عين ولا أثر في كلمات الحكماء.

المقدمة الأولى : في أن كل علم لا بد له من موضوع.

المقدمة الثانية : في أن كل علم يبحث فيه عن العوارض الذاتية لذلك الموضوع.

المقدمة الثالثة : هي أن العرض الذاتي عبارة عمّا يعرض للموضوع بلا واسطة أو بواسطة أمر مساوي ، دون ما يعرض له بواسطة أمر أخص ، أو أمر أعم ، داخليا أو خارجيا ، أو بواسطة أمر مباين.

هذه كلمات ثلاث نتكلم في كل واحدة منها حسب الترتيب :

الكلمة الأولى :

إنّ لكل علم موضوعا ، وهذه الكلمة وقعت موردا للإشكال عند علماء الأصول ، فبعضهم ذهب إلى أن لا برهان على هذا المدّعى ، وهو أن لكل علم

٦١

موضوعا ، وبعضهم ذهب إلى أن البرهان قائم على العدم ، إذ ليس لبعض العلوم موضوع كلي لأنّ بعض مسائلها من قبيل الوجود والعدم ، ولا جامع بينهما.

المقالة الأولى : والكلام يقع في أنه لا برهان على أن لكل علم موضوعا :

وتوضيح ذلك : أن هذا المدّعى وهو (إنّ لكل علم موضوعا) يستدلّ له عادة في كلماتهم بأحد دليلين :

الدليل الأول على تعدد الموضوعات بتعدد العلوم :

تطبيق قاعدة (إنّ الواحد لا يصدر إلّا من واحد) بتوضيح أن لكل علم من العلوم غرضا يختص به ، وهذا الغرض واحد كلي إن لم يكن واحدا شخصيا ، وكما أن الواحد بالشخص لا يصدر إلّا من واحد بالشخص ، كذلك الواحد الكلي كالواحد النوعي مثلا ، لا يصدر إلّا من واحد نوعي.

فبعد البناء على أن لكل علم غرضا واحدا كليا ، وبعد البناء على أنّ قاعدة أن الواحد لا يصدر إلّا من واحد ، ليست مختصة بالواحد الشخصي فقط ، بل تشمل الواحد النوعي أيضا ، فقد استنتج من ذلك : إنّ فرض وجود غرض واحد كلي للعلم ، يكشف لا محالة عن وجود جامع كلي لمسائل موضوعات ذلك العلم ، إذ لو كانت متفارقة ، ولا يوجد جامع بينها أصلا ، إذن للزم صدور الواحد الكلي من كثرات متعددة ، وهذا خلف القاعدة.

وتحقيق الكلام في هذا الاستدلال هو أن أغراض العلوم تتصور في مرتبتين :

المرتبة الأولى : مرتبة التدوين والدرس ، والتعلم والتعليم. فإنّ من يدوّن علما ، أو يدرس علما ، لا بد أن يكون له غرض من تدوينه لذلك العلم ، أو درسه له ، ولا ينبغي أن يكون نظر ذلك البرهان الذي ذكرناه إلى هذا الغرض في هذه المرتبة ، لأنّ الغرض في هذه المرتبة يختلف من حالة إلى أخرى ، ومن شخص إلى شخص آخر ، أي إنه يتعلق عند إنسان غرض بدراسة المسألة الأولى من العلم فقط ، وعند آخر غرض بدراسة نصف العلم ، وقد يتعلق عند ثالث غرض

٦٢

بدراسة كل العلم ، فمثلا ، يكون له غرض في الحصول على ملكة الاجتهاد ، ويتوقف الحصول على هذه الملكة على دراسة تمام علم الأصول ، بل قد يتوقف على دراسة علوم كثيرة مع أن الغرض واحد ، لكنه يتوقف على دراسة علوم كثيرة ومتعددة. ففي هذه المرحلة والمرتبة ، الأغراض تختلف باختلاف الملاحظات الشخصية للأشخاص ، وتختلف باختلاف الدوافع الشخصية للأشخاص ، وفي هذه المرحلة والمرتبة لا يوجد لكل علم غرض وحداني نوعي كلي تطبق عليه قاعدة (أنّ الواحد لا يصدر إلّا من واحد) ، فتطبيق هذه القاعدة لا ينبغي أن يكون بلحاظ هذه المرتبة.

المرتبة الثانية : وهي مرتبة تدوين القواعد التي يبحث عنها وتدون ، هذه المرتبة ، مرتبة تلك القواعد بوجودها النفس الأمري في اللوح المناسب ، تارة تكون أمورا تكوينية من قبيل الملازمات والاستلزامات والعليّات ، وتارة أخرى تكون أمورا طبيعية من قبيل الإعراب في علم النحو مثلا ، ويترتب على هذه القواعد في وعائها المناسب أثر واحد كلي ، وهو الذي يسمّى بالغرض من ذلك العلم ، بقطع النظر عن مقصود هذا ، أو مقصود ذاك. وهذا ما اعتاد العلماء أن يمثلوا له فيقولون مثلا : بأن الغرض من علم النحو هو صون اللسان عن الخطأ.

وينبغي أن يطبق البرهان الذي ذكرناه بلحاظ هذه المرتبة ، التي هي مرتبة القواعد بوجودها النفس الأمري غرضا وأثرا وحدانيا كليا. وهذا الاعتراف يستدعي التساؤل التالي :

كيف يقال بأن صون اللسان عن الخطأ أثر كلي يترتب على القواعد النحوية بوجودها النفس الأمري ، لكي يطبق على ذلك قاعدة (أن الواحد لا يصدر إلّا من واحد) ، مع أننا نجد الكثيرين يخطئون في تعبيرهم خارجا مع كونهم درسوا تلك القواعد؟.

وفي مقام الجواب على هذا التساؤل نطرح تقريبين لأجل تصوير أن هناك غرضا وحدانيا كليا مترتبا على القواعد بوجودها النفس الأمري ، ممّا يتيح تطبيق قاعدة : (إن الواحد لا يصدر إلّا من واحد).

التقريب الأول : هو أن يقال : بأن الغرض من القواعد النحوية ليس هو

٦٣

صون اللسان عن الخطأ بالفعل ، بمعنى وقوع الصيانة خارجا وتوضيح ذلك : هو أن صون اللسان عن الخطأ في الخارج له علة مركبة من أجزاء متعددة مثل (إرادة الفاعل أو علم الفاعل ، والقواعد النفس الأمرية) ، إذن فالقواعد النفس الأمرية هي جزء العلة لوقوع الصيانة خارجا ، وتخلّف الصيانة خارجا ، لأنّ باقي أجزاء العلة غير موجودة.

وعليه : فإنّ للقواعد النحوية غرضا وحدانيا كليا هو صون اللسان عن الخطأ خارجا ، وللقواعد تأثير ضمني فيه ، فتكون علة ضمنية بحيث لو انضمّ إليها سائر الأجزاء الأخرى لترتب المعلول ووقعت الصيانة خارجا (١).

إلّا أنّ هذا التقريب لا ينفعنا في تطبيق البرهان على قاعدة : (إن الواحد لا يصدر إلّا من واحد) ، وذلك لأنه إما أن يكون المراد من صون اللسان عن الخطأ خارجا واقع الصيانة ، بمعنى أن يقول (ضرب زيد) ولا يقول (ضرب زيدا). وإمّا أن يكون المراد عنوان الصيانة بحيث لم يخطئ ، وأنه صان لسانه.

فإن كان الغرض هو واقع الصيانة ، إذن يكون عندنا أغراض متباينة ، لا غرض واحد ، وذلك لأنّ واقع الصيانة في مسألة الفاعل هو أن يقول : (ضرب زيد) ، وواقع الصيانة في مسألة المفعول هو أن يقول (ضربت زيدا) وهذان غرضان متباينان.

وعليه : فلم نحصل على غرض واحد كلي يكون مصداقا للقاعدة وهي : (إنّ الواحد لا يصدر إلّا من واحد).

وإن كان الغرض عنوان الصيانة ، بمعنى أن يكون غرض مسألة الفاعل (ضرب زيد) غرضا بما هو صيانة ، لا بما هو (ضرب زيد) ، وغرض مسألة المفعول (ضربت زيدا) غرضا بما هو صيانة لا بما هو (ضربت زيدا).

إذن يتحقق عندنا في المقام غرض واحد كلي ، هذا الغرض مستند إلى القواعد النحوية ، وهو الصيانة عن الخطأ.

__________________

(١) أجود التقريرات : ص ٦ الخوئي.

٦٤

لكن هذا الغرض الواحد الكلي ، بحسب الحقيقة ، مستند إلى القواعد النحوية ، لا باعتبار جامع ذاتي بينها ، بل باعتبار جهة عرضية ، ووصف عرضي مشترك بينها ، وهو كونها عقلائية ومقبولة عند العقلاء ، وكونها كذلك هو الذي جعلني أقول مثلا : (ضرب زيد) تارة (وضربت زيدا) تارة أخرى ، فالعلة في أن أعرف النحو ، وأقول : (ضرب زيد) تارة (وضربت زيدا) أخرى ، وإن كانت هي القواعد النحوية ، وهذا يكشف عن جهة اشتراك ، إلّا أن هذه الجهة المشتركة لا يلزم أن تكون جامعا ذاتيا حتى نحصل على جامع بين موضوعات القضايا ، بل يكفي أن تكون جهة عرضية قائمة بهذه القضايا ولو تباينت موضوعاتها ومحمولاتها ، كما رأينا من كون الجهة المشتركة في كونها عقلائية ومقبولة عند العقلاء.

ومن هنا نرى عدم صلاحية هذا التقريب في تقريب : (إنّ الواحد لا يصدر إلّا من واحد).

التقريب الثاني : وهو أن الغرض من القواعد النفس الأمرية ، ليس هو وجود الصيانة خارجا ، وإنما أن يصحّ الكلام في نفسه سواء نطق به إنسان ، أو لم ينطق به إنسان ، وهذا الغرض حتما يترتب على القواعد النحوية ، لأنه بمجرد أن يتفق العرب على أن الفاعل مرفوع ، حينئذ هذه القاعدة تؤدي مباشرة إلى تصحيح قولنا (ضرب زيد) سواء نطق بها أم لا.

ولكن مع هذا لا ينفع هذا التقريب في تطبيق البرهان المذكور على قاعدة : (إن الواحد لا يصدر إلّا من واحد) ، وذلك لأنّ الغرض من القاعدة هو جعل الكلام مطابقا لها ، والمطابقة ما هي إلّا نسبة قائمة بين القاعدة والكلام الخارجي. ولا يعقل أن تكون النسبة جامعا بين القواعد النحوية ، وبين الكلمات الخارجية ، إذن لدينا أغراض متعددة ، لأن هذه النسب عديدة بعدد القواعد ، وكذلك لا يتحقق الجامع بين النسب إلّا إذا تحقق الجامع بين أطرافها ، لأنّ الجامع ما بينها واحد. وهذا البرهان إنما يتحقق في غرض مستقل موجود في الخارج ، لا في أمر نسبي يكون تعدده ووحدته تابعا لوحدة طرفه وتعدده.

٦٥

الدليل الثاني على تعددية الموضوعات ، بتعدد العلوم :

هو أن التمايز بين العلوم بالموضوعات.

وحيث أنه كذلك فلا بد من أن يفرض لكل علم موضوعا ، ولو لم يكن لكل علم موضوع خاص به ، لم يكن العلم متميزا عن سائر العلوم الأخرى ، وكأن صاحب هذا الكلام فرض في هذا الدليل أصلا موضوعيا وهو أن التمايز بين العلوم بالموضوعات ، ثم يرتب عليه أنه بناء لذلك يجب أن يكون لكل علم موضوع.

والمحقق الخراساني ناقش في الأصل الموضوعي هذا وقال (١) : بأنه لو كان تمايز العلوم بالموضوعات ، إذن يلزم أن يكون لكل باب بل لكل مسألة علم مستقل ، لأنّ موضوع باب الفاعل غير موضوع باب المفعول. فيكون هذا علما وذاك علما آخر ، مع أنه لا يلتزم بذلك أحد (٢). وعدم الالتزام بذلك يكشف عن أن تمايز العلوم ليس بالموضوعات.

ولكن المحقق الخراسانيّ في نقاشه هذا قد جانب الصواب ، وذلك لأنّ السادة العلماء حينما يقولون بأن تمايز العلوم بالموضوعات ، لا يقصدون بذلك أيّ موضوع كيفما اتّفق حتى يقال بأن الفاعل موضوع والمفعول موضوع. إذن ليكن لكل منهما علم.

بل (٣) القصد هو أن تمايز العلوم إنما يكون بالموضوع الذي لا تكون عوارضه الذاتية عوارض ذاتية لموضوع أعمّ منه. مثلا : الفاعل موضوع متميز عن المفعول ، ولكن العوارض الذاتية له بحسب مباني السادة العلماء ، عوارض ذاتية لموضوع أعمّ منه وهو الكلمة. وعليه : فلا يجوز جعل الفاعل موضوعا لعلم خاص به. ومن هنا يظهر رد نقاش المحقق الخراساني.

__________________

(١) حقائق الأصول : ج ١ ص ١٠.

(٢) فوائد الأصول : ج ١ ص ٧ الكاظمي.

(٣) فوائد الأصول : ج ١ ص ٧.

٦٦

ولكن الدليل الثاني أيضا غير صحيح ، وذلك لأنه لا يمكن أن نستدلّ على وجود الموضوع لكل علم من دعوى أنّ تمايز العلوم بموضوعاتها ، فإنّ كون العلوم تتميز بموضوعاتها يتوقف على أن نثبت بأنّ لكل علم موضوعا (١).

فإذا كانت تلك القضية مشكوكة لنا ، إذن فكيف نستطيع أن نبرهن على أنّ لكل علم موضوعا ، بلحاظ أنّ تمايز العلوم بالموضوعات.

نعم لو ثبت أنّ تمايز العلوم بموضوعاتها بدليل تعبدي أو شبه تعبدي ، كآية أو رواية ، حينئذ نستكشف بطريق ال (إن) أنه لا بد وأن يكون لكل علم موضوع.

وأمّا بقطع النظر عن الدليل التعبدي ، أو شبه التعبدي ، لا يمكننا أن نجعل هذا برهانا على وجود الموضوع لكل علم.

المقالة الثانية : وهي أن البرهان قائم على عدم وجود موضوع لكل علم : وقد قرر ذلك من قبل السيد الخوئي بتقريبين (٢) :

التقريب الأول : وهو أننا إذا لاحظنا علم الفقه ، سوف نجد أن محمولاته عبارة عن الأحكام الشرعية مثل ـ الصلاة واجبة ، الخمر حرام ، الدم نجس ، وهكذا. وهذه أمور اعتبارية وليست أمورا حقيقية.

وعليه : لو فرض أننا أردنا أن نتصور جامعا حقيقيا قوليا بين مسائل هذا العلم ، بحيث يجمع هذا الجامع بموضوعه بين موضوعات مسائل هذا العلم ، وبمحموله بين محمولات مسائله ، لتعذر علينا ذلك ، لأنّ القضية الكلية الجامعة غير متصورة في علم الفقه بسبب محمولات مسائله التي هي أمور اعتبارية ، ولا بد أن يكون جامع الأمور الاعتبارية أمرا اعتباريا ، وهو غير متحقق في هذه القضية.

ولكن هذا التقريب غير صحيح ، وذلك لأنه حتى مع غرض أن الأحكام

__________________

(١) ووجه البطلان للزوم الدور ، أو لزوم حمل الشيء على نفسه ، لأنه أخذ عقد الحمل في عقد الموضوع. (المؤلف).

(٢) أجود التقريرات : ص ٣ ـ الخوئي.

٦٧

الشرعية أمور اعتبارية ، إلّا أنّ في الاعتبار حيثيتين إحداهما : حيثية نفس الاعتبار ، والثانية : حيثية المعتبر.

وحيثية نفس الاعتبار أمر حقيقي بعكس حيثية المعتبر التي هي أمر اعتباري وهمي. مثلا : حينما تعتبر ـ بحرا من ذهب ـ فإنّ نفس اعتبارك هذا أمر حقيقي قائم بنفسك ، وهو من الموجودات القائمة في النفس ، بينما المعتبر وهو مفهوم ـ بحر ، من ذهب ـ أمر خيالي وهمي ، وليس أمرا حقيقيا.

والجامع المطلوب في المقام ليس جامعا بلحاظ حيثية المعتبر ، وإنما هو جامع بلحاظ حيثية الاعتبار ، وهناك وجودات تشريعية حقيقية قائمة في نفس المولى ، وناشئة من اهتمامات وملاكات مولوية. وهذه الملاكات أمور حقيقية يتصور بينها الجامع الحقيقي.

التقريب الثاني : هو أيضا بالنسبة إلى علم الفقه ، وخلاصته : إنّ موضوع علم الفقه عبارة عن أمور مختلطة بعضها جوهر من قبيل الدم نجس ، وبعضها من الكيف المسموع من قبيل القراءة واجبة ، وبعضها من مقولة الوضع من قبيل الركوع واجب ، وبعضها من الأمور العدمية من قبيل التروك.

ولو أريد تصوير جامع بين موضوعات علم الفقه ، بحيث يكون جامعا حقيقيا مقوليا ، للزم تصوير الجامع بين مقولات عالية من قبيل مقولة الوضع ، ومقولة الكيف مثلا ، أو بين الوجود والعدم لأنّ موضوع المسألة في بعض مسائل علم الفقه أمر عدمي كالترك مثلا. وهذا الجامع غير معقول.

وهذا التقريب غير صحيح أيضا ، وذلك لأنه إذا اتضح لدينا التساؤل التالي يتضح عدم صحة التقريب.

وهذا التساؤل هو : ما المراد من تصوير جامع بحيث يكون موضوعا للعلم؟.

إذا كان المراد تصوير موضوع للعلم بحيث يكون جامعا بين موضوعات مسائله حسب ما دونت خارجا ، فإنّ هذا متعذر لا في علم الفقه فقط ، بل حتى

٦٨

في الفلسفة العالية أيضا ، والتي سلّم السيد الأستاذ (١) ، والسادة العلماء بأن لها موضوعا واحدا كليا وهو (الموجود) ، وذلك لأن الموجود في كثير من مسائل الفلسفة العالية يقع محمولا في المسألة حسب ما دوّنت ، لا موضوعا مثل : الجوهر موجود ، العرض موجود ، العقل موجود ، ومع هذا لم يستشكل الفلاسفة ، وحتى علماء الأصول ، في أنّ للفلسفة موضوعا كليا وهو (الموجود).

ومعنى هذا إنه : حينما نريد أن نتصور موضوع الكلي للعلم ، لا يلزم أن نتصوره بنحو يكون منطبقا على موضوعات مسائله ، حسب ما دوّنت خارجا ، بل يكون منطبقا حسب ترتيب من الترتيبات لهذه المسائل سواء أكان مطابقا لما دوّن ، أو لم يكن مطابقا لما دوّن.

وبهذا يتم كون موضوع الفلسفة هو (الموجود) سواء أكان الموجود جوهرا ، أو عرضا ، وهكذا يكون الجوهر ، والعرض ، والعقل ، محمولات للموجود الذي هو موضوع الفلسفة العالية ، ولكن العلائق النحوية واللغوية ، أو ضرورات اللغة والنحو ، أو أي تأثير آخر غير مرتبط بحقائق الأشياء ، يضطرنا إلى أن ندوّن مسائل الفلسفة ، أو أي علم كما وقع خارجا.

ومن هنا يتضح أنه عند ما نريد أن نحقق موضوعا لأي علم ، ينبغي أن نحققه بحسب الأمر الواقع لا بحسب ما دوّن خارجا ، وهذا الكلام يجري أيضا في تحقيق موضوع علم الفقه ، لأنّ الجامع هنا كسا في الفلسفة العالية ، يبرز من خلال محمولات علم الفقه. والإشكال الذي وقع كان بسبب ملاحظة مسائله حسب ما دوّنت.

وهنا بدل أن نقول إنّ موضوع علم الفقه هو فعل المكلف كما يقال ، فنقع في القيل والقال ، لأنّ بعض مسائله ليست من فعل المكلف ، بل من الأعيان الخارجية كالدم نجس ، والخمر نجس ، وهكذا ، نقول : بأنّ موضوع علم الفقه هو الحكم الشرعي ، ونسبة الحكم الشرعي إلى علم الفقه كنسبة الموجود إلى

__________________

(١) أجود التقريرات : ص ٧ هامش ١.

٦٩

الفلسفة العالية ، فكما يقال في الفلسفة العالية : الجوهر موجود ، فهو بحسب الحقيقة أن الوجود متعين بتعين جوهري ، وكذا في قولنا : العرض موجود معناه أن الوجود متعين بتعين عرضي ، وهكذا عند ما يقال : الصلاة واجبة ، فإنّه في الحقيقة أن الحكم الشرعي متعين بوجوب الصلاة ، ووجوب الصلاة نحو تعين للحكم الشرعي.

إذن فالحكم الشرعي هو محور موضوع علم الفقه ، وكل مسألة من مسائله هي بحث في تعيّنات الحكم الشرعي.

٧٠

التحقيق في المقدمة الأولى

وتحقيق الكلام في هذا المقام هو : إنه لا إشكال في أن لكل علم وحدة ، وبهذه الوحدة صار علما كما أنه لا إشكال في أن وحدته ثابتة له في المرتبة السابقة على التدوين والتأليف ، فعلم النحو لم يصبح علما واحدا لأنّ سيبويه ألّفه علما واحدا ، بل بقطع النظر عن المدوّن والمؤلف ، فإنّ لعلم النحو نحو وحدة ثابتة في أفقه المناسب له. وهذه الوحدة لا بد وأن تنشأ من أحد أمور ثلاثة وهي : إمّا وحدة الموضوع ، وإمّا وحدة المحمول ، وإمّا وحدة الغرض.

فإن كانت هذه الوحدة ناشئة من وحدة الموضوع : إذن يثبت أن لكل علم موضوعا. وإن فرض أنها كانت ناشئة من وحدة المحمول : إذن بحسب الحقيقة يكون هو موضوع العلم ، لأننا لا نريد بموضوع العلم إلّا ما كان يبحث فيه عن عوارضه الذاتية كما هو الحال في الفلسفة العالية كما تقدم. فإنّ البحث فيها عن الموجود بما هو موجود ، وعن تعيناته ، وتخصصاته ، وشئونه ، وكذلك الأمر في المقام ، فإنه أيضا يكون البحث هنا عن المحمول الكلي ، وعن تعيناته ، وتخصصاته ، وشئونه.

وإن فرض أن الوحدة كانت ناشئة بلحاظ الغرض : فإن كان هذا الغرض من سنخ النسب ، إذن فلا يعقل وحدته إلّا بوحدة طرفه ، فيرجع إذن إلى وحدة الموضوع ، أو المحمول. وإن لم يكن من سنخ النسب ، بل كان أمرا حقيقيا خارجيا معلولا للقضايا ، إذن فيكون هو موضوع العلم أيضا ، من قبيل المرض والصحة الذي هو الغرض من علم الطب. فإنّ تمام مسائل علم الطب ملحوظ باعتبار دخلها في الصحة ، والبحث فيها بالحقيقة عن أسباب الصحة وموانعها. والبحث عن الأسباب للشيء هو بحث عن العوارض الذاتية لذلك الشيء. كما يأتي توضيحه في بحث العوارض الذاتية.

٧١

والفلاسفة حينما قالوا : إنّ لكل علم موضوعا ، لم يريدوا أكثر ممّا ذكرناه ، وهذا الشيخ الرئيس يقول في كتابه (منطق الشفاء في المقالة الثانية من باب البرهان) ، بأنه : تارة يكون للعلم موضوع واحد كعلم الحساب الذي موضوعه العدد ، وأخرى يكون له موضوعات متعددة. وهذه الموضوعات المتعددة ، تارة يجمعها جنس واحد ، وأخرى لا يجمعها جنس واحد ، وعلى الثاني تارة تجمعها مناسبة واحدة ، وأخرى لا تجمعها مناسبة واحدة.

ومثال ما يجمعها جنس واحد : الخط ، والسطح ، والجسم ، فإنه يجمعها المقدار.

ومثال ما لا يجمعها جنس واحد ، ولكن تجمعها مناسبة واحدة : النقطة ، والخط ، والسطح ، والجسم ، فإن النقطة ليست مقدارا ، ولكن يصح أن تجعل هذه الأربعة موضوعا لعلم واحد باعتبار أن نسبة النقطة إلى الخط هي نسبة الخط إلى السطح ، ونسبة الخط إلى السطح نسبة السطح إلى الجسم.

ومن هنا نلاحظ أن الفلاسفة حينما أسسوا هذه القاعدة ، وهي : إن لكل علم موضوعا ، لم يريدوا ما وقع في خيال الأصوليين ، واضطرهم إلى الإشكال والجواب ، وإقامة البراهين على الاستحالة والنفي ، وإنما كان مرادهم شيئا يكفي مجرد تصوره للتصديق به ، وهو أنه لا بد لكل علم ما دام علما واحدا من محور ، وهذا المحور إما أن يكون منتزعا بلحاظ موضوعات مسائل ذلك العلم ، أو بلحاظ محمولات مسائله ، أو بلحاظ الغرض من هذه المسائل ، وهذا المحور هو موضوع العلم.

٧٢

التحقيق في المقدمة الثانية والمقدمة الثالثة

ولقد أدرجناهما معا لأنهما كانا موضع تساؤل في ثلاثة إشكالات من قبل علماء الأصول على نحو التداخل.

والمقدمة الثانية هي القائلة بأنه يبحث في كل علم عن عوارض موضوعه الذاتية ، لا عن العوارض الغريبة.

والمقدمة الثالثة هي التساؤل عن تفسير العرض الذاتي ، هل العرض الذاتي هو ما عرف عنهم بأنه ما يعرض للشيء بلا واسطة ، أو بواسطة أمر مساوي دون ما يعرض بواسطة أمر أعم داخلي أو خارجي ، ودون ما يعرض بواسطة أمر مباين أو أخص؟.

والإشكالات الثلاثة التي وجّهت على هاتين المقدمتين كتساؤل من قبل علماء الأصول هي :

أولا : هل أن ما ذكر هو تحديد للعرض الذاتي ، أو أنّ له تحديدا آخر؟.

ثانيا : بعد معرفة معنى العرض الذاتي نسأل بأنّه : هل يشترط أن يبحث في العلم عن عوارض موضوعه الذاتية ، أو يجوز أن يبحث فيه عن العوارض الغريبة أيضا؟.

ثالثا : بعد فرض قبول هذه القاعدة ، وهي أن يبحث في كل علم عن عوارض موضوعه الذاتية نتساءل بأنّه : كيف يمكن تطبيق هذه القاعدة بحيث يكون البحث منطبقا عليها في سائر العلوم؟.

الإشكال الأول :

وهو هل أن العرض الذاتي هو المحمول الذي يثبت الموضوع بلا واسطة

٧٣

أصلا ، أو بواسطة أمر مساوي مع الالتزام بأن ما يعرض بواسطة أمر أعم داخلي أو خارجي ، وبواسطة أمر أخص أو مباين ، أعراض غريبة؟.

المحقق العراقي (قده) حقق هذا البحث بأفضل تحقيق عرض من قبل علماء الأصول ، ولذا سوف نقتصر على عرضه دون غيره مع إجراء المناقشة المناسبة لما عرضه (١).

قال المحقق العراقي : بأنه لا ينبغي تقسيم العرض بما ذكر ، وإنما ينبغي تقسيمه على النحو التالي : إنّ العرض المحمول بالنسبة إلى الموضوع يتصور على أنحاء :

أ ـ النحو الأول :

أن يكون المحمول ذاتيا للموضوع بمعنى الذاتي في كتاب الكليات ، أي يكون جنسا له أو نوعا أو فصلا له.

ب ـ النحو الثاني :

أن يكون المحمول خارجا عن حريم ماهية الموضوع ، لازما له ، بحيث يكون الموضوع وحده كافيا للاتصاف به بلا حاجة إلى سبب من الخارج ، من قبيل الحرارة بالنسبة إلى النار ، فإنّ الحرارة ليست من ذاتيات النار ، ولكنها لازم لا يحتاج إلى واسطة.

ج ـ النحو الثالث :

أن يكون المحمول محتاجا إلى واسطة بالنسبة إلى الموضوع بمعنى أنه ليس ذاتيا ، ولا لازما ، بل هو عرض مفارق. ولكن هذه الواسطة حيثية تعليلية بمعنى كونها لثبوت المحمول للموضوع ، من قبيل مجاورة النار التي هي واسطة في ثبوت الحرارة للماء ، فإنّ الحرارة بالنسبة للماء ليست ذاتية ، ولا لازمة ، بل تحتاج إلى واسطة ، وهي مجاورة النار التي هي الحيثية التعليلية ، وهي العلة في

__________________

(١) بدائع الأفكار ـ العراقي : ج ١ ص ١٠.

٧٤

ثبوت الحرارة للماء. وهذه الحيثية التعليلية قد تكون مباينة كما هو الحال في المثال المذكور ، وقد تكون مساوية ، أو أعم ، أو أخص ، بمعنى أنّ الوسائط المذكورة في التساؤل يمكن أن تكون من هذا النحو إذا كانت حيثيات تعليلية.

وقبل الدخول في النحو الرابع نقول : بأنه ينبغي الاعتراف بأن العرض في هذه الأنحاء عرض ذاتي لأنه يعرض لموضوعه حقيقة وبالدقّة.

أمّا في النحو الأول : فواضح لأنه ثابت للموضوع في مرتبة ذاته باعتباره جنسا ، أو نوعا ، أو فصلا ، وهذا أعلى مراتب الثبوت.

وأمّا في النحو الثاني : فهو لازم له. إذن فهو عارض عليه ابتداء وبلا واسطة.

وأمّا في النحو الثالث : وإن كان فيه واسطة ، لكن الواسطة حيثية تعليلية ، لا حيثية تقييدية ، بمعنى أنها تعطي للموضوع شيئا ، والتعليلية هنا عرض ذاتي في المقام.

د ـ النحو الرابع :

أن يكون المحمول عارضا على الموضوع بواسطة هي حيثية تقييدية ، بمعنى أنّ الواسطة هي محط العرض ، لا ذا الواسطة. ولكن نفترض هنا أن ذا الواسطة هو جزء تحليلي من الواسطة ، من قبيل عروض أعراض النوع على الجنس ، فإنّ العرض هنا يعرض على الجنس بتوسط النوع ـ الذي هو أخص بحسب تقسيم المشهور ـ ولو لاحظنا ذا الواسطة نرى أنه معروض ضمني للعرض ، لا معروض استقلالي. والمعروض الاستقلالي للعرض هو النوع ، والعارض على النوع استقلالا عارض على الجنس ضمنا لأن الجنس جزء النوع.

وهذا بخلاف الأنحاء الثلاثة السابقة ، لأنّ الموضوع فيها معروض استقلالي للعرض.

ه ـ النحو الخامس :

أن يكون المحمول عارضا على الموضوع بواسطة ، والواسطة جزء من

٧٥

الموضوع ، لا الموضوع ، لا الموضوع جزء من الواسطة ، من قبيل عروض العرض على النوع بتوسط أمر أعم منه ، وهو الجنس الذي هو جزء النوع.

و ـ النحو السادس :

أن يكون المحمول عارضا على الموضوع بواسطة هي حيثية تقييدية ، لا حيثية تعليلية ، وتكون هذه الواسطة مباينة ذاتا مع ذي الواسطة ، ولكنها متحدة معه وجودا من قبيل أعراض الفصل بالنسبة إلى الجنس ، أو أعراض الجنس بالنسبة إلى الفصل. والفصل والجنس متغايران ذاتا ، متّحدان وجودا.

ز ـ النحو السابع :

أن يكون المحمول عارضا على الموضوع بواسطة ، ولكن هذه الواسطة مباينة لذي الواسطة ذاتا ووجودا ، من قبيل القول : بأن الجسم بطيء أو سريع ، فإنّ البطء والسرعة يعرضان على الحركة بحسب الحقيقة لأنها موضوعهما ، وبتوسط الحركة يعرض البطء أو السرعة على الجسم. والجسم والحركة متغايران ذاتا ، وماهية ، ووجودا.

وهكذا فإنّ المحقق العراقي قسّم العرض إلى سبعة أقسام لكنها غير السبعة الأخرى المشهورة ، وبعد ذلك قال (١) :

إنّ المناط في الذاتية ، إمّا أن يكون بلحاظ الحمل ، أو بلحاظ العروض ، فإن كان المناط في الذاتية أي التمييز بين العرض الذاتي وغير الذاتي ، إن كان بلحاظ عالم الحمل فالستة الأولى تكون أعراضا ذاتية ، لأنه يصح حملها حقيقة باعتبار أنه إما لا يوجد واسطة أصلا ، أو تكون الواسطة تعليلية ، أو تكون تقييدية ، ولكنها متحدة وجودا مع ذي الواسطة. والاتحاد في الوجود يصحح الحمل كما هو معروف.

وأما النحو السابع الأخير ، فلا يكون ذاتيا لأنه لا يوجد ما يصحح الحمل فيه حقيقة. وإن كان المناط في الذاتية هو بلحاظ عالم العروض ، لا بلحاظ

__________________

(١) بدائع الأفكار : ج ١ ص ١٢.

٧٦

الحمل. فمن الواضح أن الأنحاء الثلاثة الأخيرة ليس فيها عروض حقيقة ، وإنما العروض للواسطة ، لا لذي الواسطة.

ومن الواضح أيضا أنّ في الأنحاء الثلاثة الأولى عروضا حقيقيا ،. فهذه الثلاثة تكون أعراضا ذاتية ، لأن العروض فيها إما ذاتي ، أو لازم ، أو بواسطة تعليلية.

ويبقى الكلام في النحو الرابع فإن قلنا بكفاية العروض الضمني في الذاتية أدرجناه مع الثلاثة الأولى ، فتكون الأنحاء الأربعة الأولى أعراضا ذاتية ، وإن قلنا بتقوّم الذاتية بالعروض الاستقلالي فقط ، أدرجنا النحو الرابع مع الأنحاء الثلاثة الأخيرة ، فتكون الأنحاء الثلاثة الأولى فقط أعراضا ذاتية.

ثم استظهر المحقق العراقي (١) أن المناط في الذاتية ليس هو الحمل ، بل هو العروض. وليس هو مطلق العروض ، بل العروض الاستقلالي ، استظهر هذا من كلمات الحكماء ، وذلك لأنه لو كان مناط الذاتية هو مطلق العروض ، ولو ضمنيا ، أو كان مناط الذاتية أوسع من ذلك ، وهو أن يكون الحمل حقيقيا ، إذن للزم أن تكون العوارض الذاتية للنوع عوارض ذاتية للجنس. فالعوارض الذاتية للنوع هذه لها عروض ضمني للجنس ، لأن الجنس جزء من النوع ، ويكون حملها على الجنس أيضا حملا حقيقيا بلا عناية. فلو بنينا على أن المناط في الذاتية هو مطلق العروض ولو ضمنا ، فضلا عن البناء على أنّ المناط هو الحمل الذي هو أوسع من العروض ، للزم من ذلك أن تكون عوارض النوع ذاتية بالنسبة إلى الجنس. وهذا يقتضي أن يكون العلم الذي يبحث عن الجنس يبحث عن عوارض النوع أيضا ، فمثلا : علم الحيوان يجب أن يبحث عن عوارض الإنسان أيضا ، وعلم الطبيعي الذي موضوعه الجسم ، يجب أن يبحث عن عوارض علم الطب أيضا ، لأنها عوارض للجسم المخصوص بالمزاج المخصوص مع أنه ذكر (٢) عن المحقق الطوسي في (شرح الإشارات) أنه قال :

__________________

(١) بدائع الأفكار : ج ١ ص ١٣.

(٢) بدائع الأفكار : ج ١ ص ١١.

٧٧

إذا كان هناك موضوعان ، بينهما عموم وخصوص مطلق ، بأن كان أحدهما أخص من الآخر ، فيكون بحث الأخص تحت بحث الأعم ، وقد استفاد من ذلك أن البحث عن عوارض الأخص لا يدخل في بحث الأعم. وهذا برهان على أن بناءهم ليس على كفاية العروض الضمني ، فضلا عن كفاية الحمل في الذاتية ، لأن العروض الضمني موجود هنا ، فإنّ عوارض النوع عارضة على الجنس عروضا ضمنيا ، مع أنهم لم يقبلوا أن يجعلوا عوارض النوع جزءا من علم الجنس ، بل جعلوه تحت ذاك العلم الذي يبحث عن الجنس.

فهذا دليل على أن مناط الذاتية عندهم ليس هو مطلق العروض ، ولو ضمنا ، فضلا عن مطلق الحمل. إذن فينحصر العرض الذاتي بخصوص الأقسام الثلاثة الأولى ، هذا الذي أفاده المحقق العراقي وهذا يرد عليه ثلاثة إشكالات :

الإشكال الأول على المحقق العراقي :

هذا الإشكال ينصب على ما استفاده المحقق العراقي من كلمات الحكماء ، وجعله دليلا على أن مرادهم من الذاتية ليست الذاتية بلحاظ الحمل ، ولا بلحاظ مطلق العروض ، بل بلحاظ العروض الاستقلالي خاصة ، بدعوى أن المحقق الطوسي وغيره جعلوا علم الجنس فوق علم النوع ، وجعلوا البحث عن عوارضه تحت علم الجنس. وهذا معناه أن عوارض النوع ليست ذاتية للجنس مع أن لها عروضا ضمنيا على الجنس.

وهذا الكلام غريب من المحقق العراقي ، وإن استشهد له بكلام المحقق الطوسي ، فكأنه قرأ جزءا من كلام الطوسي ، ولم يقرأ الجزء الآخر منه. فإنّ المحقق الطوسي في (شرح الإشارات) (١) ذكر هذه العبارة التي نقلها عنه المحقق العراقي ، وهي : إن الموضوعين إذا كان بينهما عموم وخصوص مطلق ، فالبحث عن عوارض الأخص تحت البحث عن عوارض الأعمّ ، لكن هذه التحتية ليس معناها ما فهمه المحقق العراقي وهو : (إنها تحته بمعنى أنها خارجة) ، بل

__________________

(١) شرح الإشارات والتنبيهات ـ المحقق الطوسي : ج ١ ص ٣٠٢.

٧٨

المقصود من التحتية هنا هو ما يلائم كلا الوجهين : (ما يلائم كونه فيه) ، (وما يلائم كونه في طوله وخارجا عنه).

ومقصوده من التحتية كلا هذين الوجهين ، بدليل أنه يشرح مقصوده فيقول (١) :

بأن هذا الخاص مع ذاك العام تارة يفرض أن نسبة الخاص إلى العام كنسبة النوع إلى الجنس ، كالإنسان والحيوان ، وأخرى يفرض أنه نسبة المقيد إلى المطلق ، يعني أن الخاص أصبح خاصا لا بضمّ فصل خصّصه ونوّعه ، بل بضمّ قيد عرضي خارجي من قبيل ، الإنسان والإنسان العراقي ، الإنسان العراقي خاص بالنسبة إلى نوع الإنسان ، لكن هذا الخاص خصص بقيد عرضي لا بفصل منوّع ذاتي.

ثم يقول ـ وباختصار ـ : بأنه إذا كان الخاص من قبيل النوع مع الجنس ، فهو تحت علم الجنس وجزء منه ، وإن كان من قبيل المقيد مع المطلق من قبيل الإنسان العراقي مع طبيعي الإنسان ، فهو تحته وليس جزءا منه.

ولو أكمل المحقق العراقي قراءة العبارة ، لوجد أن عوارض النوع ذاتية بالنسبة إلى الجنس ، وداخلة في علم الجنس ، ومثل هذا التصريح موجود للشيخ الرئيس في منطق الشفاء ، إذن فتخيّل أن الحكماء بنوا على أن عوارض النوع غريبة عن الجنس ، وليست ذاتية للجنس ، تخيّل لا أساس له أصلا.

وبهذا يبطل ما استدلّ به على تعيين المراد من العرض الذاتي ـ وتعيين كون المناط في الذاتية ، هو العروض الاستقلالي ـ إذ لو كان المناط هو العروض الاستقلالي ، فكيف تصير العوارض الذاتية للنوع عوارض ذاتية للجنس بصريح كلماتهم؟ هذا هو الإشكال الأول.

الإشكال الثاني على المحقق العراقي :

هو أنه لا يعقل التفكيك والتفصيل بين الحمل والعروض بالنحو الذي

__________________

(١) المصدر السابق : ج ١ ص ٣٠٣.

٧٩

ادّعاه المحقق العراقي ، حيث ادّعى أن المناط في الذاتية إن كان هو الحمل ، فالستة الأولى كلها ذاتية ، وإن كان المناط في الذاتية هو العروض ، فالأربعة الأولى فقط أو الثلاثة الأولى فقط ذاتية ، فكأنه يفرّق بين الحمل والعروض ، ويجعل دائرة الحمل أوسع من دائرة العروض.

هذا المطلب أمر غير معقول ، فإنّ الحمل مع العروض لا ينفكّان وتوضيح ذلك :

ان الواقع له مرتبتان :

أ ـ مرتبة الوجود.

ب ـ ومرتبة التحليل التي هي أيضا من مراتب نفس الأمر والواقع.

فإذا لاحظنا مرتبة الوجود : فحينئذ متى ما صدق الحمل صدق العروض ، ومتى ما صدق العروض صدق الحمل ، يعني إذا لاحظنا مرتبة الوجود الخارجي إذن فلا بدّ وأن نقول : إن العروض فيها حقيقي وذاتي ، والحمل فيها حقيقي وذاتي ، ولا معنى لأن يقال بلحاظ مرتبة الوجود ـ بأن عرض الفصل ليس عرضا للجنس حقيقة ـ ، إذ في مرتبة الوجود لا يكون إلّا وجود واحد بإزاء الجنس والفصل. وقد عرض له العرض. إذن ففي مرتبة الوجود ، الجنس والفصل بإزائهما وجود واحد ، وهذا الوجود الواحد ، عرض له إدراك الكليات مثلا. إذن إدراك الكليات بلحاظ مرتبة الوجود عرض حقيقي ومحمول حقيقي أيضا.

وأما إذا لاحظنا مرتبة التحليل التي هي من مرتبة نفس الأمر والواقع ، أيضا في تلك المرتبة يكون الجنس شيئا ، والفصل شيئا آخر في مقابل الجنس ، في تلك المرتبة لا حمل ولا عروض. في مرتبة التحليل عوارض الفصل لا تعرض للجنس ، كما أنها لا تحمل على الجنس أيضا ، لأنّ الحمل مناطه الاتحاد ، وفي هذه المرتبة لا اتحاد ، لأنه في مرتبة التحليل ، الجنس والفصل متغايران ولا اتحاد بينهما ، فلا يحمل الفصل على الجنس. ولا يحمل عوارض الفصل على الجنس. إذن فقد تبرهن أن التفصيل بين العروض والحمل غير معقول ، بل إذا أريد أن يفصل بين مرتبة الوجود ومرتبة التحليل فيقال مثلا :

٨٠