تفسير القاسمي - ج ٦

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٦

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٥

بين الكتابين ومن أنزلا عليه. وإن شئت فوازن بين (أَسْرى بِعَبْدِهِ). و (آتَيْنا مُوسَى) وبين (هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) و (يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ). و (الواو) استئنافية أو عاطفة على جملة (سبحان الذي أسرى) إلخ لا على (أسرى) لبعده وتكلفه. وضمير (وجعلناه) للكتاب أو لموسى و (لبني إسرائيل) متعلق ب (هدى) أو ب (جعلناه) ، وهي تعليلية.

وقوله : (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً) أي وليا ومعبودا تكلون إليه أموركم. لأنه تعالى أنزل على كل نبيّ أرسله ، أن يعبده وحده لا شريك له ، وقد قرئ : (ألا يتخذوا) بالياء على الغيبة على حذف لام التعليل. والتقدير : جعلناه هدى لئلا يتّخذوا وقرئ بالتاء على الخطاب ، وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن (أن) بمعنى أي. وهي مفسرة لما تضمنه الكتاب من الأمر والنهي.

الثاني : أن (أن) زائدة ، أي قلنا : لا تتخذوا.

الثالث : أن (لا) زائدة ، زائدة والتقدير : مخافة أن تتخذوا. والوكيل والموكول إليه. أي المفوض إليه الأمور. وهو الرب. ف (فعيل) بمعنى مفعول. و (دون) بمعنى غير. و (من) زائدة. أو تبعيضية. وقوله : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) نصب على الاختصاص أو النداء. وفيه تهييج وتنبيه على المنة. والإنعام عليهم في إنجاء آبائهم من الغرق بحملهم مع نوح في السفينة. وإيماء إلى علة النهي. كأنه قيل : لا تشركوا به فإنه المنعم عليكم والمنجي لكم من الشدائد. وأنهم ضعفاء محتاجون إلى لطفه. وفي التعبير ب (الذرية) الغالب إطلاقها على الأطفال والنساء ، مناسبة تامة لما ذكر. وذكر حملهم في السفينة ، للإشارة إلى أنه لم يكن لهم حينئذ وكيل يتكلون عليه سواه. وقوله : (عَبْداً شَكُوراً) أي لمعرفته بنعم الله واستعمالها على الوجه الذي ينبغي. وفيه إيماء بأن إنجاءه ومن معه كان ببركة شكره ، وحث للذرية على الاقتداء به. وقيل : إنه استطراد. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) (٥)

(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) أي كتاب اللوح المحفوظ ، أي حكمنا

٤٤١

فيه (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) يعني أرض فلسطين بيت المقدس التي بارك الله حولها. والإفساد بالكفر والمعاصي.

قال السمين : في تعدية (قضينا) ب (إلى) تضمينه معنى أنفذنا. أي أنفذنا إليهم بالقضاء المحتوم. ومتعلق القضاء محذوف. أي بفسادهم. وقوله : (لَتُفْسِدُنَ) جواب قسم محذوف مؤكد لمعنى القضاء ، أو جواب لقوله : (وَقَضَيْنا) لأنه ضمن معنى القسم. ومنه قولهم (قضاء الله لأفعلن كذا) فيجرون القضاء والقدر مجرى القسم ، فيتلقيان بما يتلقى به القسم. و (مرتين) أي إفسادتين. منصوب على أنه مصدر (لتفسدن) من غير لفظه. وعدل عنه ، لأن تثنية المصدر وجمعه ليس بمطرد : (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) أي ولتستكبرن وتتعظمنّ عن طاعة الله تعالى ، أو لتظلمن الناس (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) أي موعود أولى المرتين ، أي وما وعدوا به في المرة الأولى ، يعني وعد المؤاخذة على أولى المفسدتين : (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي ذوي قوة وبطش في الحرب ، شديد (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) ترددوا خلال أماكنكم ومحالكم للقتل والسبي والنهب (وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) أي مقضيّا لا صارف له.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) (٨)

(ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) أي بعد هذه المؤاخذة الشديدة ، رددنا ، عند توبتكم ، لكم الغلبة التي كانت لكم في الأصل ، عليهم : (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) أي قوما ورهطا. جمع (نفر) أو اسم جمع له. وأصله من ينفر مع الرجل من قومه. وقوله تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) بمثابة التعليل لما قبله. أي فعلنا ذلك لتعلموا أنكم إن أحسنتم توبتكم وأعمالكم ، أحسنتم لأنفسكم ، بإبقاء الغلبة لها والإمداد بالأموال والبنين وتكثير النفير (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) أي فإساءتكم ضارة لها بغلبة الأعداء وسلب الأموال والبنين والنفير

٤٤٢

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي مؤاخذة المرة الآخرة وعقوبتها. وقوله تعالى : (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) متعلق بجواب (إذا) المحذوف. أي بعثناهم ليسوؤا وجوهكم ، أي ذواتكم بالإذلال والقهر.

قال الشهاب : عديت المساءة إلى الوجوه ، وإن كانت عليهم ، لأن آثار الأعراض النفسانية إنما تظهر في الوجه. كنضارة الوجه وإشراقه بالفرح. وكلوحه وسواده بالخوف والحزن. فالوجه ، بمعنى الذات مجاز مرسل ، أو استعارة تبعية. وقيل : الوجوه بمعنى الرؤساء. وهو تكلف. واختير هذا على (ليسوؤكم) مع أنه أخصر وأظهر ، إشارة إلى أنه جمع عليهم ألم النفس والبدن ، المدلول بقوله : (وَلِيُتَبِّرُوا). انتهى.

وقوله تعالى : (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ) أي الأقصى (كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا) أي يدمروا (ما عَلَوْا تَتْبِيراً) أي عظيما فظيعا ، والتتبير : التدمير. وكل شيء كسرته وفتّته فقد تبرته. ثم أشار إلى أن فعله تعالى ليخلصوا توبتهم وأعمالهم بقوله : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) أي إذ أخلصتم للإنابة ، وأحسنتم الأعمال ، وأقمتم الكتاب وما نزل إليكم ، لأنكم علمتم من سنته تعالى أنه لا ينزل بلاء إلا بذنب ولا يرفعه إلا بتوبة ، ولذا قال : (وَإِنْ عُدْتُمْ) أي بعد هذه التوبة والإنابة إلى الاستكبار (عُدْنا) أي إلى تسليط الأعداء وسلب الأموال والأولاد في الدنيا.

(وَجَعَلْنا) أي يوم القيامة (جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) أي محبسا وسجنا يحصرهم في العذاب والحرمان عن الثواب.

قال الشهاب : إن كان ـ (حصيرا) ـ اسما للمكان فهو جامد لا يلزم تذكيره وتأنيثه. وإن كان بمعنى حاصرا أي محيطا بهم ، وفعيل بمعنى فاعل ، يلزم مطابقته. فإما لأنه على النسب. كلابن وتامر. أو لحمه على (فعيل) بمعنى (مفعول). أو لأن تأنيث جهنم غير حقيقيّ أو لتأويلها بمذكر. انتهى.

وقيل : حصيرا ، أي بساطا كما يبسط الحصير. مثل قوله تعالى : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ) [الأعراف : ٤١] ، فهو تشبيه بليغ. والحصير بهذا المعنى بمعنى محصور لحصر بعض طاقاته على بعض. كما قاله الراغب.

تنبيه :

روي أن بني إسرائيل كان الأمر مستتبا لهم في فلسطين إلى موت سليمان عليه

٤٤٣

السلام. فلما ملك ابنه بعده ، وذلك قبل المسيح بما ينيف على تسعمائة سنة ، وقع من الاختلال في عهده ما أفضى إلى تقريره عبادة الأوثان. فعوجل بعد خمس سنين من ملكه بأخذ ملك مصر بيت المقدس وسلب كنوز هيكلها (المسجد الأقصى) ونهب ما فيها. ولما ساء تصرفه تمرد عليه شعبه وخلعوا طاعته. فانقسمت مملكته إلى قسمين : أحدهما دعى مملكة يهوذا وهي المؤلفة من سبطي يهوذا وبنيامين ، بقيا خاضعين لابن سليمان.

وثانيهما : دعي مملكة إسرائيل وهي المؤلفة من بقية الأسباط العشرة. وكان أول ملك على مملكة إسرائيل رجل يقال له يربعام. خاف من رجوع رعاياه إلى طاعة ابن سليمان إذا صعدوا إلى أورشليم في الأعياد الاحتفالية ليعبدوا الله في الهيكل ويقربوا ذبائحهم هناك. فأقام في مملكته عجلين من ذهب. وأمر رعيته بعبادتهما. ورتب لهم أعيادا احتفالية وكهنة وقامت حروب هائلة بين ملوك هاتين الطائفتين. وكان يتخللهما من الملوك من ينزع عبادة الأوثان. إلا أنه لا يلبث الحال حين يأتي ملك آخر فيعيد الوثنية. واستمرت مملكة إسرائيل نحوا من مائتين وخمسين سنة. وفي نهاية أمرهم عظمت خطيئاتهم فسلط عليهم ملك أشّور ففتح السامرة ـ بلدهم ـ وسباهم إلى أشّور وانقرضت مملكة العشرة الأسباط ولم يسمع ذكرهم بعد. ثم أرسل ملك أشّور قوما من بلده وأسكنهم مدن السامرة ليعمروها مع من بقي من أهلها. وأرسل معهم كاهنا من اليهود ليقيم لمن بقي طقوسهم. فعادوا إلى شركهم وعبادة الأوثان مع الله تعالى. وأما مملكة يهوذا فبقيت بعد انقراض مملكة إسرائيل ما ينيف على عشرين سنة ، وفي أواخر أيامها قام فيها ملك شرير. فزحف إليه ملك بابل نبوخذ ناصر (بختنصر) فسبى قسما من شعبه ، وكان السبي الأول.

ثم قام ، بعد ذلك الملك الشرير ، ابنه. فسار على طريقة أبيه. فعاد إليه ملك بابل المذكور واستأسره هو وآله ورؤساءه وقسما من الشعب. وسلب الهيكل. وكان هذا السبي الثاني بعد ثماني سنين من الأول.

ثم قام فيهم ملك أشرّ ممن تقدم ـ وهو آخر ملوكهم ـ وفي أيامه حاصر ملك بابل المذكور أيضا بيت المقدس ، وأسره إلى بابل ، وأحرق المدينة والهيكل ، وسبى كل شعب يهوذا ، ما عدا مساكين الأرض ، إلى بابل. وهذا هو السبي الثالث والأخير.

وهكذا انقرضت هذه المملكة وكانت إقامتهم في بابل سبعين سنة. ثم أطلقوا من الأسر فعادوا إلى بيت المقدس. وجددوا عمارتها وقيام الهيكل. وبقيت اليهود تحت تسلط ملوك فارس إلى أن ظهر الإسكندر الكبير. وغلبت اليونان الفرس وجاء

٤٤٤

الإسكندر إلى سورية فدخل بنو إسرائيل تحت حكم اليونان. وبعد وفاة الإسكندر انقسم ملكه إلى أربعة أقسام :

منها مملكة سورية ومصر. وكانت بينهما حروب متصلة. والإسرائيليون ، لما كانوا بينهم ، كانوا تارة تحت تملك مصر وأخرى تحت تسلط سورية. واتفق في خلال ذلك أن رفض كثير من اليهود الديانة اليهودية ، وتمسكوا بديانة اليونانيين.

ثم استولى الرومانيين على فلسطين. وجرت حروب هائلة بينهم وبين اليهود ، أفضى الأمر إلى تسلط الرومانيين عليهم. وتملكوا بيت المقدس. وهدم تيطس ، أحد ملوكهم ، الهيكل إلى أساسه. وأحرق كتب اليهود وتشتت أمرهم ، ولم يبق لهم ملك ولا رئاسة بعده وزعموا أن ذلك بعد رفع المسيح بنحو أربعين سنة ، وزعموا أن الهيكل تراجع للعمارة ورمم ، إلى أن سارت هيلانة ، أم قسطنطين إلى القدس وبنت كنيسة على القبر ، الذي يزعم النصارى أنه قبر المسيح. وخربت الهيكل وأمرت أن تلقي فيه قمامات البلد وزبالته فصار موضع الصخرة مزبلة. وبقي كذلك حتى قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفتح القدس. فأمر بتنظيفه وبنى في قبلته مسجدا ، إلى أن ملك الوليد بن عبد الملك ، فجدد بناءه على أساسه القديم وبنى قبة الصخرة.

وتفصيل هذه الماجريات معروفة في كتب التاريخ. ونحن لم نورد ما أوردناه على أنه تفسير للآية. لأنها بإيجازها غنية عنه ، وفي تفسيرنا لألفاظها كفاية في فهمها ، إلا أن أكثر المفسرين تطرفوا لبعض ما جريات اليهود هنا ، فنقحنا منها أحسن ما حرره المؤرخون المتأخرون ، إيضاحا لأفاعيلهم التي أشارت إليها الآيات الكريمة.

وقد قدمنا في سورة يوسف ؛ أنه ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار. وإنما هي الآيات في العبر تجلت في سياق الوقائع. ولذلك لم تذكر قصة بتفاصيلها. وإنما يذكر موضع العبرة فيها. كما قال تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) [يوسف : ١١١].

ثم بيّن تعالى مزية التنزيل الكريم التي فاق بها سائر ما أنزل ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) (٩)

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) أي للحالة التي هي أقوم الحالات وأسدّها أو للملة ، أو للطريقة.

٤٤٥

قال الزمخشري : وأينما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف لما في إبهام الموصوف بحذفه ، من فخامة تفقد مع إيضاحه.

(وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) أي يبشر المخلصين في إيمانهم ، وهم الذين يعملون الصالحات كلها ، ويجتنبون السيئات ؛ أن لهم في الدنيا والآخرة ثوابا وافرا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) (١١)

(وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي بالبعث والجزاء على الأعمال (أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي في الآخرة ، وهو عذاب النار.

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) أي مثل دعائه بالخير (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) قال أبو السعود : الآية بيان لحال المهديّ إثر بيان حال الهادي. وإظهار لما بينهما من التباين. والمراد بالإنسان الجنس ، أسند إليه حال بعض أفراده. أو حكى عنه حاله في بعض أحيانه. فالمعنى ، على الأول : أن القرآن يدعو الإنسان إلى الخير الذي لا خير فوقه من الأجر الكبير. ويحذره من الشر الذي لا شر وراءه من العذاب الأليم ، وهو ـ أي بعض منه وهو الكافر ـ يدعو لنفسه بما هو الشر من العذاب المذكور ، إما بلسانه حقيقة كدأب من قال : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] ، ومن قال : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الأعراف : ٧٠] ، إلى غير ذلك مما حكى عنهم ـ وإما بأعمالهم السيئة المفضية إليه ، الموجبة له مجازا. كما هو ديدن كلهم. وقوله : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) يعني بالإنسان من أسند إليه الدعاء المذكور من أفراده. عجولا يسارع إلى طلب ما يخطر بباله ، متعاميا عن ضرره. أو مبالغا في العجلة يستعجل العذاب وهو آتيه لا محالة. ففيه نوع تهكم به. وعلى تقدير حمل الدعاء على أعمالهم ، تحمل العجولية على اللج والتمادي في استيجاب العذاب بتلك الأعمال.

وعلى الثاني : أن القرآن يدعو الإنسان إلى ما هو خير. وهو في بعض أحيانه ، كما عند الغضب ، يدعه ويدعو الله تعالى لنفسه وأهله وماله بما هو شر. وكان

٤٤٦

الإنسان بحسب جبلته عجولا ضجرا لا يتأنى إلى أن يزول عنه ما يعتريه. أو يدعو بما هو شر وهو يحسبه خيرا. وكان الإنسان عجولا غير متبصرا لا يتدبر في أموره حق التدبر ليتحقق ما هو خير حقيق بالدعاء به ، وما هو شر جدير بالاستعاذة منه. انتهى.

ثم أشار تعالى إلى بعض وجوه الهداية في القرآن ، بالإرشاد إلى مسلك الاستدلال بالآيات والدلائل الآفاقية ، التي كل منها برهان نيّر لا ريب فيه. ومنهاج بيّن لا يضل من ينتحيه ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) (١٢)

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) أي جعلناهما ، بهيئاتهما وتعاقبهما واختلافهما في الطول والقصر ، علامتين تدلان على أن لهما خالقا حكيما : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) أي بجعلها مظلمة (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) أي مضيئة لتمييز الأشياء المحسوسة. والإضافة فيهما إما بيانية ، أي الآية التي هي الليل والآية التي هي النهار. وإما حقيقية. وآية الليل والنهار نيّراهما. والمراد بمحو القمر خلقه مطموس النور في نفسه. أو نقص ما استفاده من الشمس شيئا فشيئا إلى المحاق. وبجعل الشمس مبصرة إبداعها مضيئة بالذات. ذات أشعة تبصر بها الأشياء ، فالإسناد في (مبصرة) مجازي إلى السبب العاديّ ، أو تجوز بعلاقة السبب. وقوله تعالى : (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) متعلق ب (جعلنا) أي لتطلبوا في النهار رزقا منه سبحانه بالانتشار للمعاش والصناعات والأعمال والأسفار. (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي الحساب المتعلق بما في ضمن السنين من الأشهر والليالي والأيام ، أو الحساب الجاري في المعاملات ، كالبيوع والإجارات. وفي العبادات ، أي لتعرف مضيّ الآجال المضروبة لذلك. إذ لو لاه لما علم أحد حسبان الأوقات ولتعطلت الأمور.

قال السيوطيّ في (الإكليل) : هذه الآية أصل في علم المواقيت والهيئة والتاريخ. وفي الآية لف ونشر غير مرتب. انتهى.

وقوله تعالى : (وَكُلَّ شَيْءٍ) أي مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم (فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) أي بيناه في القرآن بيانا بليغا لا التباس معه. كقوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل : ٨٩] ، فظهر كونه هاديا للتي هي أقوم ظهورا بيّنا.

٤٤٧

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١٥)

(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) أي ألزمناه عمله الصادر منه باختياره خيرا وشرّا ، بحيث لا يفارقه أبدا. بل يلزمه لزوم الطوق في العنق ، لا ينفكّ عنه بحال.

قال الطبريّ : المعنى : وكل إنسان ألزمناه ما قضي أنه عامله ، وهو صائر إليه من شقاء أو سعادة بعمله ، في عنقه لا يفارقه. وإنما قوله : (أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) مثل لما كانت العرب تتفاءل به أو تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها.

وذلك أن العرب كانوا إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال ؛ وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو إلى شر ، اعتبروا أحوال الطير : وهو أنه يطير بنفسه أو يحتاج إلى إزعاجه. وإذا طار فهل يطير متيامنا أو متياسرا أو صاعدا إلى الجوّ ، إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ، ويستدلون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر والسعادة والنحوسة ، فلما كثر ذلك منهم ، سمي الخير والشر بالطائر ، تسمية للشيء باسم لازمه.

قال الطبريّ : فأعلمهم جل ثناؤه أن كل إنسان منهم قد ألزمه ربه طائره في عنقه ، نحسا كان ذلك الذي ألزمه من الطائر وشقاء يورده سعيرا أو كان سعدا يورده جنان عدن. وإنما أضيف إلى العنق ولم يضف إلى اليد أو غيرها من أعضاء الجسد ، قيل لأن العنق هو موضع السمات وموضع القلائد والأطوقة وغير ذلك مما يزين أو يشين ، فجرى كلام العرب بنسبة الأشياء اللازمة ببني آدم وغيرهم من ذلك ، إلى أعناقهم. وكثر استعمالهم ذلك حتى أضافوا الأشياء اللازمة سائر الأبدان إلى الأعناق. كما أضافوا جنايات أعضاء الأبدان إلى اليد ، فقالوا : ذلك بما كسبت يداه. وإن كان الذي جرّ عليه لسانه أو فرجه. فكذلك. قوله : (أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) وحاصله ـ كما قاله الرزيّ ـ أن قوله : (فِي عُنُقِهِ) كناية عن اللزوم. كما يقال : (جعلت هذا في عنقك) أي قلدتك هذا العمل وألزمتك الاحتفاظ به. ويقال : (قلدتك كذا وطوقتك كذا) أي صرفته إليك وألزمته إياك. ومنه (قلده السلطان كذا) أي صارت الولاية ،

٤٤٨

في لزومها له ، في موضع القلادة ومكان الطوق. ومنه يقال (فلان يقلد فلانا) أي يجعل ذلك الاعتقاد كالقلادة المربوطة على عنقه. وقوله تعالى : (وَنُخْرِجُ لَهُ) أي نظهر له (يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي البعث للجزاء على الأعمال (كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) أي يجده مفتوحا فيه حسناته وسيئاته. ويقال له : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) أي شهيدا بما عملت.

قال القاشانيّ : (كِتاباً) هيكلا مصورا يصوّر أعماله (يَلْقاهُ مَنْشُوراً) لظهور تلك الهيئات فيه بالفعل مفصلة ، لا مطويا كما كان عند كونها فيه بالقوة. يقال له : (اقْرَأْ كِتابَكَ) أي اقرأه قراءة المأمور الممتثل لأمر آمر مطاع يأمره بالقراءة. أو تأمره القوى الملكوتية. سواء كان قارئا أو غير قارئ. لأن الأعمال هناك ممثّلة بهيئاتها وصورها ، يعرفها كل أحد. لا على سبيل الكتابة بالحروف فلا يعرفها الأمىّ (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) لأن نفسه تشاهد ما فعلته لازما إياها ، نصب عينها ، مفصلا لا يمكنها الإنكار.

وقوله تعالى : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) قال أبو السعود : فذلكة لما تقدم من بيان كون القرآن هاديا لأقوم الطرائق ، ولزوم الأعمال لأصحابها. أي من اهتدى بهدايته ، وعمل بما فيه تضاعيفه من الأحكام ، وانتهى عما نهاه عنه ، فإنما تعود منفعة اهتدائه إلى نفسه ، لا تتخطاه إلى غيره ممن لا يهتدي (وَمَنْ ضَلَ) أي عن الطريقة التي يهديه إليها : (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي وبال ضلاله عليها ، لا على من عداه ممن لم يباشره. فقوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) مؤكد لما قبله للاهتمام به.

قال أبو السعود : أي لا تحمل نفسه حاملة للوزر ، وزر نفس أخرى ، حتى يمكن تخلص النفس الثانية عن وزرها. ويختل ما بين العامل وعمله من التلازم. بل إنما تحمل كل منهما وزرها. وهذا تحقيق لمعنى قوله عزوجل : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) وأما ما يدل عليه قوله تعالى : (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها ، وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها) [النساء : ٨٥] ، وقوله تعالى : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [النحل : ٢٥] ، من حمل الغير وزر الغير ، وانتفاعه بحسنته ، وتضرره بسيئته ، فهو في الحقيقة انتفاع بحسنة نفسه ، وتضرر بسيئته. فإن جزاء الحسنة والسيئة اللتين يعملهما العامل لازم له. وإنما الذي يصل إلى من يشفع ، جزاء شفاعته ، لا جزاء أصل الحسنة والسيئة. وكذلك جزاء الضلال مقصور على الضالين. وما يحمله المضلون ، إنما هو جزاء الإضلال لا جزاء الضلال.

٤٤٩

وإنما خصّ التأكيد بالجملة الثانية قطعا للأطماع الفارغة. حيث كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق ، فالتبعة على أسلافهم الذين قلدوهم. انتهى.

وقوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) بيان للعناية الربانية ، إثر بيان اختصاص آثار الهداية والضلال بأصحابها ، وعدم حرمان المهتدي من ثمرات هدايته ، وعدم مؤاخذة النفس بجناية غيرها. أي : وما صح وما استقام منا ، بل استحال في سنّتنا المبنية على الحكم البالغة ، أن نعذّب قوما حتى نبعث إليهم رسولا يهديهم إلى الحق ، ويردعهم عن الضلال ، لإقامة الحجة وقطعا للعذر. والعذاب أعمّ من الدنيويّ والأخرويّ ، لقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) [طه : ١٣٤] وقال تعالى : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ، قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) [الملك : ٨ ـ ٩] ، وكذا قوله : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً ، حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ، قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) [الزمر : ٧١] ، وقال تعالى : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ، أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ ، فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر : ٣٧] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى لا يعذب قوما عذاب استئصال ، ولا يدخل أحدا النار إلا بعد إرسال الرسل. قال قتادة : إن الله تعالى لا يعذب أحدا حتى يتقدم إليه بخبر أو بيّنة. ولا يعذب أحدا إلا بذنبه. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) (١٦)

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) بيان لوقوع التعذيب بعد الرسالة. وأنه إنما كان للتمرد على الرسل والتنكب عن منهجهم. وقد تدل الآية على أن التعذيب المتقدم مراد به الهلاك الدنيويّ لانحصارها فيه. والمعنى : إذا أردنا أن نعذب قوما عذاب استئصال (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) يعني متنعميها ، بالطاعة على لسان الرسول المبعوث إليهم (فَفَسَقُوا فِيها) بمخالفة أمره تعالى والخروج عن طاعته (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) فوجب عليها ، بمعصيتهم وفسقهم وطغيانهم ، وعيد الله الذي أوعد من كفر به وخالف رسله ، من الهلاك بعد

٤٥٠

الإعذار والإنذار بالرسل والحجج. (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) أي فخربناها تخريبا لا يكتنه كنهه ولا يوصف. وأهلكنا من كان فيها من أهلها إهلاكا هائلا. كما جرى لبيت المقدس ، لما انحرف اليهود عن شرعتهم ، على ما قدمنا بيانه ، وإنما خص المترفين ، وهم الجبارون والملوك والرؤساء ، بالذكر مع توجه الأمر إلى الكل ، لأنهم الأصل في الخطاب والباقي تبع لهم. ولأن توجه الأمر إليهم آكد. وإنما حذف مفعول (أَمَرْنا) لظهور أن المراد به الحق والخير. لا سيما بعد ذكر هداية القرآن لما يهدي إليه. وفي إيثار (القرية) على أهلها زيادة تهويل وتفظيع ، إشارة إلى التنكيل بهم بهدم صروحهم ودورهم ، وطمس أثرهم ، وهو أوجع للقلب وأنكى للعدوّ. ولذلك أتى إثره بالمصدر المؤكد فقال : (تَدْمِيراً) أي كليّا بحيث لم يبق لهم زرع أو ضرع.

قال القاشانيّ : إن لكل شيء في الدنيا زوالا. وزواله بحصول استعداد يقتضي ذلك. وكما أن زوال البدن بزوال الاعتدال ، وحصول انحراف يبعده عن بقائه وثباته ، فكذلك هلاك المدينة وزوالها بحدوث انحراف فيها من الجادة المستقيمة التي هي صراط الله وهي الشريعة الحافظة للنظام. فإذا جاء وقت إهلاك قرية ، فلا بد من استحقاقها للإهلاك. وذلك بالفسق والخروج عن طاعة الله. فلما تعلقت إرادته بإهلاكها ، تقدمه أولا بالضرورة فسق مترفيها من أصحاب الترف والتنعم بطرا وأشرا بنعمة الله ، واستعمالا لها فيما لا ينبغي. وذلك بأمر من الله وقدر منه ، لشقاوة كانت تلزم استعداداتهم. وحينئذ وجب إهلاكهم. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (١٧)

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) أي وكثيرا ما أهلكنا من الأمم الكافرة من بعد زمن نوح ، كعاد وثمود وفرعون. ممن قصّت أنباؤهم في القرآن العظيم ومن لم تقص. و (الْقُرُونِ) جمع قرن يطلق على الزمن المعين وعلى أهله المقترنين فيه ، وعلى كل أمة هلكت فلم يبق منها أحد. وخص (نُوحٍ) ولم يقل (من بعد آدم) لأنه أول رسول آذاه قومه فاستأصلهم العذاب. ففيه تهديد وإنذار للمشركين.

(وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) أي لا يخفى عليه شيء منها. فيدرك سرها وعلنها وسيجازي عليها.

والآية تدل ـ كما قال الزمخشريّ : على أن الذنوب هي أسباب الهلكة ، وذلك لأنه لما عقب إهلاكهم بعلمه بالذنوب علما أتمّ ، دل على أنه جازاهم بها.

٤٥١

القول في تأويل قوله تعالى :

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (١٩)

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً ، وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً).

أي من كان طلبه الدنيا العاجلة ، ولها يعمل ويسعى ، وإياها يبتغي. لا يوقن بمعاد ولا يرجو ثوابا ولا عقابا من ربه على عمله ، عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد. أي ما نشاؤه من بسط الدنيا عليه أو تقتيرها لمن أراد الله أن يفعل به ذلك. أو من إهلاكه بما يشاء تعالى من عقوباته المعجلة. ثم يصلي جهنم في الآخرة مذموما على قلة شكره لمولاه ، وسوء صنيعه فيما سلف له. مدحورا مطرودا من الرحمة ، مبعدا مقصيّا في النار. ومن أراد الآخرة وإياها طلب ، ولها عمل عملها الذي هو طاعة الله وما يرضيه عنه ، فأولئك كان عملهم مشكورا بحسن الجزاء.

تنبيه :

قال القفال رحمه‌الله : هذه الآية داخلة في معنى قوله : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) فالآية الأولى تشير إلى من جعل طائر نفسه شؤما. والثانية لمن جعله يمنا وخيرا. وفي قوله تعالى : (وَسَعى لَها سَعْيَها) أي ما يحق ويليق بها من الأعمال الصالحة ، تبيين لقوله : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ) بأن إرادتها هو بالسعي والنصب في مغالبة الباطل وإعلاء شأن الحق مع التلبس بالإيمان الصحيح. بفعل المأمور واجتناب المنهيّ عنه. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١) لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً) (٢٢)

(كُلًّا نُمِدُّ) أي كل واحد من الفريقين. وقوله : (هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ) بدل من

٤٥٢

(كلّا) (مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) أي فضله. فيرزقهما جميعا من رزقه إلى بلوغهما الأمد واستيفائهما الأجل. ما كتب لهما. ثم تختلف بهما الأحوال بعد الممات ، وتفترق بهما بعد الورود المصادر. ففريق مريدي العاجلة ، إلى جهنم مصدرهم. وفريق مريدي الآخرة ، إلى الجنة مآبهم : (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) أي ممنوعا لا يمنعه من عاص لعصيانه. والجملة كالتعليل لشمول الإمداد للفريقين (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي في الرزق في الدنيا (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) لأن فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ثم أشار تعالى إلى ما به تنال درجات الآخرة من البراءة من الشرك ، ومن الاعتصام بالإيمان وشعبه ، بقوله : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً) أي لا تجعل معه شريكا في عبادته فتصير مذموما ملوما على الشرك ، مخذولا من الله. يكلك إلى ذاك الشريك ولا ينصرك (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) [آل عمران : ١٦٠].

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) (٢٤)

(وَقَضى رَبُّكَ) أي أمر أمرا مقطوعا به (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي : وبأن تحسنوا بالوالدين إحسانا. قال القاشاني : قرن سبحانه وتعالى إحسان الوالدين بالتوحيد وتخصيصه بالعبادة ، لكونهما مناسبين للحضرة الربوبية ، لتربيتها إياك عاجزا صغيرا ضعيفا لا قدرة لك ولا حراك بك. وهما أول مظهر ظهر فيه آثار صفات الله تعالى من الإيجاد والربوبية. والرحمة والرأفة بالنسبة إليك. ومع ذلك فإنهما محتاجان إلى قضاء حقوقهما ، والله غنيّ عن ذلك. فأهم الواجبات بعد التوحيد ، إذا ، إكرامهما والقيام بحقوقهما ما أمكن (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً ، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) في هذا من المبالغة في إكرام الوالدين وبرهما ما لا يخفى. و (إِمَّا) هي (إن) الشرطية زيدت عليها (ما) تأكيدا لها. و (أَحَدُهُما) فاعل (يبلغن) و (كِلاهُما) عطف عليه. ومعنى (عِنْدَكَ) هو أن يكبرا ويعجزا ، وكانا كلّا على ولدهما ، ولا كافل لهما غيره ، فهما عنده في بيته وكنفه. وذلك أشق عليه وأشد احتمالا وصبرا. وربما تولى منهما ما كانا يتوليان منه ،

٤٥٣

في حال الطفولة. فهو مأمور بأن يستعمل معهما وطأة الخلق ولين الجانب والاحتمال. حتى لا يقول لهما ، إذا أضجره ما يستقذر منهما ، أو يستثقل من مؤنهما : (أُفٍ) فضلا عما يزيد عليه. أفاده الزمخشريّ.

وقوله : (وَلا تَنْهَرْهُما) أي تزجرهم عما لا يعجبك ، بغلظة (وَقُلْ لَهُما) بدل التأفيف والنهر (قَوْلاً كَرِيماً) أي حسنا كما يقتضيه حسن الأدب معهما. ومعنى قوله : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ) تذلّل لهما وتواضع. وفيه استعارة مكنية وتخييلية. فشبه الذل بطائر تشبيها مضمرا ، وأثبت له الجناح تخييلا ، والخفض ترشيحا. و (خفضه) ما يفعله إذا ضم أفراخه للتربية. أو استعارة تصريحية في المفرد وهو الجناح ، والخفض ترشيح. و (الجناح) الجانب كما يقال (جناحا العسكر) وخفضه مجاز. كما يقال (ليّن الجانب) و (منخفض الجانب) وإضافة الجناح إلى الذل للبيان. لأن صفة مبيّنة. أي جناحك الذليل. وفيه مبالغة لأنه وصف بالمصدر. فكأنه جعل الجناح عين الذل. أو التركيب استعارة تمثيلية. فيكون مثلا لغاية التواضع. وسر ذكر الجناح وخفضه ، تصوير الذل كأنه مشاهد محسوس. و (مِنَ) من قوله تعالى : (مِنَ الرَّحْمَةِ) ابتدائية على سبيل التعليل. أي من فرط رحمتك لهما ، وعطفك عليهما ، لكبرهما وافتقارهما اليوم ، إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس. وافتقار المرء إلى من كان مفتقرا له ، غاية في الضراعة والمسكنة. فيرحمه أشد رحمة. كما قال الخفاجيّ :

يا من أتى يسأل عن فاقتي

ما حال من يسأل من سائله؟

ما ذلة السلطان إلا إذا

أصبح محتاجا إلى عامله

وقوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) أي رب! تعطف عليهما برحمتك ومغفرتك ، كما تعطفا عليّ في صغري ، فرحماني وربياني صغيرا حتى استقللت بنفسي ، واستغنيت عنهما.

قال الزمخشري : أي لا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء لها ، وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية. واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك. والكاف للتعليل. أي لأجل تربيتهما لي.

قال الطيبيّ : الكاف لتأكيد الوجود. كأنه قيل : رب ارحمهما رحمة محققة مكشوفة لا ريب فيها كقوله : (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات : ٢٣] ، وهو وجه حسن.

٤٥٤

تنبيه :

استحب بعض السلف أن يدعو المرء لوالديه في أواخر التشهد قبيل السلام ، لأنه وقت فاضل. وقد جمعت من الأدعية المأثورة للوالدين المتوفيين أو أحدهما ، جملة ضممتها لكتابي (الأوراد المأثورة). لا أزال أدعو لهما بما في السحر أو بين أذان الفجر وإقامة صلاته ، لما أرى من مزية هذا الوقت على غيره. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) (٢٧)

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) أي ضمائركم من قصد البر إلى الوالدين والعقوق (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) أي قاصدين للصلاح والبرّ دون العقوق (فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ) أي التوابين الرجاعين إليه تعالى بالندم عما فرط منهم ، والاستقامة على المأمور (غَفُوراً) أي لهم ما اكتسبوا. ولا يخفى ما في صدر الآية من الوعد لمن أضمر البرّ. والوعيد لمن أضمر الكراهة والاستثقال والعقوق.

قيل : الآية استئناف يقتضيه مقام التأكيد والتشديد. كأنه قيل : كيف يقوم بحقهما وقد تبدر بوادر؟ قفيل : إذا بنيتم الأمر على الأساس ، وكان المستمر ذلك ، ثم اتفقت بادرة من غير قصد إلى المساءة ، فلطف الله يحجز دون عذابه. ويجوز ـ كما قال الزمخشريّ ـ أن يكون هذا عامّا لكل من فرطت منه جناية ثم تاب منها. ويندرج تحته الجاني على أبويه ، التائب من جنايته ، لوروده على أثره. ثم وصّى تعالى بغير الوالدين من الأقارب ، بعد الوصية بهما ، بقوله سبحانه : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) أي من صلته وحسن المعاشرة والبرّ له بالاتفاق عليه.

قال المهايميّ : لم يقل (القريب) لأن المطلق ينصرف إلى الكامل. والإضافة ، لما كانت لأدنى الملابسة ، صدق (ذو القربى) على كل من له قرابة ما. (وَالْمِسْكِينَ) أي الفقير من الأباعد. وفي الأقارب مع الصدقة صلة الرحم. (وَابْنَ السَّبِيلِ) أي المسافر المنقطع به. أي أعنه وقوّه على قطع سفره. ويدخل فيه ما يعطاه من حمولة أو معونة أو ضيافة. فإن ذلك كله من حقه (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) أي بوجه من الوجوه ، بالإنفاق في محرم أو مكروه ، أو على من لا يستحق ، فتحسبه

٤٥٥

إحسانا إلى نفسك أو غيرك. أفاده المهايميّ. وفي (الكشاف) : كانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها ، وتبذر أموالها في الفخر والسمعة ، وتذكر ذلك في أشعارها. فأمر الله بالنفقة في وجوهها. مما يقرب منه ويزلف.

(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) أي أمثالهم في كفران نعمة المال بصرفه فيما لا ينبغي. وهذا غاية المذمة لأن لا شرّ من الشيطان. أو هم إخوانهم أتباعهم في المصادقة والإطاعة. كما يطيع الصديق صديقه والتابع متبوعه ، أو هم قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد. والجملة تعليل المنهي عنه عن التبذير ، ببيان أنه يجعل صاحبه مقرونا معهم. وقوله : (وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) من تتمة التعليل. قال أبو السعود : أي مبالغا في كفران نعمته تعالى. لأن شأنه أن يصرف جميع ما أعطاه الله تعالى من القوى ، أي مبالغا في كفران نعمته تعالى. لأن شأنه أن يصرف جميع ما أعطاه الله تعالى من القوى ، إلى غير ما خلقت له من أنواع المعاصي. والإفساد في الأرض ، وإضلال الناس ، وحملهم على الكفر بالله وكفران نعمه الفائضة عليهم ، وصرفها إلى غير ما أمر الله تعالى به. وتخصيص هذا الوصف بالذكر. من بين سائر أوصافه القبيحة ، للإيذان بأن التبذير ، الذي هو عبارة عن صرف نعم الله تعالى إلى غير مصرفها ، من باب الكفران ، المقابل للشكر الذي هو عبارة عن صرفها إلى ما خلقت هي له. والتعرض لوصف الربوبية للإشعار بكمل عتوّه. فإن كفران نعمة الربّ ، مع كون الربوبية من أقوى الدواعي إلى شكرها ، غاية الكفران ونهاية الضلال والطغيان. انتهى.

وقد استدل بالآية من منع إعطاء المال كله في سبيل الخير ، ومن منع الصدقة بكل ماله.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) (٢٨)

(وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) أي وإن أن أعرضت عن ذوي القربى والمسكين وابن السبيل ، حياء من الردّ ، لانتظار رزق من الله ترجوه أن يأتيك فتعطيه ، فلا تؤيسهم وقل لهم قولا لينا سهلا ، وعدهم وعدا جميلا. قال في (الكشف) : (ابتغاء) أقيم مقام فقدانه. وفيه لطف. فكأن ذلك الإعراض لأجل السعي لهم. وهو من وضع المسبب موضع السبب. فإن الفقد سبب للابتغاء.

٤٥٦

قال السيوطيّ في (الإكليل) : في هذه الآية الأمر بالقول الليّن عند عدم وجود ما يعطى منه ، وفسّره ابن زيد بالدعاء. والحسن وابن عباس بالعدة. انتهى.

وظاهر ، أن القول الميسور يشمل الكل. وذهب المهايميّ إلى أن الآية في منعهم خوفا من أن يصرفوه فيما لا ينبغي. قال : أي وإن تحقق إعراضك عمن تريد الإحسان إليهم ، طلب رحمة من ربك في المنع عنهم لئلا يقعوا في التبذير ، بصرف المعطي إلى شرب الخمر أو الزنى ، لما عرفت من عاداتهم ، فقل لهم في الدفع قولا سهلا عليهم ، إحسانا إليهم بدل العطاء. انتهى.

ولم أره لغيره. والنظم الكريم يحتمله.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (٢٩)

(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) أي لا تمسك يدك عن النفقة والعطية لمن له حق ممن تقدم ، بمنزلة المشدودة يده إلى عنقه ، الذي لا يقدر على الأخذ بها والإعطاء (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) أي بالتبذير والسرف. قال ابن كثير : أي لا تسرف في الإنفاق فتعطي غير طاقتك وتخرج أكثر من دخلك (فَتَقْعُدَ) أي فتبقى (مَلُوماً) يلومك الفقراء والقرابة (مَحْسُوراً) أي نادما ، من (الحسرة) أو منقطعا بك لا شيء عندك من (حسرة السفر) إذا بلغ منه الجهد وأثر فيه.

وفي النهيين استعارتان تمثيليتان شبه في الأولى فعل الشحيح في منعه ، بمن يده مغلولة لعنقه ، بحيث لا يقدر على مدّها.

وفي الثانية ، شبه السرف ببسط الكف بحيث لا تحفظ شيئا. وهو ظاهر. وجعل ابن كثير قوله تعالى : (فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) من باب اللف والنشر المرتب. قال : أي فتقعد ، إن بخلت ، ملوما يلومك الناس ويذمونك. ويستغنون عنك كما قال زهير في المعلقة :

ومن كان ذا مال فيبخل بماله

على قومه يستغن عنه ويذمم

ومتى بسطت يدك فوق طاقتك ، قعدت بلا شيء تنفقه ، فتكون كالحسير. وهي الدابة التي عجزت عن السير ، فوقفت ضعفا وعجزا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (٣٠)

(إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي يوسعه ويضيقه ، حسب مشيئته

٤٥٧

وحكمته (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) أي خبيرا ببواطنهم ، بصيرا بظواهرهم.

قال المهايميّ : ولما وجب إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل ، لحفظ أرواحهم ، فالأولاد بحفظ الأرواح أولى ، لذلك قال تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) (٣١)

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) نهي لهم عما كانوا يفعلونه في الجاهلية من قتلهم أولادهم. وهو وأدهم بناتهم. أي دفنهن في الحياة. كانوا يئدونهن خشية الفاقة وهي الإملاق والفقر ، بالإنفاق عليهم إذا كبروا. فنهاهم الله وضمن لهم أرزاقهم بقوله : (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ) أي نحن المختصون بإعطاء رزقهم في الصغر والكبر ، وقوله تعالى : (وَإِيَّاكُمْ) أي الآن بإغنائكم. وقوله تعالى : (إِنَّ قَتْلَهُمْ) أي للإملاق الحاضر والخشية في المستقبل (كانَ خِطْأً كَبِيراً) أي لإفضائه إلى تخريب العالم. وأي خطء أكبر من ذلك.

تنبيه :

دل قوله تعالى : (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) على أن ذلك هو الحامل لهم على الوأد ، لا خوف العار كما زعموا. قال المبرّد في (الكامل) : كانت العرب في الجاهلية تئد البنات. ولم يكن هذا في جميعها. إنما كان في تميم بن مرّ ، وقيس ، وأسد ، وهذيل ، وبكر بن وائل.

ثم قال : ودل على ما من أجله قتلوا البنات فقال : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) وقال : (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) [الممتحنة : ١٢] ، فهذا خبر بيّن أنّ ذلك للحاجة. وقد روى بعضهم أنهم إنما فعلوا ذلك أنفة. وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنّى ؛ أن تميما منعت النعمان الإتاوة. فوجه إليهم أخاه الريان بن المنذر ، فاستاق النعم وسبى الذراري. فوفدت إليه بنو تميم. فلما رآها أحب البقيا. فأناب القوم وسألوه النساء. فقال النعمان : كل امرأة اختارت أباها ردت إليه ، وإن اختارت صاحبها تركت عليه. فكلهن اختار أباها إلا ابنة القيس بن عاصم فإنها اختارت صاحبها عمرو ابن المشمرج. فنذر قيس ألا تولد له ابنة إلا قتلها. فهذا شيء يعتلّ به من وأد ، ويقول : فعلناه أنفة ، وقد أكذب ذلك بما أنزل الله تعالى في القرآن.

وقال ابن عباس رحمه‌الله (في تأويل هذه الآية) : وكانوا لا يورّثون ولا

٤٥٨

يتخذون إلا من طاعن بالرمح ومنع الحريم ، يريد الذكران. والخطأ كالإثم ، لفظا ومعنى. ولما نهى عن قتل الأولاد ، نهى عن قطع النسل بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) (٣٢)

(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) أي فعلة قبيحة متناهية في القبح. توجب النفرة عن صاحبه ، والتفرقة بين الناس (وَساءَ سَبِيلاً) أي بئس طريقا طريقه. فإنه غصب الأبضاع المؤدي إلى اختلاف أمر الأنساب ، وهيجان الفتن غصبا من غير سبب. والسبب ممكن. وهو الصهر الذي شرعه الله ، وقال المهايميّ : (ساءَ سَبِيلاً) لقضاء الشهرة التي خلقت لطلب النسل ، بتضييعه. ثم ذكر ما هو أعظم في التنفير ، والتفرقة فقال تعالى مجده :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) (٣٣)

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) أي قتلها وهي نفس الإنسان (إِلَّا بِالْحَقِ) أي إلا بسبب الحق ، فيتعلق ب (لا تَقْتُلُوا) أو حال من فاعل (لا تقتلوا) أو من مفعوله. وجوز تعلقه ب (حرّم) أي حرّم قتلها إلا بالحق. وحقها أن لا تقتل إلا بكفر بعد إسلام ، أو زنى بعد إحصان ، أو قودا بنفس (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) أي ومن قتل بغير حق ، مما تقدم ، فقد جعلنا لوليّه ، الذي بينه وبينه قرابة توجب المطالبة بدمه (سُلْطاناً) أي تسلطا على القاتل في الاقتصاص منه. أو حجة يثب بها عليه ، وحينئذ فلا يسرف في القتل. أي فلا يقتل غير القاتل ، ولا اثنين والقاتل واحد ، كعادة الجاهلية. كان إذا قتل منهم واحد قتلوا به جماعة. وقوله : (إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) تعليل للنهي. والضمير للوليّ. يعني : حسبه أن الله قد نصره بأن أوجب له القصاص ، فلا يستزد على ذلك.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) (٣٤)

٤٥٩

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي لا تتصرفوا في ماله إلا بالطريقة التي هي أحسن ، وهي حفظه عليه وتثميره وإصلاحه. وقوله تعالى : (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) غاية جواز التصرف على الوجه الحسن : أي حتى يبلغ وقت اشتداده في العقل وتدبير ماله وصلاح حاله في دينه (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) أي العقد الذي تعاقدون به الناس في الصلح بين أهل الحرب والإسلام ، وفيما بينكم أيضا. والبيوع والأشربة والإجارات ونحوها (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) أي مطلوبا. يطلب من المعاهد الثبات عليه ، وعدم إضاعته أو : صاحبه مسؤول عن نقضه إياه. والمعنى : لا تنقضوا العهود الجائزة بينكم وبين من عاهدتموهم ، فتخفروها وتغدروا بمن أعطيتموه إياها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (٣٥)

(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ) أي أتموه إذا كلتم لغيركم ولا تبخسوه (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) أي بالميزان السوي ؛ بلا اعوجاج ولا خديعة (ذلِكَ خَيْرٌ) أي لكم في معاشكم لانتظام أموركم بالعدل ، وإيفاء الحقوق أربابها (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي عاقبة ومآلا ؛ إذ ليس معه مظلمة يطالب بها يوم القيامة. ثم أمر تعالى برعاية القسطاس المعنويّ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) (٣٧)

(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي لا تتبعه في قول أو فعل ، تسنده إلى سمع أو بصر أو عقل. من (قفا أثره) إذا تبعه.

قال الزمخشري : والمراد النهي عن أن يقول الرجل ما لا يعلم ، وأن يعمل بما لا يعلم. ويدخل فيه النهي عن التقليد دخولا ظاهرا ، لأنه اتباع لما لا يعلم صحته من فساده ، انتهى.

ولا يخفى ما يندرج تحت هذه الآية من أنواع كثيرة. كمذاهب الجاهلية في الإلهيات والتحريم والتحليل. وكشهادة الزور والقذف ورمي المحصنات الغافلات والكذب وما شاكلها (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) أي كان

٤٦٠