تفسير القاسمي - ج ٦

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٦

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٥

(إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ) أي بإمهالهم متمتعين بشهواتهم ، ولا يعجل عقوبتهم (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) أي ترتفع فيه أبصار أهل الموقف ، لهول ما يرون. فلا تقرّ أعينهم في أماكنها ولا تطرف.

القول في تأويل قوله تعالى :

(مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) (٤٣)

(مُهْطِعِينَ) أي مسرعين إلى الداعي الذي يدعوهم إلى المحشر. وهذا بيان لكيفية قيامهم من قبورهم ، وعجلتهم إلى المحشر كقوله تعالى : (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) [القمر : ٨] ، وقوله : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً) [المعارج : ٤٣].

(مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) أي رافعيها إلى السماء (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) أي لا يطرفون. ولكن عيونهم مفتوحة ممدودة من غير تحريك للأجفان (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) أي لا قوة فيها ولا ثبات ، لشدة الفزع.

قال الزمخشري : الهواء الخلاء الذي لم تشغله الأجرام ، فوصف به. فقيل : قلب فلان هواء ، إذا كان جبانا لا قوة في قلبه ولا جراءة. ويقال للأحمق أيضا : قلبه هواء. والمعنى : أن القلوب يومئذ زائلة عن أماكنها. والأبصار شاخصة. والرؤوس مرفوعة إلى السماء من هول ذلك اليوم وشدته وخوف ما يقع فيه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) (٤٤)

قوله : (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) يعني يوم القيامة (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا) أي ردّنا إلى الدنيا وأمهلنا (إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي أمد من الزمان قريب (نُجِبْ دَعْوَتَكَ) أي إلى الإقرار بتوحيدك وأسمائك الحسنى. (وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) أي فيما دعونا إليه من الشرائع.

(أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ) على إضمار القول. أي فيقال لهم توبيخا وتبكيتا ـ : أو لم تكونوا تحلفون (مِنْ قَبْلُ) يعني في الدنيا (ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) أي من دار الدنيا إلى دار أخرى للجزاء. كقوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) [النحل : ٣٨].

٣٢١

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) (٤٥)

(وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) كعاد وثمود (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) أي بما تشاهدونه في منازلهم من آثار ما نزل بهم وما تواتر عندكم من أخبارهم (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) أي صفات ما فعلوا وما فعل بهم. أي ومع ذلك فلم يكن لكم فيهم معتبر ولا مزدجر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) (٤٦)

(وَقَدْ مَكَرُوا) أي بالنبيّ صلوات الله عليه (مَكْرَهُمْ) أي العظيم أي الذي استفرغوا فيه جهدهم لإبطال الحق وتقرير الباطل (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) أي جزاء مكرهم (إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ) أي في العظم والشدة (لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) أي مسوّى ومعدّا لإزالة الجبال عن مقارّها ، لتناهي شدته.

وجوّز في (إن) كونها نافية واللام مؤكدة له. والمعنى : ومحال أن تزول الجبال بمكرهم. على أن الجبال مثل (أي استعارة تمثيلية) لآيات الله وشرائعه. لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتا وتمكنا. وينصره قراءة ابن مسعود : (وما كان مكرهم) وقرئ (لِتَزُولَ) بلام الابتداء أي هو من الشدة بحيث تزول منه الجبال وتنقلع من أماكنها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) (٤٧)

(فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) أي من نصرهم المبين في قوله تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) [غافر : ٥١] ، (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة : ٢١] ، (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) [النور : ٥٥] الآية.

٣٢٢

واستظهر أبو السعود : أن المعنى بالوعد هنا عذابهم الأخروي المتقدم في قوله تعالى : (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ) إلخ [إبراهيم : ٢٢] ، ولا يخفى أن الوعد قد بين في مثل الآية الأخيرة والأوليين ، في معناها. والبيان يرفع اللبس وإنما أوثر تقديم المفعول الثاني ، أعني (وعده) ، على الأول وهو (رسله) للإيذان بالعناية به ،. فإن الآية في سياق الإنذار والتهديد للظالمين بما توعدهم الله به على ألسنة الرسل. فالمهمّ في التهديد ذكر الوعيد. كذا في (الانتصاف).

وفي (الكشف) تقديمه للاعتناء به وكونه المقصود بالإفادة. وما ذكره ممن وقع الوعد على لسانه ، إنما ذكر بطريق التبع للإيضاح ، والتفصيل بعد الإجمال. وهو من أسلوب الترقي كما في قوله : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) [طه : ٢٥]. و (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي غالب لا يماكر (ذُو انتِقامٍ) من أعدائه ، نصرا لأوليائه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٤٨)

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) وذلك أنه تسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها وتسوّى ، فلا يرى فيها عوج ولا أمت. وتبدل السموات بانتثار كواكبها وكسوف شمسها وخسوف قمرها وانشقاقها وكونها أبوابا و (يوم) بدل من (يوم يأتيهم) أو ظرف للانتقام أو مقدر ب (اذكر) أو (لا يخلف وعده).

(وَبَرَزُوا) أي الخلائق أو الظالمون من أجداثهم (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) أي لحسابه وجزائه.

قال أبو السعود : والتعرض للوصفين لتهويل الخطب وتربية المهابة وإظهار بطلان الشرك وتحقيق الانتقام في ذلك اليوم على تقدير كونه ظرفا له. وتحقيق إتيان العذاب الموعود على تقدير كونه بدلا من (يوم يأتيهم العذاب) فإن الأمر إذا كان لواحد غلّاب ، كان في غاية الشدة والصعوبة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) (٤٩)

(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) جمع (مقرّن) وهو من جمع في قرن (بفتحتين) الوثاق الذي يربط به. أي قرن بعضهم مع بعض حسب اقترانهم في

٣٢٣

الجرائم والفساد. فيجمع بين النظراء والأشكال منهم ، كل صنف إلى صنف. كما قال تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) [الصافات : ٢٢]. وقال : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) [التكوير : ٧] ، أو : قرنوا مع الشياطين ، لقوله تعالى : (لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ) [مريم : ٦٨] ، أو قرنت أيدهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال. وقوله تعالى : (فِي الْأَصْفادِ) أي القيود أو الأغلال جمع صفد (بفتحتين) بمعنى القيد أو الغل. والقيد هو الذي يوضع في الرجل. والغل (بالضم) ما في اليد والعنق وما يضم به اليد والرجل إلى العنق. والجارّ متعلق ب (مُقَرَّنِينَ) أو حال من ضميره أي مصفدين وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) (٥٠)

(سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) تشبيه لهم بأكره ما يوجد منظرا عند العرب. وهو الإبل الجربى التي تطلى بالقطران. وإعلام بأن لهم أعظم ما ينال الجلد داء وهو تقرحه بالجرب. وأخبث ما يكون دواء لقبحه لونا وريحا ، وهو القطران. فإنه أسود منتن الريح.

قال الزمخشري : تطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل وهي القمص لتجتمع عليهم الأربع : لذع القطران ، وحرقته ، وإسراع النار في جلودهم ، واللون الوحش ، ونتن الريح. على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين. وكل ما وعده الله وأوعد به في الآخرة فبينه وبين ما نشاهده من جنسه ما لا يقادر قدره. وكأنه ما عندنا منه إلا الأسامي. والمسميات ثمة. فبكرمه الواسع نعوذ من سخطه. ونسأله التوفيق فيما ينجينا من عذابه. انتهى.

ويؤيد ما بيناه من أن في الآية إشارة إلى ابتلائهم بجرب جهنم : ما رواه الإمام أحمد (١) ومسلم (٢) عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن : الفخر بالأحساب. والطعن في الأنساب. والاستسقاء بالنجوم. والنياحة على الميت. والنائحة إذا لم تتب قبل موتها ، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب.

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٥ / ٣٤٢.

(٢) أخرجه مسلم في : صحيحه في : الجنائز ، حديث ٢٩.

٣٢٤

وقد وقفت على رسالة لشمس البلغاء الخوارزمي أنفذها لمن شكا إليه داء الجرب. جاء منها قوله : الجرب حكة مادتها يبوسة وحرارة ووقود والتهاب. وعسكر من عساكر البلاء تمده القذارة. كما تزيد فيه اليبوسة والحرارة. وعلة تدل على تضييع واجب النفس من التعهد. وعلى التفريط في العلاج والتفقد. تنطق بأن صاحبها ضعيف المنّة في التوفي. أسير في يد الحرص والتشهّي. غاشّ لنفسه. قليل البقيا على روحه. وهذه العلة تكسب صاحبها خزيا وحياء. وتورثه خجلا واسترخاء ينظر إلى الناس بعين المريب. ويتستر عنهم كتستر المعيب. تنفر عنه الطباع ، وتستقذره النفوس. وتنبو عن مواكلته العيون. وأقل ما يصيبه أنه يحرم آلة المطاعم وهي يداه. وآلة اللقاء والزيارة وهي رجلاه. ولو لم يكن من دقائق آفاتها. ومن عجيب هباتها. إلا أنها تشيخ الفتيان. وتمسخ الإنسان. وتجعله أمّيا بعد أن كان غير أمّي. وأعجميّا وليس بأعجميّ. تنفر عن نفسه نفسه. وتهرب من فراشه عرسه. ويتباعد عنه أقرب الناس منه. ثم هي ربع من أرباع الخذلان وقسم من أقسام الحرمان. قال الشاعر :

أعاذك الله من أشياء أربعة :

الموت والعشق والإفلاس والجرب

وما الظن بداء قد سارت به الأمثال وقيلت فيه ، دون سائر الأدواء ، الأقوال.

قال أبو تمام :

لما رأت أختها بالأمس قد خربت

كان الخراب لها أعدى من الجرب

وقال لبيد :

ذهب الذين يعاش في أكنافهم

وبقيت في خلف كجلد الأجرب

فجعله رأس الأدواء. ووصفه بأنه غاية البلاء. انتهى. وقوله تعالى :

(وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) أي تعلوها وتحيط بها النار التي تمسّ جسدهم المسربل بالقطران. وتخصيص الوجوه لكونها أعز موضع في ظاهر البدن وأشرفه. كالقلب في باطنه ولذلك قال : (تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) [الهمزة : ٧] ، ولكونها مجمع الحواس التي خلقت لإدراك الحق. وقد أعرضوا عنه ، ولم يستعملوها في تدبره. كما أن الفؤاد أشرف الأعضاء الباطنة ومحل المعرفة ، قد ملؤوها بالجهالات. أفاده الزمخشري وأبو السعود.

٣٢٥

القول في تأويل قوله تعالى :

(لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٥١)

(لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) الجار متعلق بمحذوف. أي يفعل بالمجرمين ما يفعل ليجزي إلخ. و (النفس) مخصوصة بالنفس المجرمة بقرينة المقام. أو عام للبرة والفاجرة. وعليه فيجوز تعلقه بقوله (وَبَرَزُوا) وما بينهما اعتراض أو ب (ترى) (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي محاسبة الخلائق يوم القيامة. لأنه لا يشغله شأن عن شأن. وجميع الخلق بالنسبة إلى قدرته كالواحد منهم. كقوله : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [لقمان : ٢٨] ، أو المعنى سريع حسابه أي مجيئه كقوله : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء : ١] ، وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٥٢)

(هذا) إشارة إلى القرآن أو السورة وقوله (بَلاغٌ لِلنَّاسِ) أي كفاية لهم لما فيه من العظة والتذكير. وقوله (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) أي ليخوّفوا وليوعظوا به عن الجرائم التي أخذ بها الأولون (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) أي يستدلوا بما فيه من الحجج والدلائل على أنه لا إله إلا هو. وإنما قدم إنذارهم لأنهم إذا خافوا ما أنذروا به ، دعتهم المخافة إلى النظر حتى يتوصلوا إلى التوحيد. لأن الخشية أم الخير كله. أفاده الزمخشريّ : (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي ليتعظ به ذوو العقول ، فيقبلوا على ما فيه نجاتهم وسعادتهم.

٣٢٦

بسم الرحمن الرحيم

سورة الحجر

سميت بها لاشتمالها على قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) [الحجر : ٨٠] ، إلى قوله : (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) الدال على مؤاخذتهم لمجرد تكذيب الرسل والإعراض عن آيات الله ، بأدنى وجوه المؤاخذة ، مع غاية تحصنهم. ففيه غاية تعظيم الرسل والآيات. وهو من أعظم مقاصد القرآن : أفاده المهايميّ. وهي مكية وآياتها تسع وتسعون.

٣٢٧

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) (١)

(الر) تقدم الكلام في مثله (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) الإشارة إلى (الر) لأنه اسم للسورة أي تلك السورة العظيمة آيات الكتاب الكامل وآيات قرآن عظيم الشأن ، مبين للحكم والأحكام ولسبيل الرشد والغي. من (أبان) المتعدي. أو الظاهر معانيه أو أمر إعجازه ، وكونه آية قاهرة من (أبان) اللازم. أو الإشارة إلى آيات السورة أو إلى جميع آيات القرآن. وتعريف الكتاب للتعظيم والتفخيم ، كتنكير (قرآن). وقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) (٢)

(رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) تبشير للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بظهور دينه. وأنه سوف يأتي أيام يتمنى الكافرون بها ، أن لو سبق لهم الإسلام فكانوا من السابقين. لما يرون من إعلاء كلمة الدين وظهوره على رغم الملحدين. لأن من تأخر إسلامه منهم ، وإن ناله من الفضل ما وعد به الحسنى ، ولكن لا يلحق السابقين (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً) [الحديد : ١٠] ، وفيه تثبيت للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الصدع بالدعوة والصبر عليها ، لما أن العاقبة له. وإنما جيء بصيغة التقليل ، جريا على مذهب العرب في قولهم : لعلك ستندم على فعلك. ترفعا واستغناء عن التصريح بالغرض بناء على ادعاء ظهوره.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٣)

(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) أي بدنياهم وتنفيذ شهواتهم (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) أي

٣٢٨

يشغلهم عن التوبة والتذكير ، أمل استقامة الحال. وأن لا يلقوا إلا خيرا في المآل (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي لمن تكون له العقبى.

قال الزمخشري : فيه تنبيه.

ثم بيّن تعالى سر تأخير عذابهم بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) (٤)

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) أي أجل مقدّر ليتأمّل في أسباب الهلاك ليتخلص عنها ، وذلك بما قام من الحجة عليها ، بتقدم الإنذار وتكرّره على سمعهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) (٥)

(ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) أي لا تهلك قبله (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) أي عنه ، للزوم الحجة وارتفاع الأعذار. ثم أخبر تعالى عن عتوهم في كفرهم بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (٦)

(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) أي يا أيها المدعي ذلك! إنك لمجنون في دعائك إيانا إلى اتباعك ، وترك ما وجدنا عليه آباءنا. أو في دعواك تنزيل الذكر. أو نادوه بذلك استهزاء وتهكما. أو هو من كلامه تعالى تبرئة له عما نسبوه إليه من أول الأمر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) (٨)

(لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي هلّا تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك ويعضدونك على إنذارك كقوله : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ

٣٢٩

نَذِيراً) [الفرقان : ٧] ، وقول فرعون : (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) [الزخرف : ٥٣].

ثم أشار إلى جواب مقالهم ، وردّ مقترحهم بقوله تعالى : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) أي عليهم فيأتونهم ويشاهدونهم (إِلَّا بِالْحَقِ) أي الحكمة التي جرت بها السنّة الإلهية وهو العذاب (وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) أي مؤخّرين. كقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا ، لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً ، يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) [الفرقان : ٢١ ـ ٢٢].

ثم أشار إلى ردّ إنكارهم التنزيل مع تسلية وبشارة عظيمة ، بقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٩)

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) أي من كل من بغى له كيدا. فلا يزال نور ذكره يسري ، وبحر هداه يجري ، وظلال حقّيّته في علومه تمتد على الآفاق ، ودعائم أصوله الثابتة تطاول السبع الطباق ، رغما عن كيد الكائدين ، وإفساد المفسدين (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [الصف : ٨] ، وفي إيراد الجملة الثانية اسمية ، دلالة على دوام الحفظ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (١١)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) أي رسلا (مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) أي فرقهم وطوائفهم. جمع (شيعة) وهي الفرقة المتفقة على مذهب وطريقة. و (الأولين) نعت لمحذوف. أي الأمم. أو الكلام. من إضافة الصفة للموصوف. (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي كما يفعله هؤلاء المشركون.

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) (١٣)

(كَذلِكَ نَسْلُكُهُ) أي الذكر المنزل (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) أي الكافرين

٣٣٠

وقوله : (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بالذكر. حال من ضمير (نسلكه) أي مكذّبا مستهزأ به غير مقبول.

قال الزمخشري : كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت : كذلك أنزلها باللئام. تعني مثل هذا الإنزال أنزلها بهم مردودة غير مقضية. وقيل الجملة بيان لما قبلها. وجوّز في ضمير (نسلكه) أن يعود إلى الاستهزاء والتكذيب المعلوم. وقوله تعالى : (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) استئناف جيء به تكملة للتسلية ، وتصريحا بالوعيد والتهديد. أي قد مضت السنة فيهم من هلاكهم. وزهوق باطلهم ، ونصر الرسل ، وغلبة جنود المؤمنين عليهم ، واستعمارهم ديارهم. ثم بيّن تعالى أنهم لا يتركون الاستهزاء بالرسل وإن أتتهم الآيات التي تشبه الملجئة لقوة عنادهم وبغيهم ، بقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (١٥)

(وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ) أي على هؤلاء المستهزئين (باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا) أي فصاروا طول نهارهم (فِيهِ يَعْرُجُونَ) أي يصعدون مستوضحين لما يرونه فيها من العجائب (لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) أي حيّرت أو حبست من الإبصار ، وما نراه شيء نتخايله لا حقيقة له (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ).

قال الناصر في (الانتصاف) : المراد ، والله أعلم ، يعني من الآيتين ، إقامة الحجة على المكذبين بأن الله تعالى سلك القرآن في قلوبهم وأدخله في سويدائها. كما سلك ذلك في قلوب المؤمنين المصدقين. فكذب به هؤلاء وصدق به هؤلاء. كلّ على علم وفهم (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال : ٤٢٢] ، ولئلا يكون للكفار على الله حجة بأنهم ما فهموا وجوه الإعجاز كما فهمها من آمن. فأعلمهم الله تعالى من الآن. وهم في مهلة وإمكان ، أنهم ما كفروا إلا على علم. معاندين باغين غير معذورين ، والله أعلم. ولذلك عقبه تعالى بقوله (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ) الآية ، أي هؤلاء فهموا القرآن وعلموا وجوه إعجازه وولج ذلك في قلوبهم ووقر ، ولكنهم قوم سجيتهم العناد وسيمتهم اللدد ، حتى لو سلك بهم أوضح السبيل وأدعاها إلى الإيمان بضرورة المشاهدة ، وذلك بأن يفتح لهم باب في السماء ويعرج بهم إليه حتى يدخلوا منها نهارا.

٣٣١

وإلى ذلك الإشارة بقوله (فَظَلُّوا) لأن الظلول إنما يكون نهارا. لقالوا بعد هذا الإيضاح العظيم المكشوف (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) وسحرنا محمد. وما هذه إلا خيالات لا حقائق تحتها. فأسجل عليهم بذلك أنهم لا عذر لهم في التكذيب ، من عدم سماع ووعي ووصول إلى القلوب وفهم ، كما فهم غيرهم من المصدقين ، لأن ذلك كله حاصل لهم. وإنما بهم العناد واللدد والإصرار ، لا غيره. والله أعلم.

ثم بيّن تعالى دلائل وحدته وعظمته وقدرته الباهرة ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) (١٨)

(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) جمع (برج) يطلق على القصر والحصن وعلى المنازل الأثني عشر التي تنتقل فيها الشمس في ظاهر الرؤية.

وقد فسرت البروج في الآية بالنجوم وبالمنازل المذكورة وبالقصور ، على التشبيه بحصون الأرض وقصورها. فإن النجوم هياكل فخيمة عظيمة (وَزَيَّنَّاها) أي السماء بتلك البروج المختلفة الأشكال والأضواء المرئية (لِلنَّاظِرِينَ) أي إلى حركاتها وأضوائها. أو للمتفكرين المعتبرين المستدلين بها على قدرة موجدها ووحدانيته (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) ، (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ) أي اختلس (السَّمْعَ) أي من الملائكة السماوية (فَأَتْبَعَهُ) أي تبعه ولحقه (شِهابٌ مُبِينٌ) أي لهب محرق ظاهر ، فيرجع أو فيحترق.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (١٩)

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) أي بسطناها (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) أي وزن بميزان الحكمة ، وقدّر بمقدار تقتضيه ، لا يصلح فيه زيادة ولا نقصان ، أو بمعنى مستحسن متناسب من قولهم : كلام موزون.

وقد ذكر الشريف المرتضى في (الدرر) : أن العرب استعملته بهذا المعنى ، كقول عمر ابن أبي ربيعة.

وحديث ألذّه هو مما

تشتهيه النّفوس يوزن وزنا

٣٣٢

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٢١)

(وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) أي ما تعيشون به من المطاعم والملابس وغيرهما ، مما تقتضيه ضرورة الحياة (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) أي من الأنعام والدواب وما أشبهها. قال القاضي : وفذلكة الآية الاستدلال بجعل الأرض ممدودة بمقدار وشكل معينين ، مختلفة الأجزاء في الوضع ، محدثة فيها أنواع النبات والحيوان المختلفة خلقة وطبيعة ، مع جواز أن لا يكون كذلك ، على كمال قدرته وتناهي حكمته والتفرد في الألوهية والامتنان على العباد ، بما أنعم عليهم في ذلك ، ليوّحدوه ويعبدوه. ثم بالغ في ذلك وقال : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) أي وما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه. شبه اقتداره على كل شيء وإيجاده بالخزائن المودعة فيها الأشياء ، المعدّة لإخراج ما يشاء منها وما يخرجه إلا بقدر معلوم ، استعارة تمثيلية. أو شبّه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي لا يحوج إخراجها إلى كلفة واجتهاد. استعارة مكنية. ومعنى (نُنَزِّلُهُ) أي نوجده ونخرجه في عالم الشهادة. والقدر المعلوم الأجل المعين له ، حسبما تقتضيه الحكمة ، وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) (٢٣)

(وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) أي تلقح السحاب أي تجعلها حوامل بالماء. وذلك أن السحاب بخار يصير ، بإصابته الهواء البارد ، حوامل للماء. قاله المهايمي : فاللواقح ، عليه ، جمع (ملقح) بحذف الزوائد. أو تلقح الشجر بجري مائها فيه أو تنميته ليثمر ويزهو. وجوّز كون اللواقح جمع (لاقح) وهي الناقة الحامل. فشبهت الريح التي تجيء بالمزن الممطرة بها. كما يشبه ما لا تكون كذلك ب (العقيم) فيقل : ريح عقيم. (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) أي بقادرين على إيجاده وإنزاله. و (الخزن) اتخاذ الخزائن يستعار للقدرة ، كما مرّ. أو بحافظين له في أمكنة ينابيعه ، من سهول وجبال وعيون وآبار ، بل هو تعالى وحده الذي حفظه

٣٣٣

وسلكه ينابيع في الأرض وجعله عذابا ورحم العباد بسقياه (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) أي الباقون بعد هلاك الخلق كله. وقيل للباقي : وارث ، استعارة من (وارث الميت) لأنه يبقى بعد فنائه. ومنه قوله صلوات الله عليه في دعائه : واجعله الوارث منا. كذا في (الكشاف).

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٢٥)

(وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) أي من تقدم ولادة وموتا. ومن تأخر من الأولين والآخرين. أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعد. أو من تقدم في الإسلام وسبق إلى الطاعة ومن تأخر. لا يخفى علينا شيء من أحوالكم. وهو بيان لكمال علمه ، بعد الاحتجاج على كمال قدرته ؛ فإن ما يدل على قدرته دليل على علمه. وفي تكرير قوله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا) من كمال التأكيد ما لا يخفى (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) أي الأولين والآخرين على كثرتهم (إِنَّهُ حَكِيمٌ) أي يدبر أمرهم في الحشر على وفق الحكمة (عَلِيمٌ) أي بكل ما فيهم من خفايا الصفات الذميمة (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) [الأنعام : ١٣٩].

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) (٢٧)

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) يعني آدم (مِنْ صَلْصالٍ) أي طين يابس مصوّت (مِنْ حَمَإٍ) صفة لصلصال. أي كائن من طين متغير مسود (مَسْنُونٍ) أي مصوّر من (سنة الوجه) وهي صورته. أو مصبوب ، من (سنّ الماء) صبّه. أي مفرغ على هيئة الإنسان. كأنه سبحانه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف ، فيبس حتى إذا نقر صلصل ، ثم صيّره جسدا ولحما ونفخ فيه من روحه (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل الإنسان.

(مِنْ نارِ السَّمُومِ) أي من نار الريح الشديد الحرّ.

قال أبو السعود : ومساق الآية ، كما هو ، للدلالة على كمال قدرته تعالى ، وبيان

٣٣٤

بدء خلق الثقلين. فهو التنبيه على المقدمة الثانية التي يتوقف عليها إمكان الحشر ، وهو قبول الموادّ للجمع والإحياء.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (٢٩)

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أي عدلت خلقته وأكملتها (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) أي تحية له وتعظيما.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (٣٣)

(فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ، قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ، قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ).

يعني : وقد خلقتني من نار فأنا خير منه. كما صرح به في آية غيرها. وفي تكرير قوله : (مِنْ صَلْصالٍ) إلخ تذكير للإنسان بأصله هذا المفضول ، ليكون كابحا من جماح غوايته ، وشدّة تمرده.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (٣٨)

(قالَ فَاخْرُجْ مِنْها) أي من زمرة الملائكة المعززين (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) أي مطرود من كل خير وكرامة. فإن من يطرد يرجم بالحجارة. أو شيطان يرجم بالشهب. وهو

٣٣٥

وعيد يتضمن الجواب عن شبهته. فإن من عارض النص بالقياس فهو رجيم ملعون. أفاده أبو السعود.

(وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) أي الجزاء. وهو يوم القيامة (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ، قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ، إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وهو يوم البعث.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) (٤١)

(قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ) أي المعاصي (فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) ، (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) أي الذين أخلصتهم لطاعتك وجردتهم بالتوجه إليك. وقرئ بكسر اللام أي الذين أخلصوا دينهم لك وأعمالهم من غير حظ لغيرك فيها.

(قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) أي حق نهجه ومراعاته لا اعوجاج فيه. وهو أن لا سلطان لك على عبادي المخلصين ، إلا الذين يناسبونك في الغواية والبعد عن صراطي ، فيتبعونك كما قال سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) (٤٤)

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) أي قهر على الإغراء.

(إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) أي المطبوعين على الغواية (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) قال المهايمي : لأن غوايتهم إنما كانت بترك متابعة الدليل مع متابعة الأهوية الباطلة ، لغلبتها عليهم (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ) أي الغواة (جُزْءٌ مَقْسُومٌ) أي حزب معين مفرز من غيره ، حسبما يقتضيه استعداده.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) (٤٨)

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) ، (ادْخُلُوها) أي يقال لهم ادخلوها (بِسَلامٍ) أي

٣٣٦

سالمين أو مسلما عليكم (آمِنِينَ) أي من الآفات والزوال (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) أي حقد كان في الدنيا ، لبعضهم على بعض (إِخْواناً) حال من فاعل (ادْخُلُوها) أو الضمير في (آمنين) (عَلى سُرُرٍ) أي مراتب عالية (مُتَقابِلِينَ) لتساوي درجاتهم وتقارب مراتبهم. فيتلذذ بعضهم برؤية وجه بعض (مُتَقابِلِينَ لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) أي تعب (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) لسرمدية مقامهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) (٥٢)

(نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي لمن تاب وآمن وعمل صالحا (وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) أي لمن لم يتب من كفره. والجملة فذلكة لما سلف من الوعد والوعيد وتقرير له. (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) أي عن نبئه. والضيف كالزّور ، يقع على الواحد والجمع.

قال في الكشاف : عطف (وَنَبِّئْهُمْ) على (نَبِّئْ عِبادِي) ليتخذوا ما أحلّ من العذاب بقوم لوط ، عبرة يعتبرون بها سخط الله وانتقامه من المجرمين ، ويتحققوا عنده أن عذابه هو العذاب الأليم (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) أي خائفون. وذلك لما رأى أيديهم لا تصل إلى طعامه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ) (٥٦)

(قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) ، (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) أي مع مسّ الكبر بأن يولد لي ، والكبر مانع منه (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) قال الزمخشري : هي (ما) الاستفهامية دخلها معنى التعجب. كأنه قال : فبأي أعجوبة تبشروني. أو أراد إنكم تبشرونني بما هو غير متصوّر في العادة. فبأي شيء تبشرون؟ يعني لا تبشروني في الحقيقة بشيء. لأن البشارة بمثل هذا ، بشارة بغير شيء.

(قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) أي الآيسين من ذلك. (قالَ وَمَنْ

٣٣٧

يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) يعني لم أستنكر ذلك قنوطا من رحمته ، ولكن استبعادا له في العادة التي أجراها الله تعالى. والتصريح برحمة الله في أحسن مواقعه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) (٦٠)

(قالَ) أي إبراهيم. بعد أن ذهب عنه الروع (فَما خَطْبُكُمْ) أي أمركم الخطير الذي لأجله أرسلتم ، سوى البشارة (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ، قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) أي إلى إهلاكهم. يعنون قوم لوط (إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) ، (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) أي الباقين مع الكفرة ، لتهلك معهم. وإسناد التقدير لهم مجازيّ من باب قول خواصّ الملك (دبرنا كذا وأمرنا بكذا) وإنما يعنون دبر ملك وأمر. هذا إذا كان (قدرنا) بمعنى أردنا وقضينا. وإن كان بمعنى علمنا ، فلا غرو في علم الملائكة ذلك ، بإخباره تعالى إياهم به.

ومن الناس من يجعل (قدرنا) من كلامه تعالى ، غير محكيّ عن الملائكة. قال في (الانتصاف) وهو الظاهر لاستغنائه عن التأويل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (٦٤)

(فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ) ، (قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي لا أعرفكم ولا أدري من أي الأقوام أنتم وما أقدمكم.

وقال المهايميّ : أي يخاف منكم تارة وعليكم أخرى. والظاهر أنه قال ذلك لهم ، بعد معاناته الشدائد من قومه لأجلهم. كما فصل في سورة هود (قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي العذاب الذي كنت تتوعدهم به ، فيمرّون به ، ويكذّبونك (وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِ) أي اليقين مع هلاكهم (وَإِنَّا لَصادِقُونَ).

٣٣٨

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) (٦٧)

(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) أي فاذهب بهم في الليل (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) أي في طائفة منه وهي آخره (وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) أي كن على أثرهم تذودهم وتسرع بهم وتطلع على حالهم (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) أي لينظر ما وراءه ، فيرى من الهول ما لا يطيقه (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ، وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) أي يستأصلون عن آخرهم ، حال كونهم داخلين في الصبح (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ) أي مدينة لوط ، وهي سدوم (يَسْتَبْشِرُونَ) أي بأضيافه ، طمعا فيهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) (٧٧)

(قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ) أي بالإساءة إليهم. فإن الإساءة إليهم فضيحة للمضيف (وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ) ، (قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) أي عن أن تجير أحدا منهم أو تدفع عنهم أو تمنع بيننا وبينهم ، فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد. وكان يقوم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنهي عن المنكر والحجر بينهم وبين المتعرّض له. فأوعدوه وقالوا : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) [الشعراء : ١٦٧] ، أفاده الزمخشري.

(قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) تقدم الكلام عليه في سورة هود ، مفصلا (لَعَمْرُكَ) قسم بحياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعترض به تعبا من شدة غفلتهم وتكريما للمخاطب (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ) أي غفلتهم التي ذهبت معها أحلامهم (يَعْمَهُونَ) أي يترددون فلا يفهمون ما يقال لهم. ولما لم يسمعوا منه ، النصيحة المبقية لهم ، أسمعهم الله الصيحة المهلكة لهم (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) أي صيحة العذاب

٣٣٩

(مُشْرِقِينَ) أي داخلين في وقت شروق الشمس (فَجَعَلْنا) أي من تلك الصيحة المحرّكة للأرض (عالِيَها سافِلَها) قال المهايمي لجعلهم الرجال العالين كالنساء السافلات.

(وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) أي طين متحجر ، لرجمهم على لواطهم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) أي الناظرين بطريق في الآيات (وَإِنَّها) يعني مدينة قوم لوط المدمّرة (لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) أي ثابت يسلكه الناس ، لم يندرس بعد ، وهم يبصرون تلك الآثار.

قال الزمخشري : وهو تنبيه لقريش. كقوله : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ، وَبِاللَّيْلِ ، أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الصافات : ١٣٧ ـ ١٣٨].

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أي في هلاكهم لعبرة لهم.

تنبيهان :

الأول ـ قال ابن القيّم : في (أقسام القرآن) : أكثر المفسرين من السلف والخلف بل لا يعرف السلف فيه نزاعا ـ أن هذا ، يعني قوله تعالى (لَعَمْرُكَ) قسم من الله بحياة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا من أعظم فضائله أن يقسم الربّ عزوجل بحياته. وهذه مزية لا تعرف لغيره.

ولم يوفق الزمخشري لذلك. فصرف القسم إلى أنه بحياة لوط. وإنه من قول الملائكة.

فقال : هو على إرادة القول. أي قالت الملائكة للوط عليه‌السلام : (لَعَمْرُكَ ...) الآية وليس في اللفظ ما يدل على واحد من الأمرين بل ظاهر اللفظ وسياقه إنما يدل على أن ما فهمه السلف أطيب ، لا أهل التعطيل والاعتزال.

قال ابن عباس رضي الله عنهما : (لَعَمْرُكَ) أي حياتك : قال : وما أقسم الله تعالى بحياة نبيّ غيره. والعمر والعمر واحد. إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لإثبات الأخف ، لكثرة دور الحلف على ألسنتهم. وأيضا فإن العمر حياة مخصوصة. فهو عمر شريف عظيم أهل أن يقسم به ، لمزيته على كل عمر من أعمار بني آدم. ولا ريب أن عمره وحياته من أعظم النعم والآيات. فهو أهل أن يقسم به. والقسم به أولى من القسم بغيره من المخلوقات. ثم قال ابن القيّم : وإنما وصف الله سبحانه اللوطية بالسكرة ، لأن للعشق سكرة مثل سكرة الخمر كما قال القائل :

٣٤٠