تفسير القاسمي - ج ٦

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٦

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٥

والصلاح ولكنه لم يشأ ذلك (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) أي في الحق ، منهم المؤمن به ومنهم الكافر به.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١١٩)

(إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) أي لكنّ ناسا رحمهم بهدايتهم إلى التوحيد ، وتوفيقهم للكمال ، فاتفقوا في المذهب والمقصد ، ووافقوا في السيرة والطريقة ، قبلتهم الحق ، ودينهم التوحيد والمحبة.

وقوله تعالى : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) في المشار إليه أقوال. أظهرها أنه للاختلاف الدال عليه (مختلفين). فالضمير حينئذ للناس ، أي لثمرة الاختلاف ، من كون فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، خلقهم. واللام لام العاقبة والصيرورة ، لأن حكمة خلقهم ليس هذا ، لقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] ، ولأنه لو خلقهم له ، لم يعذبهم عليه. أو الإشارة له وللرحمة المفهومة من (رحم) لتأويلها ب (أن والفعل) أو كونها بمعنى الخير. وتكون الإشارة لاثنين ، كما في قوله : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة : ٦٨]. والمراد لاختلاف الجميع ورحمة بعضهم خلقهم. وهذا معزوّ إلى ابن عباس رضي الله عنهما. وإن كان الضمير ل (من) فالإشارة للرحمة بالتأويل السابق ـ كذا في العناية ـ.

وأشار القاشاني إلى بقاء اللام على معناها ، وهو التعليل بوجه آخر ، حيث قال : وللاختلاف خلقهم ليستعد كل منهم لشأن وعمل ، ويختار بطبعه أمرا وصنعة ، ويستتب بهم نظام العالم ، ويستقيم أمر المعاش ، فهم محامل لأمر الله ، حمل عليهم حمول الأسباب والأرزاق ، وما يتعيش به الناس ، ورتب بهم قوام الحياة الدنيا ، كما أن الفئة المرحومة مظاهر لكماله ، أظهر الله بهم صفاته وأفعاله ، وجعلهم مستودع حكمه ومعارفه وأسراره.

وقوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي أحكمت وأبرمت وثبتت وهي هذه : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) والمراد من (الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) عصاتهما ، والتعريف للعهد ، والقرينة عقلية لما علم من الشرع أن العذاب مخصوص بهم ، وأن الوعيد ليس إلا لهم ، ولا حاجة إلى تقدير مضاف كما قيل. ب (أَجْمَعِينَ) حينئذ

١٤١

ظاهر ، وإن لم يحمل على العهد ، وأبقى على إطلاقه ففائدة التأكيد بيان أن ملء جهنم من الصنفين ، لا من أحدهما فقط ، ويكون الداخلوها منهما مسكوتا عنه موكولا إلى علمه تعالى ، فاندفع ما أورد على ظاهرها من اقتضائه دخول جميع الفريقين جهنم. وبطلانه معلوم بالضرورة. أما على الأول فظاهر وأما على الثاني فالمراد بلفظ (أجمعين) تعميم الأصناف ، وذلك لا يقتضي دخول جميع الأفراد ، كما إذا قلت : ملأت الجراب من جميع أصناف ، الطعام ، فإنه لا يقتضي ذلك إلا أن يكون فيه شيء من كل صنف من الأصناف ، لا أن يكون فيه جميع أفراد الطعام. كقولك : امتلأ المجلس من جميع أصناف الناس ، لا يقتضي أن يكون في المجلس جميع أفراد الناس ، بل يكون من كل فرد صنف ، وهو ظاهر. وعلى هذا تظهر فائدة لفظ (أجمعين) إذ فيه ردّ على اليهود وغيرهم ، ممن زعم أنه لا يدخل النار ـ كذا في العناية ـ.

ولما ذكر تعالى فيما تقدم من أنباء الأمم الماضية ، والقرون الخالية ، ما جرى لهم مع أنبيائهم ـ أشار هنا إلى سر ذلك وحكمته ، بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (١٢٠)

(وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) أي نقوي به قلبك لتصبر على أذى قومك ، وتتأسى بالرسل من قبلك ، وتعلم أن العاقبة لك ، كما كانت لهم. و (كلّا) مفعول (لنقصّ) و (من أنباء) بيان له. و (ما ثبت) بدل من (كلّا) أو خبر محذوف.

(وَجاءَكَ فِي هذِهِ) أي السورة ، أو الأنباء المقتصّة (الْحَقُ) أي القصص الحق الثابت (وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي عبرة لهم يحترزون بها عما أهلك الأمم ، وتذكير لما يجب أن يتدينوا به ، ويجعلوه طريقهم وسيرتهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ) (١٢١)

(وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي بهذا الحق ، ولا يتعظون ولا يتذكرون (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي حالكم من اتباع الأهواء (إِنَّا عامِلُونَ) أي على حالنا من اتباع ما جاءنا والاتعاظ والتذكر به.

١٤٢

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (١٢٢)

(وَانْتَظِرُوا) أي العواقب (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) أي ما وعدنا به من الفتح ،. وقد أنجز الله وعده. ونصر عبده ، فله الحمد وحده.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (١٢٣)

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي فلا تخفى عليه خافية مما يجري فيهما ، فلا تخفى عليه أعمالكم (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) أي أمر العباد في الآخرة ، فيجازيهم بأعمالهم. وفيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديد للكفار بالانتقام منهم (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) فإنه كافيك (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) بالياء التحتية في قراء الجمهور ، مناسبة لقوله (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) وفي قراءة بالتاء الفوقية على تغليب المخاطب ، أي أنت وهم. أي فيجازي كلّا بما يستحقه ـ والله أعلم ـ.

١٤٣

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة يوسف

سميت به ، لأن معظم قصته مذكورة ، ومعظم ما فيها قصته.

قال الشهاب : لما ختمت السورة التي قبلها بقوله : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ) ذكرت هذه بعدها ، لأنها من أنبائهم. وقد ذكر أولا ما لقى الأنبياء عليهم‌السلام من قومهم ، وذكر في هذه ما لقى يوسف من إخوته ، ليعلم ما قاسوه من أذى الأجانب والأقارب ، فبينهما أتم المناسبة. والمقصود تسلية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما لاقاه من أذى القريب والبعيد. انتهى ـ.

و (يوسف) اسم عبراني ، تعريبه يزيد ، أو زيادة. وذلك لما روى أن أمه (راحيل) كانت قعدت عن الحمل مدة ، ولحقها الحزن تلقاء ضراتها الوالدات ، ولما وهبها تعالى ، بعد سنين ، ولدا سمته (يوسف) وقالت : يزيدني به ربي ولدا آخر.

وهذه السورة مكية اتفاقا ، وآيها مائة وإحدى عشرة بلا خلاف.

وقد روى البيهقي في (الدلائل) أن طائفة من اليهود ، حين سمعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلو هذه السورة ، أسلموا لموافقتها ما عندهم.

١٤٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) (١)

(الر) تقدم الكلام على مثله ، وأنها إما حروف مسرودة على نمط التعديد ، والإشارة في قوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) إلى آيات السورة ، نزّل ما بعده ، لكونه مترقبا ، منزلة المتقدم. والإشارة بالبعيد لعظمته ، وبعد مرتبته. وإما اسم للسورة ، والإشارة في (تلك) إليها. والمراد ب (الكتاب) السورة لأنه بمعنى المكتوب ، فيطلق عليها. أو القرآن ، لأنه كما يطلق على كله ، يطلق على بعضه. و (المبين) بمعنى الظاهر أمرها وإعجازها ، إن أخذ من (بان) لازما بمعنى ظهر ؛ وإن أخذ من المتعدي فالمفعول مقدّر ، أي أنها من عند الله تعالى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٢)

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ) أي الكتاب المنعوت بما ذكر (قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي لكي تفهموه ، وتحيطوا بمعانيه ، ولا يلتبس عليكم. كما قال تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) [فصلت : ٤٤] ، أو لتستعملوا فيه عقولكم ، فتعلموا أن اقتصاصه كذلك ، ممن لم يتعلم القصص ، معجز ، لا يمكن إلا بالإيحاء. أو (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) بإنزاله عربيا ، ما تضمن من المعاني والأسرار ، التي لا يتضمنها ولا يحتملها غيرها من اللغات وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها ، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس. قال بعضهم : نزل أشرف الكتب ، بأشرف اللغات ، على أشرف الرسل ، بسفارة أشرف الملائكة ، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض ، وفي أشرف شهور السنة ، وهو رمضان ، فكمل له الشرف من كل الوجوه.

١٤٥

القول في تأويل قوله تعالى :

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) (٣)

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) أي أبدعه طريقة ، وأعجبه أسلوبا ، وأصدقه أخبارا ، وأجمعه حكما وعبرا (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي بإيحائنا إليك (هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) أي عنه ، لم يخطر ببالك. والتعبير عن عدم العلم بالغفلة لإجلال شأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد جوز في هذا أن يكون مفعول نقص ، على أن (أحسن) نصب على المصدر. وأن يكون مفعول (أوحينا) على أن مفعول نقص (أحسن) أو محذوف. وأن يكون بدلا من (ما) على أنها موصولة أو خبر محذوف كذلك.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٤)

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ) يعني يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه‌السلام. والظرف بدل من المفعول قبله بدل اشتمال ، أو مفعول لمحذوف. (يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) إنما ناجى يوسف أباه بهذه الرؤيا ، لاعتقاده كمال علمه ، وشفقته عليه ، بحيث لو كانت رؤياه تسوءه لأمكنه صرفها عنه.

قال القاشانيّ : هذه من المنامات التي تحتاج إلى تعبير ، لانتقال المتخيّلة من النفوس الشريفة التي عرض على النفس من الغيب سجودها له ، إلى الكواكب والشمس والقمر ، وما كانت في نفس الأمر إلا أبويه وإخوته. (يا أبت) أصله يا أبي ، فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في الزيادة ، وكسرها لأنه عوض عن حرف يناسبها. وقرئ بفتحها لأنها حركة أصلها ، أو لأنه كان (يا أبتا) فحذف الألف ، وبقي الفتحة. وقرئ بالضم إجراء لها مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء ، من غير اعتبار التعويض. وقوله : (رأيتهم) استئناف لبيان حالهم التي رآهم عليها ، فلا تكرير : أو تأكيد للأولى تطرية لطول العهد ، كما في قوله : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) [المؤمنون : ٣٥] ، وإنّما أجريت مجرى العقلاء في ضميرهم وجمع صفتهم جمعا سالما ، لوصفها بوصفهم ، وهو السجود.

١٤٦

قال المهايميّ : ولو صح كونها ناطقة فلا إشكال. قال : ولم أر من تعرض لهيئة السجود ، ولعله تحريك جانبها الأعلى إلى الأسفل ، مستديرة ظهرت أو مستطيلة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٥)

(قالَ يا بُنَيَ) صغره لصغر سنه ، وللشفقة عليه ، ولعذوبة المصغّر ، (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) أي فيفعلوا لأجلك أو لإهلاكك تحيلا عظيما متلفا لك. (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي ظاهر العداوة ، فلا يألو جهدا في إغواء إخوتك وحملهم على ما لا خير فيه.

قال القاشانيّ : هذا النهي من الإلهامات المجملة ، فإنه قد يلوح صورة الغيب من المجردات الروحانية في الروح ، ويصل أثره إلى القلب ، ولا يتشخص في النفس مفصلا ، حتى يقع العلم به كما هو ، فيقع في النفس منه خوف واحتراز إن كان مكروها ، وفرح وسرور إن كان مرغوبا. ويسمى هذا النوع من الإلهام ، إنذارات وبشارات فخاف ، عليه‌السلام ، من وقوع ما وقع قبل وقوعه ، فنهاه عن إخبارهم برؤياه احترازا ، ويجوز أن يكون احترازه كان من جهة دلالة الرؤيا على شرفه وكرامته ، وزيادة قدره على إخوته ، فخاف من حسدهم عليه عند شعورهم بذلك. انتهى.

تنبيه :

قال السيوطيّ في (الإكليل). قال الكيا : هذا يدل على جواز ترك إظهار النعمة لمن يخشى منه حسد ومكروه.

وقال ابن العربيّ : فيه حكم بالعادة أن الإخوة والقرابة يحسدون. قال : وفيه أن يعقوب عرف تأويل الرؤيا ولم يبال بذلك ، فإن الرجل يودّ أن يكون ولده خيرا منه ، والأخ لا يود ذلك لأخيه.

وقال بعض المفسرين اليمانين : قال الحاكم : هذا يدل على أنه يجب في بعض الأوقات إخفاء فضيلة ، تحرزا من الحسود. وهذا داخل في قولنا : إن الحسن إذا كان سببا للقبيح قبح. ومنه آية الأنعام : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام : ١٠٨].

١٤٧

وفي هذا ما ذكر عن زين العابدين :

إني لأكتم من علمي جواهره

كي لا يرى الحقّ ذو جهل فيفتتنا

الأبيات المعروفة ، ذكرها عن زين العابدين ، والغزالي في (منهاج العابدين) والديلميّ في كتاب (التصفية) وهذا يعقوب صلوات الله عليه أمر يوسف أن لا يقص رؤياه على إخوته ، والمعنى واحد ، فلا معنى لإنكار من ينكر ويزعم أن العلم لا يحل كتمه. انتهى.

ومقصوده أن خوف شر الأشرار من الصوارف عن الصدع بالحق.

قال السيد ابن المرتضى اليمانيّ في (إيثار الحق) : مما زاد الحق غموضا وخفاء خوف العارفين ، مع قلتهم ، من علماء السوء ، وسلاطين الجور ، وشياطين الخلق ، مع جواز التقيّة عند ذلك ، بنص القرآن ، وإجماع أهل الإسلام. وما زال الخوف مانعا من إظهار الحق ، وما برح المحق عدوّا لأكثر الخلق.

وذكر رحمه‌الله قبل في الاستدلال على التقية ؛ أنه تعالى أثنى على مؤمن آل فرعون ، مع كتم إيمانه ، وسميت به سورة (المؤمن). وصح أمر عمّار به ، وتقريره عليه ، ونزلت فيه : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل : ١٠٦] ، وقد صح عن أبي هريرة (١) أنه قال في ذلك العصر الأول : حفظت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعاءين ، أما أحدهما فبثثته لكم ، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم. قال الغزاليّ في خطبة (المقصد الأسنى) : من خالط الخلق جدير بأنه يتحامى. لكن من أبصر الحق عسير عليه أن يتعامى. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦)

(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أي مثل ذلك الاصطفاء ، بإراءة هذه الرؤيا العظيمة الشأن ، يصطفيك للنبوة والسيادة (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي تعبير المنامات ، وإنما سمي التعبير تأويلا ، لأنه جعل المرئيّ آئلا إلى ما يذكره المعبر بصدد التعبير وراجعا إليه. والأحاديث اسم جمع للحديث ، سميت به الرؤيا لأنها إما حديث ملك أو نفس أو شيطان. (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) أي بما سيؤول إليه أمرك

__________________

(١) أخرجه البخاري في : العلم ، ٤٢ ـ باب حفظ العلم ، حديث رقم ١٠٣.

١٤٨

(وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) وهم أهله من بنيه ، وحاشيتهم ، أي يسبغ نعمته عليهم بك (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ) بمن هو مستحق للاجتباء (حَكِيمٌ) في صنعه.

تنبيهات :

الأول ـ قال أبو السعود ؛ كأن يعقوب عليه‌السلام أشار بقوله : (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) إلى ما سيقع من يوسف عليه‌السلام ، من تعبيره لرؤيا صاحبي السجن ، ورؤيا الملك ، وكون ذلك ذريعة إلى ما يبلغه الله إليه من الرياسة العظمى التي عبر عنها بإتمام النعمة. وإنما عرف يعقوب عليه‌السلام ذلك منه من جهة الوحي. أو أراد كون هذه الخصلة سببا لظهور أمره عليه‌السلام على الإطلاق ، فيجوز حينئذ أن تكون معرفته بطريق الفراسة ، والاستدلال من الشواهد والدلائل والأمارات والمخايل ، بأن من وفقه الله تعالى لمثل هذه الرؤيا ، لا بد من توفيقه لتعبيرها ، وتأويل أمثالها ، وتمييز ما هو آفاقيّ منها ، مما هو أنفسي كيف لا ، وهي تدل على كمال تمكن نفسه عليه‌السلام في عالم المثال ، وقوة تصرفاتها فيه ، فيكون أقبل لفيضان المعارف المتعلقة بذلك العالم ، وبما يحاكيه من الأمور الواقعة بحسبها في عالم الشهادة ، وأقوى وقوفا على النسب الواقعة بين الصور المعاينة في أحد ذينك العالمين ، وبين الكائنات الظاهرة على وفقها في العالم الآخر. وإن هذا الشأن البديع ، لا بد أن يكون أنموذجا لظهور أمر من اتصف به ، ومدارا لجريان أحكامه ، فإن لك نبيّ من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معجزة ، بها تظهر آثاره ، وتجري أحكامه.

الثاني ـ استدل بالآية على أن (الجد) يطلق عليه اسم (الأب) ، فيدل أن من نسب رجلا إلى جده وقال : (يا ابن فلان)! أنه لا يكون قذفا.

الثالث ـ قال المهايميّ : من فوائد هذا المقام استحباب كتمان السر ، وجواز التحذير عن شخص بعينه ، ومدح الشخص في وجهه إذا لم يضره ، واعتبار السبب وإن لم يؤثر ؛ وأن لكل حادث تأويلا عند الأولياء ، وأنه تعبر الرؤيا من الصغار ، وإن كان من عالم الخيال ، إذ تصور المخيلة معاني معقولة ، بصور محسوسة ، فترسلها إلى الحس المشترك فيشاهدها. والصادقة منها ما تكون باتصال النفس عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ ، فيتصور بما فيها مما يناسب المعاني ، فإن كانت شديدة المناسبة استغنت عن التعبير ، وإلا احتاجت إليه فالأخبار عن هذه الرؤيا آية ، وعما ترتب عليها آيات.

١٤٩

بحث في الرؤيا :

قال الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه (الذريعة) في بحث (الفراسة) ما مثاله :

ومن الفراسة علم الرؤيا. وقد عظّم الله تعالى أمرها في جميع الكتب المنزلة ، وقال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) [الإسراء : ٦٠] ، وقال : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ ...) [الأنفال : ٤٣] الآية ، وقال في قصة إبراهيم : (يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) [الصافات : ١٠٢] ، وقوله : (يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) [يوسف : ٤].

والرؤيا هي فعل النفس الناطقة ، ولو لم يكن لها حقيقة لم يكن لإيجاد هذه القوة في الإنسان فائدة. والله تعالى يتعالى عن الباطل. وهي ضربان : ضرب وهو الأكثر. أضغاث أحلام وأحاديث النفس بالخواطر الردية ، لكن النفس في تلك الحال كالماء المتموّج. لا يقبل صورة.

وضرب وهو الأقل ، صحيح ، وذلك قسمان : قسم لا يحتاج إلى تأويل ، ولذلك يحتاج المعبر إلى مهارة يفرق بين الأضغاث وبين غيرها ، وليميز بين الكلمات الروحانية والجسمانية ، ويفرق بين طبقات الناس ، إذ كان فيهم من لا تصحّ له رؤيا ، وفيهم من تصحّ رؤياه. ثم من صحّ له ذلك ، منهم من يرشّح أن تلقى إليه في المنام الأشياء العظيمة الخطيرة ، ومنهم من لا يرشح له ذلك. ولهذا قال اليونانيون. يجب أن يشتغل المعبر بعبارة رؤيا الحكماء والملوك دون الطغام ، وذلك لأن له حظا من النبوّة. وقد قال عليه الصلاة والسلام (١) : (الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوّة) وهذا العلم يحتاج إلى مناسبة بين متحرّيه وبينه ، فرب حكيم لا يرزق حذقا فيه ورب نزر الحظ من الحكمة وسائر العلوم توجد له فيه قوّة عجيبة. انتهى ـ.

وقال الأستاذ ابن خلدون : حقيقة الرؤيا مطالعة النفس الناطقة ، في ذاتها الروحانية ، لمحة من صور الواقعات. فإنها عند ما تكون روحانية تكون صور الواقعات فيها موجودة بالفعل ، كما هو شأن الذوات الروحانية كلها ، وتصير روحانية بأن تتجرد عن المواد الجسمانية ، والمدارك البدنية. وقد يقع لها ذلك لمحة بسبب النوم ، كما

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : التعبير ، ٢ ـ باب رؤيا الصالحين ، حديث ٢٥٣٦ ونصه : عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح ...».

١٥٠

نذكر ، فتقتبس بها علم ما تتشوّف إليه من الأمور المستقبلة ، وتعود به إلى مداركها. فإن كان ذلك الاقتباس ضعيفا ، وغير جليّ بالمحاكاة ، والمثال في الخيال لتخلطه فيحتاج من أجل هذه المحاكاة إلى التعبير ، وقد يكون الاقتباس قويا يستغنى فيه عن المحاكاة ، فلا يحتاج إلى تعبير لخلوصه من المثال والخيال والسبب في وقوع هذه اللمحة للنفس ، أنها ذات روحانية بالقوة ، مستكملة بالبدن ومداركه ، حتى تصير ذاتها تعقلا محضا ويكمل وجودها بالفعل ، فتكون حينئذ ذاتا روحانية مدركة بغير شيء من الآلات البدنية ، إلا أن نوعها من الروحانيات دون الملائكة ، أهل الأفق الأعلى ، على الذين لم يستكملوا ذواتهم بشيء من مدارك البدن ولا غيره ، فهذا الاستعداد حاصل لها ما دامت في البدن. ومنه خاصّ ، كالذي للأولياء. ومنه عامّ للبشر على العموم ، وهو أمر الرؤيا. وأما الذي للأنبياء فهو استعداد بالانسلاخ من البشرية إلى الملكية المحضة التي هي أعلى الروحانيات. ويخرج هذا الاستعداد فيهم متكررا في حالات الوحي ، وهي عند ما يعرج على المدارك البدنية ، ويقع فيها ما يقع من الإدراك ، شبيها بحال النوم شبها بينا ، وإن كان حال النوم أدون منه بكثير ، فلأجل هذا الشبه عبّر الشارع عن الرؤيا بأنها (جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة) وفي رواية(ثلاثة وأربعين) ، وفي رواية(سبعين) وليس العدد في جميعها مقصودا بالذات ، وإنما المراد الكثرة في تفاوت هذه المراتب ، بدليل ذكر السبعين في بعض طرقه ، وهو للتكثير عند العرب ، وما ذهب إليه بعضهم في رواية(ستة وأربعين) من أن الوحي كان في مبتدئه بالرؤيا ستة أشهر ، وهي نصف سنة ومدة النبوة كلها بمكة والمدنية ثلاث وعشرون سنة ، فنصف السنة منها جزء من ستة وأربعين ـ فكلام بعيد من التحقيق. لأنه إنما وقع ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن أين لنا أن هذه المدة وقعت لغيره من الأنبياء؟ مع أن ذلك إنما يعطي نسبة زمن الرؤيا من زمن النبوة ، ولا يعطي نسبة حقيقتها من حقيقة النبوة. وإذا تبين لك هذا مما ذكرناه أولا ، علمت أن معنى هذا الجزء نسبة الاستعداد الأول الشامل للبشر ، إلى الاستعداد القريب الخاص بصنف الأنبياء الفطري لهم ، صلوات الله عليهم ، إذ هو الاستعداد البعيد. وإن كان عامّا في البشر ، ومعه عوائق وموانع كثيرة من حصوله بالفعل. ومن أعظم تلك الموانع الحواس الظاهرة ، ففطر الله البشر على ارتفاع حجاب الحواس بالنوم ، الذي هو جبلّيّ لهم ، فتتعرض النفس عند ارتفاعه إلى معرفة ما تتشوف إليه في عالم الحق ، فتدرك بعض الأحيان منه لمحة يكون فيها الظفر بالمطلوب. ولذلك جعلها الشارع من

١٥١

المبشرات فقال (١) : (لم يبق من النبوة إلا المبشرات)! قالوا : وما المبشرات يا رسول الله! قال (الرؤيا الصالحة ، يراها الرجل الصالح ، أو ترى له).

وأما سبب ارتفاع حجاب الحواس بالنوم ، فعلى ما أصفها لك : وذلك أن النفس الناطقة إنما إدراكها وأفعالها بالروح الحيوانيّ الجسمانيّ ، وهو بخار لطيف ، مركزه بالتجويف الأيسر من القلب ـ على ما في كتب التشريح لجالينوس وغيره ـ وينبعث مع الدم في الشريانات والعروق فيعطي الحس والحركة ، وسائر الأفعال البدنية ، ويرتفع لطيفه إلى الدماغ ، فيعدل من برده ، وتتم أفعال القوى التي في بطونه. فالنفس الناطقة إنما تدرك وتعقل بهذا الروح البخاري ، وهي متعلقة به ، لما اقتضته حكمة التكوين في أن اللطيف لا يؤثر في الكثيف. ولمّا لطف هذا الروح الحيوانيّ من بين المواد البدنية ، صار محلّا لآثار الذات المباينة له في جسمانيته ، وهي النفس الناطقة ، وصارت آثارها حاصلة في البدن بواسطته.

وقد كنا قدّمنا أن إدراكها على نوعين : إدراك بالظاهر وهو بالحواس الخمس ، وإدراك بالباطن وهو بالقوى الدماغية. وأن هذا الإدراك كله صرف لها عن إدراكها ما فوقها من ذواتها الروحانية ، التي هي مستعدة له بالفطرة. ولما كانت الحواس الظاهرة جسمانية ، كانت معرضة للوسن والفشل ، بما يدركها من التعب والكلال ، وتغشى الروح بكثرة التصرف ، فخلق الله لها طلب الاستجمام ، لتجرد الإدراك على الصورة الكاملة. وإنما يكون ذلك بانخناس الروح الحيوانيّ من الحواس الظاهرة كلها ، ورجوعه إلى الحس الباطن. ويعين على ذلك ما يغشى البدن من البرد بالليل ، فتطلب الحرارة الغريزية أعماق البدن ، وتذهب من ظاهره إلى باطنه ، فتكون مشيعة مركبها ، وهو الروح الحيوانيّ ، إلى الباطن. ولذلك كان النوم للبشر في الغالب إنما هو بالليل. فإذا انخنس الروح عن الحواس الظاهرة ، ورجع إلى القوى الباطنة ، وخفّت عن النفس شواغل الحس وموانعه ، ورجعت إلى الصورة التي في الحافظة ، تمثل منها بالتركيب والتحليل صورة خيالية وأكثر ما تكون معتادة ، لأنها منتزعة من المدركات المتعاهدة قريبا. ثم ينزلها الحس المشترك ، الذي هو جامع الحواس الظاهرة ، فيدركها على أنحاء الحواس الخمس الظاهرة.

وربما التفتت النفس لفتة إلى ذاتها الروحانية ، مع منازعتها القوى الباطنية ،

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : التعبير ، باب المبشرات ، حديث ٢٥٤١.

١٥٢

فتدرك بإدراكها الروحاني لأنها مفطورة عليه. وتقتبس من صور الأشياء التي صارت متعلقة في ذاتها حينئذ ، ثم يأخذ الخيال تلك الصور المدركة ، فيمثلها بالحقيقة أو المحاكاة في القوالب المعهودة. والمحاكاة من هذه هي المحتاجة للتعبير ، وتصرفها بالتركيب والتحليل في صور الحافظة ، قبل أن تدرك من تلك اللمحة ما تدركه هي ـ أضغاث أحلام.

وفي الصحيح أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (١) : (الرؤيا ثلاث : رؤيا من الله ، ورؤيا من الملك ، ورؤيا من الشيطان) وهذا التفصيل مطابق لما ذكرناه فالجليّ من الله ، والمحاكاة الداعية إلى التعبير من الملك ، وأضغاث الأحلام من الشيطان لأنها كلها باطل ، والشيطان ينبوع الباطل.

هذه حقيقة الرؤيا ، وما يسببها ويشيعها من النوم. وهي خواص للنفس الإنسانية ، موجودة في البشر على العموم ، لا يخلو عنها أحد منهم ، بل كل واحد من الإنسان رأى في نومه ما صدر له في يقظته ، مرارا غير واحدة ، وحصل له القطع أن النفس مدركة للغيب في النوم ، ولا بد. وإذا جاز ذلك في عالم النوم ، فلا يمتنع في غيره من الأحوال ، لأن الذات المدركة واحدة ، وخواصها عامة في كل حال. انتهى.

وذكر رحمه‌الله عند بحث (علم تعبير الرؤيا) أن التعبير لها كان موجودا في السلف ، كما هو في الخلف ، وأن يوسف الصديق ، صلوات الله عليه ، كان يعير الرؤيا ، كما وقع في القرآن ، وكذلك ثبت في الصحيح عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن أبي بكر رضي الله عنه ، والرؤيا مدرك من مدارك الغيب كما تقدم. وأما معنى التعبير فاعلم أن الروح العقليّ ، إذا أدرك مدركه ، وألقاه إلى الخيال فصوّره ، فإنما يصوّره في الصور المناسبة لذلك المعنى بعض الشيء. ومن المرئيّ ما يكون صريحا لا يفتقر إلى تعبير ، لجلائها ووضوحها ، أو لقرب الشبه فيها بين المدرك وشبهه. وللبحث تتمة سابغة ، انظرها ثمة.

وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) (٧)

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ) أي في قصتهم وحديثهم (آياتٌ) أي دلائل

__________________

(١) أخرجه البخاريّ عن أبي هريرة في : التعبير ، ٢٦ ـ باب القيد في المنام ، حديث ٢٥٣٩.

١٥٣

على قدرته تعالى ، وحكمته في كل شيء (لِلسَّائِلِينَ) أي لمن سأل عن نبئهم. أو آيات على نبوّته صلوات الله عليه ، لمن سأل عن نبئهم ، فأخبرهم بالصحة من غير تلقّ عن بشر أو أخذ عن كتاب.

وقال القاشانيّ : أي آيات معظمات لمن يسأل عن قصتهم ويعرفها ، تدلهم أولا : على أن الاصطفاء المحض أمر مخصوص بمشيئة الله تعالى ، لا يتعلق بسعي ساع ولا إرادة مريد ، فيعلمون مراتب الاستعدادات في الأزل.

وثانيا ـ على أن من أراد الله به خيرا ، لم يمكن لأحد دفعه. ومن عصمه الله ، لم يمكن لأحد رميه بسوء ، ولا قصده بشر ، فيقوى يقينهم وتوكلهم.

وثالثا ـ على أن كيد الشيطان وإغواءه أمر لا يأمن منه أحد ، حتى الأنبياء ، فيكونون منه على حذر. وأقوى من ذلك كله أنها تطلعهم من طريق الفهم ، الذي هو الانتقال الذهني ، على أحوالهم في البداية والنهاية ، وما بينهما ، وكيفية سلوكهم إلى الله ، فتثير شوقهم وإرادتهم ، وتشحذ بصيرتهم ، وتقوّي عزيمتهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٨)

(إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ) وهو بنيامين شقيقه ، وأمهما راحيل بنت لابان ، خال يعقوب. (أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي والحال أنا جماعة أقوياء ، أحق بالمحبة من صغيرين ، لا كفاية فيهما. والعصبة والعصابة : الجماعة من الرجال ـ عشرة فصاعدا ـ سموا بذلك لكون الأمور تعصب بهم أي تشد فتقوى وذكرها ليس لإفادة العدد فقط ، بل للإشعار بالقوة ، ليكون أدخل في الإنكار ، لأنهم قادرون على خدمته ، والجد في منفعته فكيف يؤثر عليهم من لا يقدر على ذلك؟

(إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي ذهاب عن طريق الصواب في ذلك لتفضيله المفضول بزعمهم. وغاب عنهم أنه كان يحب يوسف لما يرى فيه من المخايل ، لا سيما بعد تلك الرؤيا. وبنيامين لكونه شقيقه وأصغرهم. ومن المعروف زيادة الميل لأصغر البنين.

وقوله تعالى :

١٥٤

القول في تأويل قوله تعالى :

(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) (٩)

(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) من مقول قولهم المحكيّ قبل ، وإنما قالوا هذا لأن خبر المنام بلغهم ، ويروى أنه قصه عليهم ، فتشاوروا في كيده ، وقالوا ذلك ، وقالوا : لنرى بعد ما يكون من أحلامه ، سخرية واستهزاء. وتنكير (أرضا) وإخلاؤها من الوصف ، للإبهام ، أي في أرض مجهولة ، لا يعرفها الأب ، ولا يمكن ليوسف أن يعرف طريق الوصول إليه.

وقوله : (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) جواب الأمر ، كناية عن خلوص محبته لهم ، لأنه بدل على إقباله عليهم بكليته ، وعلى فراغه عن الشغل بيوسف ، فيشتغل بهم. (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد الفراغ من قتله أو طرحه (قَوْماً صالِحِينَ) أي تائبين إلى الله عما جنيتم ، فيكون صلاحكم فداء عن معصية قتله أو طرحه. أو تصلح دنياكم ، وتنتظم أموركم بعده بخلوّ وجه أبيكم.

تنبيهات :

الأول : قال ابن إسحاق : لقد اجتمعوا على أمر عظيم من قطيعة الرحم ، وعقوق الوالد ، وقلة الرأفة بالصغير ، الذي لا ذنب له ، وبالكبير الفاني ، ذي الحق والحرمة والفضل ، والده ، ليفرقوا بينه وبين ابنه على صغر سنه ، وحاجته إلى لطف والده ، وسكونه إليه. يغفر الله لهم!.

الثاني ـ قال ابن كثير : اعلم أنه لم يقم دليل على نبوّة إخوة يوسف : وظاهر السياق يدل على خلاف ذلك. ومن الناس من يزعم أنهم أوحي إليهم بعد ذلك ، وفي هذا نظر ويحتاج مدعي ذلك إلى دليل. ولم يذكروا سوى قوله تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) [البقرة : ١٣٦] ، وهذا فيه احتمال ، لأن بطون بني إسرائيل يقال لهم الأسباط ، كما يقال للعرب قبائل. وللعجم شعوب. يذكر تعالى أنه أوحى إلى الأنبياء من أسباط بني إسرائيل ، فذكرهم إجمالا لأنهم كثيرون ، ولكن كل سبط من نسل رجل من إخوة يوسف. ولم يقم دليل على أعيان هؤلاء أنهم أوحي إليهم. والله أعلم.

١٥٥

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) (١٠)

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) أي صريحا ورضي به الباقون (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ) أي لأن القتل من الكبائر التي يخاف معها سدّ باب الصلاح. وإنما أظهره في مكان الإضمار استجلابا لشفقتهم عليه ، أو استعظاما لقتله. (وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) أي في غوره. و (الجب) : البئر التي لا حجارة فيها : (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) أي بعض الأقوام الذي يسيرون في الأرض ، فيتملكه ، فلا يمكنه الرجوع إلى أبيه ، فيحصل مطلوبكم من غير ارتكاب كبيرة يخاف معها سدّ باب الصلاح.

(إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أي عازمين مصرّين على أن تفرقوا بينه وبين أبيه. وقد روي أن القائل هو أخوهم الأكبر ، بكر يعقوب (رؤوبين).

ولما تواطأوا على رأيه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) (١١)

(قالُوا) أي لأبيهم (يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) أي لم تخافنا عليه ، ونحن نريد له الخير ونحبه ونشفق عليه؟ أرادوا بذلك استنزاله عن عادته في حفظه منهم. وفيه دليل على أنه أحسّ منهم بما أوجب أن لا يأمنهم عليه ـ كذا في الكشاف ـ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١٢)

(أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (الرتع) : الأكل والشرب ، والسعي والنشاط ، حيث يكون الخضر والمياه والزروع. يريدون : أن إلزامك إياه أن يكون بمكانك ، موجب لملاله القاطع لنشاطه على العبادة ، واكتساب الكمالات.

١٥٦

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) (١٣)

(قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) يعني :

وإن زعمتم أنكم له حافظون ، فحفظكم إنما يكون ما دمتم ناظرين إليه ، لكن لا يخلو الإنسان عن الغفلة ، فأخاف غفلتكم عنه.

قال الزمخشري : اعتذر إليهم بشيئين.

أحدهما : أن ذهابهم به ، ومفارقته إياه ، مما يحزنه لأنه كان لا يصبر عنه ساعة.

والثاني : خوفه عليه من عدوة الذئب إذا غفلوا عنه ، برعيهم ولعبهم ، أو قلّ به اهتمامهم ، ولم تصدق بحفظه عنايتهم.

قال الناصر : وكان أشغل الأمرين لقلبه خوف الذئب عليه ، لأنه مظنة هلاكه. وأما حزنه لمفارقته ريثما يرتع ويلعب ويعود سالما إليه عما قليل ، فأمر سهل. فكأنهم لم يشتغلوا إلا بتأمينه وتطمينه من أشد الأمرين عليه. انتهى ـ أي فيما حكي عنهم بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) (١٤)

(قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي جماعة أقوياء ، يمكننا أن ننزعه من يد الذئب (إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) أي هالكون ضعفا وجبنا. أو عاجزون ، أو مستحقون لأن يدعى عليهم بالخسارة والدمار.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١٥)

(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) أي بعد مراجعة أبيهم في شأنه (وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) فيه تعظيم لما أزمعوا ، إذ أخذوه ليكرموه ، ويدخلوا السرور على أبيه ، ومكروا ما مكروا. (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا) أي أعلمناه بإلقاء في روعه ، أو

١٥٧

بواسطة ملك عند ذلك تبشيرا له ، بأنك ستخلص مما أنت فيه ، وتحدثهم بما فعلوا بك.

وقوله : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) إما متعلق ب (أوحينا) أي أوحينا إليه ذلك وهم لا يشعرون ، إيناسا له ، وإزالة للوحشة ؛ أو حال من الهاء في (لتنبئنهم) ، أي : لتحدثنهم بذلك وهم لا يشعرون أنك يوسف ، لعلوّ شأنك ، كما سيأتي في قوله تعالى : (فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) [يوسف : ٥٨].

روي أنهم نزعوا قميص يوسف الموشى الذي عليه ، وأخذوه ، وطرحوه في البئر ، وكانت فارغة لا ماء بها ، وجلسوا بعد ، يأكلون ويلهون إلى المساء.

وجواب (لما) في الآية محذوف ، مثل فعلوا ما فعلوا ، أو طرحوه فيها. وقيل : الجواب (أوحينا) والواو الزائدة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) (١٦)

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) بيان لمكرهم بأبيهم بطريق الاعتذار الموهم موته القاطع عنه متمناه ، لتنقطع محبته عنه ، ولو بعد حين ، فيرجع إليهم بالحب الكليّ. وقدموا عشاء لكونه وقت الظلمة المانعة من احتشامه في الاعتذار الكذب ، ومن تفرسه من وجوههم الكذب وأوهموا ، ببكائهم وتفجعهم عليه ، إفراط محبتهم له المانعة من الجرأة عليه. ثم نادوه باسم (الأب) المضاف إليهم ليرحمهم ، فيترك غضبه عليهم ، الداعي إلى تكذيبهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) (١٧)

(قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) أي في العدو والرمي بالنصل (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا) أي ما يتمتع به من الثياب والأزواد وغيرهما ليحفظه (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) أي كما حذرت.

وقوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) تلطف عظيم في تقرير ما يحاولونه. يقولون : ونحن نعلم أنك لا تصدقنا في هذه الحالة ، ولو كنا عندك صادقين ،

١٥٨

فكيف وأنت تتهمنا ، وغير واثق بقولنا؟

وقد استفيد من الآية أحكام :

منها : أن بكاء المرء لا يدل على صدقه ، لاحتمال أن يكون تصنعا ـ نقله ابن العربيّ ـ.

ومنها : مشروعية المسابقة. وفيه من الطب رياضة النفس والدواب ، وتمرين الأعضاء على التصرف ـ كذا في الإكليل ـ.

قال بعض اليمانين : اللعب إن كان بين الصغار جاز بما لا مفسدة فيه ، ولا تشبه بالفسقة وأما بين الكبار ، ففيه ثلاثة أقسام :

الأول : أن يكون في معنى القمار ، فلا يجوز.

الثاني : أن لا يكون في معناه ، وفيه استعانة وحث على القوة والجهاد ، كالمناضلة بالقسيّ ، والمسابقة على الخيل ، فذلك جائز وفاقا.

الثالث : أن لا يكون فيه عوض كالمصارعة ونحوها. ففي ذلك قولان للشافعية. رجح الجواز ، إن كان بغير عوض ، أو بعوض يكون دفعه على سبيل الرضا ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) صارع يزيد بن ركانة.

وروي أن عائشة قالت (٢) : سابقت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرتين ، فسبقته في المرة الأولى ، فلما بدنت سبقني وقال : هذه بتلك.

وفي الحديث (٣) : ليس من اللهو ثلاثة : ملاعبة الرجل أهله ، وتأديبه فرسه ، ورميه بقوسه. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (١٨)

(وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) بيان لما تآمروا عليه من المكيدة ، وهو أنهم

__________________

(١) أخرجه أبو داود في : اللباس ، ٢١ ـ باب في العمائم ، حديث ٤٠٧٨.

(٢) أخرجه ابن ماجة في : النكاح ، ٥٠ ـ باب حسن معاشرة النساء ، حديث رقم ١٩٧٩.

(٣) أخرجه أبو داود ، من حديث طويل ، عن عقبة بن عامر ، في : الجهاد ، ٢٣ ـ باب في الرمي ، حديث رقم ٢٥١٣.

١٥٩

أخذوا قميصه الموشى ، وغمسوه في دم معز كانوا ذبحوه. و (كذب) مصدر بتقدير مضاف ، أي : ذي كذب. أو وصف به مبالغة ، كرجل عدل. و (على) ظرف ل (جاءوا) مشعر بتضمنه معنى (افتروا).

وقوله : (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي من تغيب يوسف ، وتفريقه عني ، والاعتذار الكاذب.

قال الناصر : وقوّاه على اتهامهم ، أنهم ادعوا الوجه الخاص الذي خاف يعقوب ، عليه‌السلام ، هلاكه بسببه أولا ، وهو أكل الذئب ، فاتهمهم أن يكونوا تلقفوا العذر من قوله لهم : (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) وكثيرا ما تتفق الأعذار الباطلة ، من قلق في المخاطب المعتذر إليه حتى كان بعض أمراء المؤمنين يلقنون السارق الإنكار. انتهى.

وفي (الإكليل) : استنبط ، من هذا ، الحكم بالأمارات ، والنظر إلى التهمة ، حيث قال : (بَلْ سَوَّلَتْ ...).

لطائف :

قال المهايمي : في الآية من الفوائد أن الجاه يدعو إلى الحسد ، كالمال ، وهو يمنع من المحبة الأصلية من القرابة ونحوها ، بل يجعل عداوتهم أشد من عداوة الأجانب ، وأن الحسد يدعو إلى المكر بالمحسود ، وبمن يراعيه ، وأنه إنما يكون برؤية الماكر نفسه أكمل عقلا من الممكور به. وأن الحاسد إذا ادعى النصح والحفظ والمحبة ، بل أظهره فعلا ، لم يعتمد عليه.

وكذا من أظهر الأمانة قولا وفعلا يفعل الخيانة. وأن الإذلال والإعزاز بيد الله ، لا الخلق. وأن من طلب مراده بمعصية الله بعد عنه ، وأن الخوف من الخلق يورث البلاء وأن الإنسان ، وإن كان نبيا ، يخلق أولا على طبع البشرية. وأن اتباع الشهوات يورث الحزن الطويل. وأن القدر كائن ، وأن الحذر لا يغني من القدر.

قيل للهدهد : كيف ترى الماء تحت الأرض ، ولا ترى الشبكة فوقها؟ قال : إذا جاء القضاء عمي البصر.

و (التسويل) تزيين النفس للمرء ما يحرص عليه ، وتصوير القبيح بصورة الحسن. (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) (صبر) خبر أو مبتدأ ، لكونه موصوفا ، أي فشأني صبر جميل. أو فصبر جميل أجمل والصبر قوة للنفس على احتمال الآلام كالمصائب إذا

١٦٠