تفسير القاسمي - ج ٦

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٦

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٥

سكران : سكر هوى وسكر مدامة

ومتى إفاقة من به سكران؟

الثاني ـ قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) قال السيوطيّ في (الإكليل) : هذه الآية أصل في الفراسة. أخرج الترمذيّ من حديث أبي سعيد مرفوعا : «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» (١). ثم قرأ هذه الآية. وقد كان بعض قضاة المالكية يحكم بالفراسة في الأحكام ، جريا على طريق إياس بن معاوية. انتهى. وقد أجاد الكلام في الفراسة ، الراغب الأصفهانيّ في كتاب (الذريعة) حيث قال في الباب السابع : وأما الفراسة ، فالاستدلال بهيئة الإنسان وأشكاله وألوانه وأقواله ، على أخلاقه وفضائله ورذائله.

وربما يقال : هي صناعة صيادة لمعرفة أخلاق الإنسان وأحواله. وقد نبه الله تعالى على صدقها بقول : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) [الحجر : ٧٥] ، وقوله : (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) [البقرة : ٢٧٣] ، وقوله : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد : ٣٠] ، ولفظها من قولهم (فرس السبع الشاة) فكأن الفراسة اختلاس المعارف. وذلك ضربان : ضرب يحصل للإنسان عن خاطر لا يعرف سببه ، وذلك ضرب من الإلهام ، بل ضرب من الوحي. وإياه عنى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله (٢) : «المؤمن ينظر بنور الله» وهو الذي يسمى صاحبه المروّع والمحدّث. وقال عليه الصلاة والسلام (إن يكن في هذه الأمة محدّث ، فهو عمر) (٣).

وقيل في قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [الشورى : ٥١] الآية : إنما كان وحيا بإلقائه في الروع ، وذلك للأنبياء كما قال عزوجل : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلى قَلْبِكَ) [الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٤] ، وقد يكون بإلهام في حال اليقظة وقد يكون في حال المنام. ولأجل ذلك قال عليه الصلاة والسلام : (الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة) (٤).

والضرب الثاني من الفراسة يكون بضاعة متعلمة وهي معرفة ما بين الألوان والأشكال ، وما بين الأمزجة والأخلاق والأفعال الطبيعية. ومن عرف ذلك كان ذا فهم

__________________

(١) أخرجه الترمذيّ في : التفسير ، ١٥ ـ سورة الحجر ، ٦ ـ باب حدثنا محمد بن إسماعيل.

(٢) أخرجه الترمذيّ في : التفسير ، ١٥ ـ سورة الحجر ، ٦ ـ باب حدثنا محمد بن إسماعيل ، عن أبي سعيد الخدريّ ، من حديث.

(٣) أخرجه البخاريّ في : فضائل أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ٦ ـ باب مناقب عمر بن الخطاب ، أبي حفص القرشيّ ، العدويّ ، رضي الله عنه ، الحديث رقم ١٦٢٨ عن أبي هريرة.

(٤) أخرجه البخاريّ في : التعبير ، ٢ ـ باب رؤيا الصالحين ، الحديث رقم ٢٥٣٦ ، عن أنس بن مالك.

٣٤١

ثاقب بالفراسة. وقد عمل في ذلك كتب. من تتبع الصحيح منها ، اطلع على صدق ما ضمنوه. والفراسة ضرب من الظن. وسئل بعض محصلة الصوفية عن الفرق بينهما فقال : الظن بتقلب القلب. والفراسة بنور الرب. ومن قوي فيه نور الروح المذكور في قوله تعالى : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩] و [ص : ٧٢] ، كان ممن وصفه بقوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ (١) شاهِدٌ مِنْهُ) [هود : ١٧] ، وكان ذلك النور شاهدا ، أصاب فيما حكم به. ومن الفراسة قوله عليه الصلاة والسلام في المتلاعنين : (إن أمرهما بيّن ، لو لا حكم الله) (٢).

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) (٨١)

(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ) (إن) مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف. أي : وإن الشأن كان أصحاب الأيكة. وهم قوم شعيب عليه‌السلام. كانوا يسكنون أيكة ، وهي بقعة كثيرة الأشجار ، فظلموا بأنواع من الظلم ، من شركهم بالله وقطعهم الطريق ونقصهم المكيال والميزان. فبعث الله إليهم شعيبا عليه‌السلام فكذبوه. (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) أي بعذاب الظلة ، وهي سحابة أظلتهم بنار تقاذفت منها ، فأحرقتهم (وَإِنَّهُما) يعني قرى قوم لوط والأيكة (لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) أي طريق واضح. وقد كانوا قريبا من قوم لوط ، بعدهم في الزمان ومسامتين لهم في المكان. ولهذا لما أنذرهم شعيب قال : (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) [هود : ٨٩].

(وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) يعني ثمود ، كذبوا صالحا عليه‌السلام. ومن كذب واحدا من الأنبياء عليهم‌السلام ، فقد كذب الجميع. لاتفاقهم على التوحيد والأصول التي لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار. و (الحجر) واد بين المدينة والشام كانوا يسكنونه. معروف. يجتازه ركب الحج الشاميّ.

(وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) يعني بالآيات ما دلهم على صدق دعوى نبيّهم. كالناقة التي أخرجها الله لهم بدعاء صالح من صخرة صماء. وكانت تسرح

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الطلاق ، ٣١ ـ باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو كنت راجما بغير بينة ، حديث رقم ٢١٦٣. عن ابن عباس.

٣٤٢

في بلادهم. (لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [الشعراء : ١٥٥] ، فلما عتوا وعقروها ، قال : (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) [هود : ٦٥].

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (٨٧)

(وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) أي من حوادث الدهر (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) أي وقت الصباح من اليوم الرابع. وفي سورة الأعراف : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) [الأعراف : ٧٨] أي الزلزلة وهي من توابع الصيحة. أو هي مجاز عنها.

(فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ما كانوا يستغلونه من زروعهم وثمارهم التي ضنوا بمائها عن الناقة ، حتى عقروها لئلا تضيق عليهم في المياه ، فما دفعت عنهم تلك الأموال لما جاء أمره تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) أي إلا خلقا متلبسا بالحق والحكمة الثابتة ، التي لا تقبل التغير. وهي الاستدلال بها على الصانع وصفاته وأسمائه وأفعاله ليعرفوه فيعبدوه ، بحيث لا يلائم استمرار الفساد. ولذلك اقتضت الحكمة إرسال الرسل مبشرين ومنذرين. (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) أي فيجزي كلا بما كانوا يعملون (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) أي عاملهم معاملة الصفوح الحكيم ، كقوله : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الزخرف : ٨٩].

وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) تقرير للمعاد ، وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة. فإنه الخلّاق الذي لا يعجزه خلق شيء ، العليم بما تمزّق من الأجساد وتفرق في سائر أقطار الأرض كقوله تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ، بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) [يس : ٨١].

(وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) قال الرازي إنه تعالى لما صبّره على أذى قومه وأمره بأن يصفح الصفح الجميل ، أتبع ذلك بذكر النعم العظيمة التي خصه بها. لأن الإنسان إذا تذكر كثرة نعم الله عليه ، سهل عليه الصفح والتجاوز.

(والسبع المثاني) هو القرآن كله كما قاله ابن عباس في رواية طاوس. لقوله

٣٤٣

تعالى : (كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) [الزمر : ٢٣] ، والواو في قوله : (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) لعطف الصفة كقول الشاعر :

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

و (السبع) يراد بها الكثرة في الآحاد. كالسبعين في العشرات. و (المثاني) جمع مثنى بمعنى التثنية أو الثناء. فإنه تكرر قراءته أو ألفاظه أو قصصه ومواعظه. أو مثنى عليه بالبلاغة والإعجاز. أو مثن على الله تعالى بأفعاله العظمى وصفاته الحسنى.

وقد روي عن بعض السلف تفسير السبع بالسور الطوال الأول ، وهذا لم يقصد به. إلا أن اللفظ الكريم يتناولها ، لا أنها هي المعنيّة. كيف لا وهذه السورة مكية وتلك مدنيات؟ كالقول بأنها الفاتحة سواء. وأما حديث (١) : (الحمد لله ربّ العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) عند الشيخين ، فنعناه أنها من السبع ، لعطف قوله (والقرآن العظيم الذي أوتيته) ولو كان القصر على بابه ، لناقضه لمعطوف. لاقتضائه أنها هو لا غيره. وبداهة بطلانه لا تخفى.

وسر الإخبار بأنها السبع ، كون الفاتحة مشتملة على مجمل ما في القرآن. وكل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت فيها. كما بينه الإمام مفتي مصر في (تفسير الفاتحة) فراجعه. هذا ما ظهر لي الآن في تحقيق الآية.

وللأثريّ الواقف مع ظاهر ما صح من الأخبار ، الجازم بأن السبع في الآية هي الفاتحة لظاهر الحديث ـ أن يجيب عن القصر بأن المراد بالمعطوف القرآن بمعنى المقروء ، لا بمعنى الكتاب كله. والله أعلم.

وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) (٩٠)

(لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) يعني : قد أوتيت النعمة العظمى ، التي كل نعمة وإن عظمت ، فهي إليها حقيرة. وهي القرآن العظيم. فعليك

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : التفسير ، ١ ـ سورة الفاتحة ، ١ ـ باب ما جاء في فاتحة الكتاب ، حديث ١٩٦١ ، عن أبي سعيد بن المعلّى.

٣٤٤

أن تستغني ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به ، من زخارف الدنيا وزينتها ، أصنافا من الكفار متمنيا لها. فإنه مستحقر بالإضافة إلى ما أوتيته. وفي التعبير عما أوتوه (بالمتاع) إنباء عن وشك زوالها عنهم.

(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي لعدم إيمانهم ، المرجوّ بسببه تقوّي ضعفاء المسلمين بهم (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي تواضع لمن معك من فقراء المؤمنين وضعفائهم. وطب نفسا عن إيمان الأغنياء والأقوياء.

(وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) أي المنذر المظهر للعذاب لمن لم يؤمن (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) أي مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين. أو إنذارا مثل ما أنزلنا. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : المقتسمون أصحاب صالح عليه‌السلام ، الذين تقاسموا بالله لنبيّتنّه وأهله فأخذتهم الصيحة ، كما مر. فالاقتسام من (القسم) لا من القسمة.

وهذا التأويل اختاره ابن قتيبة.

وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩٣)

(الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) أي أجزاء جمع (عضة) يعنى كفار مكة. قالوا : سحر. وقالوا : كهانة. وقالوا : أساطير الأولين. وهو مبتدأ خبره (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) ، (عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) أي من التقسيم فنجازيهم عليه. وجوز تعلق (كما) بقوله : (لَنَسْئَلَنَّهُمْ) أي لنسألنهم أجمعين مثل ما أنزلنا. فيكون (كما) رأس آية و (المقتسمون) حينئذ ، إما من تقدم ، أو المشركون. ويعنى بالإنزال عليهم إنزال الهداية التي أبوها. وجوّز جعل الموصول مفعولا أول للنذير ، أو لما دلّ عليه من أنذر. أي النذير. أو أنذر المعضين الذين يجزئون القرآن إلى سحر وشعر وأساطير ، مثل ما أنزلنا على المقتسمين. وجوّز جعل (كما) متعلقا بقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ) أي أنزلنا عليك كما أنزلنا على أهل الكتاب الذين جزءوا القرآن إلى حق وباطل. حيث قالوا : قسم منه حق موافق لما عندنا. وقسم باطل لا يوافقه. أو القرآن هو مقروؤهم. أي قسموا ما قرءوا من كتبهم وحرفوه. فأقروا ببعضه وكذبوا ببعضه. والله أعلم.

٣٤٥

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٩٦)

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) أمر من (الصدع) بمعنى الإظهار والجهر ، من (انصداع الفجر). أو من (صدع الزجاجة) ونحوها وهو تفريق أجزائها. أي : افرق بين الحق والباطل (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) أي الذين يرومون صدك عن التبليغ ، فلا تبال بهم (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) أي حفظناك من شرّهم ، فلا ينالك منهم ما يحذر. وهذا ضمان منه تعالى ، له صلوات الله عليه ، لينهض بالصدع نهضة من لا يهاب ولا يخشى. كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ، وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧].

(الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) وصفهم بذلك ، تسلية له عليه الصلاة والسلام. وتهوينا للخطب عليه ، بأنهم أصحاب تلك الجريمة العظمى ، التي هي أكبر الكبائر ، التي سيخذلون بسببها. كما قال : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي عاقبة أمرهم. وقد جوّز في الموصول أن يكون صفة (للمستهزئين) ومنصوبا بإضمار فعل. ومرفوعا بتقدير (هم). وفي الآية وعيد شديد لمن جعل معه تعالى معبودا آخر. وقد أشار كثير من المفسرين إلى أن قوله تعالى : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) عنى به ما عجله من إهلاكهم. كما روى ابن إسحاق عن عروة : أن عظماء المستهزئين كانوا خمسة نفر. وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم : من بني أسد أبو زمعة ، كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه. فقال : اللهم! أعم بصره وأثكله ولده. ومن بني زهرة الأسود. ومن بني مخزوم الوليد بن المغيرة. ومن بني سهم العاص بن وائل. ومن خزاعة الحارث. فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الاستهزاء ، أنزل الله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) إلى قوله : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ، قال ابن إسحاق عن عروة ، إن جبريل أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يطوف بالبيت. فقام وقام رسول الله إلى جنبه. فمر به الأسود فأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات منه. ومر به الوليد فأشار إلى أثر جراح بأسفل كعب رجله. كان أصابه قبل ذلك بسنتين. فانتقض به فقتله. ومرّ به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص قدمه ، فخرج على حمار يريد الطائف. فربض على شبرقة فدخلت في أخمص قدمه ومرّ به الحارث فأشار إلى رأسه فامتخط قيحا فقتله. انتهى.

٣٤٦

ومثله ما رواه ابن مسعود : قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصلي في ظل الكعبة. وناس من قريش وأبو جهل قد نحروا جزورا في ناحية مكة : فبعثوا فجاؤوا بسلاها وطرحوه بين كتفيه وهو ساجد. فجاءت فاطمة فطرحته عنه. فلما انصرف قال : اللهم! عليك بقريش وبأبي جهل وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة وأميّة بن خلف وعقبة بن أبي معيط (١).

قال ابن مسعود رضي الله عنه : فلقد رأيتهم قتلى في قليب بدر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (٩٩)

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) لما ذكر تعالى أن قومه يهزئون ويسفهون ، أعلمه بما يعلمه سبحانه منه ، من ضيق صدره وانقباضه بما يقولون : لأن الجبلّة البشرية والمزاج الإنساني يقتضي ذلك. ثم أعلمه بما يزيل ضيق الصدر والحزن. وذلك أمره من التسبيح والتحميد والصلاة. كما قال تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [البقرة : ٤٥] ، وقال : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد : ٢٨] ومعلوم أن في الإقبال على ما ذكر ، استنزال الإمداد الربانيّ بالنصر والمعونة. لقوله : (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة : ١٥٣] و [الأنفال : ٤٦] ، وقوله : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة : ١٥٢] ، وقوله : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل : ١٢٨].

وقد روي في شمائله صلوات الله عليه ؛ أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ، تأويلا لما ذكر.

قال أبو السعود : وتحلية الجملة بالتأكيد لإفادة تحقيق ما تضمنته من التسلية. وفي التعرض لعنوان الربوبية ، مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام. ما لا يخفى من إظهار اللطف به عليه الصلاة والسلام ، والإشعار بعلة الحكم ، أعني الأمر بالتسبيح والحمد. والمراد من (الساجدين) المصلين. من إطلاق الجزء على

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : الوضوء ، ٦٩ ـ باب إذا ألقي على ظهر المصلّي قذر أو جيفة ، حديث ١٧٩. وأخرجه مسلم في : الجهاد والسير ، ٣٩ ـ باب ما لقي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أذى المشركين والمنافقين ، حديث ١٠٧.

٣٤٧

الكل. و (اليقين) : الموت. فإنه متقين اللحوق بكل حيّ مخلوق. وإسناد الإتيان إليه ، للإيذان بأنه متوجه إلى الحيّ طالب للوصول إليه. والمعنى دم على العبادة ما دمت حيا. كقوله تعالى في سورة مريم : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) [مريم : ٣١].

وقيل : المراد ب (اليقين) تعذيب هؤلاء وأن ينزل بهم ما وعده. ولا ريب أنه من المتيقن. إلا أن إرادة الموت منه ، أولى. يدلّ له قوله تعالى إخبارا عن أهل النار : (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ، حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) [المدثر : ٤٣ و ٤٧] ، وما في الصحيح عن أم العلاء ، امرأة من الأنصار : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دخل على عثمان بن مظعون وقد مات ، قالت أم العلاء : رحمة الله عليك ، أبا السائب! فشهادتي عليك ، لقد أكرمك الله! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وما يدريك أن الله أكرمه؟ فقلت : بأبي وأمي يا رسول الله! فمن؟ فقال : أما هو فقد جاءه اليقين ، وإني لأرجو له الخير (١).

تنبيه :

قال الحافظ ابن كثير : يستدل بهذه الآية الكريمة وهي قوله : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) على أن العبادة ، كالصلاة ونحوها ، واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا ، كما في صحيح البخاري (٢) عن عمران بن حصين رضي الله عنهما ؛ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال : صلّ قائما. فإن لم تستطع فقاعدا. فإن لم تستطع فعلى جنب. ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة. فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم. وهذا كفر وضلال وجهل. فإن الأنبياء عليهم‌السلام كانوا هم وأصحابهم ، أعلم الناس بالله ، وأعرفهم بحقوقه وصفاته ، وما يستحق من التعظيم ، وكانوا ، مع هذا ، أعبد الناس وأكثرهم مواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة. انتهى.

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : الجنائز ، ٣ ـ باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في كنفه ، الحديث رقم ٦٦٦.

(٢) أخرجه البخاريّ في : تقصير الصلاة ، ١٧ ـ باب صلاة القاعد ، حديث رقم ٦١١.

٣٤٨

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة النحل

سميت بها لاشتمالها على قوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) النحل : ٦٨] ، المشير إلى أنه لا يبعد أن يلهم الله عزوجل بعض خواص عباده ، أن يستخرجوا الفوائد الحلوة الشافية من هذا الكتاب. بحمل كلماته على مواضع الشرف. وعلى المعاني المثمرة ، وعلى التصرفات العالية. مع تحصيل الأخلاق الفاضلة وسلوك سبيل التصفية والتزكية. وهذا أكمل ما يعرف به فضائل القرآن ويدرك به مقاصده. قاله المهايمي.

وقال بعضهم : تسمية السورة بذلك تسمية بالأمر المهمّ. ليتفطن الغرض الذي يرمى إليه. ك (الجمعة) لأهمّيّة الاجتماع الأسبوعي وما ينجم عنه من مصالح الأمور العامة ، والحديد لمنافعه العظيمة. و (النحل). و (العنكبوت). و (النمل). للتفطن لصغار الحيوانات الحكيمة الصنائع. وهكذا. وسيأتي طرف من حكمة النحل وأسراره عند آيته في هذه السورة.

وهي مكية. واستثنى ابن عباس آخرها. وعن الشعبيّ إلا قوله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) [النحل : ١٢٦] ، الآيات وعن الشعبيّ : إلا قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ) [النحل : ٤١] ، الآيات. وآياتها مائة وثمان وعشرون.

وعن قتادة : تسمى سورة النعم. وذلك لما عدد الله فيها من النعم على عباده.

٣٤٩

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١)

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) تقرر في غير ما آية ، أن المشركين كانوا يستعجلون ما وعدوا من قيام الساعة أو إهلاكهم. كما فعل يوم بدر ، استهزاء وتكذيبا بالوعد. فقيل لهم : (أَتى أَمْرُ اللهِ) أي ما توعدونه مما ذكر. والتعبير عنه ب (أَمْرُ اللهِ) للتفخيم والتهويل. وللإيذان بأن تحققه في نفسه وإتيانه ، منوط بحكمه النافذ وقضائه الغالب. وإتيانه عبارة عن دنوّه واقترابه ، على طريقة نظم المتوقع في سلك الواقع. أو عن إتيان مباديه القريبة ، على نهج إسناد حال الأسباب إلى المسببات. والآية كقوله تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء : ١] ، وقوله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر : ١] ، وقوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ. وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [العنكبوت : ٥٣] ، ثم إنه تعالى نزه نفسه عن شركهم به غيره ، وعبادتهم معه ما سواه ، من الأوثان والأنداد ، الذي أفضى بهم إلى الاستهزاء والعناد ، واعتقاد أنها شفعاؤهم إذا جاء الميعاد.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ) (٢)

(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) ردّ لاستبعادهم النبوة ، بأن ذلك سنة له تعالى. ولذا ذكر صيغة الاستقبال كقوله تعالى : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [غافر : ١٥] ، وقوله تعالى : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) [الحج : ٧٥] ، والروح هو الوحي ، الذي من جملته القرآن. لقوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ، ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا)

٣٥٠

[الشورى : ٥٢] ، والتعبير عنه بالروح على نهج الاستعارة. فإنه يحيي القلوب الميتة بالجهل و (مِنْ أَمْرِهِ) بيان للروح ، أو حال منه ، أو صفة ، أو متعلق ب (ينزل) و (من) للسببية و (أَنْ أَنْذِرُوا) بدل من الروح. أي أخبروهم بالتوحيد والتقوى. فقوله (فَاتَّقُونِ) من جملة المنذر به. أو هو خطاب للمستعجلين ، على طريقة الالتفات ، والفاء فصيحة أي إذا كانت سنته تعالى ذلك ، فاتقون ، بما ينافيه من الإشراك وفروعه ، من الاستعجال.

قال الزمخشري : ثم دل على وحدانيته وأنه لا إله إلا هو ، بما ذكر ، مما لا يقدر عليه غيره. من خلق السموات والأرض ، وخلق الإنسان وما يصلحه ، وما لا بد له منه من خلق البهائم لأكله وركوبه ، وجر أثقاله وسائر حاجاته. وخلق ما لا يعلمون من أصناف خلائقه. ومثله متعال عن أن يشرك به غيره. بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) (٦)

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي بالحكمة كما تقدم (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) أي مهينة ضعيفة (فَإِذا هُوَ) بعد تكامله بشرا (خَصِيمٌ مُبِينٌ) أي مخاصم لخالقه مجادل. يجحد وحدانيته ويحارب رسله. وهو إنما خلق ليكون عبدا لا ضدا (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ) أي لمصالحكم وهي الأزواج الثمانية المفصلة في سورة الأنعام.

قال الزمخشري : وأكثر ما تقع على الإبل.

(فِيها دِفْءٌ) أي ما يدفئ أي يسخن به من صوف أو وبر أو شعر ، فيقي البرد (وَمَنافِعُ) أي من نسلها ودرّها وركوب ظهرها (وَمِنْها تَأْكُلُونَ ، وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) أي زينة (حِينَ تُرِيحُونَ) أي تردّونها من مراعيها إلى مراحها (بضم الميم) وهو مقرّها في دور أهلها بالعشيّ (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) أي تخرجونها بالغداة إلى المراعي.

قال الزمخشري : منّ الله بالتجمل بها كما منّ بالانتفاع بها. لأنه من أغراض أصحاب المواشي. بل هو من معاظمها لأن الرعيان ، إذا روحوها بالعشيّ ، وسرحوها بالغداة ، فزينت بإراحتها وتسريحها الأفنية ، وتجاوب فيها الثغاء والرغاء ، أنست أهلها

٣٥١

وفرحت أربابها. وأجلتهم في عيون الناظرين إليها ، وكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس ، ونحوه : (لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) [النحل : ٨] ، (يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً) [الأعراف : ٢٦].

فإن قلت : لم قدمت الإراحة على التسريح؟ قلت : لأن الجمال في الإراحة أظهر ، إذا أقبلت ملأى البطون ، حافلة الضروع ، ثم أوت إلى الحظائر حاضرة لأهلها. انتهى.

ثم أشار إلى فائدة جامعة للحاجة والزينة فقال :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨)

(وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) أي أحمالكم (إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) بكسر الشين المعجمة وفتحها. وقراءتان وهما لغتان في معنى (المشقة) أي لم تكونوا بالغيه بأنفسكم إلا بجهد ومشقة ، فضلا عن أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي حيث سخرها لمنافعكم. ثم أشار إلى ما هو أتم في دفع المشقة وإفادة الزينة ، فقال : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ) عطف على (الأنعام) (لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) عطف محل (لتركبوها) فهي مفعول له أو مصدر لمحذوف. أي وتتزينوا بها زينة ، أو مصدر واقع موقع الحال من فاعل (تركبوها) أو مفعوله. أي متزينين بها أو متزينا بها. وسر التصريح باللام في المعطوف عليه ، دون المعطوف ، هو الإشارة إلى أن المقصود المعتبر الأصليّ في الأصناف ، هو الركوب : وأما التزين بها فأمر تابع غير مقصود قصد الركوب. فاقترن المقصود المهم باللام المفيدة للتعليل. تنبيها على أنه أهم الغرضين وأقوى السببين. وتجرد التزين منها تنبيها على تبعيته أو قصوره عن الركوب. والله أعلم. كذا في (الانتصاف)

تنبيه :

استدل بهذه الآية القائلون بتحريم لحوم الخيل. قائلين بأن التعليل بالركوب يدل على أنها مخلوقة لهذه المصلحة دون غيرها. قالوا : ويؤيد ذلك إفراد هذه الأنواع الثلاثة بالذكر وإخراجها عن الأنعام. فيفيد ذلك اتحاد حكمها في تحريم الأكل. قالوا : ولو كان أكل الخيل جائزا ، لكن ذكره والامتنان به أولى من ذكر الركوب ، لأنه أعظم فائدة منه وأجاب المجوّزون لأكلها ، بأنه لا حجة في التعليل بالركوب ، لأن ذكر ما هو الأغلب من منافعها ، لا ينافي غيره.

٣٥٢

ولا نسلم أن الأكل أكثر فائدة من الركوب حتى يذكر ويكون ذكره أقدم من ذكر الركوب. وأيضا لو كانت هذه الآية تدل على تحريم الخيل لدلت على تحريم الحمر الأهلية. وحينئذ لا يكون ثم حاجة لتجديد التحريم لها ، عام خبير. وقد قدمنا أن هذه السورة مكية.

والحاصل أن الأدلة الصحيحة قد دلت على حل أكل لحوم الخيل. فلو سلمنا أن هذه الآية متمسّكا للقائلين بالتحريم ، لكانت السنّة المطهرة الثابتة رافعة لهذا الاحتمال ، ودافعة لهذا الاستدلال. وقد ورد في حل أكل لحوم الخيل ، أحاديث منها ما في الصحيحين (١) وغيرهما من حديث أسماء قالت : نحرنا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرسا ، فأكلناه. وأخرج أبو عبيد وابن أبي شيبة والترمذيّ (٢) وصححه والنسائي (٣) وغيرهم من جابر قال : أطعمنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحوم الخيل ، ونهانا عن لحوم الحمر الأهلية. وأخرج أبو داود نحوه. وثبت أيضا في الصحيحين (٤) من حديث جابر قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن لحوم الحمر الأهلية ، وأذن في الخيل.

وأما ما أخرجه أبو داود (٥) والنسائي (٦) وغيرهما من حديث خالد بن الوليد قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع ، وعن لحوم الخيل والبغال والحمير ، ففي إسناده صالح بن يحيى. فيه مقال. ولو فرض صحته لم يقو على معارضة أحاديث الحلّ. على أنه يمكن أن يكون متقدما على يوم خيبر ، فيكون منسوخا. كذا في (فتح البيان).

وفي (الإكليل) : أخذ المالكية ، من الاقتران المذكور ، ردّا على الحنفية في قولهم بوجوب الزكاة فيها. أي الخيل. وقوله تعالى :

(وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) أي من المخلوقات في القفار والبحار. وصيغة الاستقبال للدلالة على التجدد والاستمرار. أو لاستحضار الصورة.

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : الذبائح والصيد ، ٢٤ ـ باب النحر والذبح ، حديث ٢٢٠٢.

وأخرجه مسلم في : الصيد والذبائح.

(٢) أخرجه الترمذيّ في : الأطعمة ، ٥ ـ باب ما جاء في أكل لحوم الخيل.

(٣) أخرجه النسائي في : الصيد والذبائح ، ٢٩ ـ باب الإذن في أكل لحوم الخيل.

(٤) أخرجه البخاريّ في : المغازي ، ٣٨ ـ باب غزوة خيبر ، حديث ١٩٠٩ وأخرجه مسلم في : الصيد والذبائح ، حديث رقم ٣٦.

(٥) أخرجه أبو داود في : الأطعمة ، ٢٥ ـ باب في أكل لحوم الخيل ، حديث رقم ٣٧٨٨.

(٦) أخرجه النسائي في : الصيد والذبائح ، ٣٠ ـ باب تحريم أكل لحوم الخيل.

٣٥٣

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (٩)

(وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ).

في الآية فوائد :

الأولى : قال ابن كثير : لما ذكر تعالى من الحيوانات ما يسار عليه في السبل الحسية نبّه على الطرق المعنوية الدينية. وكثيرا ما يقع في القرآن العبور من الأمور الحسية إلى الأمور المعنوية الدينية. كقوله تعالى : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) [البقرة : ١٩٧] ، وقال تعالى : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً ، وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف : ٢٦].

ولما ذكر تعالى ، في هذه السورة الحيوانات من الأنعام وغيرها ، التي يركبونها ويبلغون عليها حاجة في صدورهم ، وتحمل أثقالهم إلى البلاد والأماكن البعيدة والأسفار الشاقة ، شرع في ذكر الطرق التي يسلكها الناس إليه. فبيّن أن الحق منها موصلة إليه. فقال : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ). كقوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام : ١٥٣]. وقال : (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) [الحجر : ٤١] ، انتهى. وقوله سبحانه : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى).

الثانية ـ قال أبو السعود : (القصد) مصدر بمعنى الفاعل. يقال سبيل قصد وقاصد. أي مستقيم. على طريقة الاستعارة أو على نهج إسناد حال سالكه إليه ، كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه. أي حقّ عليه سبحانه وتعالى ، بموجب رحمته ووعده المحتوم ، بيان الطريق المستقيم الموصل لمن يسلكه إلى الحق ، الذي هو التوحيد. بنصب الأدلة وإرسال الرسل وإنزال الكتب لدعوة الناس إليه. أو مصدر بمعنى الإقامة والتعديل. قاله أبو البقاء. أي عليه ، عزوجل ، تقويمها وتعديلها. أي : جعلها بحيث يصل سالكها إلى الحق. لكن لا بعد ما كانت في نفسها منحرفة عنه ، بل إبداعها ابتداء كذلك على نهج (سبحان من صغّر البعوض وكبّر الفيل) وحقيقته راجعة إلى ما ذكر من نصب الأدلة. وقد فعل ذلك حيث أبدع هذه البدائع التي كل واحد منها لا حب يهتدى بمناره. وعلم يستضاء بناره. وأرسل رسلا مبشرين ومنذرين. وأنزل عليهم كتبا من جملتها هذا الوحي الناطق بحقيقة الحق. الفاحص عن كل ما جل من الأسرار ودق. الهادي إلى سبيل الاستدلال بتلك

٣٥٤

الأدلة المفضية إلى معالم الهدى. المنحّية عن فيافي الضلالة ومهاوي الردى.

الثالثة ـ الضمير في (وَمِنْها جائِرٌ) للسبيل. فإنها تؤنث. أي : وبعض السبيل مائل عن الحق ، منحرف عنه ، لا يوصل سالكه إليه. وهو طرق الضلالة التي لا يكاد يحصى عددها ، المندرج كلها تحت الجائر. كقوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام : ١٥٣].

قال أبو السعود ، بعد ما تقدم أي : وعلى الله تعالى بيان الطريق المستقيم الموصل إلى الحق وتعديله ، بما ذكر من نصب الأدلة ليسلكه الناس باختيارهم ويصلوا إلى المقصد ـ وهذا هو الهداية المفسرة بالدلالة على ما يوصل إلى المطلوب. لا الهداية المستلزمة للاهتداء البتة. فإن ذلك مما ليس بحق على الله تعالى. لا بحسب ذاته ولا بحسب رحمته. بل هو مخلّ بحكمته ، حيث يستدعي تسوية المحسن والمسيء ، والمطيع والعاصي ، بحسب الاستعداد. وإليه أشير بقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أي لو شاء أن يهديكم إلى ما ذكر من التوحيد ، هداية موصلة إليه البتة ، مستلزمة لاهتدائكم أجمعين ، لفعل ذلك. ولكن لم يشأه. لأن مشيئته تابعة للحكمة الداعية إليها. ولا حكمة في تلك المشيئة. لما أن الذي عليه يدور فلك التكليف ، وإليه ينسحب الثواب والعقاب ، إنما هو الاختيار الذي عليه يترتب الأعمال ، التي بها نيط الجزاء.

ولما كان أشرف أجسام العالم السفليّ ، بعد الحيوان ، النبات ، تأثر ما مرّ من الإنعام بالأنعام والدواب ، التي يستدل بها على وحدته تعالى ، بذكر عجائب أحوال النبات ، للحكمة نفسها. فقال سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١١)

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) أي المزن (ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ) يسكن حرارة العطش (وَمِنْهُ شَجَرٌ) أي ومنه يحصل شجر. والمراد به ما ينبت من الأرض ، سواء كان له ساق أو لا ، (فِيهِ تُسِيمُونَ) أي ترعون أنعامكم (يُنْبِتُ) أي الله عزوجل (لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ) أي الذي فيه قوت الإنسان (وَالزَّيْتُونَ) أي الذي فيه إدامه

٣٥٥

(وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ) أي اللذين فيهما ، مع ذلك ، مزيد التلذذ (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي يخرجها بهذا الماء الواحد ، على اختلاف صنوفها وطعومها وألوانها وروائحها. ولهذا قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في إنزال الماء وإنبات ما فصّل (لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي دلالة وحجة على وحدانيته تعالى. كما قال سبحانه (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) [النمل : ٦٠].

قال أبو السعود ـ وأصله للرازيّ في شرح كون ما ذكره حجة ـ : فإن من تفكر في أن الحبة أو النواة تقع في الأرض وتصل إليها نداوة تنفذ فيها فينشق أسفلها فيخرج منه عروق تنبسط في أعماق الأرض وينشق أعلاها وإن كانت منتكسة في الوقوع. ويخرج منه ساق فينمو ويخرج منه الأوراق والأزهار والحبوب والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الأشكال والألوان والخواصّ والطبائع ، وعلى نواة قابلة لتوليد الأمثال على النمط المحرر ، لا إلى نهاية. مع اتحاد المواد واستواء نسبة الطبائع السفلية والتأثيرات العلوية ، بالنسبة إلى الكل ـ علم أن من هذه أفعاله وآثاره ، لا يمكن أن يشبهه شيء ، في شيء من صفات الكمال. فضلا عن أن يشاركه أخس الأشياء في أخص صفاته ، التي هي الألوهية واستحقاق العبادة. تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. وحيث افتقر سلوك هذه الطريقة إلى ترتيب المقدمات الفكرية ، قطع الآية الكريمة بالتفكر. انتهى. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (١٢)

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي لمنامكم ومعاشكم ولعقد الثمار وإنضاجها (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) لإصلاح ما نيط بهما صلاحه من المكونات (وَالنُّجُومُ) ليهتدى بها في ظلمات البر والبحر. وقوله تعالى : (مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) حال من الجميع. على معنى جعلها مسخرات. لأن في التسخير معنى (الجعل) فصحت على أنه تجريد. أو على أن التسخير لهم نفع خاص.

فمعناه نفعكم حال كونها مسخرات لما خلقت له ، مما هو طريق لنفعكم. ف (سخر) بمعنى (نفع) على الاستعارة أو المجاز المرسل. لأن النفع من لوازم

٣٥٦

التسخير. أو على أن (مسخرات) مصدر ميميّ ، منصوب على أنه مفعول مطلق. وسخرها مسخرات ، على منوال ضربته ضربات أو يجعل قوله : (مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) بمعنى مستمرة على التسخير بأمره الإيجاديّ. لأن الإحداث لا يدل على الاستمرار. وقرئ بنصب الليل والنهار وحدهما. ورفع ما بعدهما على الابتداء والخبر. وقرئ (وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ) بالرفع مبتدأ وخبر ، وما قبله بالنصب (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي تسخير ما ذكر (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

ولما نبه تعالى على معالم السموات ، نبه على ما خلق في الأرض من الأمور العجيبة ، والأشياء المختلفة ، من الحيوانات والمعادن والنباتات والجمادات ، على اختلاف ألوانها وأشكالها ، وما فيها من المنافع والخواص ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (١٣)

(وَما ذَرَأَ) عطف على قوله تعالى (وَالنُّجُومُ) رفعا ونصبا ، على أنه مفعول (لجعل) أي وما خلق (لَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي من حيوان ونبات (مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ).

ثم نبه تعالى ممتنا على تسخيره البحر ، وتعداد النعم به ، إثر امتنانه بنعم البر ، بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٤)

(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) هو السمك.

قال الزمخشريّ : ووصفه بالطراوة لأن الفساد يسرع إليه ، فيسارع إلى أكله ، خيفة الفساد عليه.

قال الناصر : فكأنّ ذلك تعليم لأكله ، وإرشاد إلى أنه لا ينبغي أن يتناول إلا

٣٥٧

طريّا. والأطباء يقولون : إن تناوله بعد ذهاب طراوته أضر شيء يكون. والله أعلم. انتهى.

قال الشهاب : ففيه إدماج لحكم طبّيّ. وهذا لا ينافي تقديده وأكله مخلّلا ، كما توهم. انتهى.

أقول : الأظهر في سر وصفه بالطراوة ، هو التنبيه على حسنه ولطفه ، وعلى التفكير في باهر قدرته وعجيب صنعه ، سبحانه ، في خلقه إياه ، على كيفية تباين لحوم حيوانات البر ، مع اشتراكهما في الحيوانية.

(وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً) كاللؤلؤ والمرجان (تَلْبَسُونَها) أي تلبسها نساؤكم ، والإسناد إليهم لأنهن من جملتهم في الخلطة والتابعية. ولأنهن إنما يتزيّن بها من أجلهم. فكأنها زينتهم ولباسهم. أو معنى (تلبسون) تتمتعون وتلتذون. على طريق الاستعارة والمجاز. ولو جعل من مجاز البعض لصح. أي تلبسها نساؤكم.

قال الناصر : ولله درّ مالك رضي الله عنه ، حيث جعل للزوج الحجر على زوجته فيما له بال من مالها. وذلك مقدر بالزائد على الثلث ، لحقه فيه بالتجمل. فانظر إلى مكنة حظ الرجال من مال النساء ومن زينتهن ، حتى جعل حظ المرأة من مالها وزينتها حلية له. فعبّر عن حظه في لبسها بلبسه ، كما يعبر عن حظها سواء.

قال الشهاب : فإن قلت الظاهر أن يقال تحلونهن أو تقلدونهن كما قال :

تروع حصاه حالية العذارى

فتلمس جانب العقد النّظيم

وهي للنساء دون الرجال. قلت أما الأول فسهل. لأن المراد لازمه. أي تحلونهن. والثاني ، على فرض تسليمه ، هم يتمتعون بزينة النساء ، فكأنهم لابسون. وإذا لم يكن تغليبا ، فهو مجاز ، بمعنى : تجعلونها لباسا لبناتكم ونسائكم. ونكتة العدول ، أن النساء مأمورات بالحجاب وإخفاء الزينة عن غير المحارم. فأخفي التصريح به ليكون اللفظ كالمعنى. انتهى.

وناقش صاحب (فتح البيان) ما قدروه في الآية حيث قال : وظاهر قوله تعالى : (تَلْبَسُونَها) أنه يجوز للرجال أن يلبسوا اللؤلؤ والمرجان أي يجعلونهما حلية لهم كما يجوز للنساء. ولا حاجة لما تكلفه جماعة من المفسرين في تأويل قوله (تَلْبَسُونَها) بقولهم : تلبسها نساؤهم. لأنهن من جملتهم ، أو لكونهن يلبسنها لأجلهم. وليس في الشريعة المطهرة ما يقتضي منع الرجال من التحلي باللؤلؤ

٣٥٨

والمرجان ، ما لم يستعمله على صفة لا يستعمله عليها إلا النساء خاصة. فإن ذلك ممنوع. ورد الشرع بمنعه ، من جهة كونه تشبها بهنّ ، لا من جهة كونه حلية لؤلؤ أو مرجانا. انتهى.

قال السيوطي في (الإكليل) : في الآية دليل على إباحة لبس الرجال الجواهر ونحوها. واستدل بها من قال بحنث الحالف لا يلبس حليا بلبس اللؤلؤ. لأنه تعالى سماه (حليا) واستدل بها بعضهم على أنه لا زكاة في حلي النساء. فأخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر. أنه سئل : هل في حليّ النساء صدقة؟ قال : لا. هي كما قال : (حِلْيَةً تَلْبَسُونَها). انتهى.

قال في (فتح البيان) : وفي هذا الاستدلال نظر. والذي ينبغي التعويل عليه : أن الأصل البراءة من الزكاة حتى يرد الدليل بوجوبها في شيء من أنواع المال فتلزم. وقد ورد في الذهب والفضة ما هو معروف. ولم يرد في الجواهر ، على اختلاف أصنافها ، ما يدل على وجوب الزكاة فيها. وقوله تعالى : (وَتَرَى الْفُلْكَ) أي السفن (مَواخِرَ فِيهِ) أي جواري جمع (ماخرة) بمعنى جارية. وأصل معنى (المخر) الشق لأنها تشق الماء بمقدمها (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) عطف على محذوف. أي لتنتفعوا بذلك (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي من سعة رزقه ، بركوبها للتجارة (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي فتصرفون ما أنعم به عليكم إلى ما خلق لأجله.

قال أبو السعود : ولعل تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر ، من حيث إن فيها قطعا لمسافة طويلة ، مع أحمال ثقيلة ، في مدة قليلة ، من غير مزاولة أسباب السفر. بل من غير حركة أصلا. مع أنها في تضاعيف المهالك. وعدم توسيط الفوز بالمطلوب بين الابتغاء والشكر ، للإيذان باستغنائه عن التصريح به وبحصولهما معا. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (١٦)

(وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) أي تضطرب (وَأَنْهاراً) أي جعل فيها أنهارا تجري من مكان إلى آخر. رزقا للعباد (وَسُبُلاً) أي طرقا يسلك فيها من بلاد إلى غيرها ، حتى في الجبال. كما قال تعالى : (وَجَعَلْنا

٣٥٩

فِيها فِجاجاً سُبُلاً) [الأنبياء : ٣١] ، (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي بها إلى مآربكم (وَعَلاماتٍ) أي دلائل يستدل بها المسافرون من جبل ومنهل وريح ، برّا وبحرا ، إذا ضلوا الطريق (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) أي في الظلام برّا وبحرا. والعدول عن سنن الخطاب إلى الغيبة للالتفات. وتقديم (بالنجم) للفاصلة. وتقديم الضمير للتّقوّي. وهذا أولى من دعوى الزمخشري ؛ أن التقديم للتخصيص بقوم هم قريش لكونهم أصحاب رحلة وسفر. وذلك لأن الخطاب في الآيات السابقة عامّا فكذا يكون في لاحقها.

تنبيه :

قال في (الإكليل) : هذه الآية أصل لمراعاة النجوم لمعرفة الأوقات والقبلة والطرق.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٨)

(أَفَمَنْ يَخْلُقُ) أي كل شيء ، لا سيما تلك المصنوعات العظيمة المذكورة ، وهو الله الواحد الأحد (كَمَنْ لا يَخْلُقُ) أي شيئا ما ، وهو ما يعبدون من دونه ، وهذا تبكيت للمشركين وإبطال لإشراكهم بإنكار أن يساويه ويستحق مشاركته ، ما لا يقدر على خلق شيء من ذلك ، بل على إيجاد شيء ما.

وزعم الزمخشريّ ومتابعوه ؛ أن قضية الإلزام أن يقال : (أفمن لا يخلق كمن يخلق) ثم تكلموا في سره. وقد تقدم الكلام في ذلك عند قوله تعالى : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) [آل عمران : ٣٦] ، فجدد به عهدا. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي فتعرفوا فساد ذلك. فإنه لوضوحه لا يفتقر إلى شيء سوى التذكر.

ثم نبه ، سبحانه وتعالى. على كثرة نعمه عليهم وإحسانه بما لا يحصى ، إشارة إلى أن حق عبادته غير مقدور ، بقوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) أي لا تضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم ، فضلا أن تطيقوا القيام بحقها من أداء الشكر (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي حيث يتجاوز عن التقصير في أداء شكرها ، ولا يقطعها عنكم لتفريطكم. ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها. قاله الزمخشريّ.

ولحظ ابن جرير ؛ أن مغفرته تعالى ورحمته لهم ، إذا تابوا وأنابوا. أي فيتجاوز عن تقصيرهم بشكرها الحقيقيّ. ولا يعذبهم بعد توبتهم وإنابتهم إلى طاعته.

٣٦٠