تفسير القاسمي - ج ٦

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٦

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٥

القول في تأويل قوله تعالى :

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (٨٩)

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) أي يضاعف لهم العذاب كما ضاعفوا كفرهم بصدهم غيرهم عن الإيمان ، كقوله تعالى : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) [الأنعام : ٢٦] ، وفي الآية دليل على تفاوت الكفار في عذابهم ، كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم. كما قال تعالى : (لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٣٨].

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وهو نبيّهم (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) أي اذكر ذلك اليوم ، وما منحك الله فيه من الشرف العظيم والمقام الرفيع. وما يلحق الكافرين فيه من تمني كونهم ترابا ، لهول المطلع.

وقد ذكر ذلك في آية النساء في قوله تعالى (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) [النساء : ٤١ ـ ٤٢]. وقوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) مستأنف. أو حال بتقدير (قد).

قال الرازي : وجه تعلق هذا الكلام بما قبله ، أنه تعالى لما قال (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) بيّن أنه أزاح علتهم فيما كلفوا. فلا حجة لهم ولا معذرة.

وقال ابن كثير في وجه ذلك : إن المراد ، والله أعلم ، إن الذي فرض عليك تبليغ الكتاب الذي أنزله عليك ، سائلك عن ذلك يوم القيامة (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف : ٦] ، (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٢ ـ ٩٣] ، (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ. فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ ، قالُوا لا عِلْمَ لَنا ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [المائدة : ١٠٩]. وقال تعالى (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) [القصص : ٨٥]. أي إن الذي أوجب عليك تبليغ

٤٠١

القرآن لرادك إليه ومعيدك يوم القيامة وسائلك عن أداء ما فرض عليك. هذا أحد الأقوال ، وهو متجه حسن. انتهى.

و (التبيان) من المصادر التي بنيت على هذه الصيغة لتكثير الفعل والمبالغة فيه. أي تبيينا لكل علم نافع من خبر ما سبق وعلم ما سيأتي وكل حلال وحرام ، وما الناس محتاجون إليه في أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم (وَهُدىً) أي هداية لمن استسلم وانقاد لسلامة فطرته إلى كماله (وَرَحْمَةً) أي له بتبليغه إلى ذلك الكمال بالتربية والإمداد ، ونجاته من العذاب ، وبشارة له بالسعادة الأبدية. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٩٠)

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ) أي فيما نزله تبيانا لكل شيء (بِالْعَدْلِ) وهو القسط والتسوية في الحقوق فيما بينكم. وترك الظلم وإيصال كل ذي حق حقه (وَالْإِحْسانِ) أي التفضيل بأن يقابل الخير بأكثر منه ، والشر بأن يعفو عنه (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) أي إعطاء القرابة ما يحتاجون إليه (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) أي عما فحش من الذنوب وأفرط قبحها كالزنى (وَالْمُنْكَرِ) أي كل ما أنكره الشرع (وَالْبَغْيِ) أي العدوان على الناس (يَعِظُكُمْ) أي بما يأمركم وينهاكم (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي تتّعظون بمواعظ الله ، فتعملون بما فيه رضا الله تعالى.

وروى ابن جرير عن ابن مسعود : إن أجمع آية في القرآن ، لخير وشر ، هذه الآية. وروى الإمام أحمد (١) : أن عثمان بن مظعون مرّ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جالس بفناء بيته. فكشر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال له ألا تجلس؟ فقال : بلى. فجلس. ثم أوحي إليه هذه الآية فقرأها عليه : قال عثمان : فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولما تليت الآية على أكثم بن صيفي قال لقومه : إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها. فكونوا في هذا الأمر رؤساء ولا تكونوا فيه أذنابا. وعن عكرمة أن

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ١ / ٣١٨ ، والحديث رقم ٢٩٢٢.

٤٠٢

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ على الوليد بن المغيرة هذه الآية فقال له : يا ابن أخي! أعد عليّ. فأعادها. فقال له الوليد : والله إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وما هو بقول البشر.

وقد نقل أن بني أمية كانوا يسبّون عليّا ، كرم الله وجهه ، في خطبهم. فلما آلت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، أسقط ذلك منها وأقام هذه الآية مقامه. وهو من أعظم مآثره.

قال الناصر : ولعل المعوض بهذه الآية عن تلك الهنات ، لا حظ التطبيق بين ذكر النهي عن البغي فيها ، وبين الحديث الوارد في أن المناصب لعليّ باغ. حيث يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) لعمار(وكان من حزب عليّ) : تقتلك الفئة الباغية. فقتل مع علي يوم صفين. انتهى.

ولما فيها أيضا من العدل والإحسان إلى ذوي القربى ، وكونها أجمع آية لاندراج ما ذكر فيها. والله أعلم.

ثم بين تعالى أمره بالوفاء بالعهد والميثاق ، والمحافظة على الأيمان المؤكدة ، بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) (٩١)

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً ، إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ).

روى ابن جرير عن بريدة قال : نزلت في بيعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. كان من أسلم بايع النبيّ على الإسلام ، فأمروا بالوفاء بهذه البيعة وأن لا ينقضوها بعد توكيدها بالأيمان. أي لا يحملنكم قلة المؤمنين وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام. وظاهر أن العهد يتناول كل أمر يجب الوفاء بمقتضاه ، مما يلتزمه المرء باختياره. كالمبايعة على الإسلام. وعهد الجهاد وما التزمه من نذر وما أكده بحلف.

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : الصلاة ، ٦٣ ـ باب التعاون في بناء المسجد ، حديث رقم ٢٩٥.

وأخرجه مسلم في : الفتن وأشراط الساعة ، حديث رقم ٧٠.

٤٠٣

وعلى هذا ، فتخصيص اليمين بالذكر ، للتنبيه على أنه أولى أنواع العهد بوجوب الرعاية. و (التوكيد والتأكيد) ، لغتان فصيحتان. والأصل الواو ، والهمزة بدل منها. والواو في قوله : (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) للحال من فاعل (تَنْقُضُوا) أو من فاعل المصدر وإن كان محذوفا. ومعنى (كَفِيلاً) شهيدا رقيبا. و (الجعل) مجاز. فإن من حلف به تعالى وهو مطلع عليه فكأنه جعله شاهدا. قال الشهاب : ولو أبقى (الكفيل) على ظاهره ، وجعل تمثيلا لعدم تخلصهم من عقوبته ، وأنه يسلمهم لها كما يسلم الكفيل من كفله ، كما يقال (من ظلم فقد أقام كفيلا بظلمه) تنبيها على أنه لا يمكنه التخلص من العقوبة كما ذكره الراغب ـ لكان معنى بليغا جدّا. وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) كالتفسير لما قبله. وفيه ترغيب وترهيب.

تنبيه :

في الآية الحث على البرّ في الأيمان. وجليّ أنها فيما فيه طاعة وبرّ وتقوى. وأما فيما عدا ذلك فالخير في نقضها. وقد دل عليه ما ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيحين (١) أنه قال : إني ، والله ، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها ، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها. (وفي رواية : وكفّرت عن يميني). فالحديث في معنى ، والآية في معنى آخر. فلا تعارض ، كما وهم. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٩٢)

(وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) تأكيد لوجوب الوفاء وتحريم النقض. أي لا تكونوا في نقض الأيمان كالمرأة التي أنحت على غزلها ، بعد أن أحكمته وأبرمته ، فجعلته أنكاثا ، أي أنقاضا ، جنونا منها وحمقا.

ففي التمثيل إشارة إلى أن ناقض يمينه خارج من الرجال الكمّل ، داخل في زمرة النساء. بل في أدناهن ، وهي الخرقاء.

وقوله تعالى : (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) حال من الضمير في (ولا تكونوا) أي لا تكونوا مشابهين لامرأة هذا شأنها ، حال كونكم متخذين أيمانكم

__________________

(١) أخرجه مسلم في : الأيمان ، حديث ٧ ـ ١٠.

٤٠٤

مفسدة بينكم (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) أي سبب أن تكون جماعة ، كقريش ، هي أزيد عددا وأوفر مالا من جماعة كالمؤمنين (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) أي يعاملكم معاملة من يختبركم بكونهم أربى ، لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من أيمان البيعة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أم تغترّون بكثرة قريش وثروتهم وقوتهم ، وقلة المؤمنين وفقرهم وضعفهم؟ (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي فيتميز المحق من المبطل ، بما يظهر من درجات الثواب والعقاب. وهو إنذار وتحذير من مخالفة ملة الإسلام.

تنبيه :

قال أبو علي الزجاجي ، من أئمة الشافعية : في هذه الآية أصل لما يقوله أصحابنا ، من إبطال الدور. لأن الله تعالى ذم من أعاد على الشيء بالإفساد بعد إحكامه. نقله في (الإكليل)

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٩٣)

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي حنيفة مسلمة (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي في الدنيا ، سؤال تبكيت ومجازاة ، لا استفسار وتفهم. وهو المنفي في غير هذه الآية. أو في موقف دون موقف كما مر.

وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٩٤)

(وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) تصريح بالنهي عنه ، بعد أن نهى عنه ضمنا ، لأخذه فيما تقدم قيدا للمنهي عنه ، تأكيدا عليهم ومبالغة في قبح المنهي (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) أي فتزل أقدامكم عن محجة الحق ، بعد رسوخها فيه (وَتَذُوقُوا السُّوءَ) أي ما يسوءكم في الدنيا (بِما صَدَدْتُمْ) أي بصدودكم عن الوفاء ، أو بصدكم غيركم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي في الآخرة.

٤٠٥

لطيفة :

تنكير (قدم) للإيذان بأن زلل قدم واحدة عظيم ، فكيف بأقدام كثيرة؟ وأشار في (البحر) إلى نكتة أخرى : قال : الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع فيؤتى بما هو له مجموعا. وتارة يلاحظ فيه كل فرد فرد فيفرد ماله كقوله : (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) [يوسف : ٣١] ، أي لكل واحدة منهن متكئا. ولما كان المعنى : لا يفعل هذا كل واحد منكم ، أفرد (قَدَمٌ) مراعاة لهذا المعنى. ثم قال (وَتَذُوقُوا) مراعاة للفظ الجمع.

قال الشهاب : هذا توجيه للإفراد من جهة العربية ، فلا ينافي النكتة الأولى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٩٥)

(وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي لا تستبدلوا بعهد الله وبيعة رسوله عرضا من الدنيا يسيرا. وهو ما كانت قريش يعدونهم ويمنّونهم ، إن ارتدوا (إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي من إظهاركم في الدنيا وإثابتكم في الآخرة (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي من ذوي العلم والتمييز. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩٦)

(ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) تعليل للخيرية بطريق الاستئناف. أي ما عندكم مما تتمتعون به ، يفرغ وينقص. فإنه إلى أجل معدود محصور مقدر متناه ، وما عنده تعالى من ثوابه لكم في الجنة باق لا انقطاع له. فإنه دائم لا يحول ولا يزول (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ) أي على أذى المشركين ومشاقّ الإسلام (بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بجزاء أحسن من أعمالهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩٧)

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ

٤٠٦

بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) هذا وعد منه تعالى لمن عمل صالحا. وهو العمل التابع لكتاب الله وسنة رسوله ، من ذكر أو أنثى ، وهو ثابت على إيمانه إلى الموت ، بأن يحييه الله تعالى حياة طيبة.

قال المهايمي : أي فيتلذذ بعمله في الدنيا فوق تلذذ صاحب المال والجاه ، ولا يبطل تلذذه إعساره. إذ يرضيه الله بقسمته فيقنعه ويقل اهتمامه بحفظ المال وتنميته. والكافر لا يهنأ عيشه بالمال والجاه ؛ إذ يزداد حرصا وخوف فوات. ويجزون بالأحسن في الآخرة. فلا يقال لهم : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا. بل يكمل جزاء أعمالهم الأدنى بحيث يلحق بالأعلى. انتهى.

وعندي أن الحياة الطيبة هي الحياة التي فيه ثلج الصدور بلذة اليقين وحلاوة الإيمان والرغبة في الموعود والرضا بالقضاء. وعتق الروح مما كانوا يستعبدون له. والاستكانة إلى معبود واحد. والتنوّر بسر الوجود الذي قام به ، وغير ذلك من مزاياه المقررة في مواضعها. هذا في الدنيا. وأما في الآخرة ، فله الجزاء الأحسن والثواب الأوفى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (١٠٠)

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ، إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ).

لما كان القرآن هو الذكر الحكيم والحق المبين ، وكان لكل حق محارب وهو شيطان الجن أو الإنس يثير الشبهات بوساوسه. ويفسد القلوب بدسائسه. أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يستعيذ بالله ويلتجئ إليه ، عند تلاوة القرآن ، من وسوسته. لأن قوة الإنسان تضعف عن دفعه بسهولة ، فيحتاج إلى الاستعانة عليه بالله واللياذ بجواره منه. وقد بينت آية : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [الحج : ٥٢] ، أن هذه عادة الشيطان إثر ما يتلوه كل نبيّ على أمته من الأحكام المتجددة التي يوحى بها السعادة البشر ، أنه يحول عنها الأنظار ويسعى لهدم ما أقيمت لأجله.

٤٠٧

وإن الله يحكم آياته وينسخ شبه الشيطان ، ليحق الحق ويبطل الباطل. فلما كانت هذه عادته ، ولها من الأثر ما لها ، احتيج إلى الاستعاذة به تعالى منها ، عند قراءة الوحي ونشر تعاليمه.

ثم بين تعالى أن أثر وسوسته إنما يكون فيمن له سلطان عليهم. أي تسلط وولاية من أوليائه المتبعين خطواته. وأما الذين آمنوا وتوكلوا على ربهم ، فصبروا على المكاره ولم يبالوا بما يلقون في سبيل الجهاد بالحق من العثرات ، فليس له عليهم سلطان. فهم يضادون أمانيه ويهدمون كل ما يلقيه. لأن إيمانهم يفيدهم النور الكاشف عن مكره ، والتوكل على الله يفيدهم التقوية بالله ، فيمنع من معاندة الشيطان وقوة تأثيره. و (الرجيم) من أوصاف الشيطان الغالبة. أي الملعون المرجوم باللعنة أو المطرود أو المرجوم بالكواكب. والضمير في (به) لربهم والباء للتعدية. أو للشيطان والباء للسببية أي بسببه وغروره ووسوسته. ورجح باتحاد الضمائر فيه. وأشار بعضهم إلى أن المعنى أشركوه في عبادة الله تعالى ، وكله مما يحتمله اللفظ الكريم ويصح إرادته.

تنبيه :

في الآية مشروعية الاستعاذة قبل القراءة ، وهو شامل لحالة الصلاة وغيرها. وقال قوم بوجوبها لظاهر الأمر. وسرها في غيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم التحصن به تعالى أن لا يلبس الشيطان القراءة وأن لا يمنع من التدبر والتذكر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (١٠٢)

(وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ، قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ).

التبديل رفع الشيء مع وضع غيره مكانه ، فتبديل الآية رفعها بآية أخرى. والأكثرون على أن المعنى نسخ آية من القرآن لفظا أو حكما بآية أخرى غيرها ، لحكمة باهرة أشير إليها بقوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) من ناسخ قضت الحكمة أن يتبدل المنسوخ الأول به. وذهب قوم إلى أن المعنى تبديل آية من آيات الأنبياء

٤٠٨

المتقدمين. كآية موسى وعيسى وغيرهما من الآيات الكونية الآفاقية ، بآية أخرى نفسية علمية ، وهي كون المنزل هدى ورحمة وبشارة يدركها العقل إذا تنبه لها وجرى على نظامه الفطري. وذلك لاستعداد الإنسان وقتئذ ، لأن يخاطب عقله ويستصرخ فمه ولبه. فلم يؤت من قبل الخوارق الكونية ويدهش بها كما كان لمن سلف. فبدلت تلك بآية هو كتاب العلم والهدى من نبيّ أمّيّ لم يقرأ ولم يكتب. وكون الكتاب بيّن الصدق قاطع البرهان ناصع البيان بالنسبة لمن أوتي ورزق الفهم. وهذا التأويل الثاني يرجحه على الأول ، أن السورة مكية. وليس في المكي منسوخ بالمعنى الذي يريدونه. ، وللبحث تفصيل في موضع آخر. وقد أشرنا إلى ذلك في آيتين من سورة البقرة في قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا) إلخ [البقرة : ٢٣] ، وقوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) [البقرة : ١٠٦] ، والمقصود أنه تعالى ، لما رحم العالمين وجعل القرآن مكان ما تقدّم ، نسبوا الموحى إليه به إلى الافتراء ، ردّا للحق ، وعنادا للهدى ، وتوليا للشيطان ، وتعبّدا لوسوسته ، وما ذاك إلا لجهلهم المتناهي ، كما قال : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) واعتراض قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) لتوبيخ الكفرة والتنبيه على فساد رأيهم.

ثم أمره تعالى بأن يصدع بالحق في شأنه بقوله : (قُلْ نَزَّلَهُ) أي القرآن المدلول عليه بالآية (رُوحُ الْقُدُسِ) يعني جبريل عليه‌السلام. أضيف إلى القدس وهو الطهر. كما يقال (حاتم الجود وزيد الخير وخبر السوء ورجل صدق) والمراد الروح المقدس وحاتم الجواد وزيد الخيّر والخبر السيء والرجل الصادق. وإنما أضافوا الموصوف إلى مصدر الصفة للمبالغة في كثرة ملابسته له واختصاصه به. والمقدس المطهر من الأدناس البشرية وإضافة (الرب) إلى ضميره صلوات الله عليه في قوله تعالى : (مِنْ رَبِّكَ) للدلالة على تحقيق إفاضة آثار الربوبية. وقوله (بِالْحَقِ) أي متلبسا بالحق الثابت الموافق للحكمة التي اقتضاها دور عصره ، وقوله تعالى : (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي على الحق ونبذ وساوس الشياطين. وفي قوله تعالى : (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) تعريض بحصول أضداد هذه الصفات لغيرهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (١٠٣)

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ، لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ).

٤٠٩

يخبر تعالى عن المشركين في قولهم غير ما نقل عنهم قبل من المقالة الشنعاء ، وكذبهم وبهتهم أن الرسول إنما يعلمه هذا الذي يتلوه من القرآن ، بشر. يعنون رجلا أعجميا كان بين أظهرهم يقرأ في الكتب المتقدمة. ربما يتحدث معه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحيانا. وإنما لم يصرح باسمه للإيذان بأن مدار خطئهم ليس بنسبته صلوات الله عليه إلى التعلم من شخص معين بل من البشر ، كائنا من كان. ثم أشار تعالى وضوح بطلان بهتهم ، بأن لسان الرجل الذي ينسبون إليه التعليم أعجمي غير بيّن. وهذا القرآن الكريم لسان عربي مبين. ذو بيان وفصاحة. ومن أين للأعجمي أن يذوق بلاغة هذا التنزيل ، وما حواه من العلوم ، فضلا أن ينطق به ، فضلا أن يكون معلما له! وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) (١٠٥)

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) تهديد لهم على كفرهم بالقرآن ، بعد ما أماط شبهتهم وردّ طعنهم فيه. وقوله تعالى : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) ردّ لقولهم إنما أنت مفتر. وقلب للأمر عليهم ، ببيان أنهم هم المفترون لا هو. يعني إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن ، لأنه لا يخاف عقابا يردعه عنه ، وقوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) إشارة إلى الذين لا يؤمنون ، ويدخل فيهم قريش دخولا أوليا. أي الكاذبون في الحقيقة ونفس الأمر. أو الكاملون فيه. لأنه لا كذب أعظم من تكذيب آياته تعالى ، والطعن فيها بأمثال هاتيك الأباطيل. ولا يخفى ما في الحصر ، بعد القصر ، من العناية بمقامه صلوات الله عليه. وقد كان أصدق الناس وأبرّهم وأكملهم علما وعملا وإيمانا وإيقانا. معروفا بالصدق في قومه ، لا يشك في ذلك أحد منهم بحيث لا يدعى بينهم إلا ب (الأمين محمد). ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم (١) أبا سفيان عن تلك المسائل التي سألها ، من صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان فيما قال له : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال : لا. فقال هرقل : ما كان ليدع الكذب على الناس ، ويذهب فيكذب على الله تعالى.

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : بدء الوحي ، ٦ ـ حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع ، والحديث طويل ينبغي الوقوف عليه.

٤١٠

تنبيه :

في هذه الآية دلالة قوية على أن الكذب من أكبر الكبائر وأفحش الفواحش. والدليل عليه أن كلمة (إِنَّما) للحصر. والمعنى أن الكذب والفرية لا يقدم عليهما إلا من كان غير مؤمن بآيات الله ، وإلا من كان كافرا. وهذا تهديد في النهاية.

وروي (١) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قيل له : هل يكذب المؤمن؟ قال : لا. ثم قرأ هذه الآية أفاده الرازي. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٠٩)

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ، ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ، أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ ، وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ، لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ).

لما بيّن تعالى فضل من آمن وصبر على أذى المشركين ، في المحاماة عن الدين ، تأثره ببيان ما للردة وإيثار الضلال على الهدى ، من الوعد الشديد ، بهذه الآيات. واستثنى المكره المطمئن القلب بالإيمان بالله ورسوله. فإنه إذا وافق المشركين بلفظ ، لإيلام قوي وإيذاء شديد وتهديد بقتل ، فلا جناح عليه. إنما الجناح على من شرح بالكفر صدرا أي طاب به نفسا واعتقده ، استحبابا للحياة الدنيا الفانية ، أي إيثارا لها على الآخرة الباقية ، فذاك الذي له من الوعيد ما بينته الآيات الكريمة ، من غضب الله عليهم أولا. وعذابه العظيم لهم ، وهو عذاب النار ثانيا.

__________________

(١) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في : ٥٦ ـ ما يكره من الكلام ، حديث ١٩.

٤١١

وعدم هدايتهم باختيارهم الكفر ثالثا. ورابعا بالطبع على قلوبهم بقساوتها وكدورتها. فلم ينفتح لهم طريق الفهم ، وعلى سمعهم وأبصارهم بسدّ طريق المعنى المراد من مسموعاتهم وطريق الاعتبار من مبصراتهم إلى القلب. فلم يؤثر فيهم شيء من أسباب الهداية من طريق الباطن من فيض العلم وإشراق النور. ولا من طريق الظاهر بطريق التعليم والتعلم والاعتبار من آثار الصنع. وخامسا بكونهم هم الغافلين ، بالحقيقة ، لعدم انتباههم بوجه من الوجوه. وامتناع تيقظهم من نوم الجهل بسبب من الأسباب. وجليّ ، أن كل نقمة من هذه الخمس ، على انفرادها ، من أعظم الحواجز عن الفوز بالخيرات والسعادات. فكيف بها كلها!

قال الرازي : ومعلوم أنه تعالى إنما أدخل الإنسان الدنيا ليكون كالتاجر الذي يشتري بطاعاته سعادات الآخرة. فإذا حصلت هذه الموانع عظم خسرانه. فلهذا قال : (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي الذين ضاعت دنياهم التي استنفدوا في تحصيلها وسعهم ، وأتلفوا في طلبها أعمارهم ، وليسوا من الآخرة في شيء إلا في وبال التحسرات.

تنبيهات :

الأول : (من) في قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ) موصول مبتدأ خبره (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) وقوله : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) استثناء مقدم من حكم الغضب. وقوله (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) رجوع إلى صدر الآية وحكمها ، بأسلوب مبيّن لمن كفر ، موضح له. بمثابة عطف البيان أو عطف التفسير. وهذا الوجه من الإعراب لم أره لأحد ، ولا يظهر غيره لمن ذاق حلاوة أسلوب القرآن.

الثاني : استدل بالآية على أن المكره غير مكلف. وأن الإكراه يبيح التلفظ بكلمة الكفر ، بشرط طمأنينة القلب على الإيمان. واستدل العلماء بالآية على نفي طلاق المكره وعتاقه ، وكل قول أو فعل صدر منه. إلّا ما استثنى. أفاده السيوطي في (الإكليل).

الثالث : روي عن ابن عباس : أنها نزلت في عمار بن ياسر حين عذّبه المشركون حتى يكفر بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوافقهم مكرها. ثم جاء معتذرا. قال ابن جرير : أخذ المشركون عمارا فعذّبوه. حتى قاربهم في بعض ما أرادوا. فشكا ذلك إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : كيف تجد قلبك؟ قال : مطمئنا بالإيمان. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن عادوا فعد.

وقال ابن إسحاق : إن المشركين عدوا على من أسلم واتبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من

٤١٢

أصحابه. فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين. فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش. وبرمضاء مكة إذا اشتد الحرّ. يفتنونهم عن دينهم. فمنهم من يفتتن من شدة البلاء الذي يصيبه. ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم. وكان بلال رضي الله عنه عبدا لبعض بني جمح. يخرجه أمية بن خلف ، إذا حميت الظهيرة ، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة. ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره. ثم يقول له : لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى. فيقول (وهو في ذلك البلاء) : أحد. أحد حتى اشتراه أبو بكر وأعتقه.

وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه ، رضي الله عنهم ، إذا حميت الظهرة يعذبونهم برمضاء مكة. فيمرّ بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول : صبرا آل ياسر ، موعدكم الجنة فأما أمه فقتلوها وهي تأبى إلا الإسلام.

قال سعيد بن جبير : قلت لابن عباس : أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال : نعم. والله! إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه ، حتى ما يقدر على أن يستوي جالسا من شدة الضرب الذي نزل به ، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة. حتى يقولوا له : اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول : نعم. حتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون له : هذا الجعل إلهك من دون الله؟ فيقول : نعم. افتداء منهم ، مما يبلغون من جهده.

وقد ذكر ابن هشام في (السيرة) في بحث (عدوان المشركين على المستضعفين ممن أسلم بالأذى والفتنة) غرائب في هذا الباب ، فانظره.

قال ابن كثير : ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي ، إبقاء لمهجته. ويجوز له أن يأبى. كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ، وهم يفعلون به الأفاعيل ، وهو يقول : أحد ، أحد. ويقول : والله! لو أعلم كلمة أغيظ لكم منها لقلتها. رضي الله عنه وأرضاه. وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري ، لما قال له مسيلمة الكذاب : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ فيقول : نعم. فيقول : أتشهد أني رسول الله؟ فيقول : لا أسمع. فلم يزل يقطعه إربا إربا وهو ثابت على ذلك.

وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذافة السهمي ، أحد الصحابة أنه أسرته الروم. فجاءوا به إلى ملكهم. فقال له : تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي. فقال له : لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب ، على أن أرجع عن دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم طرفه عين ، ما فعلت. فقال : إذا أقتلك.

٤١٣

فقال : أنت وذاك. فأمر به فصلب. وأمر الرماة فرموه قريبا من يديه ورجليه ، وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى. ثم أمر به فأنزل. ثم أمر بقدر فأحميت. وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر ، فإذا هو عظام تلوح وعرض عليه فأبى. فأمر به أن يلقى فيها. فرفع بالبكرة ليلقى فيها فبكى. فطمع فيه ودعاه فقال : إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة. تلقى في هذا القدر الساعة. فأحببت أن يكون لي ، بعدد كل شعرة في جسدي ، نفس تعذب هذا العذاب في الله.

وفي بعض الروايات ؛ أنه سجنه ومنعه الطعام والشراب أياما. ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه. ثم استدعاه فقال : ما منعك أن تأكل؟ فقال أما هو فقد حلّ لي. ولكن لم أكن لأشمّتك فيّ. فقال له الملك : فقبّل رأسي وأنا أطلقك وأطلق جميع أسارى المسلمين قال ، فقبّل رأسه. وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده. فلما رجع قال عمر بن الخطاب : حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة. وأنا أبدأ فقام فقبل رأسه. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١١٠)

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

بيان للذين كانوا مستضعفين بمكة. مهانين في قومهم ، وافقوهم على الفتنة ظاهرا ، ثم أمكنهم الخلاص بالهجرة ، فتركوا بلادهم وأهاليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه ، وجاهدوا الكافرين وصبروا على مشاقّ الجهاد. أخبر تعالى أن هؤلاء من بعد الفتنة المذكورة ، أي إجابتهم إليها (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) فيغفر لهم ما فرط منهم. ويرحمهم بالجزاء الحسن.

والجارّ في قوله : (لِلَّذِينَ) متعلق بالخبر على نية التقديم والتأخير ، والخبر لـ (إنّ) الأولى. والثانية مكررة للتأكيد. أو للثانية وخبر الأولى مقدر ، وشمل قوله (هاجَرُوا) من هاجر إلى الحبشة من مكة فرارا بدينه من الفتنة. ومن هاجر بعد إلى المدينة كذلك. كما شمل قوله : (جاهَدُوا) في بث الحق ونشر كلمة الإيمان والدفاع عنه. أو قاتلوا في سبيل الله ولأجل هذا الاحتمال في الفعلين ، قيل : الآية مدنية ، وقوله تعالى :

٤١٤

القول في تأويل قوله تعالى :

(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١١١)

(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) منصوب ب (رحيم) أو ب (اذكر) واليوم يوم القيامة. ومعنى (تُجادِلُ) أي تحاجّ وتسعى في خلاصها. لا يهمها إلا ذاتها وشأنها. ولا يغني عنها مال ولا أب ولا ابن ولا شيء ما (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) أي من خير وشر (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) في ذلك. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ) (١١٣)

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ) اعلم أنه لما هدد الكفار بالوعيد الشديد في الآخرة ، أنذرهم بنقمته في الدنيا أيضا بالجوع والخوف. ومعنى قوله تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً) أي جعل القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم. فأبطرتهم النعمة. فكفروا وتولوا. فأنزل الله بهم نقمته. فيدخل فيهم أهل مكة دخولا أوليا ، أو لقوم معينين ، وهم أهل مكة. والقرية إما مقدرة بهذه الصفة غير معنية ، إذ لا يلزم وجود المشبه به. أو معينة من قرى الأولين. وقد ضمن (ضرب) معنى (جعل) و (مثلا) مفعول ثان و (قرية) مفعول أول.

قال أبو السعود : وتأخير (قرية) مع كونها مفعولا أول ، لئلا يحول المفعول الثاني بينها وبين صفتها وما يترتب عليها. إذ التأخير عن الكل مخلّ بتجاذب أطراف النظم وتجاوبها. ولأن تأخير ما حقه التقديم مما يورث النفس ترقبا لوروده ، وتشوقا إليه. لا سيما إذا كان في المقدم ما يدعو إليه. فإن المثل مما يدعو إلى المحافظة على تفاصيل أحوال ما هو مثل. فيتمكن المؤخر عند وروده لديها فضل تمكن. والمراد بالقرية أهلها مجازا ، أو بتقدير مضاف. ومعنى كونها (آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) أنه لا يزعجها

٤١٥

خوف. و (الرغد) الواسع. و (الأنعم) جمع نعمة.

وفي قوله تعالى : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) شبه أثر الجوع والخوف وضررهما المحيط بهم ، باللباس الغاشي للابس. فاستعير له اسمه ، وأوقع عليه الإذاقة المستعارة ، لمطلق الإيصال ، المنبئة عن شدة الإصابة ، بما فيها من اجتماع إدراكي اللامسة والذائقة ، على نهج التجريد. فإنها لشيوع استعمالها في ذلك ، وكثرة جريانها على الألسنة جرت مجرى الحقيقة.

قال ابن كثير : هذا مثل أريد به أهل مكة. فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة ، يتخطف الناس من حولها ، ومن دخلها كان آمنا لا يخاف. كما قال تعالى : (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا ، أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) [القصص : ٥٧] ، وهكذا قال هاهنا و (يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً) أي هنيئا سهلا (مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) أي جحدت آلاء الله عليها ، وأعظمها بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم. كما قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) [إبراهيم : ٢٨ ـ ٢٩] ، ولهذا بدلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما فقال : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) أي ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليهم ثمرات كل شيء ، ويأتيها رزقها من كل مكان. وذلك أنهم استعصوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبوا إلا خلافه. فدعا (١) عليهم بسبع كسبع يوسف. فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم. فأكلوا العلهز : (هو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحر) وقوله (وَالْخَوْفِ) وذلك أنهم بدلوا بأمنهم خوفا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه حين هاجروا إلى المدينة ، من سطوته وسراياه وجيوشه. وجعل كل ما لهم في دمار وسفال. حتى فتحها الله عليهم. وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي بعثه الله فيهم منهم. وامتن به عليهم في قوله : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ ..) [آل عمران : ١٦٤] الآية. وقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا ، قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً. رَسُولاً) [الطلاق : ١٠] ، وقوله : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) [البقرة : ١٥١] ، إلى قوله : (وَلا تَكْفُرُونِ) وكما أنه انعكس على الكافرين حالهم فخافوا بعد الأمن ، وجاعوا بعد الرغد ، بدّل الله المؤمنين من بعد خوفهم أمنا ، ورزقهم بعد العيلة. وجعلهم أمراء الناس وحكامهم وسادتهم وقادتهم وأئمتهم. انتهى.

__________________

(١) أخرجه البخاريّ ، تعليقا ، في : الدعوات ، ٥٨ ـ باب الدعاء على المشركين ، عن ابن مسعود.

٤١٦

ثم بين تعالى ضلال المشركين في تحريم ما أحل الله من البحائر والسوائب وغيرها ، مفصلا ما حرمه مما ليس فيه كانوا يحرمونه بأهوائهم. وهو مأذون بأكله ، كما قال :

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (١١٤)

(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي من الحرث والأنعام (حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أي تريدون عبادته فاستحلوها ، فإن عبادته في تحليلها. واشكروه فإنه المنعم المتفضل بذلك وحده.

ثم ذكر ما حرمه عليهم ، مما فيه مضرة لهم في دينهم ودنياهم ، بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١١٥)

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي ذبح على اسم غيره تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ) أي أجهد إلى ما حرم الله (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) أي متعدّ قدر الضرورة وسد الرمق (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فلا يؤاخذه بذلك.

وقد تقدم الكلام على مثل هذه الآية في سورة البقرة بما فيه كفاية. فأغنى إعادته.

ثم نهى تعالى عن سلوك سبيل المشركين الذين حللوا وحرموا بمجرد ما وصفوه واصطلحوا عليه من الأسماء بآرائهم. في البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وغيرها ، مما كان شرعا لهم ابتدعوه في جاهليتهم ، فقال :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١١٧)

(وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ

٤١٧

الْكَذِبَ ، إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ، مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي لا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم ، بالحل والحرمة في قولكم (ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) من غير استناد ذلك الوصف إلى وحي من الله. ف (الكذب) مفعول (تقولوا) وقوله : (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) بدل من (الكذب) واللام صلة للقول. كما يقال : لا تقل للنبيذ إنه حلال ، أي في شأنه وحقه. فهي للاختصاص. وفيه إشارة إلى أنه مجرد قول باللسان ، لا حكم مصمم عليه. أو (هذا حَلالٌ) مفعول (تقولوا) و (الكذب) مفعول (تصف) واللام في (لِما تَصِفُ) تعليلية و (ما) مصدرية. ومعنى تصف تذكر. وقوله : (لِتَفْتَرُوا) بدل من التعليل الأول. أي لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لأجل وصف ألسنتكم الكذب ، أي لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجة. وليس بتكرار مع قوله : (لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) لأن هذا لإثبات الكذب مطلقا ، وذلك لإثبات الكذب على الله. فهو إشارة إلى أنهم ، لتمرنهم على الكذب ، اجترءوا على الكذب على الله ، فنسبوا ما حللوه وحرموه إليه. وعلى هذا الوجه ـ كون الكذب مفعول (تصف) ـ ففي وصف ألسنتهم الكذب مبالغة في وصف كلامهم بالكذب ، لجعله عين الكذب. ترقى عنها إلى أن خيل أن ماهية الكذب كانت مجهولة ، حتى كشف كلامهم عن ماهية الكذب وأوضحها ، ف (تصف) بمعنى توضح. فهو بمنزلة الحد والتعريف الكاشف عن ماهية الكذب. فالتعريف في الكذب للجنس. كأنّ ألسنتهم إذا نطقت كشفت عن حقيقته وعليه قول المعرّى :

سرى برق المعرّة بعد وهن

فبات برامة يصف الكلالا

ونحوه (نهاره صائم) إذا وصف اليوم بما يوصف به الشخص ، لكثرة وقوع ذلك الفعل فيه. و (وجهها يصف الجمال) لأن وجهها لما كان موصوفا بالجمال الفائق ، صار كأنه حقيقة الجمال ومنبعه ، الذي يعرف منه. حتى كأنه يصفه ويعرّفه ، كقوله :

أضحت يمينك من جود مصوّرة

لا بل يمينك منها صوّر الجود

فهو من الإسناد المجازيّ. أو نقول : إن وجهها يصف الجمال بلسان الحال. فهو استعارة مكنية. كأنه يقول : ما بي هو الجمال بعينه. ومثله ورد في كلام العرب والعجم. هذا زبدة ما في (شروح الكشاف).

٤١٨

وما في الآية أبلغ من المثال المذكور ، لما سمعت. أفاده في (العناية). واللام في (لِتَفْتَرُوا) لام الصيرورة والعاقبة المستعارة من التعليلية. إذ ما صدر منهم ليس لأجل هذا ، بل لأغراض أخر يترتب عليها ما ذكر. وجوز كونها تعليلية ، وقصدهم لذلك غير بعيد. وفي قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ) الآية. وعيد شديد بعدم ظفرهم وفوزهم بمطلوب يعتد به لا في الدنيا ولا في الآخرة. أما في الدنيا ، فلأن ما يفترون لأجله متاع قليل ينقطع عن قريب. وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم ، كما قال : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) [لقمان : ٢٤].

تنبيه :

قال الحافظ ابن كثير : يدخل في الآية كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعيّ أو حلل شيئا مما حرم الله. أو حرّم شيئا مما أباح الله ، بمجرد رأيه وتشهّيه.

أخرج ابن أبي حاتم عن أبي نضرة قال : قرأت هذه الآية في سورة النحل. فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا.

قال في (فتح البيان) : صدق رحمه‌الله. فإن هذه الآية تتناول بعموم لفظها فتيا من أفتى بخلاف ما في كتاب الله ، أو في سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. كما يقع كثيرا من المؤثرين للرأي المقدّمين له على الرواية. أو الجاهلين بعلم الكتاب والسنة.

وأخرج الطبرانيّ عن ابن مسعود قال : عسى رجل يقول : إن الله أمر بكذا أو نهى عن كذا. فيقول الله عزوجل : كذبت. أو يقول : إنّ الله حرم كذا أو أحلّ كذا : فيقول الله له : كذبت.

قال ابن العربي : كره مالك وقوم أن يقول المفتي : هذا حلال وهذا حرام في المسائل الاجتهادية. وإنما يقال ذلك فيما نص الله عليه. ويقال في المسائل الاجتهادية : إني أكره كذا وكذا ، ونحو ذلك.

ولما ذكر تعالى ما حرمه علينا من الميتة والدم إلخ ، بيّن ما كان حرمه على اليهود في شريعتهم مما ليس فيه أيضا شيء مما حرمه المشركون ، تحقيقا لافترائهم بأن ما حظروه لا سند له في شريعة سابقة ولا لاحقة ، فقال سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١١٩)

٤١٩

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا) يعني اليهود (حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) أي في سورة الأنعام في قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) [الأنعام : ١٤٦] الآية ، (وَما ظَلَمْناهُمْ) أي فيما حرّمنا عليهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي فاستحقوا ذلك. كقوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) [النساء : ١٦٠] ، وقد سلف لنا ما ذكروه في تفسيرها مما يجيء هنا ، فتذكر. قالوا : في الآية تنبيه على الفرق بينهم وبين غيرهم في التحريم. فإن هذه الأمة لم يحرم عليها إلّا ما فيه مضرة لها. وغيرهم قد يحرم عليهم ما لا ضرر فيه ، عقوبة لهم بالمنع ، كاليهود. ثم بين تعالى عظيم فضله في قبول توبة من تاب من العصاة بقوله : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) أي العمل فيما بينهم وبين ربهم (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) أي التوبة (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ثم نوه تعالى بإبراهيم عليه الصلاة والسلام ، دعاء لهم إلى سلوك طريقته في التوحيد ، ورفض الوثنية ، وتبرئة لمقامه ، مما كانوا يفترون عليه ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٢١)

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) أي إماما يقتدى به ، كقوله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) [البقرة : ١٢٤] ، أو كان وحده أمة من الأمم ، لاستجماعه كمالات لا توجد في غيره (قانِتاً لِلَّهِ) أي خاشعا مطيعا له ، قائما بما أمره (حَنِيفاً) أي مائلا عن كل دين باطل إلى الدين الحق (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، شاكِراً لِأَنْعُمِهِ) أي قائما بشكر نعم الله عليه ، مستعملا لها على الوجه الذي ينبغي ، كقوله تعالى : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم : ٣٧] ، أي قام بجميع ما أمره الله تعالى به (اجْتَباهُ) أي اختاره واصطفاه للنبوّة (وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، على شرع مرضي.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٢٣)

٤٢٠