موسوعة أخلاق القرآن - ج ٥

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٥

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٢١

النبي المسلم اذا رأى رؤيا حسنة سارة تحدث بها ، واذا رأى رؤيا سيئة طواها وأعرض عنها. بل نصح الرسول المسلم اذا رأى هذه الرؤيا السيئة أن ينقلب وهو في نومه على الجانب الآخر ، وأن يتفل طردا لذكراها واعراضا عن التأثر بها ، وكأن الرسول يريد أن يقرّب المسلم دائما من روح الاستبشار وأن يباعد دائما بينه وبين التجهم والتطير.

ولقد كان الاستبشار والتبشير عادة الصحابة فقد روى القرطبي قال :

قال أبو سنان : دفنت ابني سنانا ، وأبو طلحة الخولاني على شفير القبر ، فلما أردت الخروج أخذ بيدي فأنشطني وقال : ألا أبشرك يا أبا سنان؟ حدثني الضحاك عن أبي موسى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اذا مات ولد العبد قال الله لملائكته أقبضتم ولد عبدي؟

فيقولون : نعم.

فيقول : أقبضتم ثمرة فؤاده؟

فيقولون : نعم.

فيقول : فماذا قال عبدي؟

فيقولون : حمدك واسترجع.

فيقول الله تعالى : ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد.

وللامام ابن تيمية عبارة بليغة تدل على عمق الاستبشار في نفسه ، وقوة تحليه بهذه الفضيلة في أيام البأس والشدة ، فهو يقول : «ان سجني خلوة ، ونفيي سياحة ، وقتلي شهادة» وهكذا نراه يوجد من الظلمات أنوارا ومن المتاعب أزهارا وهذا كله من روح الاستبشار التي سيطرت على نفسه ومسيرته في حياته.

* * *

٨١

وللصوفية طريقتهم الخاصة في الكلام عن البشرى والاستبشار فعندما يتكلمون مثلا عن قول الله تعالى في سورة البقرة :

«وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» (١).

يرى القشيري في «لطائف الاشارات» أن هذه البشارة المذكورة في الآية تتضمن نعما مؤجلة لعموم المؤمنين ، ونعما معجلة للخواص.

فتلك ـ أي المؤجلة ـ هي جنان المثوبة ، وهذه ـ أي المعجلة ـ جنان القربة ، وتلك رياض النزهة ، وهذه رياض الزلفة ، بل تلك حدائق الافضال ، وهذه حقائق الوصال ، وتلك رفع الدرجات ، وهذه روح المناجاة ، وتلك قضية جوده ، وهذه الاشتغال بوجوده ، وتلك راحة الابشار ، وهذه نزهة الاسرار ، وتلك لطف العطاء للظواهر ، وهذه كشف الغطاء عن السرائر ، وتلك لطف نواله وأفضاله ، وهذه كشف جماله وجلاله.

هكذا تحدث القشيري الصوفي على طريقته.

وتعجبني أبيات تفيض بالاستبشار والرضا والتفتح للحياة ، للشاعر المرحوم محمد مصطفى حمام من قصيدة بعنوان : «علمتني الحياة : كنت قد اقترحت عليه موضوعها ، وفي هذه الابيات يقول :

علمتني الحياة أن أتلقى

كلّ ألوانها رضا وقبولا

ورأيت الرضا يخفف أثقا

لي ، ويلقي على المآسي سدولا

والذي ألهم الرضا لا تراه

أبد الدهر حاسدا أو عذولا

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ٢٥.

٨٢

أنا راض بكل ما كتب الله

ومزج اليه حمدا جزيلا

أنا راض بكل صنف من النا

س : لئيما ألفيته أو نبيلا

لست أخشى من اللئيم أذاة

لا ولن أسأل النبيل فتيلا

فسح الله في فؤادي ، فلا أر

ضى من الحب والوداد بديلا

في فؤادي لكل ضيف مكان

فكن الضيف : مؤنسا أو ثقيلا

ضلّ من يحسب الرضا عن هوان

أو يراه على النفاق دليلا

فالرضا نعمة من الله لم يس

عد بها في العباد الا القليلا

والرضا آية البراءة والايم

مان بالله ناصرا ووكيلا

عمر الله قلبي وقلبك بنعمة الرضا ، وجمّلنا بفضيلة الاستبشار ، وجعلنا من أهل البشرى ، انه أكرم مستعان.

٨٣

ذكر الله

تقول لغة العرب : ذكر الانسان النعمة أي استحضرها وقام بواجبها. وذكر المؤمن ربه تعالى استحضره في قلبه مع تدبر. والذكر استحضار الشيء في القلب ، أو التكلم عنه بالقول ، فهناك ذكر بالقلب وذكر باللسان ، وقد يكون الذكر عن نسيان ، وقد يكون عن ادامة الحفظ. والذكر أيضا هو القرآن ، وقد يستعمل لفظ الذكر بمعنى الشرف كقوله تعالى :

«وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ».

والذكرى كثرة الذكر قال تعالى :

«وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ».

«وذكر الله» خلق من أخلاق القرآن وفضيلة من فضائل الاسلام ودعامة من هدي النبي عليه الصلاة والسّلام ، وقد توسع الامام ابن القيم في كتابه مدارج السالكين في الحديث عن الذكر ومكانته عند أطباء القلوب والارواح ، وأشاد بمنزلته فقال : «وهي منزلة القوم الكبرى ، التي منها يتزودون. وفيها يتجرون. واليها دائما يترددون».

و «الذكر» منشور الولاية ، الذي من أعطيه اتصل ، ومن منعه عزل. وهو قوت قلوب القوم ، الذي متى فارقها صارت الاجساد لها قبورا ،

٨٤

وعمارة ديارهم ، التي اذا تعطلت عنه صارت بورا. وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق ، وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الحريق. ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب ، والسبب الواصل ، والعلاقة التي كانت بينهم وبين علام الغيوب.

واذا مرضنا تداوينا بذكركم

فنترك الذكر احيانا فننتكس

به يستدفعون الآفات ، ويستكشفون الكربات. وتهون عليهم به المصيبات. اذا أظلهم البلاء ، فاليه ملجؤهم. واذا نزلت بهم النوازل. فاليه مفزعهم. فهو رياض جنتهم التي فيها يتقلبون ، ورؤوس أموال سعادتهم التي بها يتجرون. يدع القلب الحزين ضاحكا مسرورا. ويوصل الذاكر الى المذكور بل يدع الذاكر مذكورا.

وفي كل جارحة من الجوارح عبودية مؤقتة. و «الذكر» عبودية القلب واللسان وهي غير مؤقتة بل هم يؤمرون بذكر معبودهم ومحبوبهم في كل حال : قياما وقعودا ، وعلى جنوبهم. فكما أن الجنة قيعان ، وهو غراسها. فكذلك القلوب بور خراب. وهو عمارتها ، وأساسها.

وهو جلاء القلوب وصقالها. ودواؤها اذا غشيها اعتلالها. وكلما ازداد الذاكر في ذكره استغراقا : ازداد المذكور محبة الى لقائه واشتياقا. واذا واطأ في ذكره قلبه للسانه : نسي في جنب ذكره كل شيء. وحفظ الله عليه كل شيء. وكان له عوضا من كل شيء.

به يزول الوقر عن الاسماع ، والبكم عن الالسن ، وتنقشع الظلمة عن الابصار.

زين الله به ألسنة الذاكرين. كما زين بالنور أبصار الناظرين. فاللسان الغافل : كالعين العمياء ، والاذن الصماء ، واليد الشلاء.

٨٥

وهو باب الله الاعظم المفتوح بينه وبين عبده ، ما لم يغلقه العبد بغفلته.

ومع توسع الامام ابن القيم في تصوير مكانة الذكر أضاف أن هناك مائة فائدة في الذكر ذكرها في كتاب «الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب»

والذكر من أخلاق الانبياء ، وهذا شرف له ففي سورة طه. جاء على لسان موسى عليه‌السلام :

«كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً» (١).

وفي سورة المائدة جاء قول الله تعالى :

«إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ» (٢).

وفي سورة آل عمران قال الله لزكريا :

«وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً ، وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ» (٣).

وفي سورة طه قال الله يخاطب موسى عليه‌السلام :

«إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» (٤).

__________________

(١) سورة طه ، الآية ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) سورة المائدة ، الآية ١١٠.

(٣) سورة آل عمران ، الآية ٤١.

(٤) سورة طه ، الآية ١٤.

٨٦

وفي السورة ذاتها قال يخاطب موسى وهارون :

«اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي» (١).

والذكر الصادق له أثره العميق في نفس الذاكر ولذلك قال الله تعالى في سورة الانفال :

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً ، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» (٢).

وقال في سورة الحج :

«الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ ، وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» (٣).

وقال في سورة الرعد :

«الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ ، أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (٤).

__________________

(١) سورة طه ، الآية ٤٢.

(٢) سورة الانفال ، الآية ٢.

(٣) سورة الحج ، الآية ٣٥.

(٤) سورة الرعد ، الآية ٢٨.

٨٧

وحول هذه الآية يقول القشيري : «قوم اطمأنت قلوبهم بذكرهم الله ، وفي الذكر وجدوا سلوتهم ، وبالذكر وصلوا الى صفوتهم. وقوم اطمأنت قلوبهم بذكر الله فذكرهم الله ـ سبحانه ـ بلطفه ، وأثبت الطمأنينة في قلوبهم على وجه التخصيص لهم.

ويقال اذا ذكروا أن الله ذكرهم استروحت قلوبهم ، واستبشرت أرواحهم ، واستأنست أسرارهم ، قال تعالى : «أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» لما نالت بذكره من الحياة ، واذا كان العبد لا يطمئن قلبه بذكر الله ، فذلك لخلل في قلبه ، فليس قلبه بين القلوب الصحيحة.

ويرشدنا القرآن الكريم الى أن ذكر الله له مواطن وأماكن يحلو فيها ، ويحسن. وان كان ذكر الله يكون في كل مكان وأوان. فالله تعالى يقول في سورة النور : «في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال» ، ويقول في سورة الحج :

«وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً» (١).

ويرشدنا القرآن كذلك الى أن قلة الذكر من شأن المنافقين ، فيقول في سورة النساء :

«إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً» (٢).

__________________

(١) سورة الحج ، الآية ٤٠.

(٢) سورة النساء ، الآية ١٤٢.

٨٨

كما ان الصد عن ذكر الله من عمل الشيطان. فيقول القرآن في سورة المائدة :

«إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ» (١).

وفي سورة يوسف :

«فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ» (٢).

وفي سورة المجادلة :

«اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ» (٣).

وهدد الله تعالى الذين يغفلون عن ذكره فقال في سورة طه :

«وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى».

وقال في سورة الكهف :

«وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً» (٤).

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ٩١.

(٢) سورة يوسف ، الآية ٤٢.

(٣) سورة المجادلة ، الآية ١٩.

(٤) سورة الكهف ، الآية ٢٨.

٨٩

وقال في سورة الجن :

«وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً» (١).

وقد وردت في القرآن آيات تشير الى مواطن ينبغي فيها ذكر الله تعالى أو يلزم ، ففي سورة البقرة :

«فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ ، وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ» (٢).

أي فاذا اندفعتم في الحج من فوق عرفات فاذكروا ربكم عند المشعر الحرام وهو المزدلفة ، ثم كرر الامر للتأكيد فقال واذكروه كما هداكم.

وقيل ان الامر الثاني : أمر بالذكر على وجه الاخلاص ، أو المراد به تعديد النعم وأمر بشكرها. والمعنى اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة واذكروه كما علمكم كيف تذكرونه لا تعدلوا عنه. وفي السورة نفسها أيضا جاء قوله تعالى : «وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ» وهي الايام الثلاثة بعد يوم النحر وهي أيام منى ، ويراد بالذكر هنا التكبير وجاء في سورة الحج :

«لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ» (٣).

__________________

(١) سورة الجن ، الآية ١٧.

(٢) سورة البقرة ، الآية ١٩٨.

(٣) سورة الحج ، الآية ٢٨.

٩٠

والايام المعلومات هي عشر ذي الحجة. وجاء في سورة البقرة :

«فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً» (١).

أي فاذا أديتم شعائر الحج فاذكروا الله واثنوا عليه بآلائه عندكم. اذكروا الله كثيرا كذكر الاطفال آباءهم وأمهاتهم. أو استغيثوا به والجأوا اليه كما كنتم تفعلون في حال صغركم مع آبائكم. أو اذكروا الله وعظموه ودافعوا عن دينه كما تدافعون عن آبائكم أو أشد.

يقول القشيري في ذلك :

«فاذكروا الله كذكركم آباءكم» قيام له بالقلب على استدامة الوقت واستغراق العمر. ويقال كما ان الاغيار يفتخرون بآبائهم ، ويستبشرون بأسلافهم فليكن افتخاركم بنا واستبشاركم بنا.

ويقال ان كان لآبائكم عليكم حق التربية فحقنا عليكم أوجب ، وأفضالنا عليكم أتم.

ويقال ان كان لاسلافكم مآثر ومناقب ، فاستحقاقنا لنعوت الجلال فوق ما لآبائكم من حسن الحال.

ويقال انك لا تمل ذكر أبيك ولا تنساه على غالب أحوالك ، فاستدم ذكرنا ، ولا تعترضنك ملالة أو سآمة أو نسيان.

ويقال ان طعن في نسبك طاعن لم ترض ، فكذلك ما تسمع من أقاويل أهل الضلال والبدع فذب عنا.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ٢٠٠.

٩١

ويقال الأب يذكر بالحرمة والحشمة فكذلك اذكرنا بالهيبة مع ذكر لطيف القربة بحسن التربية.

وقال : «كذكركم آباءكم» ولم يقل أمهاتكم لأن الأب يذكر احتراما والام تذكر شفقة عليها والله يرحم ولا يرحم.

«أو أشد ذكرا» لأن الحق أحق ، ولأنك قد تستوحش كثيرا عن أبيك ، والحق سبحانه منزه عن أن يخطر ببال من يعرفه أنه بخلاف ما يقتضي الواجب حين ان كان ذرة».

وحينما تعرض صاحب «لطائف الاشارات» لقوله تعالى : «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» علق عليها بهذه العبارة : «الوجل شدة الخوف ، ومعناه هاهنا أن يخرجهم الوجل عن أوطان الغفلة ، ويزعجهم عن مساكن الغيبة ، فاذا انفصلوا عن أودية التفرقة ، وفاءوا الى مشاهد الذكر ، نالوا السكون الى الله عزوجل ، فيزيدهم ما يتلى عليهم من آياته تصديقا على تصديق ، وتحقيقا على تحقيق ، فاذا طالعوا جلال قدره ، وأيقنوا قصورهم عن ادراكه ، توكلوا عليه في امدادهم بالرعاية في نهايتهم ، كما استخلصهم بالعناية في بدايتهم.

ويقال : سنة الحق سبحانه مع أهل العرفان أن يرددهم بين كشف جلال ولطف جمال ، فاذا كاشفهم بجلاله وجلت قلوبهم ، واذا لاطفهم بجماله سكنت قلوبهم ، قال الله تعالى : «وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ».

ويقال : «وجلت قلوبهم بخوف فراقه ، ثم تطمئن وتسكن أسرارهم بروح وصاله ، وذكر الفراق يغنيهم ، وذكر الوصال يصحيهم ويحييهم».

ولا تنس أن هذا كلام يسير على طريقة الصوفية الخاصة بهم.

٩٢

وفي سورة الاعلى يقول الحق تبارك وتعالى :

«قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى».

ويقول الامام محمد عبده ان قوله : «وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» معناه : لاحظ بسره ما يجب أن يعرفه عن ربه ، فيحضر في قلبه صفاته العلية فيخشع لذلك ، فالصلاة هنا بمعنى الخشوع واللجوء الى الله ، فهو كقوله سبحانه : «انما المؤمنون الذين اذا ذكر الله وجلت قلوبهم».

وقد يكون مع الخشوع صلاة من الصلوات المكتوبة أو جميعها ، وانما عبر عن الخشوع بالصلاة ، لأنه لبها والمقصود منها ، والصلاة دون خشوع شبح بلا روح.

ويطالب القرآن بذكر الله عند الامن بعد الخوف ، فيقول في سورة البقرة : «فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ» أي اذا زال عنكم الخوف ، وتحقق لكم الامان بفضل الله فاشكروه على هذه النعمة.

والله جل جلاله يطالب بالذكر في كل الاوضاع والاحوال. أليس هو القائل في سورة آل عمران :

«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ : الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ» (١).

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٩٠ ـ ١٩١.

٩٣

يقول القشيري الصوفي الآية الكريمة على طريقته : «استغرق الذكر جميع أوقاتهم ، فان قاموا فبذكره ، وان قعدوا أو ناموا أو سجدوا فجملة أحوالهم مستهلكة في حقائق الذكر ، فيقومون بحق ذكره ، ويقعدون عن اخلاف أمره ، ويقومون بصفاء الاحوال ، ويقعدون عن ملاحظتها والدعوى فيها.

ويذكرون الله قياما على بساط الخدمة ، ثم يقعدون عن بساط القربة.

ومن لم يسلم في بداية أمره عن التقصير ، لم يسلم له قعود في نهايته بوصف الحضور.

والذكر طريق الحق سبحانه ، فما سلك المريدون طريقا أصح وأوضح من طريق الذكر.

ولو لم يكن فيه سوى قوله (أنا جليس من ذكرني) لكان ذلك كافيا.

ثم يضيف بعد قليل :

«والذكر عنوان الولاية ، وبيان الوصلة ، وتحقيق الارادة ، وعلامة صحة البداية ، ودلالة صفاء النهاية ، فليس وراء الذكر شيء ، وجميع الخصال المحمودة راجعة الى الذكر ، ومنشأة عن الذكر».

ومن هذا القبيل قول الله سبحانه في سورة آل عمران :

«وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ» (١).

أي اذكره بقلبك ولسانك في جميع أوقاتك.

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ٤١.

٩٤

ويقول الله تعالى في سورة العنكبوت :

«إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ» (١).

وورد في معنى هذا أقوال أربعة :

الاول : أن ذكر الله أكبر من كل شيء ، فهو أفضل الطاعات.

الثاني : اذا ذكرتموه ذكركم ، فكان ذكره لكم أكبر من ذكركم له.

الثالث : ذكر الله أكبر من أن يبقى معه فاحشة أو منكر ، فاذا تم الذكر محق كل الخطايا.

الرابع : ما تضمنته الصلاة من ذكر الله أكبر وأعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر.

وقد جاء «الذكر» في القرآن المجيد على عشرة أوجه :

الاول : الامر به مطلقا ومقيدا.

الثاني : النهي عن ضده ، وهو الغفلة والنسيان.

الثالث : تعليق الفلاح باستدامته وكثرته.

الرابع : الثناء على أهله ، والاخبار بما أعده الله لهم من الجنة والمغفرة

الخامس : الاخبار عن خسران من لها عنه بغيره.

السادس : أن الله سبحانه جعل ذكره لهم جزاء لذكرهم له.

السابع : الاخبار بأنه أكبر من كل شيء.

__________________

(١) سورة العنكبوت ، الآية ٤٥.

٩٥

الثامن : أن الله تعالى جعله خاتمة الاعمال الصالحة ، كما كان مفتاحها.

التاسع : الاخبار عن أهله بأنهم هم أهل الانتفاع بآياته ، وأنهم أولو الالباب دون غيرهم.

العاشر : جعله الله قرين جميع الاعمال الصالحة ، وهي بدونه كالجسد بلا روح.

وقد ذكر القرآن الحكيم ختم الصيام بالذكر فقال :

«وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (١).

وختم به الصلاة فقال :

«فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ» (٢).

وختم به الجمعة فقال :

«فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (٣).

وبالذكر ـ كما يقول الصوفية ـ يصرع العبد الشيطان ، كما يصرع

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٨٥.

(٢) سورة النساء ، الآية ١٠٣.

(٣) سورة الجمعة ، الآية ١٠.

٩٦

الشيطان أهل الغفلة والنسيان.

وقال بعض السلف : اذا تمكن الذكر من القلب ، فان دنا منه الشيطان صرعه كما يصرع الانسان اذا دنا منه ، فيجتمع عليه الشياطين ، فيقولون : ما لهذا؟ فيقال : قد مسه الانسي.

ويقول الحسن البصري : تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء : في الصلاة ، وفي الذكر ، وفي قراءة القرآن ، فان وجدتم ، والا فاعلموا أن الباب مغلق.

ولقد سأل السلمي الشيخ الدقاق : الذكر أتم أم الفكر؟.

فقال الدقاق : ما الذي يقع لك فيه؟.

فأجاب السلمي : عندي الذكر أتم من الفكر ، لأن الحق سبحانه يوصف بالذكر ، ولا يوصف بالفكر ، وما وصف به الحق سبحانه أتم مما اختص به الخلق.

فاستحسن الدقاق جواب السلمي.

وحسب الذكر شرفا ـ كما نفهم من السنة المطهرة ـ أن يخبرنا الرسول بأن السابقين هم الذاكرون ، وأن خير الاعمال وأزكاها عند الله الذكر ، وأن الله تعالى يباهي ملائكته بالذاكرين ، وأن مجالس الذكر هي رياض الجنة ، وأن مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت ، وان التنعم الحقيقي انما يكون بذكر الله جل جلاله.

اللهم اجعلنا من الذاكرين لك ، الشاكرين لأنعمك ، الفائزين برضوانك.

٩٧

ابتغاء وجه الله

تقول لغة العرب : ابتغى الانسان الشيء طلبه. والابتغاء مخصوص بالاجتهاد في طلب الشيء ، فمتى كان الشيء محمودا فالابتغاء فيه محمود ، ووجه الله ذات الله سبحانه وتعالى ، وقيل ان وجه الله قبلته التي يتوجه اليها المؤمن في الصلاة ، والقرآن المجيد يقول :

«وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ» (١).

وقيل ان المراد بابتغاء وجه الله هو التوجه الى الله تعالى بالاعمال الصالحة ، أي الاخلاص في العبادة ، والقرآن الحكيم يقول :

«أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ» (٢).

وابتغاء وجه الله تعالى خلق من أخلاق القرآن الكريم ، وفضيلة من فضائل الاسلام العظيم ، وجزء من هدي الرسول عليه الصلاة والتسليم.

وهو خلق سني علي ، وفضيلة رفيعة منيعة ، وانما يتحلى بها أهل

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١١٥.

(٢) سورة الزمر ، الآية ٣.

٩٨

الصفاء والنقاء ، والاخلاص والوفاء الذين لا يعرفون في سلوكهم طريق النفاق ، لأن ابتغاء وجه الله لا يجتمع أبدا مع الرياء ، وهؤلاء يريدون بأحوالهم وأعمالهم وأقوالهم وجه ربهم وذاته ، فرضاه مقدم على رضا الناس ، وحقه فوق كل الحقوق ، وهم دائما يتجهون الى الله ، يقبلون عليه ، ولا يطلبون سواه ، ولا يلتفتون الى من عداه «قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون».

وقد ذكر القرآن الكريم : «ابتغاء وجه الله» في عدة مواطن ، منها قوله في سورة البقرة :

«وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ ، وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ» (١).

فبيّن الله تعالى أن النفقة المعتد بها انما هي ما كانت ابتغاء وجه الله. وقيل كما ذكر القرطبي ان هذه شهادة من الله سبحانه للصحابة رضوان الله عليهم ، بأنهم انما ينفقون ابتغاء وجه الله ، فجاء التعبير على وجه الثناء عليهم والتفضيل لهم.

وجاء في تفسير «مفاتيح الغيب» : «في هذه الآية وجوه : الاول ان يكون المعنى : ولستم في صدقتكم على أقاربكم من المشركين تقصدون الا وجه الله ، فقد علم الله هذا من قلوبكم ، فانفقوا عليهم اذا كنتم ، انما تبغون بذلك وجه الله ، في صلة رحم وسدّ خلة مضطر ، وليس عليكم اهتداؤهم حتى يمنعكم ذلك من الانفاق عليهم.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ٢٧٢.

٩٩

الثاني : أن هذا وان كان ظاهره خبرا ، الا أن معناه نهي ، أي ولا تنفقوا الا ابتغاء وجه الله ، وورد الخبر بمعنى الامر والنهي كثيرا. قال تعالى : «والوالدات يرضعن أولادهن» ، «والمطلقات يتربصن».

الثالث : أن قوله : «وما تنفقون» أي ولا تكونوا منفقين مستحقين لهذا الاسم الذي يفيد المدح حتى تبتغوا بذلك وجه الله.

... وفي قوله : «الا ابتغاء وجه الله» قولان : الاول : انك اذا قلت فعلته لوجه زيد ، فهو أشرف في الذكر من قولك فعلته له ، لأن وجه الشيء أشرف ما فيه ، ثم كثر حتى صار يعبر عن الشرف بهذا اللفظ.

الثاني : أنك اذا قلت : هذا الفعل له ، فههنا يحتمل أن يقال : فعلته له ولغيره أيضا. أما اذا قلت : فعلت هذا الفعل لوجهه ، فهذا على أنك فعلت الفعل له فقط ، وليس لغيره فيه شركة.

وجاء في تفسير «مجمع البيان» :

«وما تنفقون الا ابتغاء وجه الله» أي الا طلب رضوان الله ، وهذا اخبار من الله عن صفة انفاق المؤمنين المخلصين ، المستجيبين لله ولرسوله ، أنهم لا ينفقون ما ينفقونه الا طلبا لرضاء الله تعالى.

وقيل ان معناه النهي ، وان كان ظاهره الخبر ، أي ولا تنفقوا الا ابتغاء مرضاة الله.

وفي ذكر «الوجه» هنا قولان : أحدهما أن المراد به تحقيق الاضافة ، لأن ذكر الوجه يرفع الابهام ، أنه له ولغيره ، وذلك أنك لما ذكرت الوجه ـ ومعناه النفس ـ دل على أنك تصرف الوهم عن الاشتراك الى تحقيق الاختصاص ، وان كنت بذلك محققا للاضافة ، ومزيلا لايهام الشركة.

والثاني : أنك اذا قلت : فعلته لوجه زيد ، كان أشرف في الذكر من :

١٠٠