موسوعة أخلاق القرآن - ج ٥

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٥

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٢١

فقال شيبة بن عثمان : ما أنت بفاعل.

فقال عمر : ولم؟.

فقال شيبة : لم يفعله صاحباك (يعني النبي وأبا بكر).

فقال عمر موافقا : هم المرآن يقتدى بهما! ..

والاخيار من هذه الامة المؤمنة يدعون ربنا أن يجعلهم قدوة صالحة لغيرهم ، وأسوة طيبة للمتقين من عباد الله ، فهم يقولون لربهم :

«وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً» (١).

أي أئمة نقتدي بمن قبلنا ، ويقتدي بنا من بعدنا ، فاجعلنا قادة في الخير ، ودعاة هدى يأتم بنا الناس في الخير.

واذا كان الانسان محتاجا الى القدوة يأتم بها ، والاسوة يحتذيها ويقلدها ، ويطمع بعينه وهمته دائما الى مثل أعلى يتجه اليه ويدنو منه ، فلنسأل ربنا نحن أمة الايمان أن يأخذ بنواصينا ليكون القرآن هادينا ، والرسول أسوتنا ، وبذلك نسلك الصراط المستقيم ، ونمشي وراء القدوة الحسنة التي جلاها ربنا في نبينا عليه الصلاة والسّلام. وبذلك نتحلى بفضيلة التطلب للاسوة الحسنة ، والله ولي المهتدين.

__________________

(١) سورة الفرقان ، الآية ٧٤.

٢١

التياسر

تقول لغة العرب ـ وهي لغة القرآن الكريم : اليسر هو السهولة والرفق والسعة ، وضده العسر ، والامر يسير ، أي سهل هيّن. وتيسّر الشيء : تسهل وهان. واليسرى : الطريقة التي هي أكثر رفقا ولينا. والميسرة : الغنى والسعة في المال. ويقال : يسّر الله فلانا للخير. وقد يقال : يسره للشر. ولكن المادة تستعمل غالبا في تسهيل الخير.

وياسر فلان فلانا لاينه وطاوعه ، فالتياسر هو الملاينة وتبادل الرفق في المعاملة ، والميل الى روح التيسير والمطاوعة.

والتياسر فضيلة أخلاقية قرآنية ، فالمؤمن انسان سمح سهل ، هيّن ليّن ، يرجح جانب السهولة واللين على جانب الشدة والعنف.

ولقد وردت مادة «اليسر» في مواطن من القرآن الكريم توحي بالتقدير والتكريم لهذه الفضيلة الاخلاقية ، ولعل من أبرز مظاهر التمجيد لهذه الفضيلة أن ينسب الله تبارك وتعالى الى ذاته القدسية اتصافه بالتيسير والتخفيف على عباده ، فضلا منه وتلطفا ، ولذلك يقول سبحانه في سورة البقرة :

٢٢

«يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ، وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» (١).

أي أن من حكمة الله في تشريعه ـ كما يشير تفسير المنار ـ أن يجعله الله معتدلا وسطا ميسورا ، رحمة بكم وفضلا عليكم ، وفي هذا ترغيب في قبول ما شرعه الحق من تيسير ورخصة ، والله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه ، والله تعالى لا يريد اعنات الناس بأحكامه ، وانما يريد اليسر بهم ، ويريد خيرهم ونفعهم ، ومن هذه الرحمة أخذ العلماء قاعدتهم التي تقول : «المشقة تجلب التيسير».

وكأن الله جل جلاله حين يستن مع عباده هذه السنة الكريمة ـ سنة اليسر والسهولة والترفق ـ يوحي اليهم أن يأخذوا أنفسهم بالتياسر والملاينة مع الناس ، فقد ذاقوا من قبل حلاوة الرحمة الالهية واليسر الرباني ، فاللائق بهم أن يتأثروا بتلك المعاملة ، فتلقي ظلها الكريم عليهم ، فيكون من وراء ذلك مياسرة في طباعهم ، ودماثة في أخلاقهم ، وسهولة في معاملاتهم ، ليعطوا صورة عملية للابرار الذين أفادوا أنفسهم وغيرهم من التطبع بأخلاق القرآن المجيد.

والله عزوجل يقول في سورة القمر :

«وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» (٢).

وكرر هذا النص الحكيم هنا أربع مرات ، فهو جل شأنه جعل قرآنه شريعة يسودها اليسر والرفق والرحمة :

«لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» (٣).

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٨٥.

(٢) سورة القمر ، الآية ٢٢.

(٣) سورة البقرة ، الآية ٢٨٦.

٢٣

وهو سبحانه يسّر قراءته على السنة الناس ، ويسّر علمه على قلوب قوم ، ويسر فهمه على قلوب قوم ، ويسر حفظه على قلوب قوم ، وكلهم من أهل القرآن ، وكلهم من أهل الله تبارك وتعالى.

ويعود القرآن العظيم في سورة الاعلى ليقول :

«وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى» (١).

أي نوفقك للشريعة السمحة التي يسهل على النفوس قبولها ، ولا يصعب على العقول فهمها ، ويسهل على الناس تطبيقها والعمل بها ، متى تم لهم الايمان واليقين واذا الله عز شأنه قد تفضل بهذا ، فما أجدر الانسان بأن يقابل الجميل بالجميل ، والصنيع بالصنيع :

«هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» (٢).

ويقول التنزيل في سورة الليل :

«فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى ، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى» (٣).

أي من أعطى المال والجهد لمعاونة المحتاج ، ووقى نفسه وصانها عن الشر والسوء ، وصدق بأفضل الطرق ، وهو طريق الله جل جلاله ، تفضل الله عليه ـ كما جاء في تفسير جزء عم ـ فيسره لليسرى ، أي هيأه لأيسر الخطتين وأسهلهما في أصل الفطرة ، وهي خطة تكميل النفس وانمائها

__________________

(١) سورة الاعلى ، الآية ٨.

(٢) سورة الرحمن ، الآية ٦٠.

(٣) سورة الليل ، الآية ٥ ـ ٧.

٢٤

بالكمال ، الى أن تبلغ المقام الذي تجد فيه سعادتها ، وانما كانت هذه الخطة هي «اليسرى» والاسهل لتوافر الدواعي اليها ، وكثرة البواعث عليها ، فالانسان يمتاز عن غيره من سائر الحيوان الاعجم بالتفكير في الاعمال ، وتقدير ثمراتها ، ووزن نتائجها.

وحاجة كل انسان الى أن يعينه غيره حاجة ظاهرة كذلك بالفطرة ، فاحساسه بحاجة غيره ، واندفاعه الى سدها ، مما تنبه الفطرة الى تجنب الاذى لمن لم يؤذه ، وأن يحذر اتيان أي شيء من القبائح لظهور اضرارها بالناس ، فهو مدفوع الى ذلك كله بفطرته الانسانية.

لكنه يحتاج ـ للاستقامة على هذه الطريقة ـ الى صحة عقل ينظر بنفسه فيما يختار ، ويميز بنظره بين ما ينبغي اتباعه ، وما يجب تجنبه ، فاذا حقق الانسان ذلك ، وظهرت آثاره في أعماله ، سهل الله تعالى له ما هو مسوق اليه بأصل فطرته ، وهو تكميل نفسه لتسعد بمزاياها في الدنيا والآخرة ، لأن سنة الله جارية في الخلق بأن كل عمل من الاعمال التي يعملها العاقل. يفتح له باب بصيرة في نوع ذلك العمل ، ويكون مبدأ عادة للنفس ، تأنس بملابستها ، ففاعل الخير للخير يذوق لذته ، ويجد حلاوته ، فتزيد فيه رغبته ، وتشتد اليه عزيمته ، وهذا من تيسير الله سبحانه على عباده.

ويفسر القشيري هذا النص الكريم بما خلاصته : من أعطى من ماله ، واتقى مخالفة ربه ومساخطه ، وصدق بالجنة ، والمغفرة ، والشفاعة ، فانا نسهل عليه الطاعات ، ونكرّه اليه المخالفات ، ونزين له القربات ، ونحبب اليه الايمان ، ونجمّل في قلبه الاحسان.

واذا كنا قد عرفنا أن الله جل جلاله قد قال لرسوله عليه الصلاة والسّلام : «ونيسرك لليسرى» فهذه بشرى عظيمة ، ليست مقصورة على الرسول ، بل تشمل أتباعه من ورائه ، اذ تبشرهم بأن دينهم دين يسر ، وأن

٢٥

نبيهم رسول الرحمة والرفق ، وأن عقيدتهم عقيدة الوضوح والسهولة واليسر ، ولذلك نجد تفسيرا «في ظلال القرآن» ، يبسط بعض ما في هذا النص من ايجاز واعجاز ، فيقول :

«ونيسرك لليسرى» ... بشرى لشخص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبشرى لأمته من ورائه ، وتقرير لطبيعة هذا الدين ، وحقيقة هذه الدعوة ، ودورها في حياة البشر ، وموضعها في نظام الوجود. وان هاتين الكلمتين : «ونيسرك لليسرى» لتشتملان على حقيقة من أضخم حقائق هذه العقيدة ، وحقيقة هذا الوجود أيضا ، فهي تصل طبيعة هذا الرسول ، بطبيعة هذه العقيدة ، بطبيعة هذا الوجود : الوجود الخارج من يد القدرة في يسره السائر في طريقه بيسر ، المتجه الى غايته بيسر ، فهي انطلاقة من نور ، تشير إلى أبعاد وآماد وآفاق من الحقيقة ليس لها حدود.

ان الذي ييسره الله لليسرى ليمضي في حياته كلها ميسرا ، يمضي مع هذا الوجود المتناسق التركيب والحركة والاتجاه الى الله ، فلا يصطدم الا المنحرفين عن خط هذا الوجود الكبير ـ وهم لا وزن لهم ولا حساب حين يقاسون الى هذا الوجود الكبير ـ يمضي في حركة يسيرة لطيفة هينة لينة مع الوجود كله ، ومع الاحداث والاشياء والاشخاص ، ومع القدر الذي يصرّف الاحداث والاشياء والاشخاص ، اليسر في يده ، واليسر في لسانه ، واليسر في خطوه ، واليسر في عمله ، واليسر في تصوره ، واليسر في تفكيره ، واليسر في أخذه للامور ، واليسر في علاجه للامور ، اليسر مع نفسه ، واليسر مع غيره».

ومن الواضح عند المتفكر المتدبر أن قول الحق جل جلاله : «فأما من أعطى واتقى ، وصدق بالحسنى ، فسنيسره لليسرى» فيه ايحاء قوي بالاتجاه الى خطة التيسير وفضيلة التياسر ، ولذلك يقول صاحب «الظلال» أيضا :

٢٦

«الذي يعطي ويتقي ، ويصدق بالحسنى ، يكون قد بذل أقصى ما في وسعه ليزكي نفسه ويهديها ، وعندئذ يستحق عون الله وتوفيقه الذي أوجبه سبحانه على نفسه ، بارادته ومشيئته ، والذي بدونه لا يكون شيء ، ولا يقدر الانسان على شيء.

ومن يسره الله لليسرى فقد وصل ، وصل في يسر وفي رفق وفي هوادة ، وصل وهو بعد في هذه الارض ، وعاش في يسر ، يفيض اليسر من نفسه على كل ما حوله ، وعلى كل من حوله : اليسر في خطوه ، واليسر في طريقه ، واليسر في تناوله للامور كلها ، والتوفيق الهادىء المطمئن في كلياتها وجزئياتها ، وهي درجة تتضمن كل شيء في طياتها ، حيث تسلك صاحبها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وعد ربه له : «ونيسرك لليسرى» :

«وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى ، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى ، وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى» (١).

والذي يبخل بنفسه وماله ، ويستغني عن ربه وهداه ، ويكذّب بدعوته ودينه ، يبلغ أقصى ما يبلغه انسان بنفسه من تعريضها للفساد ، ويستحق أن يعسر الله عليه كل شيء ، فييسره للعسرى ، ويوفقه الى كل وعورة ، ويحرمه كل تيسير ، ويجعل في كل خطوة من خطاه مشقة وحرجا ، ينحرف به عن طريق الرشاد ، ويصعد به في طريق الشقاوة ، وان حسب انه سائر في طريق الفلاح».

ويقول التنزيل الحكيم في سورة الشرح :

__________________

(١) سورة الليل ، الآية ٨ ـ ١١.

٢٧

«فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» (١).

أي ان كل شدة أو عسر معه يسر يهيئه الله تبارك وتعالى للانسان العاقل العامل الآمل ، ولفظة «مع» تفيد معنى المصاحبة والاقتران بين العسر واليسر ، أي لا بد من اليسر مع العسر ، بفضل الله وتوفيقه.

وكلمة «العسر» المكررة في هذا النص الكريم معرّفة بالالف واللام ، فهي ـ كما تقول قواعد العربية ـ عسر واحد ، لأنها تكررت معرفة ، فتكون الثانية هي عين الاولى ، وأما لفظة «يسر» فهي منكرة ، فهي اذن في الموضعين شيئان أو يسران ، وهذا معنى الحديث الوارد في صحيح البخاري : «لن يغلب عسر يسرين».

والعسر انما يكون في الدنيا بالشدائد التي تنالهم ، وأما اليسر ـ بالنسبة الى المؤمنين ـ فيسران : أحدهما في الدنيا بزوال البلاء وتحقق الرجاء ، واليسر الآخر في الآخرة بالثواب وحسن الجزاء.

* * *

والقرآن المجيد يحث على فضيلة اليسر والتياسر مع الذين يستحقون التيسير. كمن يتعرضون للعسر عند قضاء ما عليهم من ديون ، والحياة ـ كما يقول ـ يوم لك ويوم عليك ، فنرى التنزيل الحكيم يقول في معاملة من عليه دين يعجز عن أدائه في موعده :

«وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ» (٢).

أي ان كان هناك غريم لكم أصابه عسر ، فعجز عن أداء الذين الذي

__________________

(١) سورة الشرح ، الآية ٥ و ٦.

(٢) سورة البقرة ، الآية ٢٨٠.

٢٨

عليه لكم ، فيسّروا عليه ، وأمهلوه الى أن يتيسر له المال ، فيؤديه عند ما يتمكن من الأداء.

* * *

وننتقل من روضة القرآن الى روضة السنة ، لنجد من وراء آيات الله البينات الواردة في التياسر والتسامح ، والسعة والرفق ، فيضا من الاحاديث الشريفة ، الداعية الى هذه الفضيلة ، الحاثة عليها ، المذكرة بها ، فالرسول صلوات الله وسلامه عليه يقول : «بعثت بالحنيفية السمحة». أي المستقيمة السهلة الميسرة.

ويقول : «اعملوا وسدّدوا وقاربوا ، فكل ميسّر لما خلق له». أي مهيّأ مسهل مصروف.

ويقول : «يسروا ولا تعسروا».

ويقول : «تياسروا في الصداق» أي تساهلوا في المهر ، ولا تتغالوا فيه.

وكذلك أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نفسه ـ كما جاء في صحيح مسلم ـ : «ولكن الله بعثني معلما ميسرا».

وقرر سيدنا الرسول هذه الحقيقة : «ان هذا الدين يسر». أي سمح سهل قليل التشديد.

وقال : «ان خير دينكم أيسره».

وفي الحديث كذلك : «انكم أمة أريد بكم اليسر».

واذا كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه هو المثل الاعلى لكل مسلم ، بمقتضى قول الله تعالى :

٢٩

«لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً» (١).

فمن واجبنا أنه عليه الصلاة والسّلام كان القدوة المثالية في التحلي بفضيلة التياسر والرفق ، والسعة واللين ، فيروي الرواة عنه أنه ما خيّر بين أمرين الا اختار أيسرهما ، وفي رواية أخرى عنهم : ما عرض على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمران أحدهما أيسر من الآخر الا اختار الذي هو أيسر.

كان صلوات الله وسلامه عليه لا يتعنت ولا يتشدد ، ولا يتكلف ولا يتصنع ، بل كان يمضي على طبيعته الاصيلة الكريمة السمحة ، يلبس ما يتيسر من الثياب ، ويأكل ما يتيسر من الطعام ، لا يرجو موجودا ، ولا يطلب مفقودا ، وما عاب طعاما قط ، ان اشتهاه أكله ، وان كرهه تركه دون أن يعيبه.

وكان ينام على ما يتيسر من فراش : نام على السرير ، ونام على الحصير ، ونام على النطع ، ونام على الارض ...

وينقل الغزالي في كتابه «احياء علوم الدين» وهو يتحدث عن أخلاق الرسول هذه العبارة :

«يأكل ما حضر ، ولا يرد ما وجد ، ولا يتورع عن مطعم حلال ، وان وجد ثمرا دون خبز أكله ، وان وجد شواء أكله ، وان وجد خبز بر أو شعير أكله ، وان وجد حلوا أو عسلا أكله ، وان وجد لبنا دون خبز اكتفى به ، وان وجد بطيخا أو رطبا أكله ...».

__________________

(١) سورة الاحزاب ، الآية ٢١.

٣٠

وعلق الامام العراقي على هذا بقوله : «هذا كله معروف من أخلاقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

ومن قدوة الرسول في التياسر وحسن المعاملة أنه دخل غيضة مع بعض أصحابه ، فاجتنى منها سواكين ، أحدهما معوج والآخر مستقيم ، فأعطى المستقيم صاحبه.

فقال الرجل : يا رسول الله ، كنت أحق بالمستقيم مني.

فقال النبي عليه الصلاة والسّلام : ما من صاحب يصحب صاحبا ، ولو ساعة من نهار ، الا سئل عن صحبته : أأقام فيها حق الله أم أضاعه؟.

ولقد تحدث أنس بن مالك فقال : خدمت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشر سنين ، فما قال لي أف قط ، ولا قال لشيء صنعته : لم صنعته؟. ولا لشيء تركته لم تركته؟. ولا أمرني بأمر فتوانيت فيه فعاتبني عليه ، فان عاتبني أحد من أهله قال : دعوه ، فلو قدّر شيء كان!.

ولقد حدث أن دخل أعرابي مسجد الرسول وقعد يبول فيه ، فسارع الصحابة الى منعه والانكار عليه. فمنعهم الرسول قائلا : لا تزرموه (أي لا تقطعوا عليه بولته) وأريقوا على بوله سجلا (دلوا) من ماء ، فانما بعثتم ميسّرين لا معسّرين!.

ثم وجههم الى صيانة المساجد وحفظ نظافتها فقال : ان هذه المساجد لا تصلح لشيء من القذر والبول والخلاء.

وهكذا تكون مكارم الاخلاق.

* * *

وللصوفية حديث عن التياسر على طريقتهم :

٣١

يقول قائلهم : «اذا قال لك صاحبك : هيا. فقلت له : الى أين؟ فلست بصديق.

وهذا التعبير من أقوى عبارات الحث على التياسر والمطاوعة والسهولة في معاملة الصديق ، فأنت أيها المؤمن المستقيم ، لن تختار لصداقتك وصحبتك الا المؤمن المستقيم ، ومن هنا لن يدعوك صاحبك هذا الا الى خير ، فطاوعه اذا دعاك ، ولا موجب ـ والامر كذلك ـ الى التعاسر أو المجادلة ، والطيور على أشكالها تقع.

جملني الله واياك بزينة السهولة وفضيلة التياسر ، انه بالمؤمنين رؤوف رحيم.

٣٢

الاحتساب

تقول اللغة العربية ـ لغة القرآن ـ : احتسب الانسان الشيء : عدّه. واحتسب بكذا أجرا عند الله : اعتده ينوي به وجه الله ، واحتسب عند الله خيرا اذا قدّمه.

والاحتساب قصد ما عند الله من الثواب ، وكذلك الحسبة طلب الثواب ، وهي اسم من الاحتساب ، والحسبة أيضا الاجر ، ويقول القائل : فعلت هذا حسبة أو احتسابا ، أي احتسبت الامر فيه على الله. وحسبه الله أي كافيه وكفيل به. واحتسب ولده : أي احتسب الاجر بصبره على مصيبته ، واعتد مصيبته في جملة بلايا الله تعالى التي يثاب على الصبر عليها.

وفي الاحتساب معنى التفويض لله ، ورجاء الثواب من الله ، والرضا بما ساق الله. والاحتساب يكون في الاعمال الصالحة ، وعند المكروهات ، وهو البدار الى طلب الاجر وتحصيله بالتسليم والصبر ، أو باستعمال أنواع البر والقيام بها على الوجه المرسوم فيها ، طلبا للثواب المرجو منها.

والاحتساب بالمعنى الاخلاقي هو أن يخلص الانسان عمله لربه ، يبتغي به رضاه وحده ، ويقصد به وجهه وحده ، موقنا بأن تقبل الله

٣٣

العمل هو أعظم ثواب. وأن ما عند الله يغنيه عن كل الناس. وان ما عند كل الناس لا يغنيه عن الله ، وهو لذلك لم يراء بالعمل ، ولم يخادع فيه ، ولم يرد به جاها ولا منصبا ولا سمعة ، ولذلك يقوم العبد بالعمل على أحسن صورة ممكنة ، ثم لا يطلب من الناس أي غرض ، وانما عمله لوجه الله وحده.

وفي الاحتساب معنى أن الله هو الكافي والوافي ، وقد جاء في سورة الطلاق قول الله سبحانه :

«وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» (١).

أي من فوّض الى الله أمره ، وابتغى وجهه ، وتوكل عليه ، فله من الثواب في الآخرة ما يغنيه ويكفيه.

ويقول الحق جل علاه في سورة التوبة :

«فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» (٢).

ان الله وحده يكفيني ويغنيني ، فاليه وحده توجهي ، اذ لا معبود لي سواه. وعليه وحده يكون توكلي واعتمادي ، وله وحده الملك والجاه.

وقد أشار «تفسير المنار» الى انه ينبغي للمؤمن أن يتأمل معنى هذه الآية ، ويطالب نفسه بالتحقق به. فانه يجد به من حلاوة الايمان وعزة النفس ، ما يحتقر به خسائس المادة التي يتكالب عليها الماديون ، ويبخسون أنفسهم انتحارا اذا فاتهم أو أعياهم شيء منها ، وقد ورد في ذلك عن أم

__________________

(١) سورة الطلاق ، الآية ٣.

(٢) سورة التوبة ، الآية ١٣٠.

٣٤

الدرداء عن أبي الدرداء رضي الله عنهما : «من قال اذا أصبح واذا أمسى : حسبي الله ، لا اله الا هو ، عليه توكلت ، وهو رب العرش العظيم ، سبع مرات ، كفاه الله ما أهمه».

والقرآن يقص علينا أن الاخيار من عباد الله تعالى هم الذين يجاهدون في سبيل الله ، قاصدين وجه ربهم ، محتسبين عنده أجرهم ، لا يخشون أحدا الا الله ، فيقول عنهم في سورة آل عمران :

«الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ، فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» (١).

وهذا يذكرنا بقول القائل :

على الله حسباني اذا النفس أشرفت

على طمع ، أو خاف شيئا ضميرها

والاحتساب هو الذي يعلّم صاحبه أن يراقب ربه ، وأن يشهد جلاله في كل موطن ، لأنه القائم على كل نفس بما كسبت ، العليم بما أظهرت وأبطنت ، ولذلك يقول القرآن الكريم في سورة النساء :

«وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً» (٢).

أي كفى بالله رقيبا عليكم ، وشهيدا يشهدكم ويحاسبكم على ما أعلنتم وما أخفيتم ، اذ لا تخفى عليه خافية ، وهو يعلم المخلص والمخادع ، والمحتسب والمراوغ.

وقد جاء في سورة الانفال :

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٧٣.

(٢) سورة النساء ، الآية ٦.

٣٥

«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (١)

أي يكفيك الله ويكفي من اتبعك. ومن أسماء الله «الحسيب» أي الكافي.

* * *

وفي السنة النبوية المطهرة وردت طائفة من الاحاديث الشريفة التي جاء فيها ذكر «الاحتساب» ، بمعنى اخلاصه في عمله وفي توجهه الى ربه ، وفي طلب ما عنده لا ما عند الناس.

جاء قوله صلوات الله وسلامه عليه : «من صام رمضان ايمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه».

وجاء في صحيح البخاري قول الرسول عليه الصلاة والسّلام : «من يقم ليلة القدر ايمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه».

وجاء قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من اتبع جنازة مسلم ايمانا واحتسابا ، وكان معه حتى يصلى عليها ، ويفرغ من دفنها ، فانه يرجع من الاجر بقيراطين ، كل قيراط مثل أحد ، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن رجع بقيراط».

ويقول عليه الصلاة والسّلام : «من احتسب ثلاثة من صلبه دخل الجنة».

ويقول أيضا : «اذا انفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة».

ويقول كذلك : «ان الاعمال بالنية والحسبة».

وهذا هو رسول الله صلوات الله وسلامه عليه يعلّم عبد الله بن

__________________

(١) سورة الانفال ، الآية ٦٤.

٣٦

عباس رضي الله عنهما ، كيف يتجه بكليته الى ربه ، لا يسأل غيره ، ولا يستعين بسواه ، فالامر بيده ، له الحكم واليه فيقول له :

«يا غلام ، اني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، واذا سألت فاسأل الله ، واذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الامة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك الا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يضروك الا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الاقلام ، وجفت الصحف».

* * *

وحينما وقف رسول الله عليه الصلاة والسّلام وقفته الخالدة الماجدة في وجه الشرك والكفران ، يتحدى أهل الطغيان والجبروت ، وهو في قلة من اتباعه والمؤمنين به ، يقول لهم في عزم وتحد وتصميم : «والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري ، على أن أترك هذا الامر (وهو الدعوة الى الله ، لتعلو كلمة التوحيد ، ويتحقق توحيد الكلمة) ما تركته ، حتى يظهره الله ، أو أهلك دونه».

حينما وقف رسول الله هذا الموقف العازم الصارم الحاسم ، هذا مثلا أعلى في الاحتساب لوجه الله ، وطلب الثواب والجزاء من الله وحده ولقد عرضوا عليه المال والجمال ، والجاه والمنصب ، فتعالى عن كل غرض وعرض ، وأخلص لله سعيه ، واحتسب عند الله نضاله ، ولم يرتج على ذلك من الناس جزاء ولا شكورا ، فحسبه ربه ناصرا وجازيا ونصيرا ، ولا عجب في ذلك ، فربه تبارك وتعالى هو الذي صنعه على عينه ، وهو الذي أدبه وهذبه ، وهو الذي أيده وعصمه ، وهو الذي قال له في ختام سورة التوبة :

«فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، عَلَيْهِ

٣٧

تَوَكَّلْتُ ، وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ»» (١).

والرسول العظيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ هو الذي يشير الى نزعة الاحتساب عنده ، حينما تصاب يده في سبيل ربه ، فيقول :

«ما انت الا اصبع دميت

وفي سبيل الله ما لقيت»!

وكأن العمل الذي يقوم به المسلم في سبيل الله ، أو المال الذي ينفقه في سبيل الله ، أو الجهاد الذي يقوم به في سبيل الله ، داخل في صميم «الاحتساب» ، لأن صاحب هذا المجهود يخلصه لوجه ربه ، ولا يريد به منا ولا نفاقا ولا نفعا ماديا عاجلا ، وانما يريد به رضا الله وقبوله ، ويطمع فيما عند الله من ثواب وتكريم.

وعلى هذا التفسير نفهم قول الله جل جلاله في سورة البقرة :

«وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ» (٢).

وقوله في سورة البقرة أيضا :

«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (٣).

وقوله في السورة نفسها :

«مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية ١٣٠.

(٢) سورة البقرة ، الآية ١٥٤.

(٣) سورة البقرة ، الآية ٢١٨.

٣٨

أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ، وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً ، لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» (١).

وقوله في سورة آل عمران :

«وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» (٢).

وقوله في السورة نفسها :

«وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً ، بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ، وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ ، وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ» (٣).

وهذا هو عمر الفاروق رضوان الله تبارك وتعالى عليه يقول في شأن الاحتساب :

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ٢٦١ و ٢٦٢.

(٢) سورة آل عمران ، الآية ١٥٧.

(٣) سورة آل عمران ، الآية ١٦٩ و ١٧٠ و ١٧١.

٣٩

«أيها الناس احتسبوا أعمالكم ، فان من احتسب عمله كتب له أجر عمله ، وأجر حسبته».

ومن كلام الصوفية في هذا المجال قول حاتم الأصم :

«لكل قول صدق ، ولكل صدق فعل ، ولكل فعل صبر ، ولكل حسبة ارادة ، ولكل ارادة أثرة».

وها هو ذا القرآن المجيد يتحدث فيشير الى أن المحتسب يوقن بأن النافع الضار هو الله ، وأنه هو الذي يستحق وحده أن يتوكل عليه الانسان ، فهو نعم الوكيل ، ونعم الكفيل ، فليحتسب لديه طاعته وعمله وقوله وجهاده.

يقول التنزيل الحكيم في سورة الزمر :

«وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ، قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ ، أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ ، قُلْ حَسْبِيَ اللهُ ، عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ» (١).

وفقني الله واياكم للاحتساب لوجه الله ، والاقتراب من رحاب الله ، واخلاص العمل لوجه الله ، حتى نستوهبه أجره ، ونستمطره ثوابه ، فهو خير الشاكرين.

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية ٣٨.

٤٠