موسوعة أخلاق القرآن - ج ٥

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٥

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٢١

ابتغاء الطيب

الطيب ضد الخبيث ـ قولا كان أم عملا أم شيئا ـ والطيب نعت لما تستلذه الحواس والنفوس ، والصعيد الطيب هو التراب الطاهر ، ومنه قوله تعالى : «فتيمموا صعيدا طيبا» أي ترابا لا نجاسة فيه ، والبلد الطيب : اشارة الى الارض الزكية ، والمساكن الطيبة المستلذة ، وطاب الشيء : لذّ وزكا. وطابت النفس بالشيء : رضيت وسمحت.

والطعام الطيب في الشرع هو ما كان متناولا من حيث ما يجوز ، وبقدر ما يجوز ، ومن المكان الذي يجوز ، فانه متى كان كذلك كان ـ كما يعبر الاصفهاني ـ طيبا ، عاجلا وآجلا ، لا يستوخم ، والا فانه ـ وان كان طيبا عاجلا ـ لم يطب آجلا.

والطيب من الناس من تعرى من نجاسة الجهل والفسق وقبائح الاعمال ، وتحلى بالعلم والايمان ومحاسن الاعمال ، واياهم قصد القرآن الكريم بقوله :

«الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ» (١).

__________________

(١) سورة النحل ، الآية ٣٢.

٤١

وقوله :

«طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ» (١).

وابتغاء الطيب ـ أو طلب الطيب ـ فضيلة من فضائل الاسلام العظيم ، وخلق من أخلاق القرآن الكريم ، ويراد به أن يحرص الانسان دائما على أن يكون مصاحبا للطيب من القول والعمل والرزق والتصرف ، وقد سبق لي أن تحدثت عن «طيب الكلام» ، ولكن طيب الكلام مقصور على ما ينطق الانسان من كلام سليم قويم ، ولكن «الطيب ، أوسع من ذلك وأفسح معنى.

ولقد تحدث القرآن المجيد في مواطن كثيرة عن الرزق الطيب ، والعمل الطيب ، والحياة الطيبة ، وها هو ذا مثلا يقول في سورة البقرة :

«يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً ، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» (٢).

فالارض محشورة بأصناف وأنواع من الاشياء ، منها ما هو خبيث ، ومنها ما فيه شبهة ، ومنها ما هو طاهر ، والمسلم من شأنه أن يتحرى ويحتاط ويتحرز ، فيتبين الطيب الكريم ليميل اليه وينتفع به ، ويتبين غير الطيب ليتجنبه ويبتعد عنه.

والله تعالى يأمر الناس هنا بأن يأكلوا من الحلال ، وهو غير الحرام ، أو هو المباح والمستلذ ، بشرط ان يكون طيبا غير خبيث ، وقيل ان الطيب هو ما لا يتعلق به حق من حقوق الغير.

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية ٧٣.

(٢) سورة البقرة ، الآية ١٦٨.

٤٢

وكما يكون الطيب رزقا يؤكل أو يستعمل يكون عملا ، كما يقول القرآن :

«وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ» (١).

أي لا تتبدلوا الاعمال السيئة بالاعمال الصالحة. وانما تصدر الاعمال الطيبة عن أناس طيبين ، وحينما قال التنزيل الحكيم :

«وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ» (٢).

قال أهل التفسير ان المعنى : الاعمال الطيبة تكون من الطيبين ، وردوا في ذلك : «المؤمن أطيب من عمله ، والكافر أخبث من عمله».

وقد يكون الطيب مكانا وعنه حدثنا القرآن المجيد عن «البلد الطيب» الذي يخرج نباته باذن ربه ، وعن «المساكن الطيبة» في جنات عدن ، وحدثنا عن «طوبى» ومعنى الكلمة «الحسنى» ، وقيل انها اسم للجنة ، أو اسم لشجرة فيها. يقول الحق جل جلاله في سورة الرعد : «الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب». وقيل انه اشارة الى كل مستطاب في الجنة ، من بقاء بلا فناء ، وعز بلا زوال ، وغنى بلا فقر.

ويقول القرآن الحكيم في سورة البقرة :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ، وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» (٣).

__________________

(١) سورة النساء ، الآية ٢.

(٢) سورة النور ، الآية ٢٦.

(٣) سورة البقرة ، الآية ١٧٢.

٤٣

فالله تبارك وتعالى يريد من أهل الايمان والهداية أن يتدبروا ويتبصروا ، فيختاروا من بين الانواع والالوان الطيب ـ وما أكثره ـ وأن يكون ذلك خلقا من أخلاقهم ، وعادة دائمة من عاداتهم ، وحلية يزدانون بها في حياتهم ، حتى يكونوا من العابدين الشاكرين المستحقين للرضا والرضوان.

وفي معنى الآية الكريمة جاء الحديث النبوي الشريف الذي رواه الامام مسلم في صحيحه وهو يقول :

«أيها الناس ، ان الله تعالى طيب لا يقبل الا طيبا ، وان الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال :

«يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً ، إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ» (١).

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ» (٢).

ثم ذكر الرحل يطيل السفر ، أشعث أغبر ، يمد يديه الى السماء : يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ، وشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب لذلك»؟.

ولنتأمل طويلا في خطاب الله لرسله :

«يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً».

فهو سبحانه قد أمر بالاكل من الطيبات قبل الامر بالعمل الصالح ، لأن الاكل من الطيبات أمر مهم ، ولأنه يعاون على

__________________

(١) سورة المؤمنون ، الآية ٥١.

(٢) سورة البقرة ، الآية ١٧٢.

٤٤

العمل والابتداء بالطيب يؤدي الى طيب مثله ، ما دامت النية صالحة ، والوجهة مخلصة.

وحينما أمر الحق سبحانه بالاكل من الطيبات ، نهى عن الطغيان ـ حتى فيما يباح ـ لأن الطغيان جموح أو اسراف يؤدي إلى انحراف أو اعتساف ، ولذلك يقول في سورة طه :

«كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ، وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى» (١).

وكما نهى التنزيل المجيد عن الطغيان عند الاكل من الطيب ، نهى عن التشديد والتعسير والتحريم للطيبات التي هيأها الله وأباحها ، والطريقة المثلى هي الطريقة الوسطى التي تتنزه عن سفه الانطلاق وحمق التضييق ، يقول الحق في هذا المجال في سورة المائدة :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ، وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ، وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً ، وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ» (٢).

وهذا أبو عبد الله محمد بن أحمد الانصاري القرطبي في كتابه «الجامع لأحكام القرآن» يعلق على الآية الاولى بهذه العبارة : «قال علماؤنا رحمة الله عليهم في هذه الآية وما شابهها. والاحاديث الواردة في

__________________

(١) سورة طه ، الآية ٨١.

(٢) سورة المائدة ، الآية ٨٧ ـ ٨٨.

٤٥

معناها ، رد على غلاة المتزهدين ، وعلى أهل البطالة من المتصوفين ، اذ كل فريق منهم قد عدل عن طريقه ، وحاد عن تحقيقه.

قال الطبري : لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه ، من طيبات المطاعم والملابس والمناكح ، اذا خاف على نفسه باحلال ذلك بعض العنت والمشقة. ولذلك رد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التقبل على ابن مظعون ، فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده ، وأن الفضل والبر انما هو في فعل ما ندب عباده اليه ، وعمل به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسنّه لأمته ، واتبعه على منهاجا الأئمة الراشدون ، اذ كان خير الهدى هدى نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فاذا كان كذلك تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان ، اذا قدر على لباس ذلك من حلّه ، وآثر أكل الخشن من الطعام ، وترك اللحم وغيره حذرا من عارض الحاجة الى النساء.

قال الطبري : فان ظن ظان أن الخير في غير الذي قلنا لما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف ما فضل بينهما من القيمة الى أهل الحاجة فقد ظن خطأ ، وذلك أن الاولى بالانسان صلاح نفسه وعونا لها على طاعة ربها ، ولا شيء أضر للجسم من المطاعم الرديئة ، لأنها مفسدة لعقله ، ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سببا الى طاعته.

وقد جاء رجل الى الحسن البصري فقال : ان لي جارا لا يأكل الفالوذج.

فقال : ولم؟.

قال : يقول لا يؤدي شكره

فقال الحسن : أفيشرب الماء البارد؟

٤٦

فقال : نعم.

فقال : ان جارك جاهل ، فان نعمة الله في الماء البارد أكثر من نعمته عليه من الفالوذج.

قال ابن العربي : قال علماؤنا : هذا اذا كان الدين قواما ، ولم يكن المال حراما ، فأما اذا فسد الدين عند الناس ، وعمّ الحرام ، فالتبتل أفضل ، وترك اللذات أولى ، واذا وجد الحلال فحال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل وأعلى» ا ه.

وهذا هو الصحابي الجليل ، المجاهد الصابر على الاذى عثمان بن مظعون ، الذي ذكرت تفاصيل بطولته في كتابي «فدائيون في تاريخ الاسلام» (١) يأتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقول له : لو أذنت لي فطلقت خولة (زوجته) وترهبت واختصيت وحرمت اللحم ، ولا أنام بليل أبدا ، ولا أفطر بنهار أبدا.

فقال له النبي عليه الصلاة والسّلام : «ان من سنتي النكاح ، ولا رهبانية في الاسلام ، انما رهبانية أمتي الجهاد في الاسلام ، وخصاء أمتي الصوم ، ولا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ، ومن سنتي أنام وأقوم ، وأفطر وأصوم ، فمن رغب عن سنتي فليس مني».

فقال عثمان : والله لوددت يا نبي الله أن أعلم أي التجارات أحب الى الله فأتجر فيها.

فنزل قول الله تعالى في سورة الصف :

__________________

(١) انظر ترجمة عثمان بن مظعون في كتابي «فدائيون في تاريخ الاسلام» ص ٣٤٧ ـ ٣٥٢ طبع دار الرائد العربي ، الطبعة الاولى ، سنة ١٩٧٠ م.

٤٧

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ، تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» (١).

ولقد كان عثمان ـ فيما يذكر ابن كثير في تفسيره ـ لا يدنو من زوجته ، وكان يقال لها «الخولاء» فأتت السيدة عائشة ، فقالت لها أم المؤمنين : ما بالك يا خولاء متغيرة اللون ، لا تمتشطين ولا تتطيبين؟. فقالت : وكيف امتشط وأتطيب ، وما رفع زوجي عني ثوبا منذ كذا وكذا؟.

ولما علم الرسول بذلك أرسل الى عثمان ، وسأله عن خبره ، وقال له : مالك يا عثمان؟.

فقال : اني تركته لله ، لكي أتخلى للعبادة. وذكر للنبي أنه يريد أن يجب نفسه.

فقال له النبي : أقسمت عليك الا رجعت فواقعت أهلك.

فأجاب : يا رسول الله اني صائم (تطوعا).

فقال له : أفطر.

وأطاع عثمان.

__________________

(١) سورة الصف ، الآية ١٠ ـ ١٣.

٤٨

وعادت الخولاء الى عائشة وقد امتشطت واكتحلت وتطيبت.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والنوم ، ألا اني أنام وأقوم ، وأفطر وأصوم. وأنكح النساء ، فمن رغب عني فليس مني». فنزل قوله تعالى :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا».

ولقد وصف القرآن الكريم رسول الله في سورة الاعراف : فقال فيما قال :

«وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ» (١).

فكأن احلال الطيبات ، والدعوة اليها ، والاخذ منها في اعتدال وقسط ، هدف من أهداف دعوة الرسول عليه الصلاة والسّلام.

وفي سورة المائدة يقول الحق عز شأنه :

«يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ ، قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ» (٢).

وذكر أهل التفسير أنه عند ما نزل قوله تعالى : «حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ...» الآية خشي المسلمون الاولون أن يأكلوا من شيء حرام ، فأخذوا يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المباح ، فنزل قوله تعالى : «يسألونك ماذا أحل لهم ، قل أحل لكم الطيبات» وقد علق تفسير «في ظلال القرآن» على الآية بقوله :

«ويبدو أن آية التحريم قد جعلت المسلمين يتحرجون أن يتناولوا

__________________

(١) سورة الاعراف ، الآية ١٥٧.

(٢) سورة المائدة ، الآية ٥.

٤٩

شيئا قبل أن يستيقنوا من حله ، والناظر في تاريخ القوم وقتذاك يلمح هذا التحرج من كل ما كانوا يأتونه في الجاهلية ، خشية أن يكون الاسلام قد حرمه ، وتلك آية تأثرهم العميق البالغ بالعقيدة الجديدة ، لذلك سألوا : ماذا أحل لهم؟ ليكونوا على يقين من حله قبل أن يقربوه.

فكان الجواب : قل أحل لكم الطيبات. وهو جواب يستحق الانتباه ، اذ يلقي في حسهم أنه لم يحرموا طيبا ، ولم يمنعوا عن طيب ، وأن كل الطيبات ما تزال لهم حلالا ، فلم يحرم الا الخبيث.

والواقع أن كل ما حرم تستقذره الفطرة السليمة بطبعها من الناحية الحسية كالميتة والدم ولحم الخنزير ، أو ينفر منه الضمير السليم كالذي أهل به لغير الله ، أو ما ذبح على النصب أو الاستقسام بالازلام».

* * *

ونقبل من وراء القرآن المجيد على روضة السنة الشريفة فاذا هي تتبع خطواته في الدعوة الى التحلي بالفضيلة القرآنية الجميلة وهي فضيلة ابتغاء الطيب ، أو تطلب الحلال ، فيقول الحديث : «طلب الحلال فريضة». ولما قال صلوات الله وسلامه عليه : «طلب العلم فريضة على كل مسلم». قال بعض العلماء : أراد به طلب علم الحلال والحرام.

وروى الطبراني الحديث التالي : «من سعى على عياله من حلال ، فهو كالمجاهد في سبيل الله ، ومن طلب الدنيا حلالا في عفاف ، كان في درجة الشهداء».

وأخبرنا سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسّلام أن رضا الله لا يناله الانسان الا اذا حرص على ابتغاء الطيب ، وحرص على تجنب الخبيث ، فقال : «لا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله تعالى ، فان الله لا ينال ما عنده بمعصيته». ولقد روى الترمذى حديثا

٥٠

يقول : «كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به».

وفي «الاحياء» يفصل الغزالي القول نوعا من التفصيل فيقول : «الناس ثلاثة : رجل شغله معاشه عن معاده فهو من الهالكين ، ورجل شغله معاده عن معاشه فهو من الفائزين ، والاقرب الى الاعتدال هو الثالث : الذي شغله معاشه لمعاده ، فهو من المقتصدين ، ولن ينال رتبة الاقتصاد من لم يلازم في طلب المعيشة منهج السداد ، ولن ينتهض من طلب الدنيا وسيلة الى الآخرة وذريعة ، ما لم يتأدب في طلبها بآداب الشريعة».

* * *

ثم يأتي الصوفية بطريقتهم الخاصة وأسلوبهم المتميز ، فيعطون فضيلة «ابتغاء الطيب» حقها من الرعاية ، فنرى ابراهيم بن أدهم يأكل الزبد والعسل والخبز الجيد ، فيقال له : أتأكل هذا كلّه؟.

فيجيب : اذا وجدنا أكلنا أكل الرجال ، واذا عدمنا صبرنا صبر الرجال!.

وروي أن الاوزاعي لقي ابراهيم بن أدهم وعلى عنقه حزمة حطب ، فقال له : يا أبا اسحاق ، الى متى هذا؟ اخوانك يكفونك.

فقال : دعني من هذا يا أبا عمر ، بلغني أنه من وقف موقف مذلة في طلب الحلال وجبت له الجنة!.

ويتعمق القشيري بعض التعمق حين يتعرض في «لطائف الاشارات لتفسير قوله تعالى في سورة البقرة :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ

٥١

وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» (١).

فيقول : «الحلال ما لا تبعة عليه ، والطيب الذي ليس لمخلوق فيه منة ، واذا وجد العبد طعاما يجتمع فيه الوصفان فهو الحلال الطيب».

وتتناثر من أفواه الصوفية الاعلام كلمات مضيئة حول الطيب وابتغائه ، فيقول سهل : «النجاة في ثلاثة : أكل الحلال (الطيب) ، وأداء الفرائض ، والاقتداء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

ويقول أبو عبد الله سعيد بن يزيد الساجي : «خمس خصال بها تمام العلم ، وهي معرفة الله عزوجل ، ومعرفة الحق ، واخلاص العمل لله ، والعمل على السنة ، وأكل الحلال (الطيب) ، فان فقدت واحدة لم يرفع العمل».

ويعود سهل فيقول : «لا يصح أكل الحلال (الطيب) الا بالعلم ، ولا يكون المال حلالا حتى يصفو من ست خصال : الربا والحرام والسحت والغلول والمكروه والشبهة».

ونرى بعض الصوفية يتشددون أو يتزمتون قليلا ، ومن ذلك في فهمنا أن سائلا سأل ابن المبارك عن الرجل يريد أن يكتسب ، وينوي باكتسابه أن يصل به الرحم ، وأن يجاهد ، ويعمل الخيرات ، ويدخل في آفات الكسب لهذا الشأن؟

فيقول ابن المبارك : ان كان معه قوام من العيش بقدر ما يكف نفسه عن الناس ، فترك هذا أفضل ، لأنه اذا طلب حلالا ، وأنفق في حلال ، سئل عنه ، وعن كسبه ، وعن انفاقه ، وترك ذلك زهد ، فان الزهد في ترك الحلال.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٧٢.

٥٢

وقد يتسع الشطط حتى يزعم زاعمون من كذبة المتصوفة أن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «احرموا أنفسكم طيب الطعام ، فانما قوى الشيطان أن يجري في العروق منها». وهذا الحديث المنسوب إلى رسول الله لا تصح نسبته ، وقد ذكر القرطبي في تفسيره أنه لا أصل لهذا الحديث ، ولا صحة له ، لأن القرآن الكريم يرده ، والسنة الثابتة بخلافه.

فلنسأل المولى جل شأنه أن يهبنا من فيض فضله همة في ابتغاء الطيب وطلب الحلال ، انه ذو الجلال والاكرام.

٥٣

التبتل

كلمة «التّبتّل» فيها معنى الانقطاع ، وهي من مادة «البتل» ـ بفتح فسكون ـ وهو القطع ـ ويقال : تبتّل اليه : انفرد له في طاعته ، وأفرد نفسه له. كما في التبتل معنى الاخلاص والتنزه عن الرياء والسمعة ، والمرأة البتول ـ بوزن صبور ـ هي المنقطعة عن الرجال ، التي لا رغبة ولا شهوة لها فيهم ، وقيل ان البتول هي المنقطعة عن الدنيا الى الله تبارك وتعالى.

والتبتل بالمعنى الاخلاقي الاسلامي هو الانقطاع الى الله باخلاص العبادة له ، كما في قوله عزوجل :

«وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» (١).

والتبتل خلق من أخلاق القرآن ، وفضيلة من فضائل الايمان ، ولكنه خلق من أخلاق الخاصة ، بل خلق من اخلاق خواص الخاصة ، بل هو خلق من اخلاق النبوة ، وفضيلة من فضائل سيدنا ورائدنا وقائدنا رسول الله عليه الصلاة والسّلام ، ولذلك ذكره القرآن الكريم في آية واحدة ، في سورة المزمل ، خاطب بها الرسول ، فقال فيها :

__________________

(١) سورة البينة ، الآية ٥.

٥٤

«وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً» (١).

وكأنه يريد سبحانه ـ وهو أعلم بمراده ـ أن يقول لحبيبه وصفيه : انقطع لعبادة ربك ، وتفرغ لطاعته ، واستغرق في مراقبته ، ولذلك قال الازهري في تفسير لفظ «تبتل» : معناه انقطع اليه.

وأقبل المفسرون على الآية السابقة يوضحون معناها ، ويقرّبون مغزاها ، فالامام ابن كثير مثلا يفسرها بهذه العبارة : «(واذكر اسم ربك) أي أكثر من ذكره ، وانقطع اليه ، وتفرغ لعبادته ، اذا فرغت من أشغالك ، وما تحتاج اليه من أمور دنياك ، كما قال تعالى : «واذا فرغت فانصب» أي اذا فرغت من أشغالك فانصب في طاعته وعبادته لتكون فارغ البال».

ويرى القرطبي أن معنى : وتبتل اليه تبتيلا ، هو : انقطع بعبادتك اليه ، ولا تشرك به غيره.

ويعبر الزمخشري في الكشاف عن الآية بهذه الكلمات (واذكر اسم ربك) ودم على ذكره في ليلك ونهارك ، واحرص عليه ، وذكر الله يتناول كل ما كان من ذكر طيب : تسبيح وتهليل وتكبير ، وتمجيد وتوحيد ، وصلاة وتلاوة قرآن ، ودراسة علم ، وغير ذلك مما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستغرق به ساعات ليله ونهاره (وتبتل اليه) وانقطع اليه.

ويذهب المفسر أبو السعود الى أن الامر بالذكر هنا معناه الدوام على ذكر الله عز شأنه ليلا ونهارا ، على أي وجه كان هذا الذكر ، وأن الامر بالتبتل معناه الانقطاع الى الله بمجامع الهمة ، واستغراق العزيمة في مراقبته سبحانه.

ويختار مجاهد أن معنى وتبتل اليه تبتيلا ، هو أخلص له اخلاصا.

__________________

(١) سورة المزمل ، الآية ٨.

٥٥

ويرى ابن حجر ان هذا تفسير بالمعنى ، والا فأصل التبتل هو الانقطاع ، فالمعنى في الاصل : انقطع اليه انقطاعا ، لكن لما كانت حقيقة الانقطاع الى الله انما تقع باخلاص العبادة له ، فسرها بذلك.

وأما الفخر الرازي فقد أورد في تفسير الآية كلاما دقيقا عميقا شبيها بأسلوب الصوفية حين يتحدثون عن سرائر الارواح ودقائق الاخلاق ، وقد جرى الرازي في كلامه على طريقة البسط والتوسع ، وقد يكون من تمام المعرفة أن نستوعب حديثه في هذا المجال ، وان امتد المقال :

«هذه الآية تدل على أنه سبحانه تعالى بشيئين :

أحدهما : الذكر.

والثاني : التبتل.

أما الذكر فاعلم أنه انما قال : «واذكر ربك» هاهنا ، وقال في آية أخرى :

«وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً».

لأنه لا بد في أول الامر من ذكر الاسم باللسان مدة ، ثم يزول الاسم ويبقى المسمى ، فالدرجة الاولى هي المراد بقوله ههنا : واذكر اسم ربك.

والمرتبة الثانية هي المراد بقوله في السورة الاخرى : واذكر ربك في نفسك.

وانما تكون مشتغلا بذكر الرب اذا كنت في مقام مطالعة ربوبيته ، وربوبيته عبارة عن أنواع تربيته لك ، واحسانه اليك ، فما دمت في هذا المقام تكون مشغول القلب بمطالعة آلائه ونعمائه ، فلا تكون مستغرق القلب به ، وحينئذ يزداد الترقي ، فتكون مشغولا بذكر الهيته ، واليه الاشارة بقوله : «اذكروا الله كذكركم أباءكم».

وفي هذا المقام يكون الانسان في مقام الهيبة والخشية ، لأن الالهية

٥٦

اشارة الى القهارية والعزة والعلو والصمدية ، ولا يزال العبد يبقى في هذا المقام مترددا في مقامات الجلال والتنزيه والتقديس ، الى أن ينتقل منها الى مقام الهوية الاحدية ، التي كلّت العبارات عن شرحها ، وتقاصرت الاشارات عن الانتهاء اليها ، وهناك الانتهاء الى الواحد الحق ، ثم يقف لأنه ليس هناك نظير في الصفات ، حتى يحصل الانتقال من صفة الى صفة ، ولا أن تكون الهوية مركبة حتى يتنقل نظر العقل من جزء الى جزء ، ولا أنها مناسبة لشيء من الاحوال المدركة من النفس حتى تعرف على سبيل المقايسة ، فهي الظاهرة لأنها مبدأ ظهور كل ظاهر ، وهي الباطنة لأنها فوق عقول كل المخلوقات ، فسبحان من احتجب عن العقول بشدة ظهوره ، واختفى عنها بكمال نوره.

وأما قوله تعالى : «وتبتل اليه تبتيلا» ففيه مسألتان :

المسألة الاولى : اعلم أن جميع المفسرين فسروا التبتل بالاخلاص ، وأصل البتل في اللغة القطع ، وقيل لمريم : البتول ، لأنها انقطعت الى الله تعالى في العبادة ، وصدقة بتلة : منقطعة من مال صاحبها.

وقال الليث : التبتل تمييز الشيء عن الشيء.

والبتول كل امرأة تنقبض عن الرجال ، لا رغبة لها فيهم.

اذا عرفت هذا فاعلم أن للمفسرين عبارات :

قال الفراء : يقال للعابد اذا ترك كل شيء ، وأقبل على العبادة : قد تبتل : أي انقطع عن كل شيء الى أمر الله وطاعته.

وقال زيد بن أسلم : التبتل رفض الدنيا مع كل ما فيها ، والتماس ما عند الله.

واعلم أن معنى الآية فوق ما قاله هؤلاء الظاهريون ، لان قوله : «وتبتل» أي انقطع عن كل ما سواه فالمشغول بطلب الآخرة غير متبتل الى

٥٧

معرفة الله لا الى الله (هكذا).

فمن آثر العبادة لنفس العبادة ، أو لطلب الثواب ، أو ليصير متعبد كاملا بتلك العبودية ، فهو متبتل الى غير الله!!.

ومن آثر العرفان للعرفان فهو متبتل الى العرفان ، ومن آثر العبودية لا للعبودية بل للمعبود ، وآثر العرفان لا للعرفان بل للمعروف ، فقد خاض لجة الوصول.

وهذا مقام لا يشرحه المقال ، ولا يعبر عنه الخيال.

ومن أراد فليكن من الواصلين الى العين ، دون السامعين للاثر ، ولا يجد الانسان لهذا مثالا الا عند العشق الشديد اذا مرض البدن بسببه ، وانحبست القوى ، وعميت العينان ، وزالت الاغراض بالكلية ، وانقطعت النفس عما سوى المعشوق بالكلية ، فهناك يظهر الفرق بين التبتل الى المعشوق ، وبين التبتل الى رؤية المعشوق.

المسألة الثانية : الواجب أن يقال : وتبتل اليه تبتيلا. أو يقال : بتّل نفسك اليه تبتيلا ، لكنه تعالى لم يذكرهما. واختار هذه العبارة الدقيقة ، وهي أن المقصود بالذات هو التبتل ، فأما التبتيل فهو تصرف ، والمشتغل بالتصرف لا يكون متبتلا الى الله ، لأن المشتغل بغير الله لا يكون منقطعا الى الله ، الا أنه لا بد أولا من التبتيل حتى يحصل التبتل ، كما قال تعالى :

«وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا».

فذكر التبتل أولا اشعارا بأنه المقصود بالذات ، وذكر التبتل ثانيا اشعارا بأنه لا بد منه ، ولكنه مقصود بالعرض».

ولقد تعرض غير الرازي للاستفهام التالي : لماذا قالت الآية الكريمة : «وتبتل اليه تبتيلا» ولم يقل : وتبتل اليه تبتلا ، مع أن مصدر «بتّل» ـ بتشديد التاء ـ هو : التبتل ، مثل التعلم والتفهم؟.

٥٨

وأجاب ابن قيم الجوزية في «مدارج السالكين» على هذا الاستفسار بهذه العبارة :

«مصدر «بتّل» «تبتلا» كالتعلم والتفهم ، ولكن جاء على التفعيل ـ مصدر تفعل ـ لسر لطيف ، فان في هذا الفعل ايذانا بالتدرج والتكلف والتعمل والتكثر والمبالغة ، فأدى بالفعل الدال على أحدهما ، وبالمصدر الدال على الآخر ، فكأنه قيل : بتّل نفسك الى الله تبتيلا ، وتبتل اليه تبتلا ، ففهم المعنيان من الفعل ومصدره ، وهذا كثير في القرآن ، وهو من أحسن الاختصار والايجاز».

* * *

وقد سميت مريم الطاهرة العذراء بالبتول ، لانقطاعها عن الازواج ، أو لتركها التزويج ، أو عن أن يكون لها نظراء من نساء زمانها ، ففاقت نساء الزمان شرفا وفضلا ، وقطعت منهن لأنها تفوقهن ، متميزة عليهن ، وهذا ما يذكرنا بقول الحق جل جلاله في سورة آل عمران : «واذ قالت الملائكة يا مريم ان الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين».

وكذلك فاطمة الطاهرة بنت سيد المرسلين محمد عليه الصلاة والسّلام ورضي الله عنها وعن ذريتها ـ سميت بالبتول ، وعلل الزبيدي ذلك بقوله في «تاج العروس» : لقبت بالبتول تشبيها بمريم في المنزلة عند الله تعالى ، أو لانقطاعها عن نساء زمانها ، وعن نساء الأمة فضلا ودينا ، وحسبا وعفافا ، وهي سيدة نساء العالمين ، وأم أولاده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورضي الله عنها وعنهم.

ثم يضيف الزبيدي أن العلماء قد أفردوا في الاحاديث الواردة في فضلها كتابا مستقلا ، منهم شيخ الزبيدي العارف بالله تعالى السيد عبد الله ابن ابراهيم بن حسن الحسيني الطائفي ، فانه ألّف في ذلك رسالة قرأها

٥٩

عليه الزبيدي بالطائف في سنة ١١٦٦ ه‍. رضوان الله على الجميع.

* * *

وللصوفية في التبتل حديث طويل فيه تشقيق وتنميق. والهروي ـ من أعلامهم ـ يعد «التبتل» من منازل «اياك نعبد واياك نستعين» التي تتوالى فيها مدارج السالكين ، ويعرفه بقوله : «التبتل الانقطاع الى الله بالكلية». ويستشهد بقوله تعالى : «له دعوة الحق». ويذكر أن التبتل يفيد : التجريد المحض المفهوم من هذا النص الالهي.

ويعلق ابن القيم على هذا بقوله :

«ومراده بالتجريد المحض : التبتل عن ملاحظة الاعواض ، بحيث لا يكون المتبتل كالاجير الذي لا يخدم الا لاجل الاجرة ، فاذا اخذها انصرف عن المستأجر ، بخلاف العبد ، فانه يخدم بمقتضى عبوديته ، لا للاجرة ، فهو لا ينصرف عن باب سيده الا اذا كان آبقا ، والابق قد خرج من شرف العبودية ، ولم يحصل له اطلاق الحرية ، فصار بذلك مركوسا عند سيده وعند عبيده ، وغاية شرف النفس دخولها تحت رق العبودية طوعا واختيارا. ومحبة ، لا كرها وقهرا ، كما قيل :

شرف النفوس دخولها في رقّهم

والعبد يحوي الفخر بالتمليك

والذي حسّن استشهاده بقوله «له دعوة الحق» في هذا الموضع : ارادة هذا المعنى ، وأنه تعالى صاحب دعوة الحق لذاته وصفاته ، وان لم يوجب لداعيه بها ثوابا ، فانه يستحقها لذاته ، فهو أهل أن يعبد وحده ، ويدعى وحده ، ويقصد وحده ويشكر ويحمد ، ويحب ويرجى ويخاف ، ويتوكل عليه ، ويستعان به ، ويستجار به ، ويلجأ اليه ، ويصمد اليه ، فتكون الدعوة الالهية الحق له وحده.

ومن قام بقلبه هذا ـ معرفة وذوقا وحالا ـ صح له مقام التبتل

٦٠