موسوعة أخلاق القرآن - ج ٥

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٥

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٢١

ووقت الركعات الاربع هو الضحى الاعلى الذي اقسم الله تعالى به فقال : «والضحى والليل اذا سجى». وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أصحابه ، وهم يصلون عند الاشراق ، فنادى بأعلى صوته : «ألا ان صلاة الاوابين اذا رمضت الفصال». فلذلك نقول : اذا كان يقتصر على مرة واحدة في الصلاة فهذا الوقت أفضل لصلاة الضحى ، وان كان أصل الفضل يحصل بالصلاة بين طرفي وقتي الكراهة ، وهو ما بين ارتفاع الشمس بطلوع نصف رمح بالتقريب الى ما قبل الزوال في ساعة الاستواء. واسم الضحى ينطلق على الكل ، وكأن ركعتي الاشراق تقع في مبتدأ وقت الاذن في الصلاة ، وانقضاء الكراهة ، اذ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ان الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان فاذا ارتفعت فارقها» فأقل ارتفاعها أن ترتفع عن بخارات الارض وغبارها ، وهذا يراعى بالتقريب».

والتأويب أمر ليس مقصورا على الانسان ، بل يتعداه الى الحيوان والجماد ، وهاهوذا القرآن المجيد يتحدث عن داود عليه‌السلام في سورة «ص» فيقول :

«وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ» (١).

والمعنى أن كل واحد من الجبال والطير أواب رجاع ، أي كلما رجع داود الى التسبيح جاوبته ، فهذه الاشياء أيضا كانت ترجع الى تسبيحاتها ، فكل ذلك مسبح لله.

ويقول القرآن في سورة «سبأ» :

__________________

(١) سورة ص ، الآية ١٩.

٢٠١

«وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ» (١).

وقد ذكر القرآن مادة المآب وهي تدل على الرجوع ، وانما يحسن هذا المآب ويسمو ذلك الرجوع اذا كان الى الله تبارك وتعالى. يقول القرآن الحكيم في سورة آل عمران :

«زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ» (٢).

أي ذلك الذي سبق ذكره من الانواع الستة هو ما يستمتع به الناس في حياتهم الدنيا ، والله عنده حسن المرجع في الحياة الآخرة التي تكون بعد موت الناس وبعثهم ، فلا ينبغي لهم أن يجعلوا كل همهم في هذا المتاع العاجل ، بحيث يشغلهم عن الاستعداد لما هو خير منه في الآجل.

ويقول القرآن الكريم في سورة «ص» عن داود عليه‌السلام :

«وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ» (٣).

__________________

(١) سورة سبأ ، الآية ١٠.

(٢) سورة آل عمران ، الآية ١٤.

(٣) سورة ص ، الآية ٤٠.

٢٠٢

أي حسن مرجع ومنقلب ينقلب اليه يوم القيامة ، وقيل حسن مصير

ونعوذ بالله من شر المآب الذي يفضي بصاحبه الطاغية الى سوء العذاب. هذا هو القرآن الكريم يقول في سورة «ص» عن أصحاب النار :

«هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ» (١).

أي ان للكافرين شر المصير الذي يصيرون اليه يوم القيامة ، لأن مصيرهم الى جهنم ، واليها منقلبهم بعد وفاتهم.

* * *

وللصوفية طريقتهم الخاصة بهم في حديثهم عن الاوابين ، فالقشيري مثلا يتعرض لقوله تعالى في سورة «ق» عن الجنة وأهلها :

«وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ» (٢).

فيقول ان الجنة يقربها الله من المتقين وهم خواص الخواص ويقال هم ثلاثة أصناف : قوم يحشرون الى الجنة مشاة ، وهم الذين قال فيهم ربهم :

«وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً» (٣).

__________________

(١) سورة ص ، الآية ٥٥ ـ ٥٦.

(٢) سورة ق ، الآية ٣١ ـ ٣٣.

(٣) سورة الزمر ، الآية ٧٣.

٢٠٣

ويرى القشيري أن هؤلاء هم عوام المؤمنين ، وقوم يحشرون الى الجنة ركبانا على طاعاتهم المصورة لهم بصورة حيوان ، وهم الذين قال فيهم ربهم :

«يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً» (١).

وهؤلاء هم الخواص ، وأما خواص الخواص فهم الذين قال الله عنهم : «وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد» أي جعلها الله قريبة دانية.

والأواب ـ كما يذكر القشيري ـ هو الراجع الى الله في جميع أحواله ، والحفيظ هو المحافظ على أوقاته ، أو محافظ على حواسه في الله ، حافظ لأنفاسه مع الله. والأواب الحفيظ يخشى الفراق ، ولكنها خشية مقرونة بالانس لانها خشية من الرحمن ، والخشية ألطف من الخوف ، وكأنها قريبة من الهيبة.

فلنسأل الله تعالى القادر على كل شيء أن يجملنا بفضيلة التأويب ، وأن يجعلنا من التوابين الاوابين ، انه العفو الغفور.

__________________

(١) سورة مريم ، الآية ٨٥.

٢٠٤

الطاعة

تقول اللغة : أطاع اذا أذعن وانقاد ، وأطاع له : أي لم يمتنع عليه ، وطاوعه أي وافقه ، وهو طوع يديك : أي منقاد ، والمطواع الكثير الطاعة ، وطاوعت المرأة زوجها طواعية أي استجابت له فيما يريد ، والتطوع هو التبرع بما لا يلزم كالتنقل ، ومنه قوله تعالى : «فمن تطوّع فهو خير له». وأطاع الامر أي اتبعه ولم يخالفه ، وطوّعت له نفسه : طاوعته وسهلت له وأجابته وأعانته.

والطاعة لها معنى ديني ، ينصرف الى الائتمار بأوامر الله تعالى ، ولها معنى أخلاقي وهو التقيد بالواجب ، ومجاوبة من يدعو اليه باستمرار ، وبهذا المعنى تصير الطاعة خلقا ، وتصبح فضيلة من فضائل القرآن الكريم ، لأنها تثمر المبادرة الى الاستجابة كأنها عادة أو طبيعة.

ولقد ذكر القرآن مادة الطاعة في أكثر من مائة موضع ، وجعلها الحق جل جلاله صفة بارزة من صفات المؤمنين ، ولذلك يقول على لسانهم في سورة البقرة :

«وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» (١).

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ٢٨٥.

٢٠٥

أي سمعنا قولك وأطعنا أمرك ، أو سمعنا قول الله وقول رسوله سماع المطيعين ، وليس كالكافرين الذين قالوا : «سمعنا وعصينا». ويقول الطبري عن الآية : سمعنا قول ربنا وأمره ايانا بما أمرنا به ، ونهيه عما نهانا عنه ، وأطعنا ربنا فيما ألزمنا من فرائضه ، واستعبدنا به من طاعته وسلمنا له.

ولقد تكرر في التنزيل المجيد الحديث عن طاعة الله ورسوله ، لأن طاعة الله هي الاساس ، وطاعة الرسول من طاعة الله ، فقال القرآن في سورة آل عمران :

«وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (١).

وقال في سورة النساء :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» (٢).

وقال في سورة النور :

«إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (٣).

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٣٢.

(٢) سورة النساء ، الآية ٥٩.

(٣) سورة النور ، الآية ٥١.

٢٠٦

أي سمعنا ما قيل لنا ، وأطعنا من دعانا الى حكم الله عزوجل. وقال في سورة الحجرات :

«وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً» (١).

ان تأتمروا بأمر الله وأمر رسوله لا يظلمكم من أجور أعمالكم شيئا ، ولا ينقصكم من ثوابها شيئا ، وقد أكد الحديث الذي رواه مسلم هذا المعنى ، وهو قوله : «من يطع الله ورسوله فقد رشد». كما أكد القرآن أن طاعة الرسول من طاعة الله ، فقال في سورة النساء : «من يطع الرسول فقد أطاع الله» بل عمم القرآن هذا الحكم على جميع المرسلين فقال في سورة النساء أيضا :

«وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ» (٢).

وقد جاء في سورة الشعراء عدة مرات قول القرآن على لسان المرسلين :

«إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ» (٣).

وفيما يتعلق برسولنا محمد عليه الصلاة والسّلام روى ابن حنبل الحديث : «من أطاع نبيه كان من المهتدين». وجاء قول سيدنا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه : «من أطاعني دخل الجنة». وجعل الرسول

__________________

(١) سورة الحجرات ، الآية ١٤.

(٢) سورة النساء ، الآية ٦٤.

(٣) سورة الشعراء ، الآية ١٠٧ ـ ١٠٨.

٢٠٧

الطاعة لأميره الذي ولاه من صميم الطاعة للرسول ، فروى البخاري قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أطاع أميري فقد أطاعني»

والطاعة المأمور بها في الاسلام أنواع وألوان ، فهناك طاعة الله ، وطاعة الرسول ، وطاعة أولي الأمر ، وطاعة الوالدين ، وطاعة القائد أو الامير ، وطاعة الناصح. وقد روى الامام ابن حنبل الحديث القائل : «أطع أباك». ومن باب أولى طاعة الام ، لان حق الام مقدم على حق الاب في الاحسان وحسن المعاملة ، والطاعة ، ولقد صح أن صحابيا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟. قال : أمك. قال : ثم من؟. قال : أمك. قال : ثم من؟. قال : أمك. قال : ثم من؟. قال : أبوك.

ولكن طاعة الوالدين في الاسلام مشروطة بأن تكون في دائرة ما أباحه الله ، أما ما حرمه فلا طاعة فيه على الابن للابوين ، يقول الله تعالى عن الابوين في سورة لقمان :

«وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً» (١).

يقول الطبري : وان جاهدك أيها الانسان والداك على أن تشرك بي في عبادتك اياي مع غيري ، مما لا تعلم أنه لي شريك ـ ولا شريك له تعالى ذكره علوا كبيرا ـ فلا تطعهما فيما أراداك عليه من الشرك بي.

ومن أنواع الطاعة في الاسلام طاعة المرأة لزوجها ، والحديث يقول : «خير النساء من اذا أمرها زوجها أطاعته ، واذا نظر اليها سرته ، واذا غاب عنها حفظته في ماله وعرضه». ولكن الطاعة هنا أيضا مشروطة بأن لا

__________________

(١) سورة لقمان ، الآية ١٥.

٢٠٨

تكون في معصية ، فقد روى البخاري قول رسول الله صلوات الله وسلامه عليه : «لا تطيع المرأة زوجها في معصية».

* * *

ونفهم من حديث القرآن أن ثواب الطاعة جزيل جليل ، ومن ثوابها ظفر الانسان بالكرامة العظمى من الله جل جلاله ، وحصوله على الفوز العظيم من الله ولذلك يقول القرآن في سورة النساء :

«وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (١).

أي من يطع الله ورسوله في العمل بما أمره الله به ، والوقوف عند ما حدّه له ، ويجتنب ما نهاه عنه ، يدخله جنات تجري من تحت غروسها وأشجارها الانهار ، باقين فيها أبدا ، لا يخرجون منها ولا يموتون فيها ، ولا يفنون ، وذلك هو الفوز العظيم.

وقد عاد القرآن الى تأكيد هذا المعنى فقال في سورة النور :

«وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ» (٢).

من يطع الله ورسوله فيما أمر ونهى ، ويسلم لحكمهما له وعليه ، ويخف عاقبة معصية الله ، ويتق عذاب الله ، فأولئك هم الفائزون برضى الله تعالى عنهم يوم القيامة وبنعيمه العظيم ، وأمنهم من عذابه الاليم.

__________________

(١) سورة النساء ، الآية ١٣.

(٢) سورة النور ، الآية ٥٢.

٢٠٩

ومن ثمرات الطاعة الحصول على الاجر الحسن والثواب الجميل ، ويدل على ذلك قول الله تعالى في سورة الفتح :

«فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً» (١).

أي أن تطيعوا الله في اجابتكم اياه اذا دعاكم الى الجهاد ، يعطكم الله على اجابتكم أجرا حسنا عظيما ، وهو الجنة.

ومن ثواب الطاعة حسن الصحبة في الجنة مع أهل الشرف والمكانة. فذلك حيث يقول الله تعالى في سورة النساء :

«وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ، ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً» (٢).

أي من يطع الله والرسول بالتسليم لامرهما ، واخلاص الرضا بحكمهما ، والانتهاء الى أمرهما ، والانزجار عما نهيا عنه من معصية الله ، فهو مع الذين أنعم الله عليهم بهدايته ، والتوفيق لطاعته في الدنيا وفي الآخرة ، اذا أدخل الجنة ، مع النبيين وأتباعهم الصديقين ، الذين صدقوهم واتبعوا منهاجهم ، والشهداء الذين قتلوا في سبيل الله ، والصالحين الذين صلحت سريرتهم وعلانيتهم.

ولقد روي أن رجلا من الانصار جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو محزون ، فقال له النبي : يا فلان مالي أراك محزونا؟.

__________________

(١) سورة الفتح ، الآية ١٦.

(٢) سورة النساء ، الآية ٦٩ و ٧٠.

٢١٠

قال : يا نبي الله شيء فكرت فيه.

فقال ما هو؟

قال : نحن نغدو عليك ونروح ، ننظر في وجهك ونجالسك ، غدا ترفع مع النبيين ، فلا نصل اليك.

فلم يرد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا فأتاه جبريل بهذه الآية : «ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا».

فبعث اليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبشره.

وقد صح عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه أنه قال : «ثلاث مهلكات وثلاث منجيات ، فالثلاث المهلكات : شح مطاع ، وهوى متبع ، واعجاب المرء بنفسه ...». فالرسول يحذر من اطاعة الهوى والشح حين يحذر من الهوى المتبع والشح المطاع ، وهو أن يطيعه صاحبه في منع الحقوق التي أوجبها الله عليه في ماله.

كما أن القرآن يبين حسرة الذين لم يرزقهم الله نعمة الطاعة أو فضيلة الاستجابة ، فيقول في سورة الاحزاب مصورا حسرة الكفار على عدم الطاعة :

«يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا» (١).

* * *

واذا كانت الطاعة فضيلة حميدة ، ومنقبة مجيدة ، فان الرسول عليه

__________________

(١) سورة الاحزاب ، الآية ٦٦.

٢١١

الصلاة والسّلام لم يدع التركيز والتأكيد على أنه لا طاعة في المعصية مهما كان الآمر ، فقال عليه الصلاة والسّلام : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». وقال : «اسمعوا وأطيعوا ، ولو تأمر عليكم عبد حبشي ، ما لم تؤمروا بمعصية فاذا أمرتم بمعصية فلا سمع ولا طاعة». ومن هنا قال القرآن في سورة العنكبوت عن الوالدين : «وان جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما» أي اذا حاول والداك حملك لتشرك بي ما لا تعلم أنه شريك لي ـ لأنه لا اله الا الله ـ فلا تطع والديك في ذلك ، ومن هنا روى ابن حنبل قول الرسول عليه الصلاة والسّلام : «لا طاعة لمن لم يطع الله».

ويقول القرآن في سورة آل عمران :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ» (١).

ان أصغيتم الى قول اليهود والمنافقين يرجعوكم كفارا كما كنتم من قبل ، فترجعوا خاسرين لأنفسكم ، ولا خسران أشد من أن تتبدلوا الكفر بالايمان ، والنار بالجنة.

ويقول أيضا في سورة آل عمران :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ» (٢).

ان تطيعوا هؤلاء اليهود ، وتقبلوا قولهم ، وسعيهم لاحياء الفتنة

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٤٩.

(٢) سورة آل عمران ، الآية ١٠٠.

٢١٢

بينكم يرجعوكم كفارا بعد ايمانكم.

وتأويل الآية كما يذكر الطبري : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ، وأقروا بما جاءهم به نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عند الله ، ان تطيعوا جماعة ممن ينتحل الكتاب من أهل التوراة والانجيل ، فتقبلوا منهم ، ما يأمرونكم به ، يضلوكم ، فيردوكم بعد تصديقكم رسول ربكم ، وبعد اقراركم بما جاء به من عند ربكم كافرين ، جاحدين لما قد آمنتم به وصدقتموه من الحق الذي جاءكم من عند ربكم ، فنهاهم جل ثناؤه أن ينصحوهم ، ويقبلوا منهم رأيا أو مشورة ، ويعلمهم تعالى ذكره أنهم لهم منطوون على غل وغش ، وحسد وبغض.

وفي السورة نفسها يقول الحق تبارك وتعالى :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ» (١) :

يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ، في وعد الله ووعيده ، وأمره ونهيه ، ان تطيعوا الذين كفروا وجحدوا نبوة نبيكم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من اليهود والنصارى ، فيما يأمرونكم به ، وفيما ينهونكم عنه ، فتقبلوا رأيهم في ذلك ، وتنصحوهم فيما تزعمون أنهم لكم فيه ناصحون يردوكم على أعقابكم أي يحملوكم على الردة بعد الايمان ، والكفر بالله وآياته وبرسوله بعد الاسلام ، فتنقلبوا خاسرين ، أي ترجعوا عن ايمانكم ودينكم الذي هداكم الله له هالكين ، قد خسرتم أنفسكم ، وضللتم عن دينكم ، وذهبت دنياكم وآخرتكم.

ويؤكد القرآن التحذير والنهي عن الطاعة الآثمة التي تجر صاحبها الى

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٤٩.

٢١٣

الباطل والضلال ، فيقول القرآن في سورة الكهف :

«وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً» (١).

لا تطع من شغلنا قلبه من الكفار عن ذكرنا ، وآثر هوى نفسه على طاعة ربه تعالى ، وكان أمره ضياعا وهلاكا.

والذين يطيعون أهل الباطل سيندمون أشد الندم يوم لا ينفع الندم ، يقول القرآن في سورة الأحزاب عن الكافرين :

«وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا» (٢).

أي قال الكافرون يوم القيامة في جهنم : ربنا انا أطعنا أئمتنا في الضلالة ، وكبراءنا في الشرك فأزالونا عن محجة الحق وطريق الهدى.

وينهى الله تبارك وتعالى عن طاعة المفسدين المتمادين في المعصية والجرأة على الله عز شأنه فيقول القرآن في سورة الشعراء :

«فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ، وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ» (٣).

أي قال صالح لقومه : فاتقوا عقاب الله تعالى أيها القوم على معصيتكم ربكم ، وخلافكم أمره ، وأطيعوني في نصيحتي لكم ، وانذاري اياكم

__________________

(١) سورة الكهف ، الآية ٢٨.

(٢) سورة الاحزاب ، الآية ٦٧.

(٣) سورة الشعراء ، الآية ١٥٠ ـ ١٥٢.

٢١٤

عقاب الله ترشدوا ، ولا تطيعوا أيها القوم أمر المسرفين على أنفسهم ، في تماديهم في معصية الله واجترائهم على حرماته.

ويمضي القرآن في النهي عن الطاعة الآثمة التي تقود الى الشر والاثم ، فيقول في سورة الانعام :

«وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» (١).

ان تطع أكثر من في الارض يضلوك عن دين الله ، ومحجة الحق والصواب ، فيصدوك عن ذلك ، وهم لا يتبعون الا الظنون الخاطئة والاوهام الباطلة ، وما هم الا كاذبون.

ويقول القرآن الكريم في سورة الانسان :

«فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» (٢).

الزم القيام بأحكام الله تعالى وأوامره ، ولا تطع في المعصية مذنبا أو كافرا.

ويقول القرآن في سورة العلق :

«كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ» (٣).

نزلت الآية في أبي جهل ، كان ينهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصلاة ، ويقول : لئن رأيت محمدا يصلي لأطأنّ عنقه. فأمر الله تعالى

__________________

(١) سورة الانعام ، الآية ١١٦.

(٢) سورة الانسان ، الآية ٢٤.

(٣) سورة العلق ، الآية ١٩.

٢١٥

نبيه بالمداومة على الصلاة له والتقرب منه.

ويقول القرآن في سورة القلم :

«فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ» (١).

أي المكذبين بآيات الله ورسوله.

ويقول في السورة نفسها :

«وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ» (٢).

أي كل مكثر للجلف كذاب.

ويخاطب الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أول سورة الاحزاب :

«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» (٣).

جاء في تفسير الطبري : يقول الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يا ايها النبي اتق الله) بطاعته وأداء فرائضه. وواجب حقوقه عليك ، والانتهاء عن محارمه ، وانتهاك حدوده ، (ولا تطع الكافرين) الذين يقولون لك : اطرد عنك أتباعك من ضعفاء المؤمنين بك ، حتى نجالسك (والمنافقين) الذين يظهرون لك الايمان بالله ، والنصحية لك ، وهم لا يألونك وأصحابك ودينك خبالا ، فلا تقبل منهم رأيا ، ولا تستشرهم مستنصحا بهم ، فانهم لك اعداء (ان الله كان عليما حكيما) يقول : ان

__________________

(١) سورة القلم ، الآية ٨.

(٢) سورة القلم ، الآية ١٠.

(٣) سورة الاحزاب ، الآية الاولى.

٢١٦

الله ذو علم بما تضمره نفوسهم ، وما الذي يقصدون في اظهارهم لك النصيحة ، مع الذي ينطوون لك عليه ، حكيم في تدبير أمرك وأمر أصحابك ودينك ، وغير ذلك من تدبير جميع خلقه.

ولقد لفت القرآن بصائرنا وأبصارنا الى لون خبيث ونوع لئيم من الطاعة ، وهي الطاعة الكاذبة المخادعة ، التي يقول صاحبها بلسانه ما ليس في قلبه ، فيقول القرآن في سورة النساء :

«وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً» (١).

يقول بعض هؤلاء المخادعين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ان أمرك طاعة ، ولك منا الطاعة فيما تأمرنا به وتنهانا عنه ، فاذا خرجوا من عند الرسول غيروا كلامهم ، والله يعلم تغييرهم ويسجله عليهم.

ويقول القرآن في سورة النور :

«وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ» (٢).

يقول المنافقون اننا صدقنا بالله وبالرسول ، وأطعنا الله والرسول ، ثم تكيد كل طائفة منهم كيدها ، من بعد ما قالوا هذا القول لرسول الله

__________________

(١) سورة النساء ، الآية ٨١.

(٢) سورة النور ، الآية ٤٧.

٢١٧

عليه الصلاة والسّلام ، وليس الذين يفعلون ذلك بمؤمنين ، لأنهم تركوا الاحتكام الى الله والرسول.

ويقول القرآن في سورة النور :

«وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» (١).

حلف هؤلاء المعرضون عن حكم الله وحكم رسول الله ، بأغلظ الايمان وأشدها ، لئن أمرتهم بالخروج معك للجهاد ، ليخرجن معك. قل لهم : لا تحلفوا فان هذه طاعة معروفة منكم ، ومعروف فيها الكذب والخداع.

ويقرب من هذا ما ذكره القرآن عن طائفة من المنافقين ، يعدون بالطاعة ثم لا يصدقون ، لأنهم لم يتحلوا بفضيلة الطاعة ، ولا خلق الاستجابة الكريم. يقول القرآن في سورة محمد :

«طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» (٢).

* * *

ويأتي الصوفية بعد ذلك ليتحدثوا عن فضيلة الطاعة على طريقتهم

__________________

(١) سورة النور ، الآية ٥٣.

(٢) سورة محمد ، الآية ٢١.

٢١٨

الخاصة بهم ، فنرى أحمد بن أبي الحواري يقول : «علامة حب الله طاعة الله».

ويقول معروف الكرخي : «طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب ، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور ، وارتجاء رحمة من لا يطاع جهل وحمق».

ويقول حاتم الاصم : «المنافق من يأخذ من الدنيا بالحرص ، ويمنع بالشك ، وينفق بالرياء ، والمؤمن يأخذ بالخوف ، ويمسك بالسنة ، وينفق لله خالصا في طاعة الله».

وقال أيضا : «أصل الطاعة ثلاثة اشياء : الخوف والرجاء والحب. وأصل المعصية ثلاثة اشياء : الكبر والحرص والحسد».

ويقول أبو سليمان الداراني : «سألت معروفا الكرخي عن الطائعين لله تعالى : بأي شيء قدروا على الطاعة؟. قال : باخراج الدنيا من قلوبهم ، ولو كان منها شيء في قلوبهم ما صحت لهم سجدة».

والمعروف عن بصراء الاعلام من هؤلاء أنهم كانوا يتطاوعون تطاوعا شاملا صافيا ، لأن كلا منهم يحرص على أن يدعو اخاه الى خير ، ولا يفكر في أن يدعوه الى شر ، ولذلك كان من مبادئهم قولهم : اذا قال لك صاحبك : هيا ، فقلت له : الى أين؟ فلست بصديق».

وصلاة وسلاما على من أدبه ربه فأحسن تأديبه ، وأدب اتباعه فاتقن تأديبهم وغرس فيهم فضيلة الطاعة المبادرة المسارعة الى الخيرات حتى أوصى المسلم ـ فيما يرويه صحيح مسلم ـ : لا ينزعن يدا من طاعة ، وكان المسلم يدخل باب الاسلام عن طريق المبايعة على السمع والطاعة. وهو صلوات الله

٢١٩

وسلامه عليه الذي كان يدعو ربه فيقول : اللهم اقسم لنا من خشيتك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك. وكان يدعو فيقول : اللهم ثبت قلبي على طاعتك.

نسأل الله جل جلاله أن يرزقنا فضيلة الطاعة في كل خير ، والاستجابة لكل بر.

٢٢٠