موسوعة أخلاق القرآن - ج ٥

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٥

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٢١

لسخط الله وعذابه ، فيقول في سورة آل عمران : «أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير» والمعنى لا يستوي من اتبع رضوان الله وعمل بطاعته ففاز برضوانه ، ومن رجع بغضب الله حين عمل بمعصيته فان مصيره ومرجعه الى جهنم وبئس المصير.

واتبع رضوان الله : أي جعل ما يرضي الله اماما له فجد واجتهد في الخيرات والاعمال الصالحات ، واتقى الفواحش والمنكرات ، حتى زكت نفسه ، وارتقت روحه ، فلقي الجزاء الحسن ، وكان عند ربه في جنات النعيم. واتباع المؤمن للرضوان تعبير يفيد أن أسباب الرضوان أعلام هداية تتبع ، وأما صاحب الشر والخسران فانه في ظلمة لأنه يبتدع ولا يتبع.

وقد ذكر التنزيل المجيد أن أقرب الناس صلة بأبي الانبياء ابراهيم هم الذين اهتدوا فاتبعوه فكانوا من أهل الاتباع ، لا من أبالسة الابتداع ، فقال في سورة آل عمران :

«إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» (١).

ان أحق الناس بنصرة ابراهيم بالحجة أو بالمعونة ـ هم الذين اتبعوه في وقته وفي زمانه ، وتولوه بالمناصرة على عدوه ، حتى ظهر أمره وعلت كلمته ، وهذا النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذين آمنوا يتولون نصرته بالحجة ، لما عليه من الحق ، ونفي كل عيب عنه ، فهم الذين ينبغي لهم أن يقولوا : نحن على دين ابراهيم ، ولهم ولايته ، والله يتولى نصرة المؤمن لأن المؤمن ولي الله يطيعه ، ولهذا يقول الامام علي : «ان وليّ محمد من

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ٦٨.

١٤١

أطاع الله وان بعدت لحمته ، وان عدو محمد من عصى الله وان قربت قرابته».

ويقول الله تعالى في سورة آل عمران :

«إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» (١).

أي جاعل الذين آمنوا بك فوق الذين كذبوا عليك وكذبوك ، والفوقية هنا يراد بها في الظاهر الفوقية الروحانية الدينية ، وهي كونهم أحسن أخلاقا وأكمل آدابا ، وأقرب الى الحق والفضل وأبعد عن الباطل والاعتداء.

وقد قرر القرآن في سورة الاعراف أن الاتباع الصادق للرسول هو طريق الفلاح وسبب النجاح فيقول :

«الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ٥٥.

١٤٢

فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (١).

ان الذين يؤمنون بالنبي الامي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويحمونه من كل من يعاديه ، وينصرونه باللسان والسنان ، ويتبعون النور الاعظم الذي أنزل مع رسالته وهو القرآن ، أولئك المفلحون الفائزون بالنعمة العظمى والرضوان الكبير.

والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو قدوة الجميع ـ ما هو الا متبع لهدى ربه ، فهو امام في فضيلة الاتباع ، فالله تعالى يقول له كما في سورة الانعام :

«اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ» (٢).

وجاء على لسانه في السورة نفسها قوله :

«إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» (٣).

وهو في هذا يستجيب لأمر ربه الذي يقول له في سورة الاعراف :

«قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي» (٤).

ما أنا بمبتدع ولا بمفتر شيئا من آيات القرآن بعلمي وبلاغتي ، بل

__________________

(١) سورة الاعراف ، الآية ١٥٧.

(٢) سورة الانعام ، الآية ١٠٦.

(٣) سورة الانعام ، الآية ٥٠.

(٤) سورة الاعراف ، الآية ٢٠٣.

١٤٣

أنا عاجز عن مثله كعجزكم ، انما أنا متبع لما يوحيه ربي ، وما عليّ الا البلاغ المبين. واذا كان اتباع النبي لأمر ربه قد أكسبه رضا ربه عنه فان اتباع المؤمنين للمتبع الاول صلوات الله وسلامه عليه هو سبيل حب الله لهم ورضوانه عليهم. يقول القرآن في سورة آل عمران :

«قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (١) :

ان كنتم صادقين في دعوى محبة الله تعالى فاتبعوني ، فانكم ان فعلتم ذلك أحبكم الله وغفر لكم. ومن هذا نفهم أن من ثمرات فضيلة الاتباع حب الله للمتبع ومغفرته له. ويقول القرآن الكريم في سورة الانعام :

«وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ. وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (٢).

ان هذا القرآن الذي أدعوكم اليه ، وأدعوكم به الى ما يحييكم ، هو صراطي ومنهاجي الذي أسلكه الى مرضاة الله تعالى ، ونيل سعادة الدنيا والآخرة ، فاتبعوه وحده ، ولا تتبعوا السبل الاخرى ، التي تخالفه وهي كثيرة ، فتتفرق بكم عن سبيله ، بحيث يذهب كل منكم في سبيل ضلالة منها ينتهي بها الى التهلكة ، اذ ليس بعد الحق الا الضلال ، وليس أمام تارك النور الا الظلمات.

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ٣١.

(٢) سورة الانعام ، الآية ١٥٣.

١٤٤

هكذا ذكر «تفسير المنار» ، ثم أضاف :

«ولما كان اتباع الصراط المستقيم وعدم التفرق فيه هو الحق الموحد لأهل الحق الجامع لكلمتهم ، وتوحيدهم وجمع كلمتهم هو الحافظ للحق المؤيد له والمعز لأهله ـ كان التفرق فيه بما ذكر سببا لضعف المتفرقين وذلهم وضياع حقهم ـ فهذا التفرق حل باتباع الانبياء السابقين ما حل من التخاذل والتقاتل والضعف وضياع الحق ، وقد اتبع المسلمون سننهم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى حلّ بهم من الضعف والهوان ما يتألمون منه ويتململون.

ولم يردعهم عن ذلك ما ورد في التحذير منه في كتاب الله تعالى وأحاديث رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآثار الصحابة والتابعين ، ولا ما حل بهم من البلاء المبين ، ولم يبق بينهم وبين من قبلهم فرق الا في أمرين (أحدهما) حفظ القرآن من أدنى تغيير وأقل تحريف ، وضبط السنة النبوية بما لم يسبق له في أمة من الامم نظير (وثانيهما) وجود طائفة من أهل الحق في كل زمان تدعو الى صراط الله وحده ، وتتبعه بالعمل والحجة ، كما بشر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن هؤلاء قد قلوا في القرون الاخيرة ، وكل صلاح واصلاح في الاسلام متوقف على كثرتهم.

فنسأله تعالى أن يكثرهم في هذا الزمان ويجعلنا من أئمتهم ، فقد بلغ السيل الزبى. روى ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس في قوله (فاتبعوه ولا تتبعوا السبل) وقوله (أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) ونحو هذا في القرآن قال : «أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة وأخبرهم أنه انما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات».

* * *

واذا كنّا قد أخذنا لمحات عن حديث القرآن الكريم عن فضيلة

١٤٥

الاتباع فقد يكون مما ينبغي لنا أن ننتقل الى روضة السنة المطهرة لمتابعة حديث الاتباع ، فقد روى الدارميّ : «اتبع ولا تبتدع» ، كما روى :

«لست بمبتدع ولكني متبع» وقد حذر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ترك الاتباع ، وأمر بالحرص على اتباع سنته فقال : «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ ، واياكم ومحدثات الامور ، فان كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار».

وقال عليه الصلاة والسّلام : «من اقتدى بي فهو مني ومن رغب عن سنتي فليس مني».

وقد سبق قوله تعالى :

«قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ» (١).

على أن هناك نوعا من الاتباع يكرهه الاسلام ويقاومه وهو اتباع الهوى والنفس الامارة بالسوء وقد جاء في صحيح الامام البخاري أن الحسين قال : «أخذ الله على الحكام ألا يتبعوا الهوى ، ولا يخشوا الناس ، ولا يشتروا بآياتي ثمنا قليلا». ثم قرأ :

«يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ» (٢).

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ٣١.

(٢) سورة ص ، الآية ٢٦.

١٤٦

وقد روى الترمذي وابن ماجه الحديث : «العاجز من اتبع نفسه هواها».

وقد جاء في صحيح مسلم : «العبادة في الحرج كالهجرة اليّ».

وقد علق الامام ابن رجب الحنبلي في كتابه «لطائف المعارف» على هذا الحديث فكان مما قاله هذه العبارة :

«وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم ، ولا يرجعون الى دين ، فيكون حالهم شبيها بحال الجاهلية ، فاذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه ، ويعبد ربه ، ويتبع مراضيه ، ويجتنب مساخطه ، كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤمنا به متبعا لأوامره مجتنبا لنواهيه».

* * *

وقد تكلم البصراء من الصوفية الذين تبينوا طريق الحق المستقيم في تصوفهم عن فضيلة الاتباع ، وجعلوا القمة في ذلك هي اتباع أمر الله تبارك وتعالى ، وربطوا به اتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه قدوة كل مسلم كما قال الحق جل جلاله في سورة الاحزاب :

«لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» (١).

وها هو ذا أبو نصر السراج الطوسي في كتابه «اللمع» يتحدث عن هذا الجانب فيقول فيما يقول :

«فمن وافق القرآن ولم يتبع سنن رسول الله ، عليه الصلاة والسّلام ، فهو مخالف للقرآن غير متبع له ، والمتابعة والاقتداء : هي الاسوة الحسنة

__________________

(١) سورة الاحزاب ، الآية ٢١.

١٤٧

برسول الله عليه الصلاة والسّلام في جميع ما صح عنه من أخلاقه ، وأفعاله وأحواله ، وأوامره ، ونواهيه ، وندبه ، وترغيبه ، وترهيبه ، الا ما قام الدليل على خلافه كقوله عزوجل : «خالصة لك من دون المؤمنين» وقول النبي عليه الصلاة والسّلام في الوصال : لست كأحدكم ، وقوله عليه الصلاة والسّلام في حديث الاضحية لأبي بردة : اذبح ينار ، ولا تجزى عن أحد بعدك ، وما يشبه ذلك مما يقوم عليه الدليل من نص الكتاب والآثار. فأما ما روي عن رسول الله عليه الصلاة والسّلام في الحدود والاحكام والعبادات : من الفرائض والسنن والامر والنهي والاستحباب ، والرخص والتوسيع ، فذلك من أصول الدين وهو مدون عند العلماء والفقهاء ، ومستعمل فيما بينهم ومشهور عندهم ، لانهم الائمة الحافظون لحدود الله ، المتمسكون بسنن رسول الله عليه الصلاة والسّلام. الناصرون لدين الله عزوجل يحفظون على الخلق دينهم ويبينون لهم الحلال من الحرام ، والحق والباطل فهم حجج الله تعالى على خلقه ، والدعاة له في دينه ، فهؤلاء هم الخاصة من العامة. فأما الخاصة من هؤلاء الخاصة : لما أحكموا الاصول ، وحفظوا الحدود ، وتمسكوا بهذه السنن ، ولم يبق عليهم من ذلك بقية ، استبحثوا أخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي وردت في أنواع الطاعات ، والآداب ، والعبادات ، والاخلاق الشريفة ، والاحوال الرضية ، وطالبوا أنفسهم بمتابعة رسول الله عليه الصلاة والسّلام ، والاسوة به ، واقتفاء أثره بما بلغهم من آدابه ، وأخلاقه ، وأفعاله ، وأحواله فعظموا ما عظم ، وصغّروا ما صغر ، وقللوا ما قلل ، وكثروا ما كثر. وكرهوا ما كره واختاروا ما اختار ، وتركوا ما ترك ، وصبروا على ما صبر ، وعادوا من عادى ، ووالوا من والى ، وفضلوا من فضل ، ورغبوا فيما رغب ، وحذروا ما حذر ، لأن عائشة رضي الله عنها ، سئلت عن خلق رسول الله عليه الصلاة والسّلام؟ فقالت كان خلقه القرآن ، تعني موافقة القرآن. وروي

١٤٨

عن النبي عليه الصلاة والسّلام أنه قال : بعثت بمكارم الاخلاق».

* * *

ان الغرور قد يدفع الانسان الغبي الى التنكر للحق ، والبعد عن الاستقامة ، وكأنه يريد بغروره أو طغيانه أن يثبت ذاته بطريق المخالفة ولو الى الباطل وقديما قيل لمثله من السفهاء «خالف تعرف» ، والاتباع للحق ، والاقتداء في مجال الصدق من شيم الاقوياء الذين يعرفون الحق فيتبعونه ، ويعرفون الباطل فيجتنبونه ، ولا يرون في الرجوع الى الحق أي غضاضة ، ولذلك ينبغي للمؤمن أن يحرص على فضيلة الاتباع وأن يحذر رذيلة الابتداع ، ان الله وحده هو الهادي الى سواء السبيل.

١٤٩

الهجرة

قد يبدو غريبا عند بعض الناس أن نعدّ «الهجرة» من «أخلاق القرآن» ، لأن ما يتبادر الى أذهانهم عند سماع كلمة «الهجرة» هو ذلك الحادث التاريخي الاسلامي الذي تمثل في انتقال المسلمين من مكة الى المدينة في حياة الرسول عليه الصلاة والسّلام ، وقد تلحظ أذهانهم من كلمة «الهجرة» معنى الانتقال الحسي من مكان الى مكان ، مع ان هناك معنى أخلاقيا روحيا لكلمة «الهجرة» هو الذي يعطيها الحق في أن نسلكها ضمن أخلاق القرآن كما سيتضح لنا ذلك باذن الله من خلال البحث.

الهجرة معناها في اللغة الانتقال من موضع الى موضع ، وقصد ترك الاول ايثارا للثاني ، والهجران مفارقة الانسان غيره اما بالبدن أو باللسان أو بالقلب ، والمفارقة بالقلب تدخل نطاق الهجرة بالمعنى الاخلاقي كما سنرى بعد قليل. والمهاجرة في الاصل مصارمة الغير وتركه. والظاهر من الهجرة في عرف الاسلام هو الخروج من دار الكفر الى دار الايمان ، وقيل : ان مقتضى ذلك هجران الشهوات والرذائل والاخلاق الذميمة والخطايا وتركها ورفضها ، وهذا هو المعنى الاخلاقي للهجرة.

والهجرة أنواع :

١٥٠

١ ـ الهجرة من دار الحرب الى دار الاسلام وهي فرض على المسلم.

٢ ـ الهجرة بالخروج من أرض البدعة.

٣ ـ الهجرة من أرض غلب عليها الحرام.

٤ ـ الهجرة للفرار من الاذى في البدن.

٥ ـ الهجرة من خوف المرض في البلاد الوخمة.

٦ ـ الهجرة للفرار من الاذية في المال.

٧ ـ الهجرة لطلب الدين أو طلب الدنيا. وهنا أنواع : سفر لطلب العبرة. وسفر للحج ، وسفر للجهاد ، وسفر للمعاش ، وسفر للتجارة والكسب الزائد على القوت ، وسفر للمرابطة ، وسفر لزيارة الاخوان في الله تعالى.

ولقد كان المسلمون في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنسبة الى الهجرة أربعة أقسام :

١ ـ أهل الهجرة الاولى من مكة الى المدينة منذ هجرة النبي عليه الصلاة والسّلام حتى غزوة بدر ، وهؤلاء هم أحسن قسم ، وهو الافضل والاكمل ، وأهله هم السابقون.

٢ ـ الانصار ، أهل المدينة ، والهجرة قد كانت الى دارهم ، ولهم فضلهم العظيم.

٣ ـ المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية.

٤ ـ المؤمنون الذين لم يهاجروا.

وقد أشار القرآن الكريم الى هذه الاقسام في سورة الانفال حيث قال :

١٥١

«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (١).

وقد أشار التنزيل المجيد الى مكانة المهاجرين وتقدمهم على غيرهم ، والبشرى التي يبشرها بها ربهم ، والثواب العظيم الذي يلاقيهم في دار النعيم فقال الله عز شأنه في سورة التوبة :

«الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ ،

__________________

(١) سورة الانفال ، الآية ٧٢ ـ ٧٥.

١٥٢

يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» (١).

ولقد تشعب رأي الفقهاء في حكم الهجرة من دار الكفر الى دار الاسلام ، وقد تحدث تفسير «المنار» فقال : «وقد اختلف الفقهاء في حكم الهجرة من بلاد الكفر الى بلاد الاسلام في مثل عصرنا هذا ويؤخذ من علة وجوب الهجرة في عهد التشريع أنها تجب بمثل تلك العلة في كل زمان ومكان ، فلا يجوز لمؤمن أن يقيم في بلاد يفتن فيها عن دينه ، بأن يؤذى اذا صرح باعتقاده أو عمل بما يجب عليه ، وان كان حكام تلك البلاد من صنف المسلمين ، ومن ذلك أن لا يقدر المسلمون على التصريح قولا وكتابة بكل ما يعتقدون ، ولا يمكنوا من القيام بفريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجمع عليه منهما».

ويرى الاستاذ الامام محمد عبده أنه لا معنى للخلاف في وجوب الهجرة من الارض التي يمنع فيها المؤمن من العمل بدينه ، أو يؤذى فيه ايذاء لا يقدر على احتماله ، وأما المقيم في دار الكافرين ، ولكنه لا يمنع ولا يؤذى اذا هو عمل بدينه ، بل يمكنه أن يقيم جميع أحكامه بلا نكير ، فلا يجب عليه أن يهاجر ، بل ربما كانت الاقامة في دار الكفر سببا لظهور محاسن الاسلام واقبال الناس عليه.

وكان هذا الكلام بمناسبة التعرض لقول الله تعالى في سورة النساء :

«إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية ٢٠ ـ ٢٢

١٥٣

تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً ، إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ، فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً ، وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً» (١).

والهجرة بمعنييها الحسي والاخلاقي شيمة الانبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. لقد هاجروا هجرة أخلاقية روحية حين صدوا عن رذائل أقوامهم وقبائح شعوبهم وسيئات أممهم ، وهجروهم فلم يشاركوهم سيئة من السيئات ولا منكرا من المنكرات ، بل هاجروا الى ربهم حتى عند ما كانوا مقيمين بين أقوامهم ، وهاجر الانبياء كذلك الهجرة الحسية من مكان الى مكان ، فهاجر ابراهيم ، وهاجر لوط ، وهاجر موسى ، وهاجر عيسى ، وهاجر خاتمهم محمد عليهم جميعا صلوات الله وسلامه.

ومن باب الهجرة الاخلاقية الروحية قول الله تبارك وتعالى في سورة المدثر :

«وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ» (٢).

أي والمآثم فاترك ، أي اترك المعصية ، وهذا حث على مفارقة ما لا

__________________

(١) سورة النساء ، الآية ٩٧ ـ ١٠٠.

(٢) سورة المدثر ، الآية ٥.

١٥٤

يليق بالوجوه كلها : بالبدن واللسان والقلب. وقد جاء في كتاب «ظلال القرآن» ان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان هاجرا للشرك ولموجبات العذاب حتى قبل النبوة ، فقد عافت فطرته السليمة ذلك الانحراف وهذا الركام من المعتقدات الشائهة ، وذلك الرجس من الاخلاق والعادات ، فلم يعرف عنه أنه شارك في شيء من خوض الجاهلية.

ولكن هذا التوجيه يعني المفاضلة واعلان التميز الذي لا صلح فيه ولا هوادة ، فهما طريقان مفترقان لا يلتقيان ، كما يعني التحرز من دنس هذا الرجز. وهذه هجرة أخلاقية كما هو واضح ، وقيل ان الرجز هو المعاصي أو الشيطان. ويقال ان المعنى هنا هو طهر قلبك من الخطايا واشغال الدنيا. وقد قيل من لا يصح جسمه لا يجد شهوة الطعام ، وكذلك من لا يصح قلبه لا يجد حلاوة الطاعة.

ومن شواهد الهجرة الاخلاقية قول الله تبارك وتعالى :

«فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (١).

ونعود الى «ظلال القرآن» لنجده يتلبث أمام هذه الآية ليقول : «ونقف أمام قولة لوط : «اني مهاجر الى ربي» لنرى فيم هاجر. انه لم يهاجر للنجاة ، ولم يهاجر الى أرض أو كسب أو تجارة. انما هاجر الى ربه ، هاجر متقربا له ملتجئا الى حماه ، هاجر اليه بقلبه وعقيدته قبل أن يهاجر بلحمه ودمه. هاجر اليه ليخلص له عبادته ويخلص له قلبه ، ويخلص له كيانه كله في مهجره ، بعيدا عن موطن الكفر والضلال ، بعد أن لم يبق

__________________

(١) سورة العنكبوت ، الآية ٢٦.

١٥٥

رجاء في أن يفيء القوم الى الهدى والايمان بحال».

* * *

وننتقل الى روضة السنة النبوية لنجدها تحدثنا عن الهجرة الاخلاقية الروحية فيقول سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه». فالمسلم يلزمه أن يهاجر بقلبه وطباعه وسلوكه حتى ولو لم يبرح داره كما قالت الرواية الاخرى للحديث : «المهاجر من هجر ما حرم الله عليه». وقد عدّ الفقهاء من هذا القبيل هجرة المسلم أهل المعاصي حتى يثوبوا ويرجعوا عن غيّهم تأديبا لهم فالمسلمون لا يخالطون هؤلاء الفساق حتى يتوبوا.

وقد جاء في الحديث الذي رواه الشيخان البخاري ومسلم : «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ، واذا استنفرتم فانفروا». أي ان الهجرة الحسية من مكة الى المدينة قد انتهت بفتح مكة وانتصار المسلمين ، ولكن الهجرة الروحية الاخلاقية باقية ، وهي قائمة على المجاهدة واخلاص النية.

ولقد جاء في مسند الامام أحمد بن حنبل :

ما الهجرة؟.

ـ تهجر السوء.

وقد روى أبو داود :

ـ أي الهجرة أفضل؟.

ـ أن تهجر ما حرّم الله عليك.

وحينما تحدث ابن الاثير في كتابه «النهاية» عن الحديث : «لا

١٥٦

هجرة بعد ثلاث» قال : «يريد به الهجر بعد الوصل ، يعني فيما يكون بين المسلمين من عتب وموجدة ، أو تقصير يقع في حقوق العشرة والصحبة ، دون ما كان من ذلك في جانب الدين ، فان هجرة أهل الاهواء والبدع دائمة على مرّ الاوقات ، ما لم تظهر منهم التوبة والرجوع الى الحق ، فانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خاف على كعب بن مالك وأصحابه النفاق ، حين تخلفوا عن غزوة تبوك ، أمر بهجرانهم خمسين يوما ، وقد هجر نساءه شهرا ، وهجرت عائشة ابن الزبير مدة وهجر جماعة من الصحابة جماعة منهم وماتوا.

وقد جاء في السنة الحديث القائل : «هاجروا ولا تهجروا» أي كونوا من المهاجرين حقيقة ، ولا تتشبهوا بهم في القول دون العمل ، وهذا يؤكد لنا أن الهجرة عمادها النية وثبات الاخلاق التي تدفع صاحبها باصالتها وكرمها الى أن يكون قدوة سليمة قويمة في هجرته ، سواء أكانت هجرة حسية تتمثل في الانتقال من مكان الى مكان ، أم كانت هجرة أخلاقية عمادها تجنب ما حرّم الله والانتهاء عما نهى عنه.

وقد يبدو لبعض قصار النظر أن الهجرة يسيرة في الاتيان بها ، فهي لا تحتاج الا الى الانتقال من أرض الى أرض مع أنه جاء في صحيح البخاري الحديث القائل : «ان شأن الهجرة لشديد». ويفهم الانسان فيما يفهم أن الهجرة تكون شديدة على الانسان ، ولو كانت مجرد هجرة حسية لأن الهجرة ترك للوطن والاهل والسكن والمعارف والاقارب والاصدقاء. وليس من المستطاع الميسور احتمال هذا على كل انسان. فاذا كانت الهجرة معنوية روحية أخلاقية كانت الشدة فيها أوضح وأظهر ، لأن الهجرة المعنوية تحتاج الى عزم الرجال وهمم الابطال ، وهم في هذا المجال يتمردون على مألوف العادات ومرغوب الشهوات ومحبوب اللذات ، وهذا مرتقى صعب لا يقدر عليه الا أصحاب الهمم العالية من الناس.

١٥٧

ولو التفتنا الى الصوفية وهم يتحدثون بطريقتهم الخاصة واسلوبهم المتميز لوجدناهم يعطون الهجرة منزلة خاصة عالية ، فحين يتحدث القشيري عن قوله تبارك وتعالى «فآمن له لوط وقال اني مهاجر الى ربي» يصور معنى هذا بأسلوبه الخاص به وبطائفته فيقول : «لا تصح الهجرة الى الله الا بالتبري ـ بالكمال ـ بالقلب من غير الله ، والهجرة بالنفس يسيرة بالاضافة الى هجرة القلب وهي هجرة الخواص ، وهي الخروج من أوطان التفرقة الى ساحات الجمع ، والجمع بين التعريج في أوطان التفرقة والكون في مشاهد الجمع متناف.

ويحاول القشيري أن يشرح ذلك بطريقته فيذكر أن ما يكون كسبا للعبد وما يليق بأحوال البشرية فهو مزق ، وما يكون من قبل الحق من ابداء معان ، واسداء لطف واحسان ، فهو جمع ، فاثبات الخلق من باب التفرقة ، واثبات الحق من باب الجمع.

هكذا يقولون ويعبرون ، وهو أسلوب خاص بهم مقصور عليهم.

ويقول الله تعالى في سورة المزمل :

«وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً» (١).

قيل ان الهجر الجميل أن تعاشرهم بظاهرك وتباينهم بسرك وقلبك وقيل الهجر الجميل ما يكون لحق ربك لا لحظ نفسك. وفي تفسير «مفاتيح الغيب» : المعنى انك لما اتخذتني وكيلا كان عليك أن تصبر على ما يقولون ، وأن تفوض أمرهم اليّ ، فانني لما كنت وكيلا لك كنت أقدر على اصلاح أمرك منك لقيامك باصلاح أمور نفسك ... والانسان اما أن بكون مخالطا للناس أو مجانبا عنهم ، فان خالطهم فلا بد له من المصابرة

__________________

(١) سورة المزمل ، الآية ١٠.

١٥٨

على ايذائهم وثبت أن من أراد المخالطة مع الخلق فلا بد له من الصبر الكثير ، وان ترك المخالطة فذلك هو الهجر الجميل ، والهجر الجميل هو أن يجانبهم بقلبه وهواه ، ويخالفهم في الافعال والاعمال.

على أن هناك نوعا من الهجرة يحرمه الاسلام ويقاومه ، وهو أن يهجر المسلم أخاه في الله لغير ضرورة ، وقد أشار سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى هذا النوع المحرم من الهجرة حين قال : «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام».

نسأل الله جل جلاله أن يوفقنا الى ما يرضاه لنا من هجرة حسية وهجرة روحية نعتصم فيها بحبله القوي المتين ، ونتحلى فيها بمكارم الاخلاق ، انه نعم المولى ونعم المجيب.

١٥٩

الاسلام

قد يبدو غريبا أن نتحدث عن «الاسلام» على أنه خلق من أخلاق القرآن ، لأن العادة جرت على أن الاسلام هو ذلك الدين المعروف الذي جاء به رسول الله محمد عليه الصلاة والسّلام ، ولكن الاسلام له معنى أخلاقي روحي عام يصح أن يدخل به نطاق أخلاق القرآن على أنه فضيلة من الفضائل التي يتحلى بها الانسان المؤمن ، ونستطيع أن نفهم ذلك بوضوح اذا عرفنا معنى كلمة «الاسلام».

الاسلام من مادة السلامة وهي التعري من الآفات الظاهرة والباطنة ، والسلامة الحقيقية ليست الا في الجنة ، اذ فيها بقاء بلا فناء ، وغنى بلا فقر ، وعز بلا ذل ، وصحة بلا سقم ، ولذلك قال القرآن الكريم :

«لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ» (١).

والسّلام هو الدخول في السلم ، والاسلام هو الانقياد لأمر الله تعالى بالخضوع والاقرار بجميع ما أوجب ، وقد يطلق الاسلام بمعنى الاخلاص ، وقد قال زيد بن عمرو بن نفيل :

__________________

(١) سورة الانعام ، الآية ١٢٧.

١٦٠