كنز الولد

ابراهيم بن الحسين الحامدي

كنز الولد

المؤلف:

ابراهيم بن الحسين الحامدي


المحقق: مصطفى غالب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٢

الأول ، وذلك أن الشخص البشري يولد الكل منهم أطفالا جهالا لا علم لأحد منهم يفضل به على من سواه إلّا كما قال الله تعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) (١) الآية. فذلك العالم كان متساويا متكافئا من طريق العدل بالقوة في كمالهم الأول من حياة وعلم وقدرة.

وهذه الصورة مثلا مضروبا يهتدي بها «هذا التصوير» (٢) وقد جعلناه تقريبا للافهام في معرفة الابتداء ، لكونه الأصل الذي تتفرع منه العلوم كما قال مولانا القائم صلوات الله عليه (٣) : معرفة الابتداء والانتهاء العلمان الجليلان (٤) اللذين تفرعت منهما العلوم ، والنبأ لا يكون إلّا على الأساس الصحيح.

وذلك أن عالم الإبداع الذي صورنا كون ظهوره معا دفعة واحدة لم يسبق أوله آخره ، ولا آخره أوله ، متساويين متكافئين بميزان العدل ، وموجب الحكمة في الكمال الأول بالقوة ، في الحياة والعلم والقدرة ، بلا تفاضل ولا تباين ولا تغاير ولا تفاوت.

إذ لو كان ذلك كان بالنقصان في القدرة ، وإما العجز في المشيئة ، وإما الجور في الخيرة ، وجميع ذلك منفي عمن جلت قدرته ، وعظمت مشيئته ، فكان وجودهم معا على سبيل النقط التي جعلناها في الوسط على سبيل ما ذكرت الحكماء ، ومثلته بحب التين المجتمع في كل حبة منه ما لا يحصى.

فلمّا كانوا على ذلك تحرك منهم واحد من ذاته بذاته ، حركة فكرة

__________________

(١) سورة ١٦ / ٧٨.

(٢) سقط ما بين قوسين في ج وط.

(٣) يريد الإمام الفاطمي القائم بأمر الله الخليفة الثاني في المغرب (٢٨٠ ـ ٣٣٤ ه‍.)

(٤) يقصد المبدأ والمعاد.

٤١

وتمييز وفطنة في كون ذلك العالم الروحاني النير الكامل في ذاته (١) وظهورهم معا ، ولا إدراك له في كيفية وجودهم ، فهجمت به فكرته ، وقررت عنده فطنته ، أن لذلك العالم مبدعا أبدعه ، وموجدا أوجده بمشيئته وقدرته ، وإنّه لا يدرك ، ولا يحاط به ، ولا يشبه شيئا من صنعته ، وأنّه يعجز عن إدراكه ومعرفته ، إلّا بوجود ما أوجده من عدم لا أصل له فنفى عن الجميع من عالمه الإلهية ، وأثبتها للمتعالي سبحانه المحق الذي لا شبه له ولا ند ولا ضد ، ولا مثل ولا مثيل ، ولا شكل. فنطق بالشهادة مفصحا ، وأعلن بها مصرحا ، كما جاء في الذكر الحكيم في قوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢). فشهد له بالإلهية ، والعزّة ، والحكمة.

وقد جاء عن الشخص الفاضل صاحب الرسائل في الرسالة الجامعة (٣) قال : وأمّا الواحد الموصوف بالجلالة والعظمة المشار إليه بالوجود. وأنّه مبدأ كل موجود ، يقبل فيض الجود وإليه تنتهي الحدود ، فهو العقل الأول ومبدعه يجل عن صفة الواصفين ، ونعت الناعتين ، وإنّما يقال : هو لا إله إلّا هو إيمانا وتسليما.

فهذا القول هو إثبات التوحيد ، ولذلك صار الأصل المعتمد عليه في كل شريعة ودين ، وذلك أن العقل الأول نفى عن ذاته الإلهية ، وأثبتها لمبدعه فقال : لا إله إلّا هو ، فوحد مبدعه وهو عقل ، بمعنى إثبات الوحدة المحضة بذلك ؛ لأن اتصال التأييد به متواتر لا يفنى ولا يزول ، بل متصل دائم أبدا ، وذلك بسبقه (٤) ، ولذلك قال : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) (٥).

__________________

(١) ذاته : سقطت في ج وط.

(٢) سورة ٣ / ١٨.

(٣) النص مأخوذ من رسالة الجامعة الورقة ١٨٠ من النسخة الخطية الموجودة في مكتبتنا الخاصة.

(٤) لأنه السابق في الوجود ، والموجود الأول.

(٥) سورة ١٦ / ٩٦.

٤٢

فهذا ما جاء عن الإمام الفاضل أصدق كل قائل. وكذلك جاء عن سيدنا جعفر بن منصور اليمن قس (١) في مثل ذلك بقوله : الحمد لله مؤيد الحق ونصيره ، ومظهر الخلق بتقديره وتدبيره ، ومقسم الأرزاق بتقديره ؛ ومدحض الباطل ومبيده ، ومجري الفلك بتسييره ، ومضيء النهار بسناء نوره ، والدال على توحيده ببراهينه ، ومستعبد جميع عباده بحدوده الذين جعلهم بينه وبين خلقه سببا متصلا لا ينفصل ، وأعجزهم عن معرفته ، الّا من سببه ؛ واحتجب بحجاب عظمته عن بريته ، ودل على نفسه بنفسه ، وتصمد بعظيم ربوبيته عن أن يدرك بحس ، ولا يعلم بلمس ، ولا يحيط بكنهه جن ولا إنس ، ولا يشرك في ملكه أحد ، أبدع قبل أن خلق ، فتعالى عن التشبيه بما أبدعه ؛ بل أفاض عظمته وجلاله وسناء نوره وبهاء قدرته ، على ما أبدعه ، الذي نفى عن هويته الإلهية ، وأقر لمبدعه بالوحدانية. ولو لم يوقع النفي بذاته في ابتداء نطقه ، لما كان لأحد إلى معرفة مبدعه سبيل ، ولا ثبت الإقرار ، فكان النفي تثبيتا (٢) بقولك : إلّا الله. فدل أن ثمة إله مبدعا للمبدع ، فكان في نفي المبدع الإلهية عن ذاته إثباتا لمبدعه ، وكان في إثبات الإلهية بعد النفي سبب ظهور الخلق. فكان المبدع خالقا تنزيها للمبدع وتعظيما لقدرته ، فكان الإبداع

__________________

(١) جعفر بن منصور اليمن من كبار علماء الإسماعيلية وصاحب المؤلفات العديدة في علم التأويل وعلم الحقيقة ، ولد في اليمن سنة ٢٧٠ ه‍ ، عاصر عدة أئمة من الخلفاء الفاطميين وتوفي في خلافة المعز لدين الله في المنصورية سنة ٣٤٧ ه‍. وصل إلى أعلى مرتبة من مراتب الدعوة الإسماعيلية (باب الأبواب) واسمه كما ورد في النصوص الإسماعيلية جعفر بن الحسن بن فرج بن حوشب بن زادان الكوفي. لقب والده الحسن بمنصور اليمن لما حقق من انتصارات في اليمن. والنص مأخوذ من كتابه سرائر النطقاء ؛ سقطت «قس» في النسخة ج.

(٢) يذهب الإسماعيلية إلى أن الشهادة مبنية على النفي والإثبات ، فالابتداء بالنفي والانتهاء إلى الاثبات. وقالوا إن الكلمات الأربع من الشهادة «لا إله إلا الله» هي جنة بالحقيقة ومفاتيحها الأربعة ، الأصلان العلويان السابق والتالي ، والأساسان السفليان الناطق والأساس. ومن ينكر أصلا من هذه الأصول لا يتهيأ أن يفتح له شيء من معالم دينه.

٤٣

من ليس ، والخلق من أيس ، تباركت قدرته ، وجلت عظمته ، فلا يعلم إلّا من حجابه ، ولا يؤتى إلّا من بابه ، ولا يطاع إلّا من أسبابه ؛ فهذا ما جاء عنه. فحجابه هو المبدع الأول ، وبابه النهاية الثانية في عالم الدين ، وأسبابه الدعاة إليه في كل عصر وزمان.

وهذه البراهين الأربعة (١) :

الأول منها عن حميد الدين ، والثاني منها ما جاء به التنزيل المبين ، والثالث منها عن الشخص الفاضل صاحب الرسائل ، والرابع عن الداعي المؤتمن جعفر بن منصور اليمن نضر الله وجوههم جميعا ، ورزقنا شفاعتهم. وذلك أنّه لمّا فطن ذلك الحد الجليل لما هنالك في الابتداء الأول ، وشهد لمبدعه بالإلهية ، كان ذلك أصل التوحيد ، وحقيقة التجريد ومعنى التنزيه ، واس العبادة في التقديس والتسبيح والتمجيد ، وهو الفعل الذي أشير إليه بقيامه به (٢) ، ووسم به (٣) ، وأضيف خاصا إليه ، وهو أيضا كماله الثاني ، الذي رمز به حميد الدين ، وهو الوحدة بذاته الأولة (٤) الحاملة ، وهو في ذاته فرد محض ، ومزدوج بالكمالين ، وكان المتكثر بذلك «بالأسماء والصفات

__________________

(١) يريد الأقوال التي استقاها من أربعة نصوص لها قدسيتها.

(٢) كل آراء علماء وفلاسفة الإسماعيلية في كافة العصور متفقة على أن المبدع سبحانه وتعالى لا مثل له ، فلا يتعلق بتوحيد الموحدين ، ولا بتجريد المجردين ، فيخرج من أن يكون لا مثل له إذا لم يوحده الموحدون ، أو عن نعوت مبدعاته إذا لم يجرده المجردون ، بل هو تعالى وتكبر ـ وحد الموحد أو لم يوحد ، وجرد المجرد أو لم يجرد ـ لا مثل له ، إذ لو كان لكانا اثنين.

(٣) ورد في النسخة ج وط زيادة ثلاثة أسطر في النص من قول حميد الدين : فلما كان الإبداع الذي هو الموجود الأول كمال الثاني بجوهره لا شيء هو غيره كانت جلالته وعظمته ، وقدرته وكبريائه ومجده وغبطته ومسرته بذاته على حالة يقصر الوصف عنها تفوق المسرات التي عندنا.

(٤) هذا القول مأخوذ من كتاب راحة العقل لحجة العراقين أحمد حميد الدين الكرماني المشرع الخامس من السور الثاني. ص ١٤١ تحقيق مصطفى غالب. منشورات دار الأندلس بيروت.

٤٤

المتناهية بالشرف والجلال وبذلك» (١) ، ثبت أن فعله هذا عن ذاته بذاته ، في ذاته ؛ لا بقصد عن مبدعه بقضية العدل وموجب الحكمة ، لا الاختصاص بغير علم ولا عمل ، ولا سابقة استحقاق جور ، فلمّا تم فعله ، وقبلت شهادته ، التي لم يسبقه بها أحد من أبناء جنسه ، ووقع حينئذ به الاختصاص والاتحاد (٢) ، فأشرق نوره ، وبان ظهوره ، وترادف سروره ، ووقع عليه اسم الإلهية من حيث ولهه في مبدعه ، وحيرته في كيفية إبداعه ، وأيضا بوله (٣) من دونه في جلالته ، فوجب له اسم السبق بسبقه إلى التوحيد المحض ، واستحق اسم الأحدية والواحدية ، بتوحيده بالأولية ؛ وسمي بالكلمة (٤) ، لنطقه بكلمة الإخلاص دون غيره ، ووجب له اسم الأمر ، لما تم وكمل في عبادة مبدعه ، فصار بذلك أمره الأول (٥) ووجب أن يكون مشيئة ، وقدرة ، وإرادة ، في ذاته بذاته ، لما نظر وقدر ، وفكر وأقر بالحق الأنور ، وسمي حقّا باستحقاقه للفضل والعطاء والجزل ، وسمي موجودا بتصوره لما يبقيه ويؤزله (٦) ، وسمي كاملا وتاما بكماله ، بما هو حياة العالم ، وكمالهم وتمامهم بسببه ؛ وسمي عاقلا وعقلا معقولا ، لعقله ذاته عن فكرة سابقة إلى غير ما فكر فيه ، وفطن به ، وعالما لعلمه بما هو العلم كلّه ، والعمل

__________________

(١) سقطت الكلمات الموضوعة داخل قوسين من ج وط.

(٢) يعتقد الإسماعيلية بأن الكلمة هي العلة الأولى لظهور السابق ، فمتى ظهر السابق ، اتحدت به ، فصارت كهوية السابق ، وهي التي تفرد بها السابق ، ولم يفضها على معلوله الذي هو التالي.

(٣) بوله : بعده ج وط.

(٤) الكلمة تعني بالعرفان الإسماعيلي أمر الله الذي عبر عنه بالحرفين (كن) ليعلم أنه علة جميع من يوجد فيه قيام الزوجية ، فليس شيء إلا والزوجية فيه موجودة ، لذلك فلا شيء خارج من أن يكون الأمر علته. وهذه الكلمة من جهة الأشخاص الطبيعية بلغت إلى الأساسين اللذين أحدهما صاحب التأليف والحركة ، والآخر صاحب التأويل والسكون أي الناطق والإمام.

(٥) الأول : الأولي ج.

(٦) ويؤزله : يؤن له في ج وط.

٤٥

كلّه ، ووجب له اسم الحياة (١) فكان هو الحي والحياة ، الأولة التي أوجد بها صفته ، فعليه الأسماء والصفات وقفت وحصرت ، وبها شرف ، وبه شرفت ؛ وهو مركزها وعليه دارت.

فهذا حقيقة فعله وقيامه به ، واستحقاقه لجميع ما استحقه بسببه ، وإلّا ضاعت الفائدة وجور «مبدعه ودخل عليه العجز لو لم يكن ذلك كذلك» (٢) وبذلك استحق اسم الإبداع لا من شيء أي لا من معلم ، ولا ملهم ، ولا مشير ، بل من ذاته بذاته.

وقد أوضح ذلك سيدنا المؤيد في بعض خطبه بقوله (٣) : فهو الساكن من حيث أنّه استوى على عرشه في الكمال والتمام المتحرك ، شكرا لما وصل إليه من مبدعه من الإنعام ، أحمده ، إذ حمده مكون الأكوان ، المنبعث منه مخترع الزمان والمكان ، حمدا ضرورة عجز العبودية تحسنه ، وإن كانت حركة الوهم تهجنه.

فقد أشار إلى حركة الوهم ، وهو الحمد الذي عنه تكوين الأكوان ، والذي انبعث عنه المنبعث الثاني القائم بالقوة الذي اخترع الزمان والمكان ، بما نبينه في موضعه إن شاء الله تعالى.

قال حميد الدين ق س : وهو ذو نسبتين (٤) : نسبة أشرف بإضافته إلى ما عنه وجوده. ونسبة أدون بإضافته إلى ذاته. ولم يفصل المعنى في ذلك ،

__________________

(١) يريد الحياة بمعناها الظاهر والباطن أي العمل والعلم.

(٢) سقطت الكلمات الموضوعة بين قوسين من ج وط.

(٣) يعني المؤيد في الدين الشيرازي داعي الدعاة في عصر الخليفة المستنصر بالله الفاطمي ، صاحب المجالس المعروفة باسمه التي كان يلقيها في دار الحكمة في القاهرة ، وتضم العلوم العرفانية الإسماعيلية ، والدعاة الذين جاءوا بعده أخذوا عنه كافة علوم الحقيقة. وما أورده المؤلف مأخوذ من المجلس الثامن والتسعين بعد الأربعمائة.

(٤) وهو ذو نسبتين : سقطت في م.

٤٦

وأوجب أن يوجد عنه اثنان ، بسبب هاتين النسبتين ، وليس ينسب إلى ذلك الحد الجليل دناءة (١) بتشريف الله له وتعظيمه بما استحقه من الفضل بسبقه ، وإنّما معنى النسبة الأشرف من النسبتين هو تسبيحه ، وتقديسه ، وتوحيده ، وتمجيده ، للمتعالي عليه سبحانه ، وهو الإضافة له إليه هذه (٢) العبادة العلمية والعملية. فالعلمية ما هجم عليه من إلهية مبدعه ، والعملية شهادته بما شهد به أول عمل مقبول بما هو أصل التوحيد والعبادة ، كما قال تعالى : (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٣) وقال : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٤). وقال : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (٥).

فهذه هي النسبة الأشرف للمبدع الأول المخصوص بالإلهية ، المصروف إليه تأييد العالم وتكوينه وتصويره (٦). ذكر الله عزوجل في محكم كتابه بتسميته له في آية واحدة بأربعة أسماء تدل على عظمته ، بقوله : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٧) الآية.

وأمّا النسبة الأدون المضافة إلى ذاته ، فذلك أنّه لمّا فكر أولا فيما قد ذكرناه ، وفطن بإلهية مبدعه فشهد بما شهد به ، واستمر بصدق نيته ، وحسن طويته ، في التقديس والتسبيح والتعظيم ، بفرح وسرور ، وجذل وحبور ، وغبطة بما حصل له من ذاته بذاته في ذاته ، بما هو عين كماله وتمامه ، وجد عنده من التأييد والبركة والنور بفعله ، خطر في باله عجبا زاده

__________________

(١) هكذا وردت في جميع النسخ وفي كتاب راحة العقل للكرماني والرسالة الدرية في معنى التوحيد.

(٢) هذه : سقطت في ج وط.

(٣) سقطت هذه الآية من ج وط. سورة ٤٣ / ٨٦.

(٤) سورة ٣٩ / ٩

(٥) سورة ٥٦ / ١٠ ، ١١.

(٦) يريد تصويره عقليا في المستفيد ليستمد من رحيقه العرفان الحقيقي السرمدي الذي ينقله من حد القوة إلى حد الفعل.

(٧) سورة ٥٩ / ٢٤.

٤٧

رفعة وشرفا من أبناء جنسه (١) ، إذ لم يفطنوا بما فطن به ، ولم يسارعوا إلى ما وقع عليه (٢) ، فعلم أنّه بذلك يشرف عليهم ، ويفضلهم مفتخرا به معجبا ، وهو ما ضربه حميد الدين في المسرّة ، فكان هذا الوهم الثاني هو النسبة الأدون ، ولم يقع عليها اسم الأدون (٣) إلّا بسبب أنها صورة حدثت مع تلك الصورة الشريفة ، ومن ذلك أن كثيرا ممن ينتحل العلم والحكمة يعتقدون أنّه سها أو غفل ، أو ادعى ، وهو يجل عن ذلك ويتكبر. بل هو وهم يزيد في شرفه ، ولكن قد اشتركا في هاتين الصورتين (٤). فهذه «هي الصورة النسبة الأدون» (٥) المنسوبة إلى ذاته.

وإنّما مثل ذلك مثل رجل حضر وقت الصلاة إلى مسجد فيه جماعة من المصلين وهو أفضلهم وأعلمهم وأقومهم ، فتوجه في صلاته ، ولم يقم أحد منهم لقيامه ، فاستمر في صلاته ، وفي توجهه وتكبيره ، وقراءته وركوعه وسجوده ، فلحقه في وهمه وضميره العجب منهم ، ومن تخلفهم عن الصلاة في وقتها ، وعن قلّة (٦) اتباعهم له ، إذ لم يقتدوا

__________________

(١) لاتصال نور التأييد به من جهة المؤيد فوقف على حقائق الموجودات.

(٢) يريد أولئك الذين لم يستجيبوا إلى دعوة الداعي لما دعاهم إلى دعوة الحق العرفانية واكتفوا بما يستخرجونه من جهة الاستدلال بالدلائل الحسية ولم تخطر ببالهم الأشياء الروحانية العقلانية.

(٣) في جميع النسخ : الدون.

(٤) يذهب الإسماعيلية إلى أن السابق هو ينبوع التأييد ومثله مثل الناطق الذي هو ينبوع التأليف يعني الذي يؤلف بين قلوب المؤمنين بما يوجده من علوم وتشاريع منبثقة من الرسالة التي كلف بتبليغها ، وهو الذي يلطف النفس ويخرجها من حد القوة إلى حد الفعل ، وبتأييد السابق صلاح الدنيا والآخرة ، وإدراك الأشياء المستغلقة. والسابق تام بالفعل من غير أن كان في القوة قبل أن ظهر بالفعل بسبحانيته وقدسانيته في إبداعه الأول تاما بالفعل ، وهو غير مكتسب قوته وشرفه من شيء آخر ، كاكتساب الطبيعيات المتصرفة بين القوة والفعل. هاتان : هاذان في ط وم.

(٥) سقطت هذه الجملة بين قوسين من ج وط.

(٦) قلة : خلة في ج.

٤٨

به ، فخالطوا ما ليس بخطإ. بل قد صارت الصورة صورتين : فصورة هي الصلاة ، وهي أشرفها ، وهي المقبولة ؛ والثانية ما خطر بباله مما ليس هو ملزم (١) به. قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (٢). فهذا هو المعنى في النسبتين ، وهو الحد الفاضل ، الكامل ، الأول ، القديم بتقدمه الأزلي بتأزله المضاف إليه الفعل فيما دونه ، ولمّا فعل في ذاته ما جل به وعلا. قال الذكر الحكيم في صفته ، وصفة تابعيه من بعده ، بما نذكره في موضعه : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣). (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٤). (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٥). (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٦). فهذه الآيات تختص به دون ما سواه.

قال سيدنا حميد الدين قس : إن الأشياء لا تزال ترتفع عن الكثرة تحليلا إلى ما منه وجدت ، الى أن تنتهي إلى واحد ثابت هو علة لجميعها ، وبه قوامها ، فيكون ذلك الواحد المتقدم الرتبة وجوده لا بذاته ، بل هو في ذاته فعل عمن لا يستحق ان يقال انه فاعل ، وهو مفعول لا من مادة ، وهو فاعل لا في

__________________

(١) ملزم : ملزوم في ط وج.

(٢) سورة : ٥ / ١٠٥.

(٣) سورة : ٥٧ / ١ ، ٢.

(٤) سورة : ٥٧ / ٣.

(٥) سورة : ٥٧ / ٤.

(٦) سورة : ٥٧ / ٥

٤٩

مادة هي غيره. وإنّما قلنا إنّه فعل في ذاته ، لكونه أول موجود ، فقد بين أنّه فعل ذاته لا من مادة ، وهو ما ذكرناه ، وفاعل لا في مادة هي غيره ، وهو ما يصور به تابعيه على ما نبيّنه في موضعه.

وقال في فصل ثان : فالموجود الأول أصل إليه ينتهي كل موجود. فقد بيّن أنّه علّة لغيره ، وأنّه تام في فعله. وكما صار الناطق وجوده ناطقا لا من جهة من كان من جنسه من البشر ، صار الموجود الأول لا عمن هو من جنسه ، فقد صرح أنّه من عالم مثل ما الناطق من جنس البشر (١).

وقال أيضا : فإن الصفات والمعاني ، تلحقه بالإضافات ، مثل الحالتين الأوليتين بهما الكمال الأول الذي به يتعلق وجود الذات التي هي الموصوف ، والكمال الثاني الذي به يتعلّق وجود شرف الذات التي هي الصفة. فالكمال الأول مثله كالحامل ، والكمال الثاني كالمحمول بيانه ، وهما من تلك الذات كالفردين اللّذين بهما وجود الواحد الذي يجمع وحدة (٢) ، وما بها صارا واحدا جمعا ، وهما فردان ؛ ذلك بأن يكون جامعا للوحدة والكثرة على نظام يبرأ من آية التغاير الموجب وجوده كون ما عنه وجوده على أمرين ، صار كل منهما لوجود كل منهما سببا ، فيصير كونه على ذلك موجبا ما يتأول عليه ، بريئا من آيات توجب رتبة وراءه ، وهو واحد بالذات ، كثير بالإضافات (٣) ، مثل كونه إبداعا إذا أضيف إلى ما عنه وجوده ، وكونه مبدعا إذا أضيف

__________________

(١) نجد المؤلف هنا يعمد إلى تطبيق نظرية المثل والممثول والظاهر والباطن معتمدا في بحثه على ما ورد في كتاب راحة العقل للكرماني في المشرع الثالث من السور الثالث فيذهب إلى أن الناطق في التنزيل أي الرسول النبي مثله مثل الموجود الأول أو العقل الأول أو السابق في عالم الابداع.

(٢) كما هو معروف عن علماء الإسماعيلية نلاحظ أن المؤلف يطبق نظرية الإسماعيلية في الاعداد فيمثل الناطق بالواحد من الأعداد وما له من خواص ليست لغيره.

(٣) لأنه هو مذ هو فرد ، وكان فيما هو فرد لامتناع وجود مثله لأنه واحد بالذات. وذاته مزدوجة بفردين.

٥٠

إلى ذاته ، من غير أن تكون هذه الإضافات داخلة على ذاته بالتغاير (١) ، والكمالان اللّذان هما له كالفردين من ذات المبدع مبدعان ، يستحق كل منهما من حظ الإبداعية ما يستحقّه الآخر ، وذلك أن الكمال الأول الذي يجري مجرى الحامل مبدع ، كما أن الكمال الثاني مبدع ، وهما من جهة الإبداع بكونهما إبداعا فردا واحدا ، ومن جهة ذات المبدع فردان بكونهما مبدعين كمالا أولا ، وكمالا ثانيا.

فهو نضر الله وجهه قد بين في هذا الفصل الكمال الأول الذي هو ذات الإبداع المشار إليه بالحياة ، والكمال الثاني هو فعله الذي تصوره من شهادته لمبدعه ، فصارت ذاته الأولة التي هي الكمال الأول حاملة ، والصورة التي هي كماله الثاني محمولة ، وهما فردان مزدوجان ، وهما من جهة كونه مبدعا فردان ، ومن جهة كونه إبداعا فردا. فقد لاح حقيقة الحامل والمحمول ، والكمال الأول والكمال الثاني. فالكمال الثاني فعله الذي حدث من ذاته بذاته في ذاته ، بغير قصد من موجده.

وبرهان (٢) ذلك أن الإنسان بحياته التي هي أصل وجوده المنمية

__________________

(١) لكونه يختص بمعنى لا يوجد في غيره لأن جميع الأشياء هي ذات المعلول الأول ، وجودها من ذات العلة التي هي هو وهو هي ، لكون المعلول في وجوده من عنصر العلة ، وهو واحد بكونه أولا في الموجودات ككون الواحد أولا في الأعداد وانما استحق أن يكون هو الواحد الأول في الموجودات وسلمت هذه المرتبة التي هي أقل القليل وأول الكثرة له بتعالي الذي وجد سبحانه وتعالى عنها. إذ لو كان تعالى يستحق هذه المرتبة وكانت له لكان الموجود عنه اثنين لا واحدا بكون ما يترتب في الوجود بعد الواحد اثنين. لذلك نقول بأنه ذات واحدة متكثرة بالنسب والإضافات.

(٢) يناقش هذه المشكلة الفيلسوف الإسماعيلي الكرماني في المشرع الثالث من السور الثالث من كتابه راحة العقل فيقول : «الكمال الأول الذي به يتعلق وجود الذات التي هي الموصوفة ، والكمال الثاني الذي به يتعلق وجود شرف الذات التي هي الصفة ، فالكمال الأول كالحامل مثاله ، والكمال الثاني كالمحمول بيانه ، وهما من تلك الذات كالفردين اللذين بهما وجود الواحد الذي

٥١

لجسمه هو الكمال الأول (١). فإذا اتصل بالعلم والحكمة ، من قبل أولياء الله الذي هو له صورة ، كان له كمالا ثانيا ، وحياة قديمة محيية لتلك الحياة الطبيعية (٢) ، فهما فردان من جهة إنّهما مخلوقان (٣) ، وفرد من جهة إنّهما قد صارا شيئا واحدا.

وكذلك سئل سيدنا حميد الدين : هل على الابداع تكليف؟ فقال : التكليف على وجهين : تكليف مطلق ، وهو تكليف الأجرام والأفلاك على جريانها. وتكليف غير مطلق ، هو عبادة البشر ، ليصير من جهله ونقصه إلى غاية الشرف ، وعبادة العقل الأول لمبدعه ، هو نفي الإلهية عن ذاته ، وإثباتها لمبدعه ، من جهة الإقرار به ، والخضوع له ، والابتهال إليه والتسبيح ، والتقديس ، لا من جهة الإدراك ، فهو قبلة القبل وميزان العدل في التوحيد ، وإمداده لما دونه دائما ، فلو انقطع لحظة ، لفسدت السموات والأرض (٤) ، ولبطل التوحيد ، وانقطع التأييد ، وعطلت الحدود ، ولصار أمر العالم إلى الفناء ، وليس للإفادة عنه عمل نوره ، وضياؤه الثواب للمؤمنين ، وناره العذاب للجاحدين.

__________________

تجمع وحدة وما بها صار واحدا جميعا وهما فردان ، ذلك بأن يكون جامعا للوحدة والكثرة على نظام يبرأ به في آية التغاير الموجب وجوده وكون ما عنه وجوده على أمرين ، لوجود كل منهما سببا فيصير كونه على ذلك موجبا ما يتأول عليه ، بريئا من آيات توجب كل منهما رتبة وراءه ، فهو واحد بالذات ، كثير بالإضافات».

(١) يعني أن الكمال الأول يحصل للإنسان من العبادة الظاهرة ، وكماله الثاني العلمي يأتي من العبادة الباطنة ، المنمية لجسمه : الميمية الحية ج وط.

(٢) يريد أن الغوص في العرفان الباطن يحيي العمل الظاهر.

(٣) بهذا الأسلوب الفلسفي يثبت ضرورة الأخذ بالعبادتين العملية والعلمية وإطاعة الإمام الذي تتجسد فيه العبادتان في حالة عدم وجود الناطق صاحب العبادة العملية ، لأنه يقوم مقامه ويحمل رتبته الروحية والدينية.

(٤) أي لو خلت الأرض من الإمام لحظة لمادت بأهلها.

٥٢

وقال أيضا : والإبداع الذي هو المبدع بكونه عين الكمال متجالل عن أن يكون ناقصا فيرجع إلى ذاته نقصانه ، أو إلى من وجد عنه ، فإذا كان متجاللا فهو دائم لا يستحيل (١).

ثم ان الإبداع الذي هو المبدع الأول لا يجوز أن يكون له مثل في الوجود بنوعيه (٢) فيكونا اثنين ، إذ ذلك يوجب انقسام ما وجد عنه بضرب من الانقسام ، حتى وجد عن كل قسم ما أوجبته نسبته.

فقد بين أنّه لا يكون ناقصا فيرجع نقصانه إلى ذاته ، ولا له مثل في الوجود ، يعني في التصور الذي تصوره ، والفعل الذي قام به وسبق إليه ، فسمي بذلك قديما ، بتقدمه على أبناء جنسه ، إلى ذلك. وأزلي الغاية بوجوب البقاء السرمد ، والحياة أبد الآبدين بتوحيده لمبدعه ، وإقراره (٣) بالالهية بلا (٤) واسطة ، ولا مادة ، ولا وحي (٥) ، ولا إفادة ، وبذلك أيضا أوجب الله تعالى لمن وحد ما وحده ذلك الحد الجليل ، ولم يشرك به ، وعرف شرف هذا الحد الجليل بحقيقة معرفته ، وتوجه به إلى من جلت قدرته ، وعرف الحدود ، ونزل كل حد في حد الأزلية والبقاء والسرمد ، وكانت نسبته إلى موجده ومصوره ، وكان في تصوره كعين ما تصوره (٦). وذلك الحد الجليل ذاته ذات أمور عشرة :

__________________

(١) ولا يتشبه به في الدوام والتسرمد والتأزل ، لأن الاستحالة ضرب من الفساد لنقصانه. المشرع الرابع من السور الثالث من راحة العقل.

(٢) بنوعيه : بالنوعية في ط.

(٣) بأنه لا يعتوره الانقسام بضرب من الضروب لا بالقول ولا بالكم لما يجب به من وجود ما يتأول عليه سبحانه وتعالى.

(٤) بلا : سقطت في ج.

(٥) كونه موصوفا بالتمام والتام عاقلا لذاته بكونه أشرف الموجودات.

(٦) كل هذه المناقشة للإثبات بأن الناطق الذي هو من عالم الدين مبدأ لدوره ، به يتعلق وجود من سواه وانه كامل ثابت على ما به أعطي كمالا يطابق ذلك في عالم الإبداع في كونه كاملا أزليا لا يستحيل عما عليه وجد ، وكونه واحدا لا يشاركه في رتبته غيره ولا يماثله في رتبته سواه.

٥٣

أولها أن يكون حقّا أولا بوجوده عن المتعالي غاية تنتهي إليها الموجودات في وجودها (١) ، يعني في تصورها ما تصوره ، وهو حق بما جرى له من ذاته ، من الفطنة الحقيقية (٢).

والثاني ، أن يكون موجودا أولا.

والثالث ، أن يكون واحدا بتوحده ، بما توحد به من التوحيد ، فاشتق له من توحيده اسم الواحدية.

والرابع ، أن يكون تاما بتمام صورته.

والخامس ، أن يكون كاملا بكماله هذا الثاني.

والسادس ، أن يكون أزليا ، بما وجب له من البقاء بفعله المقبول.

والسابع ، أن يكون عاقلا ، بما عقل به أنه مبدع مخترع (٣).

والثامن ، أن يكون عالما ، بعلمه من ذاته بذاته ، أن المبدع الحق حق لا يشبه بشيء من مخترعاته ، وأنّه يتعالى عن صفات موجوداته.

والتاسع ، أن يكون قادرا بما خصّه مبدعه من القدرة على فعل ما دونه في جميع حالاته.

والعاشر ، أن يكون حيّا ، والحياة صفته بتوحده أولا بالكمال الثاني الذي هو المحيي للعالم بأسره ، وذلك يصححه قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) (٤).

فهذا الخطاب إلى المؤمنين أحياء ، وذلك أنهم آمنوا بالله وأطاعوا رسله

__________________

(١) أي مستغنيا عن غيره ممن وجودهم به من الحدود في الدين.

(٢) الحقيقية : الحقائق في ج.

(٣) أي عقل العاقل لما يعقله لنيل الكمال وتقويم الذات ، وليس كماله في عقل شيء هو أشرف منه سواه فيضطر إلى عقله فينال كماله ، وهو عاقل لذاته وحدها ، مستغن عن الغير بما أبدعت عليه ذاته من الجلال والغناء. أنه مبدع مخترع : المبدع المخترع ج.

(٤) سورة ٨ / ٢٤.

٥٤

فكانوا بذلك مسلمين مؤمنين بالإسلام ، أي مصدقين ، فلمّا خوطبوا باجابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ما يحييهم حياة حقيقية محيية لإسلامهم ولأنفسهم ، وذلك إشارة إلى دعاء الرسول لهم إلى طاعة وصيه (١) والقبول عنه عند النص عليه. مصداق ذلك لقوله تعالى يوم النص : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (٢). فكان من أطاعه إلى ما دعا إليه ، ودل عليه ، حيّا وناطقا ، وقائما بالفعل ، وبشرا وإنسانا بالحقيقة ، وكاملا ، وتاما ، وقادرا ، وعالما ، وعاقلا ، وأزليا ، وموجودا ، وموحدا ، وحقّا. ومن تكبر وعصى وعتا ، كان بالضد من ذلك.

والنطقاء والأوصياء والأئمة هم النهاية الثانية يستحقون بصفاء جوهرهم ، وإنارة بصائر ذواتهم ، ولطف صفاتهم ، ما تستحقّه الذوات الإبداعية ، وكل حد من ذلك العالم مقابل لحد من حدود الدين ، ولهؤلاء الحدود الثلاثة كمال أول هو ظهورهم بالقامة الألفية ، والكمال الثاني قبولهم لما اتصل بهم من المواد الإلهية ، والتأييدات القدسانية.

قال سيدنا حميد الدين ق س في صفة الأول : فهو الحق وهو الحقيقة وهو الوجود الأول والموجود الأول وهو الوحدة ، وهو الواحد ، وهو الأزل وهو الأزلي ، وهو العقل الأول ، وهو المعقول الأول ، وهو العلم ، وهو العالم الأول ، وهو القدرة ، وهو القادر الأول وهو الحياة (٣) ،

__________________

(١) يريد بذلك أن الرسول الملهم عند ما أوصى بأن يقوم مقامه بخلافة المسلمين الدينية والدنيوية وصيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب تلميحا واشارة ورمزا في عدة مناسبات أو عدة بيعات لم يقبلوا ذلك ونكروا كل رمز يشير إلى صاحب الحق الشرعي ، بموجب النص من الله تعالى.

(٢) سورة ٥ / ٤.

(٣) وردت هذه الآراء في السور الثالث المشرع الخامس من راحة العقل الكرماني هكذا «فهو الحق والحقيقة ، وهو الوجود الأول ، وهو الموجود الأول ، وهو الوحدة ، وهو الواحد ،

٥٥

وهو الحي الأول ، ذات واحدة تلحقها هذه الصفات ؛ وهذا الفصل بيان ما شرحناه ، وأولناه ، وفصلناه.

وقال : ثم إن الحياة هي القابلة لما يليق بها بحسب مراتبها في الوجود في كمالاتها ؛ فإن كان وجودها وجودا أولا كالإبداع ، فكمالها الثاني تابع وجوده وجودها معا (١) ، إذ ليس يتقدم عليها شيء ، فيكون وجودها كمالا أولا ، وإحاطتها بالذي تقدم عليها كمالا ثانيا. بل ذاتها أقدم من كل قديم (٢) وهو في بهائه ، وكماله ، وجماله ، ومسرته بذاته (٣) أعظم من أن ينال بوصف ، وإنّه ممتنع إحاطته بما هو خارج عنه ، الذي عنه وجوده ، وإنّه مشتاق إلى ذلك متحير فيه ، وإنّه الاسم الأعظم ، والمسمى الأعظم.

[و] لما (٤) كانت الهيبة والبهاء والقدرة والكبرياء ، والعظمة ، والسناء ، والمجد ، والعلاء ، والبهجة والضياء ، والغبطة والمسرة ، للأشياء كلّها ، في كمالها الثاني ، وكان الكمال الثاني للأشياء إما بجواهرها ، وإمّا بأعراضها ، وكان كمال ما يكون كماله في أعراضه مثل كمال الملوك بما هو لهم في ممالكهم

__________________

ـ وهو الأزل ، وهو الأزلي ، وهو العقل الأول ، وهو المعقول الأول ، وهو العلم ، وهو العالم الأول ، وهو القدرة ، وهو القادر الأول وهو الحياة ، وهو الحي الأول ، ذات واحدة تلحقها هذه الصفات يستحق بعضها لذاته ، وبعضها بإضافته إلى غيره من غير أن تكون هناك كثرة بالذات ...» ص ١٨٩ تحقيق مصطفى غالب.

(١) انظر السور الثالث المشرع الخامس. في الأصل «وجوده وجودها وجودا معا».

(٢) أقدم من كل قديم ولازم بكونها على ذلك أن يكون كمالها الأول الذي هو في ذاتها هو كمالها الثاني الذي هو في صفاتها فلا يحتاج إلى شيء غيره فتكمل.

(٣) أي بجوهره لا بشيء هو غيره.

(٤) ورد هذا النص في راحة العقل انظر السور الثالث المشرع السادس وفيه بعض الاختلاف لذلك نورده كما وجدناه «لما كانت الهيبة والبهاء والقدرة والكبرياء والعظمة والمجد والعلاء والبهجة والضياء والغبطة والمسرة للأشياء كلها في كمالها الثاني ، وكان الكمال الثاني للأشياء إما بجواهرها ـ

٥٦

الذي هو في رجالهم وعساكرهم ، وأموالهم وزينتهم ، وجمالهم وسياستهم ، ومسرتهم وغبطتهم ، بهذه المنزلة على الغايات التي تبهر الأنفس ، وكان البهاء والمجد والمسرة والاغتباط للذي يكون كماله الثاني بجوهره أعظم من ذلك ، ولما كان المبدع الأول الذي هو الموجود الأول كماله الثاني بجوهره ، لا بشيء هو غيره ، كانت جلالته وعظمته وقدرته وكبرياؤه ومجده ، وغبطته ومسرته بذاته على حالة يقصر الوصف عنها ، وتفوق المسرات التي عندنا ، وذلك بأن الأشياء المتناهية في الشرف في دار الإبداع ، المفارقة للأجسام ، هي مجامع الغايات ، والاغتباط والمسرات. إلى قوله : ثم إن المبدع الذي هو الموجود الأول لو لم يكن علّة لوجود ما سواه لما كان للموجودات وجود.

فمراده بأنّه علّة لهم بتصويرهم وتأييده لهم ، وإمداده إياهم بكونه بذلك خالقا وباريا (١) ومصورا بالكمال الثاني لعالم الإبداع ، ولعالم الخلق جميعا بالكمالين جميعا. وبرهان ذلك قول من جلت قدرته مخاطبا لواحد من أصحاب رسول الكريم.

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ. فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) (٢).

وهذه الإشارة بالربوبية من قبل التربية إلى الرسول. وبالخلق والتعديل للصورة العلمية ، فذلك كذلك.

وقول سيدنا حميد الدين ق س (٣) : ولما كان لا عائق للمبدع الأول عن

__________________

ـ وإما بأعراضها ، وكان كمال ما يكون كماله في أعراضه مثل كمال الملوك الذي هو في رجالهم وعساكرهم وأموالهم ...»

(١) جاء قول الكرماني في المشرع السابع من السور الثالث هكذا «ثم إن الإبداع الذي هو المبدع السابق على كل شيء في كل شيء لو لم يكن علة لوجود ما سواه ، لما كان للموجودات وجود».

(٢) سورة ٨٢ / ٦ ، ٧ ، ٨.

(٣) انظر السور الثالث المشرع السابع من كتاب راحة العقل.

٥٧

الفعل بتمام قدرته لا من خارج بشيء تقدمه ، ولا من ذاته بمادة تعوقه (١) ، كان المبدع الأول الذي هو الإبداع علة لوجود الموجودات ، إلى قوله : ولما كان المبدع الأول هو الحي الأول ، ولا يكون حيّا ما لا يفعل ، كان المبدع فاعلا. وإذا كان فاعلا والفاعل علّة لوجود مفعوله ، فالمبدع الأول علّة لوجود ما سواه. فهو المحرك الأول والعلة الأولى.

وهذا الفصل قد أوضح أن له فعلا أولا استحق به ما وصفناه. وفعلا آخر فيما دونه بقوله : المحرك الأول ، وذلك بدعائه لهم. مثل الرسول لما طرقه التأييد كان فاعلا في من دونه (٢) محركا لهم بدعوته إلى توحيد الله تعالى وعبادته.

وقد أوضح سيدنا حميد الدين ق س حقيقة ذلك بقوله : فالأول محرك لجميع المتحركات إلى ما يكون فيه القيام بتسبيح خالقها (٣) ، وان الكمال الذي هو له ، هو السبب في تحريك غيره بكونه المتقدم في الحركة من ذاته بذاته إلى ما وصل إليه ، واتصل به ، فهو القديم دون غيره بذلك (٤).

كما جاء عن سيدنا حميد الدين ق س «من الزاهرة في الفصل الثاني في

__________________

(١) في راحة العقل «تعوقه كان المبدع الأول الذي هو الإبداع علة لوجود الموجودات». وبعد عدة أسطر من المناقشة يصل الكرماني في راحة العقل إلى «ثم لما كان المبدع الأول هو الحي الأول ...».

(٢) أي فيمن دونه من الأوصياء والمتمين والأئمة والحجج. والناطق فاعلا في الأنفس صور التوحيد.

(٣) لأنه الموجود الأول والمحرك الأول والعلة الأولى لا يحتاج في إصدار الافعال إلى غيره لكماله إذ فعله في ذاته ، وذاته لذاته مادة فيها يفعل. وذاته صورة بها يعمل ، وما يكون وجوده هذا الوجود فلا يحتاج إلى غيره في الفعل.

(٤) لأنه سبب لوجود جميع الموجودات في عالم الدين في دوره الذي هو أوله ، ومبدأه من وضائعه ومراسمه وحدوده.

٥٨

عين المسائل» (١) : فإذا كنت تريد بقولك إن القديم هو الله البارئ تعالى فغير مسلم لك هذا القانون ، للفساد الذي يتضمنه هذا القول ، لأن القديم من الأسماء التي يسميها العلماء المضاف ، وهو اسم واقع على شيء مقترن بشيء آخر هو متقدم عليه ، وذلك متأخر عنه ، ولولاه لما استحق أن يقال عليه قديم ، والبارئ كان ولا شيء ، وإذا كان ولا شيء فلا يستحق أن يقال عليه القديم الذي يفيد بمعنى من المعاني شيئا ينجر في الوجود معه شيء آخر فيكونا معا.

ثم إن القديم اسم ، وهو دال على شيء متقدم على شيء ، ولا يخلو هذا الشيء الذي تقدم على الأشياء إمّا أنّه هو الباري تعالى كبرياؤه عن ذلك ، أو هو غيره ، فإن كان غيره فاسم الغير المفيد من المعنى أنّه ليس بإله إطلاقه على الإله الحق من المحال ، وإن كان هو الله تعالى فبوجود أشياء هي غير الله يلزم أن من الشيء ما هو الله ، ومنه ما هو غير الله. وإذا لزم ذلك أن يتقدمها ما يجري منهما مجرى الجنس ، وكون الله تعالى المخبر عنه بأنّه متقدم على (٢) الأشياء في تعاليه عن سمة العقليات وصفة الحسيات بخلاف ما يوجبه نص الخبر ، دليل على أن الخبر الذي يؤدي أنّه قديم كذب وباطل ، وإذا كان باطلا وكذبا ، بطل أن يكون شيئا ، وإذا بطل أن يكون شيئا ، بطل أن يكون قديما ، أو محدثا. وإن أردت غير ذلك ، فنقول : إن القديم شيء ، والمحدث شيء ، والأشياء في وجودها على ضروب ثلاثة : منها ما يكون سابقا في الوجود ، فهو متقدم لا يتأخر كالعقل المقول عليه إنّه قديم (٣). ومنها ما هو متأخر في الوجود فهو متأخر لا يتقدم كالطبيعة المقول عليها إنّها محدثة. ومنها ما يكون

__________________

(١) سقطت الكلمات الموضوعة داخل قوسين من ج وط.

(٢) متقدم على : سقطت في ج وط.

(٣) يريد بقدمه أي وجوده الأزلي لوقوعه من جهة الابداع في الثاني وكونه عقلا ، وإذ كان أزليا فمحال انتقاله عما وجد عليه أولا ، والعقول في دار الطبيعة منبعثة انبعاثا ثانيا.

٥٩

تارة بالإضافة إلى ما فوقه متأخرا ، أو تارة بالإضافة إلى ما هو دونه قديما كالعقل الثاني. وتقدم هذه الأشياء وتأخرها لا تقدم زماني (١) بل في الرتبة ، وكلّها واقعة تحت اختراع الذي لا تلحقه الأوهام ، ولا تنبئ عنه الأقلام ، تعالى الله ، وتكبر عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.

وهذا الفصل بين أن اسم القدم ، واقع (٢) على هذا الأول ، لكونه موجودا وشيئا تقدمه ، فاستحق اسم القدم بتقدمه على هذا الشيء الذي تأخر عمّا تقدم إليه هذا المتقدم ، ونفى عن الله تعالى الباري اسم القدم ، إذ كان ولا شيء ، فقد أسفر معنى الكلام فيما ذكرناه.

وقال أيضا مصرحا مفصحا في بعض رسائله : فلا يقال على المتعالي ما يقال على الأمر الذي هو أول موجود عنه أنّه فاعل (٣) ، ولا أمر ولا مبدع ، بل نقول على سبيل الافهام وهو أدق ما في إمكان العقل إثباته ، من إنية غير موصوفة خارجة «عن ذاته هو فقط إذا كان لفظ هو منه دالّا على ما كان خارجا عن ذاته ولفظ هو وإن كان واقعا على المبدعات بإشارة بعضها به إلى بعض مما هو خارج عنه من أسباب وجوده أو غيره فليس» (٤) للناطق بد عند النطق من استعادته واستعماله ، فهو الذي يوجد

__________________

(١) ومن المحال حسب المفهوم العرفاني الاسماعيلي أن يتقدم الثاني في الشرف على الأول ، والذي أشار إليه المؤلف ، من صفات ما يكون متأخر الوجود الذي يحتاج في خروجه إلى الفعل ، وإلى ما هو قائم بالفعل ، فالعقل الأول عقل بالفعل ، وكذلك الثاني ، وما يتبعه مما هو مفارق للمواد من العقول ، ولا يجوز اعتقاد ما يلزم موجودا من دار الطبيعة ، ويختص بها فيما هو خارج عنها من الحدود العالية.

(٢) واقع : وانه واقع في ج وط.

(٣) في ج وط أضاف الناسخ إلى الأصل : واقعا على المبدعات بإشارة بعضها به على بعض مما هو خارج عنه من أسباب لفظة هو منه دالا على ما كان خارجا عن ذاته ولفظ هو وإن كان إثباته من انية محضة غير موصوفة خارجة عن ذاته أنه فقط إذا كان.

(٤) سقطت الأسطر الموضوعة داخل قوسين من ج وط.

٦٠