كنز الولد

ابراهيم بن الحسين الحامدي

كنز الولد

المؤلف:

ابراهيم بن الحسين الحامدي


المحقق: مصطفى غالب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٢

الحرف الثاني سببا لهذه الأرواح فصارت أظلة الدائرة مستجنة بها ، وفي الثلاثة صارت الأظلة أشباحا ، وفي الرابعة صارت صورا ، وفي الخامسة صارت أشخاصا ، وفي السادسة صارت أجناسا وهو آدم الذي هو نقطة النفس ، والنفس مركزه.

فإذا في الروحانية ما كان قدر فيها من معرفة علم الأسماء كلها ، فصار في الجسمانية مركز الأبرار النطقاء. فكان نقطة آدم الثانية نوح بعد وستة حروف من المتمين التي هي مسماة بالأيام ، وكذلك نوح عليه‌السلام مركز النقطة لإبراهيم وأبوابه ، وصارت نقطة موسى لعيسى وأبوابه ، وعيسى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجمعين. ولمحمد ولده القائم سلام الله على ذكره ، فهذا هو القرآن اللطيف أبرزه العقل إلى النفس وانتهى من العلو إلى السفل إلى حد القائم ، والقائم الحد في الارتفاع لهذه الحدود إلى العلو ، فهو المركز لمرتبة ثانية ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتلوه ، فقام مقام آدم في مرتبته ، وانتهت مرتبة آدم إلى مرتبة نوح ، ومرتبة نوح إلى مرتبة إبراهيم إلى مرتبة موسى وعيسى إلى المسيح ، والمسيح قائم في مرتبة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وانتهت مرتبته كما قد ذكرنا حتى تنتهي هذه المراتب إلى مرتبة القائم (صلوات الله عليه) (١) ، والقائم ينتهي في المرتبة السابعة إلى مرتبة سابع الحروف ، وهكذا تدور الدوائر حتى ينتهي القائم (٢) إلى النفس فتصير ذاته الجامع لما في النفس وهو الكور ، وسائر هذه أدوار ، فإذا قام القائم مقام النفس ابتدأ دور محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فتدور دورة إلى أن تنتهي أدواره إليه ، فيصير هو ذات النفس ، والنفس ذات العقل ، فلا تزال الأدوار

__________________

(١) صلوات الله عليه : عليه‌السلام في ط.

(٢) القائم : مرتبة القائم عليه‌السلام في ط.

٢٦١

تدور بمسقط الفكرة إلى أن ينتهي المستجيب الضعيف الذي قد صورته في الدائرة.

فهذه الأكوار والأدوار لا تحصى ولا تعد ، وتجمعها الدائرة العظمى وشرف ما فيها يقتضي معانيها. وهذا فصل يلوح فيه بأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بقربه إلى القائم أول الأعضاء الشريفة ، وأهل دائرته ، وإن آدم آخرها كان أولا في ابتداء الستر وضعفه ، ويشير أيضا بأن القائم صلوات الله عليه إذ قد صار في مرتبة العاشر وخلفه ، وتولى الفعل في عالم الطبيعة بدأت العناية بتحريك أجسام دور محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتكرار إلى إعادة ما عاد منها إلى القامة الألفية واستخلاصها شيئا بعد شيء ما صفا منها ولطف ، وهي تنتقل إلى حدود دور الكشف إلى أن يكون قائمهم لسبعة آلاف سنة من خمسين ألف التي هي دور الكشف.

والسبعة الثانية لأهل دور عيسى والدور الثالث لأهل دور موسى ، فتلك سبعة في ستة ـ اثنين وأربعين. والدور الرابع لأهل دور إبراهيم ، والخامس لأهل دور نوح ، والدور السادس لأهل دور آدم ، فتلك سبعة في ستة ـ اثنين وأربعين ألف سنة ، والسبعة السابعة وفاء الخمسين ألف ابتداء أجساده أول أهل الكشف. وقام دور الستر لاستخراج من كان في دور الكشف ما بين العزة واليقين ، والصحيح والسقيم ، فيمتحنون بالستر.

هذا القول متوجه إلى الأجسام دون اللطائف ، إذ اللطائف قد صعدت ؛ قال الشيخ أبو يعقوب : وإذ قد انتهينا إلى هذه الفصول من المعاني المشتملة على الأمور الخفية والمراتب السنية بما يقتضي حكم الحروف العلوية السبعة والحدود الجسمانية مراكز الأدوار والدوائر الجامعة لها. فإنّا نذكر الآن من مرتبة العلم المصون ، والكتاب المخزون المسطور ، أنّه إذا اتصلت النقطة الأخيرة بالنقطة الأولة من الدائرة سكنت المتحركات من أن تحرك الساكنات ، ونفخ

٢٦٢

في الصور وقام الولد التام مهيئ لقبول آثار الملكوت ، وانصب إليه التأييد المصون والكتاب المخصوص به الذي لم يتحد بأحد من النطقاء والأسس عليهم‌السلام ، وصار الولد التام قطب الفلك الروحاني ومركز الدوائر لنشوء الخلق الجديد الأخير الذي نطق به الكتاب في قوله تعالى : (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) (١). إذ هو نهاية العلم ، وقام صاحب نهاية العلم مهيئ لقبول آثاره ، وصار صاحب أول نقطة الدائرة العظمى ، واغتذت الصورة الروحانية منها الغذاء الأبدي ، وتكررت بالتأييد الملكوت النوراني البارق الذي ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، وله فوائد من الوحدة والأصلين ، فنمت بغذائهما من التأييد الأبدي أكثر نموا من الأجسام ، ولا تزال تدور تلك الدوائر حتى تخرج الصور الروحانية من القوة إلى حد الفعل.

فقد بين في هذا الفصل أن قائم دور الستر هو القائم الذي ذكرناه بما وصفناه بأنّه قائم دور العمل ، وكذلك تدور بقيامه في الكشف مراتب النطقاء الستة سبعة آلاف بعد سبعة إلى أن يقوم العلم بالقوة ، كما قال سيدنا حميد الدين قدس الله سرّه :

لا يزال العلم بالفعل ما دامت السموات والأرض ولا تزال تنحل عنهم على مضي الأيام المعالم الدينية إلى أن لا يبقى شيء ، فيرجع العلم إلى القوة بقلة أهله ، ويظهر الجهل بكثرة أهله ، ويظلم العالم بوحشة الجهل كما قال تعالى : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) (٢) إلى قوله : (وَغَسَّاقاً) (٣). ثم يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد على ما تقتضيه حكمته. فذلك كذلك كما قد ذكرنا ، فدور الستر يكون بعد هذا الجهل القائم بالفعل ، وتقع المحنة والاستتار ، ولله

__________________

(١) سورة : ٢٩ / ٢٠.

(٢) سورة : ٧٨ / ٢٣.

(٣) سورة : ٧٨ / ٢٥.

٢٦٣

غيب السموات والأرض وإليه ترجع الأمور.

وقال أيضا الشيخ الأجل السجستاني نضر الله وجهه : وإن آدم أول الدنيا والقائم هو بشارة الآخرة ، وإن له شرفا مع النطقاء في الدنيا ، وذلك أن أتماءه وخليفته في دار الدنيا. فآدم للقائم عليه‌السلام سلالة للخلق الآخر والصورة الروحانية من المؤمنين مقام الأغذية اللطيفة للسلالة ، وإن الذين فارقوا أوليتهم وقوالبهم في دور نوح عليه‌السلام أقاموا النوح مقام الأغذية اللطيفة للنطفة ، وإن أرواح المؤمنين الذين فارقوا قوالبهم في دار إبراهيم عليه‌السلام أقاموا الإبراهيم مقام الأغذية اللطيفة للعلقة ، وإن الذين فارقوا أجسادهم في دور موسى عليه‌السلام أقاموا الموسى مقام الأغذية اللطيفة للمضغة ، وإن الذين فارقوا أشخاصهم في دور عيسى عليه‌السلام أقاموا العيسى مع الذين فارقوا قوالبهم في الأدوار المتقدمة للنفخة الأولى من دور محمد صلوات الله عليه وآله وسلّم حتى وصلوا بذلك إلى صورة الملائكة في دور القائم صلوات الله عليه ، فقام عيسى عليه‌السلام آخر قائم من ولد إسحاق عليه‌السلام ، كما أن القائم من ولد إسماعيل عليه‌السلام ، وإن الثواب لا يكون إلّا بنفختين ، نفخة الصعق وهو الموت ، ونفخ القيام وهو الحياة الأبدية. فقامت النفخة التي للمسيح مقام النفخة الأولى ، ثم التي للقائم ، ولم يبق غير اجتماعهم جميعا في الآخرة وهو قوله تعالى :

(ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (١). وقوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) (٢). وقوله : (إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (٣). وقوله : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٤). فهذا ما جاء عن الشخصين السيدين نضر الله وجهيهما.

__________________

(١) سورة ٣٩ / ٦٨.

(٢) سورة : ٦٤ / ٩.

(٣) سورة ٥٦ / ٤٩ ، ٥٠.

(٤) سورة : ٨٣ / ٦.

٢٦٤

ونحن اليوم نأتي بما جاء عن سيدنا المؤيد نضر الله وجهه ورزقنا شفاعته في صحة ما تقدم به الكلام وبيانه ، ولم نأت بكلام كل حد وتكرار فصولهم إلّا استشهادا على ما أوضحناه ، وسيدنا المؤيد أقرب الحدود إلينا وهو لا يأتي إلّا بتصحيح ما جاء به الحدود وإلغاء ما كان فيه شبهة أو فساد ، لأن الآخر ينسخ ما جاء به الأول بإيضاح الرموز ، وهو حجّة رابع الأشهاد ذي القوة في العلم والتأييد والحكمة والتسديد المنصوص عليه باسم الحجية ، كما قال مولاه :

يا حجة مشهورة (١) في الورى

وطود علم أعجز المرتقي

إلى قوله في جملته :

شيعتنا قد عدموا رشدهم

في الغرب يا صاح وفي المشرق

فانشر لهم ما شئت من علمنا

وكن لهم كالوالد المشفق

مثلك لا يوجد فيمن مضى

في قادم الدهر ولا من بقي

إن كنت في دولتنا آخرا

فأنت قد جزت مدى السبق (٢)

فهذه شهادة من لا ترد شهادته ، وأمر من لا يرد أمره ، وتفويضه له

__________________

(١) مشهورة : ما مثلها في ط.

(٢) قيل إن داعي الدعاة المؤيد في الدين الشيرازي قد منع من مقابلة إمامه «المستنصر بالله» بالرغم من إلحاحه في طلب المثول بين يديه فكتب له شعرا يشكو فيه حاله قال :

أقسم لو أنك توجتني

بتاج كسرى ملك المشرق

ونلتني كل أمور الورى

من قد مضى ومن قد بقي

وقلت أن لا نلتقي ساعة

أجبت يا مولاي أن نلتقي

لأن إبعادك لي ساعة

شيب فوديّ مع المفرق

فأجابه عليها بخطه بالأبيات المذكورة في المتن أعلاه ، ولكن المؤلف أسقط البيتين التاليين :

ما غلقت دونك أبوابنا

إلا لأمر مؤلم مقلق

خفنا على قلبك من سمعه

فصدنا صدّ أب مشفق

٢٦٥

في نشر ما أحب أن ينشره من العلم بلا حصر وقصر لعلمه بما عنده من الحق ، فقال مقدم الذكر :

إن حد النفس التي هي في مرتبة الخلقة بالدرجة الثانية والعقل في الدرجة الأولة ، وكلاهما علتهما علة واحدة ، وهي وحدة الباري سبحانه وحاجتها إلى العقل الأول للاستفادة ، تستمد منه لحاجتها إليه ، والعقل مستغن عن الاستفادة منها لتمامه وكماله. فما دامت النفس في حد القوة لم تبلغ مبلغ العقل ، وإن اجتهادها واستفادتها من علتها واستنارتها وإفادتها من دونها إلى أن تبلغ منزلة العقل لتخرج من حد القوة إلى حد الفعل ، وذلك لظهور ما هو فيها بالقوة ليخرج إلى الفعل في آخر الزمان. وذلك إنها تنظر ما تنظر خارجا منها ، ولا تنظر ما هو فيها إلى حال بلوغها إلى حد الكمال والتمام ، ولو لا أن النفس كانت ناقصة عن العقل ما كانت تحتاج إلى تكوين هذا العالم ، لكن لما كان هذا التقدير من الله عزوجل أن لا يشبهه أحد من خلقه وجب أن يكون المخلوق زوجا ، ولما صار زوجا كان أحدهما دون الآخر.

فالعقل أفضل من النفس لحاجتها إليه لتبلغ بذلك مبلغ كمالها وغاية آمالها وتجاوز من حد القوة إلى حد الفعل ، وتلحق بمنزلة العقل ، لأن الناقص أبدا يطلب درجة الكمال ، فلما نظرت نظر الحقيقة قد علمت أنها تحت النقصان ، وما يتم لها ما تريد من حد الكمال حتى تقيم من يقوم مقامها وينوب منابها ، ومحمل أثقالها مكان (١) النفس لأنها لما نظرت إلى العقل واستنارت منه ، واستفادت ما تحتاج إليه ، تولدت منها الصورة الجزئية (٢) ، واضطربت لتخرج بالعمل من حد القوة إلى حد الفعل ، وكل ما كان تحت العمل فهو ناقص يعمل عمله ، ويجتهد جهده حتى ينتهي إلى مراده ومحبوبه وإرادته وكماله ، ويقيم آلاته ،

__________________

(١) مكان : كان في ط.

(٢) الجزئية : الجزية في ط.

٢٦٦

ويرتب تراتيبه ليبلغ بها الغرض. وإن النفس لما تحركت الحركة الكلية بمعونة علتها (١) وتقدير من الله ، ظهرت منها الهيولى والصورة والحركة والسكون سببا لنهاية هذا العالم من الطبائع الأربع ، والسموات ، والأرض ، والبرزخ ، والنجوم ، والشمس ، والقمر ، وغير ذلك سببا لتمامها وبلوغ كمالها وخلاصها عن العمل لتبلغ حد العقل الأول وتلحق بمرتبته لأنها تصير مثله وتستريح من العمل ، وتصير في حظيرة القدس لا عمل ، ولا نصب ، ولا تعب ، ولا استمالة ، ولا نقلة من حالة إلى حالة. فأقامت جميع ذلك بأمر الله سبحانه وبمادة علتها ، والفوائد الإلهية وتقدير الأزلية ، والاستفادة الروحانية الأبدية ، بمساعدة علتها التي هي العقل. ولو لا كانت النفس بالقوة دون الفعل لما احتاجت إلى تركيب وانتقال من حال إلى حال حتى تبلغ حد العقل ليصيرها مثله.

وكذلك فعل النفس مع الأنبياء والرسل ، أمدتهم لتخرجهم من حد القوّة إلى حد الفعل بمعونة علتها مثلها وتتخلص هي من العمل ، ذلك تقدير العزيز العليم ، فأول الجسماني يكون فيها قدر (٢) ضعف ، ثم يقوى شيئا بعد شيء إلى حد الكمال.

وقال أيضا : وكذلك نسب القائم (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (٣) أنه الولد التام حيث يقوم في آخر الزمان مقام النفس ويحمل أثقالها ، ويتصور بصورتها ، ويحمل ما تورده عليه بغير واسطة ، وذلك من قوته ، وتدور عليه الرتب السبعة العلمية الروحانية الدينية لأنّه يستوفي جميع القول ممّن تقدمه من الرسل والأنبياء والأوصياء والأئمة صلى الله عليهم أجمعين.

وقال أيضا : وإن النفس لما علمت وصح في ذاتها أنها لا تبلغ من حد

__________________

(١) علتها : عليها في ط.

(٢) فيها قدر : سقطت في ط.

(٣) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في ط : صلوات الله عليه في ط.

٢٦٧

القوة إلى حد الفعل التي هي المنى والنهاية إلّا بمن يقوم مقامها وينوب منابها ويحمل أثقالها. احتاجت أن تقيم أبا وأما دينيا روحانيا وجسمانيا ليفتتح بينهما الولد التام من حد القوة إلى حد الفعل ففعلت ذلك ورتبت المراتب الروحانية والجسمانية على خير نظام لإخراج الولد التام الذي يقوم مقامها ويحمل أثقالها ، وتستغني هي عمّا كانت عليه العمل والنقص ، وتلحق بمرتبة الأول الذي هو العقل بإفادتها منه ومعونة علتها التي هي وحدة الباري سبحانه ، فنطق النفس هم النطقاء عليهم‌السلام ، والولد التام هو صاحب الرتبة العالية والمرتبة السنية وهو قائم القيامة ، ويدل عليه قول الله سبحانه : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١).

وهذه الآية لها ظاهر صحيح مشاهد مرئي لا نحتاج إلى إيراده وشرحه لشهرته في ظاهر الحال. فأمّا بيان الآية وتأويلها فنحن نبين ذلك إلى أهله ومستحقّه والحمد لله ربّ العالمين :

وفي تأويلها وجوه كثيرة ، فأمّا في هذا الوجه فهي تدل على مراتب النطقاء السبعة أولهم آدم عليه‌السلام مثله مثل السلالة لأنّه كان ابتداؤه ضعيفا ، ونوح مثله مثل النطفة ، وإبراهيم مثله مثل العلقة ، وموسى مثله مثل المضغة ، وعيسى مثله مثل العظام ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثله مثل اللحم ، والقائم مثله مثل إنشاء خلق آخر ، فتبارك الله أحسن الخالقين على إتقان الروحانيين والجسمانيين بأمره ووحيه وكلمته. فدل ذلك أن الولد التام في الحقيقة هو صاحب القيامة ، لأن الله سبحانه قد بين بقوله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) غيرهم ، لأنّه قد خرج من حد القوة إلى حد الفعل ، ومن تقدمه من

__________________

(١) سورة : ٢٣ / ١٢ ، ١٣ ، ١٤.

٢٦٨

النطقاء هم بالقوة إلى أن يدور عليهم ما دار عليه من المراتب مع النفس الكلية وبذلك كملت فيه جميع القوى التي كانت لمن تقدمه ، وهو أصل الخلقة الروحانية (١) وعلة الخلقة الجسمانية بواسطة الحدود الروحانية الذين مثلهم مثل الكواكب الذين بهم تتم خلقة المولود في بطن أمه بتأثير الكواكب السبعة والطبائع والبرزخ ، فإذا وقفت النطفة في المعدن والقرار المكين تدور بها الكواكب السبعة وكل كوكب ينقلها من حال إلى حال حتى تتم خلقتها (٢) ، ومثل ذلك في ترتيب الدين الروحاني والجسماني. أي (٣) السبعة الحدود يتحد كل واحد بناطق من النطقاء بمادة إلهية ، ويصل إليه من المادة والقوة على قدر حاله ومنزلته واحتماله حتى يكمل في حده كذلك إلى آخرهم حتى يجتمع جميع ذلك كلّه في قائم القيامة على ذكره السلام ويصير في حد الكمال والتمام ، فمن ذلك إنا قلنا إنّه الولد التام ، فإذا ظهر القائم في هذا العالم عند تمام الأسابيع والأئمة بجسده ويراه جميع الخلق بعد إنذار حجته التي تقوم قبله ، وهي التي قال الله تعالى سبحانه (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (٤) وهو صاحب الجزاء إن خيرا فخير ، أو شرا فشر ، وهي بداية دور آخر يمده حدان عظيمان لم يمدا من قد مضى من النطقاء وحدودهم.

فالقائم منه السلام (٥) وعلو درجته بأن النطقاء هم أجزاء لنفس الكل ، ولا بد للجزء أن يصير يوما كاملا فلآدم جزء من النفس ، ولنوح عليه‌السلام جزءان ، ولإبراهيم عليه‌السلام ثلاثة ، ولموسى عليه‌السلام أربعة ، ولعيسى عليه‌السلام خمسة ، ولمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستة ، وللقائم علينا سلامه سبعة أجزاء. فإذا اجتمعت فيه الأنوار السبعة التي قلنا إنها أجزاء صار

__________________

(١) الخلقة الروحانية : الخلق الروحاني في ط.

(٢) خلقتها : خالته في ط.

(٣) أي : سقطت في ط.

(٤) سورة : ٩٧ / ٣.

(٥) منه السلام : ع. م في ط.

٢٦٩

بمنزلة النفس وقابلها وأخذ منها بغير واسطة ووصلت إليه المادة من الأول بتوسط العلة فقام مقام النفس وارتقت النفس إلى حد العقل ، وهي درجة سدرة المنتهى التي عندها جنة المأوى ، وأيضا إذا انتقل القائم على ذكره السلام من هذا العالم إلى العالم الروحاني بعد استقرار ما قرره وتدبير ما تدبره ، أمر ونهى من أمور ما يحتاج إليه كيف يشاء. لأن كوره طويل وليس إلى صفته سبيل ، ولا يجوز أن نذكر ما كان بعده إلا رمزا أو إشارة دون التصريح ، وفي هذا المقدار كفاية لمن عنده علم من الكتاب.

فإذا انتقل إلى العالم الروحاني يكون كلّا لمن دونه ، وتلحق النفس كما ذكرنا بمنزلة الأولى. وقد ذكرنا أن علم الأنبياء جزء من علمه ، فإذا كملت الأجزاء كلها صار حده عظيما لا يوصف عظمة وعلو شأن ، فمن أجل ذلك قلنا إنّه الولد التام.

وقال أيضا : اعلم أن جميع المعلومات من اللطيف والكثيف المخلوقين هما جميعا بجملتهما في العقل لا يغرب عنه شيء من الأشياء من دقيق وجليل ولطيف وكثيف. ثم يكون في أفق النفس وأحاطت به بما أفاض عليها العقل من ضيائه وأنواره ، ومنها ما هو غائب وما هو محجوب عنها ، وهي أعني النفس تستفيد من العقل ما هو محجوب عنها من المعلومات ليصير عندها معلوما ، والعقل يفيدها ليخرجها من حد القوة إلى حد الفعل. وإن النفس تفيد دونها على التدريج شيئا بعد شيء. وكذلك سائر الحدود الروحاني والجسماني يستفيد بعضهم من بعض حتى يستقر ذلك كلّه في صاحب التمام والكمال الذي هو صاحب دور الجزاء ، ويكون شأنه بالفعل ليقوم مقام النفس في دار الآخرة.

وتتخلص النفس من الإفادة والاستفادة ، وتلحق بحظيرة القدس. فإن اجتهاد الحدود كلها أن يقيم كل واحد منهم من يقيم مقامه وفي ذلك تمام أمرهم وخلاصهم وبهذا جرت الأمور في الابتداء وكذلك يكون في الانتهاء

٢٧٠

لتكون الفردانية لله سبحانه. وإن مرتبة علم التوحيد بخلاف سائر المعلومات من اللطيف والكثيف.

وقال أيضا : العقل تام (١) بالفعل ، والنفس تامة بالقوة دون الفعل ، فلا بد لها أن تجتهد وتعمل حتى تقيم مقامها واحدا وهو الولد التام الذي هو قائم القيامة في آخر الزمان الذي تدور عليه الرتب السبع الروحانية وينال درجات النطقاء الستة وأوصيائهم والأئمة في كل دور ، فإذا كمل ذلك قام في هذا الدور بما لم يقم به أحد غيره ، ويظهر من المعجزات ما لم يظهر غيره ممن مضى من الأنبياء والرسل ، ويتصل بالمادة الروحانية من العقل والنفس إذا انتقل من هذا العالم قام في عالم الفعل مقام النفس ، وتتخلص من العمل ويصير له درجة عالية ويكمل بالفعل ولا يحتاج إلى من يفيده ، ويكون هو يبصر غيره ممن هو دونه بأمر الباري سبحانه.

هذه الفصول التي شرحناها ولخصناها من أوضاع الحدود المنتجبين المرضيين ، وإجماعهم على ما ذكرناه وبيناه في انتقال الصور الدينية إلى المراتب الثلاث التي هي : رتبة (٢) النطقاء ، والأوصياء ، والأئمة صلوات الله عليهم على مرور الزمان وتقاطرها واحدا بعد واحد ولها مجمع لتمام الأجزاء وكمالها ، وكذلك انتقال النطقاء والأوصياء والأئمة بذواتهم وبمن في أفق كل واحد منهم إلى المجمع الأعلى البرزخ الأكبر المسمى بالعاشر بلسان الحكماء ونفس الكل بلسان التأويل ، ووقوفها فيه إلى قيام القائم وحضور القيامة وحضور الأولين والآخرين لديه ، وورودهم عليه وكمالهم به ، وظهوره بتمام عدتهم ، ووفاء مدتهم ، وانتقاله إلى مركز مدبر عالم الطبيعة. وبارتفاعه إلى دائرتها ترتفع هي إلى الرتبة العالية عليها وتصير تعمل بالمادة الإلهية فيه وتستريح هي عن تدبير

__________________

(١) تام : قائم في ج.

(٢) رتبة : سقطت في ط.

٢٧١

عالم الطبيعة بكونه قد قام مقامها وناب منابها فيما كانت تدبره وتفعله فذلك كذلك ؛ (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) (١).

وقد اختصرنا من أوضاع الدعاة أكثر ، ولقطنا ما أمكن ، برهانا وبيانا لما شرحناه ، واكتفينا به خيفة التطويل ، وإن بعض هذا القول كاف لمن كان (٢) له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، لمن عنده أصول. ولم يبق لنا إلّا زيادة فصول في معاد النفس إلى

الحدود ودوام ذلك لا انقطاع له ، ولا نفاد ، لأنّه حرث دار الآخرة ، والنسل الروحاني الأزلي بما أمكن من قول الحدود أيضا إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) سورة : ٢ / ١٣٨.

(٢) لمن كان : سقطت في ط.

٢٧٢

الباب الثّالث عشر

«في القول على اتصال صورة المستفيد بالمفيد وارتقائه إليه تلخيصا

يزيد فيما تقدم من القول صحة وبيانا إن شاء الله تعالى»

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الله سبحانه أسس دينه على مثال خلقه ، وخلقه على مثال دينه ، ليستدل بخلقه على دينه ، وبدينه على وحدانيته.

وقال العالم عليه‌السلام : نظرنا وعلمنا فأثبتنا ما نظرنا بما علمنا. وتدبرت الحكماء ما أدركته من الصنعة العجيبة والحكمة الغريبة في عالم الطبيعة ، فوجدوها على قسمين : عالم الأفلاك ، وما يحوي عليه من البروج والكواكب المدبرات وبقائها على الحركة المشتملة على القدرة ، وهي مؤثرة فاعلة فيما دونها من عالم الكون والفساد التي هي القسم الثاني القابل للتأثير والتدبير.

وكان عالم الكون والفساد أيضا ينقسم إلى قسمين : الأمهات ، وهي تستحيل كبرياتها ؛ والمواليد الثلاثة ، وهي تستحيل بكلياتها ؛ والأملاك (١) السبعة والبروج الاثنا عشر بمناظراتها ومجاسداتها ، وبحكم سعودها ونحوسها تنشئ ذلك وتلاشيه. فأول فعلها في فلك النار (٢) فإنها تجتذب من الأرض وتستخرج حرا ويبسا للطافته ، فيتصاعد إلى فلك النار ، ويكثر في ذلك الركن ، فينحل منه جزء ، ويعود مما صعد عوضه ، وينحدر المنحل إلى فلك الهواء ، وفي انحداره

__________________

(١) الأملاك : الأفلاك في ج.

(٢) النار : سقطت في ج.

٢٧٣

تصير الرطوبة عليه أغلب ، فيكون في ركن الهواء ، وينحل منه مثله ، وينحدر ويبعد عن حركة الفلك من ركن النار ، ومن ركنه ، فتغلب (١) عليه البرودة والرطوبة ، فيكون ماء فيختلط بالأرض ويمتزج ، فيتصعد منه الدخان من الأرض وبخار وهو من البحار.

ثم يتصاعد في أوقات أنواء الأمطار فيمتزج ، فيسمى مزاجا. وهو مزدوج دخان الأرض ، حارا يابسا لطيفا ، وبخار البحار باردا رطبا ، ثم ينشأ منه السحاب ، ويتموج بعضه إلى جميع الجهات ، ومن أرض إلى أخرى ، من البحر ، ومن البر إلى البحر.

ثم يكون أقواها الحر واليبس ، فيصيران يعملان في البرد والرطوبة وتكثر أجزاؤهما (٢) ، ويقوى ، فيكون الرعد من تصاعد البرودة والرطوبة ، والبرق من الحرارة واليبوسة ، وينعصر انعصارا كليا بقوة الحر واليبس ، وينحل من البرودة واليبس وإذابته بالنار الحادثة فيه من البرق إلى طبعه ، فتكون (٣) الأمطار حارة يابسة على سبيل ماء الذكر على ما قدمنا ذكره ، ويسقي الأرض ويمتزج بماء الأنهار التي هي باردة رطبة مثال ماء الأنثى.

ثم تسيل أودية بقدرها ويأخذ كل شيء منه بحظه في البر والبحر ممّا يسال إلى البحار لم يختلط بشيء منه ، بل يعلو عليه كعلو الدهن على الماء وذلك لعذوبته وخفته ، فيتلقاه صيد البحر فيشربه فيسمن عليه ، ويكون الدر (٤) منه ، وكذلك المعادن تأخذ منه كل شيء بحظه وتغتذي به الأشجار والأثمار ، وتتخمر المنابت وذلك خاصته في دخول أول وهو حلول الشمس بيت شرفه الذي هو شرفه الحمل ، وتبتدئ الفواكه والبذور بالخروج (٥) وتتكون وتتدرج

__________________

(١) فتغلب : فيغلب في ط.

(٢) وتكثر أجزاؤها : ويكثر جزؤهما في ط.

(٣) فتكون : فيكون في ط.

(٤) الدر : الدور في ط.

(٥) بالخروج : الخراج في ط.

٢٧٤

من حالة إلى حالة ، ومن رتبة إلى رتبة ، أولها بالعفوصة وبعد ذلك بالحموضة ، وبعده بالامتزاج ، وتنتهي إلى الحلاوة ، ويكون ابتداء طينها إذا قد حلت السرطان وقد قطعت أربعة بروج ، ونهاية (١) حلولها الميزان الذي هو السابع فيغتذي الحيوان وينمو ويتفكّه الإنسان ويتنعم ، ويكون سبيل الأرض في هذا المقدار سبيل مائدة قد جمع فيها الأطعمة الهنية ، والفواكه السنية ، وكلّ ينال منها بقدر حظّه واستحقاقه ويكون نهاية ذلك كله صعود الحياة الهيولانية من هذه القوى إلى القامة الألفية الذي هو الكمال الأول الذي جميع هذا الدولاب هيئ له وبسببه والعناية الطبيعية واقفة عنده ، إذ هو حد صنعتها.

فلمّا كان ذلك كذلك علم الحكماء العلماء أن لله سبحانه أفلاك دين لإخراج هذه الصنعة العجيبة من حد العدم إلى الوجود ، ومن الكمال الثاني. وقد أوجب الله تعالى وعم جميع الخلق بالنقصان بالآية المشهورة : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) (٢) ، فدل ذلك بأن لا عذر من معلم ومتعلم. وقال الله تعالى : (يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) (٣) فدل على الوسائط بينه وبين خلقه ، وإلّا وقع الجور فكان الرسل من الملائكة هم «الذين يعملون الرسل الذين من الناس الذين هم الأنبياء» (٤).

ووجبت الطاعات والمثلات : طاعة الله وطاعة رسوله ، وطاعة أولي الأمر. فذلك في الروحانية جار كما الحال جار في عالم الطبيعة والحال كالحال إذا وقع الظهور ، والعلوم متزايدة فذلك يقابل صلاح عالم الطبيعة ، وإذا وقع الاستتار والانكتام فذلك يقابل الجدب والقحط.

فعالم الدين لا ينقطع أبدا على سبيل أمور الطبيعة سواء بسواء ، ولا عذر

__________________

(١) ونهاية : ونهايته في ج.

(٢) سورة : ١٦ / ٧٨.

(٣) سورة : ٢٢ / ٧٥.

(٤) سقطت الكلمات الموضوعة داخل قوسين من ج.

٢٧٥

من الإمامة إما ظاهر جلي وإما باطن خفي. فإذا غاب الإمام ووجد من حدود الدين : المأذون المحصور ، والمأذون المطلق ، والداعي المطلق ، فالإمام موجود بوجود هؤلاء الحدود الثلاثة. وإذا عدمت هذه الثلاثة عدم الإمام فذلك كذلك.

ففي عالم الروحاني (١) سبعة أملاك لإنشاء المواليد واثنا عشر ، وفي عالم الدين سبعة أملاك هم النطقاء السبعة والأوصياء السبعة ، والأتماء السبعة والاثنا عشر حجّة في كل جزيرة لكل قائم ، هذه تقابل تلك لإنشاء المواليد الروحانية ، وتلك مقابلة لهذه لإنشاء المواليد الطبيعية ، وكل عالم شاهد لممثوله بصحته ودوامه وبقائه ، فذلك كذلك ؛ فمن طلعت به همته ، وسمت به نيته في الاتصال بأفلاك الدين وسعى في الطلب ، وجد (٢) في التعب وحصل له الكمال الثاني كان من أهل عليين ومن ورثة جنة النعيم ، ومن شغلته الأمور الطبيعية واستلذ بالأمور الحسية لم يفارق عالم الهيولى على قدر استحقاقه.

قال سيدنا حميد الدين نضر الله وجهه ورزقنا شفاعته بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى : ولما كانت النفس شرفها في نيل كمالها الثاني لما يرد على ذاتها عند التصور من الصور الإلهية التي هي الإحاطة بما سبق عليها في الوجود من أعيان العقول الإبداعية والانبعاثية لتصير في ذلك إلى الحد الذي تقوم به وبما تصورته عقلا كعين المتصور لا فرق ، إلى قوله : فليستبشر بإشراق جوهره وإنارة لبه ، ومصيره صورة واحدة قد شاعت فيها الفضائل فعلقتها تشبيها بها إلى المبادي الأبدية تشبيها فتصبح عند المفارقة عقلا محضا تسبح في فسحة لا تضيق وتطير مع الملائكة المقربين في أرض دار الإبداع عند استتمام وعد المتبوع للأتباع ، وتحصل في روضة ترتع في زهرها (٣) ، وجنة تتنعم في فنائها ،

__________________

(١) عالم الروحاني : سقطت في ط.

(٢) وجد : واحد في ط.

(٣) زهرها : نهرها في ج.

٢٧٦

وحياة أبدية وسعادة سرمدية وأنوار قدسانية ، ونعم بالإضافة «إلى النعم الطبيعية كالنعم الطبيعية التي تلتذ بها النفس الحسية بالإضافة» (١) إلى ما يكون غذاء في أرحام الأمهات للنفس النامية مثلا بمثل ، بل ذلك أعلى وأشرف وأسنى وألطف ، ذلك بما أسلف في الأيام الخالية ، وتزود من التقوى بالآلة البالية. ثم يستبشر بما يقدم عليه من الطيبات والنعم والبركة ، مدينة مبنية هي مأوى من تقدمه من أمثال المتخلصين (٢) السالكين طريق الديانة المتخصصين (٣) ، بناها الأنبياء والأوصياء والأئمة الأبرار في ماضي الأعصار ، من أنفسهم بأنفسهم وتابعيهم أولي الأيدي والأبصار ، لها سبعة أبواب ، كل باب أبواب منه تنتهي إلى قصر من نور له ساحة عظيمة فيها عين جارية ، فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ، ونمارق مصفوفة ، وزرابي مبثوثة يشتمل على بستان محفوف بالنخل والرمان والأعناب محتو على ما خلقه الله تعالى من الثمار الإلهية ، والملاذ السرمدية ، فيه غرف «من فوقها غرف» (٤) مبنية من أنوار القدس ، فيها وعليها قرار الأنفس ، في كل غرفة اثنا عشر مجلسا في كل مجلس من الملائكة الانبعاثية ما لا يحصى ، ومن النعم والخيرات وألحان الملائكة وأنغامهم الطيبة الحسنة بالتقديس والتهليل ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ويشرقها شمس دار الإبداع وقمر الانبعاث. ويستبشر بما يصادفه هناك من استبشار الملائكة المقربين (٥) والأنفس المتخلصة من عالم الطبيعة بوفوده عليهم ، ومسرتهم بوروده إليهم.

ثم يكون من جذله بما يرد عليه وعليهم فيما بعد من وفد عالم الانبعاث

__________________

(١) سقطت الكلمات الموضوعة داخل قوسين من ج.

(٢) المتخلصين : المتخلطين في ط.

(٣) المتخصصين : المختصين في ج.

(٤) من فوقها غرف : سقطت في ج.

(٥) المقربين : سقطت في ج.

٢٧٧

الثاني وما يسعد به من جوار (١) الباري والأنبياء ، ومجاورة الأوصياء ، ومصاحبة الأئمة الأبرار ، ومزاوجة الحور العين والأنوار ، أبد الآبدين ودهر الداهرين ، فيكون مثاله في صورته مع تلك الأشياء التي وفد عليها كمن شاهد محبوبه ونال مناه ، وأصاب معشوقه ، يهتز فرحا وسرورا وجذلا وحبورا.

فهذا فصل من قوله ينتظم الوجهين اللذين هما الجنة الدانية التي هي عالم الدعوة ، والجنة العالية التي هي (٢) انتقال الأنبياء والأوصياء والأئمة إلى المجمع الأعلى ، فأما الجنة الدانية التي هي حدود الدعوة ، فالدعوة هي المدينة التي بناها الأنبياء والأوصياء والأئمة الأبرار في ماضي الأعصار من أنفسهم بأنفسهم أولي الأيدي والأبصار ، لها سبعة أبواب ، وهم أبواب النطقاء الذين هم أوصياؤهم السبعة ، وكل باب منها ينتهي إلى قصر من نور ، فتلك (٣) القصور هم النطقاء السبعة ، فيها عين جارية ، يعني علم التنزيل والتأويل الجاري الذي هو سقي نشء مواليد الدين الذين هم السرر والأكواب والنمارق ، والزرابي هم حدود الناطق والأساس ؛ ويشتمل على بستان محفوف هو علم الناطق والأساس المحتوي على جميع الصور. فيه غرف ، يعني الحدود الذين هم الموازين المحصورون ، وهم غرف فوق غرف (٤) ، ومن فوقهم رتب المطلقين ، وهي غرف لما دونها. ومن فوقها رتب الدعاة المطلقين ، وهي غرف لما دونها ؛ وفي وجه أيضا أن الغرف هم الأئمة ، وكل على قدر رتبته ومنزلته ، لكل واحد منهم اثنا عشر مجلسا ، أي اثنا عشر حجّة ، في كل مجلس من الملائكة الانبعاثية ما لا يحصى ؛ وقوله : يشرقها شمس الإبداع وقمر الانبعاث «فشمس الإبداع في عالم الدين هو الناطق وقمر الانبعاث» (٥) هو الوصي بعلومها ؛ فذلك

__________________

(١) جوار : جواري في ط.

(٢) التي هي : سقطت في ط.

(٣) فتلك : فذلك في ط.

(٤) غرف : سقطت في ط.

(٥) سقطت الجملة الموضوعة داخل قوسين من ج.

٢٧٨

ينتظم كل أهل دور ناطق.

وأما ما ينتظم هذا القول من الجنة العالية ، فالمدينة هو المجمع الأعلى الذي هو العاشر ، بناها الأنبياء والأوصياء والأئمة الأبرار من أنفسهم بأنفسهم ، يعني بتوارد نفوسهم الطاهرة عند النقلة إلى أفقه ؛ فذلك هو العمارة بصعود بعد صعود. لها سبعة أبواب ، فأبوابها هم النطقاء السبعة ، كل باب منهم ينتهي إلى قصر من نور ، وذلك القصر هو الحد الذي أخذ عنه كل ناطق وسلم إليه من آخر الدور المتقدم عليه ، له ساحة عظيمة ؛ فساحته أي (١) دوره من أوله إلى آخره ، فيها عين جارية هو الوصي بعلمه التأويلي ، يشتمل على بستان محفوف ؛ البستان المحفوف «هو الإمام عليه‌السلام» (٢) الذي يقوم مقام النبي والوصي وعليه قرار الأنفس بمعادها إليه ؛ والغرف التي من فوقها غرف هم حدود كل واحد منهم في دوره ، والاثنا عشر مجلسا حجج الجزائر ، يشرقها شمس الإبداع ، يعني نور الإبداع الساري هو روح القدس وقمر الانبعاث الأول ووساطته ومادته وتأييده للعاشر ولحدود الدين ، فذلك كذلك والحمد لله ربّ العالمين.

اعلم أن خلاص (٣) النفوس لا يحصل لها إلّا بالالتزام بالحدود وبطاعتهم ، وطاعة المعبود ، والولاء المحض لمن تجب له الولاية ، والبراءة من الأضداد لقوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) (٤). فالالتزام بالحدود هو طاعة الله سبحانه وتوحيده ، وهو الكمال الثاني ، كما قال سيدنا حميد الدين قدس الله سرّه : فمنها ما يفيدها تصويرا في ذاتها ، وإلى السابق عليها في علوم ذلك وكله سعادات لها تبلغها

__________________

(١) أي : سقطت في ط.

(٢) هو الإمام عليه‌السلام : سقطت في ط.

(٣) أن خلاص : فخلاص في ط.

(٤) سورة ٥٨ / ٢٢.

٢٧٩

درجة الكمال الثاني ، فتصبح موجودة بعد أن كانت معدومة وباقية بعد أن كانت فانية ، وحسية بعد أن كانت ميتة ، ومحضة بعد أن كانت مشوبة.

والذي أوردناه في كتابنا هذا هو من قبيل ما يفيدها التصوير بنقوش عالم الإبداع وحقائق الأمور في وجود ذاتها ، ويصلها بما يدوم بدوامه ، ويعطيها الضياء العقلي والنور الإلهي ، ويحرسها من الاستحالة والتغاير بارتفاعها عن سلطان الطبيعة واكتسابها بصورة الملائكة ، ويجري فيها بتصورها إياه وإحاطتها به من القيام بالفعل ونيل الأزل ، والسعادة القصوى والبركة الأولى ، ما جرى في مبادي الموجودات الإلهية.

إلى قوله : والآخر الإمام الجامع للحدود ، والقائمين بحفظ الشريعة وبسط معالمها ونشر أعلامها ، والدعوة إلى العلم والعمل بها الذين بمكانهم وتعليمهم وجود الإنسان إنسانا ، الجارين من كمال نفس الإنسان بتأثيرهم فيها تعليما وهداية ، وبلوغها بها درجة الكمال ، ومنزلة العقول مجرى الملائكة الموكلين (١) بالعالم القائمين بالفعل ، وذلك مثل الإنسان في وجوده فإنّه أولا حين يوجد حياة ذات قدرة وهي كمال أول يسمى نفسا لكونها قائمة بالقوة وقائمة لقبول الكمال الثاني ، فلا تزال تقبل وتتعلم وتصطاد المعارف وتعمل حتى تنال درجة العقل فحينئذ لا تستحق أن يسمى بارتقائها إلى درجة الكمال سيما أنفس النطقاء التي لا تزال تنتهي بها الحال «بعد الحال (٢)» إلى أن يشيع فيها نور الوحدة بإحاطتها بالذوات السابقة عليها ، واتصالها بها اتصالا كليا فيحصل لها الكمال ، فصار كمال ما كان متأخرا في الوجود في معرفة ما سبق عليه في الوجود ، واتصاله كالأنفس التي كمالها في الإحاطة بما سبق عليها في الوجود أجمع.

__________________

(١) الموكلين : المؤكلين في ط.

(٢) بعد الحال : سقطت في ج.

٢٨٠