كنز الولد

ابراهيم بن الحسين الحامدي

كنز الولد

المؤلف:

ابراهيم بن الحسين الحامدي


المحقق: مصطفى غالب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٢

وكثر هبوب الرياح في أول الألف السادس المحيية ، والغاذية ، الملحقة للنبات والشجر. فكثرت فيه الحبوب المغذية للبشر ، وكملت الأثمار ، والبذور والفواكه ، مقدمة ، لجميع الحيوان أغذية بقصد الناظر المدبر لذلك.

ثم ابتداء زحل وعطارد ، في تكوين الإنسان في ابتداء خلق البشر ، وهو ابتداء بعيد ، أصل للقريب ، على ما حكاه الكتاب الكريم بقوله : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) (١).

فأصل المواليد الثلاثة ظهورها من الماء والطين.

فلمّا كملت قوى الكواكب الخمسة من زحل إلى الزهرة في خمسة آلاف سنة ، فكانت أربعة جذور من بواطنها وظواهرها من كل جنس خمس قوى وذلك أن باطن زحل حار ، وحرارة ظاهر المشتري ، وحرارة المريخ ظاهر ، وحرارة ظاهر الشمس ، وحرارة باطن الزهرة.

فهذه خمس قوى حارة والجذر الثاني برودة ظاهر زحل ، وبرودة باطن المشتري ، وبرودة باطن المريخ ، وحرارة باطن الشمس ، وبرودة ظاهر الزهرة ، والجذر الثالث رطوبة باطن زحل ، ورطوبة ظاهر المشتري ، ورطوبة باطن المريخ ، ورطوبة باطن الشمس ، ورطوبة ظاهر الزهرة ، والجذر الرابع يبوسة ظاهر زحل ، ويبوسة باطن المشتري ، ويبوسة ظاهر المريخ ، ويبوسة ظاهر الشمس ، ويبوسة باطن الزهرة ، فحصلت الجذور الأربعة من قوى الخمسة ، والكواكب عشرون مجتمعة كامنة في نداوة الأرض في قعرها.

فلمّا كان عطارد السادس في الألف السادس ، وهو ممتزج باعتدال ،

__________________

(١) سورة ٣٦ / ٣٦.

١٤١

حتى إنّه إذا قارن كوكبا ، ناسبه في فعله ، ولم يخالفه في طبعه ، وكان كل كوكب يتولى إقليما يكون طبعه ، وحكمه ولونه ، وفعل خاصته ظاهرا كان أو باطنا. وكان في كل إقليم وجزيرة مغارات وكهوف لجميع الحيوانات على قدر جنسه ، واستحقاقه لما يراد به. فالإنسان المحمود المقصود بالنظر جثة من ألطف الماء وأعذبه وأصفاه وأعدله.

والماء من المطر المعتدل من البخار والدخان ، الذي هو نظير نطفة الرجل ، وطبعه كطبعه ، في الحر واليبس ، ومن الأنهار التي نظير نطفة المرأة باردة رطبة. وذلك أن الماء لما اجتمع في المغارات والكهوف ، والشمس حينئذ في أول برج الدلو ، لأنه برج على صورة الإنسان.

وعطارد في اثنين وعشرين درجة منه مغربا ، وبرج الدلو هواء بيت زحل ، ومثلثه عطارد ، واعتدال الطريقة للشمس ، وزحل في أول برج الدلو ، يناظر المشتري من تسديس ، وهو في أول الحوت ، وكان الطالع برج الجوزاء ، والقمر في قران عطارد في برج الدلو.

وكان نزول ذلك المطر واجتماعه بماء الأنهار بهبوب ريح الجنوب على أرض نقية التربة ، سليمة من كل طعم يخالف العذوبة ، مثل الحدة والمرارة والملوحة ؛ وهي سحيقة التراب متخلخلة ، فحدث في تلك الأغوار ما ذكرناه من ماء المطر الذي يشبه مني الرجل ، ومن ماء الأرض ما هو يجانس نطفة (١) المرأة ، ومن النداوة المتقدمة من الثلوج والأمطار ، المتجمعة من

__________________

(١) يذهب الإسماعيلية إلى أن الله تعالى حرك الفلك فصعدت البخارات الحادثة من صفو المعدن والنبات والحيوان فصارت غيوما ثم انهلت على وجه الأرض أمطارا صافية معتدلة ، وخددت الأرض خددا غير عميقة ، وقد صفا ذلك الماء في عمقها ، ثم بخارا على أشرف وألطف وأصفى من الأول ، فانهل مطرا كثيرا نظير مني الرجل فوقع في تلك المغارات والخدد التي هي شبيهة بأرحام النساء ، فمازج الماء الكائن فيها المشاكل لماء المرأة ، فصار شيئا واحدا.

١٤٢

الطوفان ماء نظير دم الطمث ، الذي يجمع بين النطفتين ، وهو كالشب المتقدم لما يراد به الصبغ ، وذلك بعد نقاوة الأرض ممّا كان غشاها ، كما أن المرأة تحمل وتقبل النطفة ، بعد نقاوتها من دم الطمث.

فلمّا حصل الماء في قرار الأغوار القريبة ، وظهرت قوى حرارة الأرض المكمنة فيها من الحرارة التي ذكرناها ، لأن ذلك الزمان الذي تكون فيه الشمس في برج الدلو ، يكون باطن الأرض حاميا ، وكانت سخونة الأرض في تلك المواضع الغائرة ليّنة معتدلة غير مطيرة للرطوبة ، ولا منقية لها. فتموج ذلك الماء صاعدا ، وانحدر هابطا ، فلحقه في أول تموجه سخونة ، وسكونة ، وبرودة ، بثقل اكتسبه في انحداره من البرد وهو يتردد في تموجه من طرف إلى طرف ، صاعدا وهابطا بهبوب الرياح من ناحية إلى أخرى ، تارة بعد تارة ، حتى يزول عنه أكثر مائيته ويلطف. وصفته الحرارات حتى صار دهنا سيالا من فعل القوى المستجنة ، وجذبها إليه بما لطف من زيابق المعدن وكباريته ، فصار الماء دهنيّا سيالا ، مستحيلا من لون الماء وطبعه ، مع ما خالطه من خواص المعادن والنبات ، حتى يكون لا ماء خالصا ، ولا دهنا غليظا ، بل معتدلا لطيفا ، طبعه طبع النطفة المتكونة في الرحم.

فلمّا بلغت الشمس إلى برج الجوزاء ، وسخن الهواء ، وهبت رياح البوارح ، وحمي ظاهر الأرض ، فجف شيئا بعد شيء.

وابتدأ الدهن ينعقد بإنضاج الحرارة ، لأن في الأرض مسام ينفذ منه النسيم إليه ، فيلحقه ويكسبه القبول لما يراد به إلقاحا. ويسير إلينا وحرارة ظاهر الأرض تزيد في كل يوم حتى يبلغ الدهن إلى حد الانعقاد بالصلابة اليسيرة في حد المضغة. والدهن بحاله ، كدم الحيض في الرحم ، وإنّما تكون فيه أشياء لكل شخص مشيمة على سبيل الامعاء ، وقد يوجد ذلك في الماء سلاء يتكون

١٤٣

فيه الضفادع ، وهي أجنة. كل واحد منها غشاء لصورة كالسلاء لتقي الصور البشرية من الحر والبرد ، وتدفع منافذه أن يغشاها الماء الذي هي فيه. فيبقى نسيمها على ما تكون الأجنة في الأرحام.

فلمّا تخطط كل صورة في غشاوة هي لها ، كما شاء المصور لها جل وعلا. وأحدث كل كوكب فيها شيئا ما تولى جزء من جسده ، وأكسبه قوّة من قواه ، والمتولي لنقش الصورة عطارد بشراكة الشمس ، وزحل ، والقمر.

فأول ما انفعل منه ، القلب بقوّة الشمس ، ثم الرجلان بقوة زحل ، ثم الرأس بقوة القمر ، وعطارد يزيد في كل قوة ، وهو يرسم التصوير ، والزهرة تتولى التذكير والتأنيث. فلما كملت كل صورة في غشاوتها ، وفي سرته من تلك الغشاوة جزء منها هو كالامعاء ، وقد التصق فمه بفمها ، يمتص به مما لطف من ذلك الدهن غذاء لها. كما أن الجنين في الرحم يجتذب من سرته ممّا انعصر من دم الطمث وتلطف بحرارة الجسد حتى يصير كالدهن ، فيكون بقدرة الله تعالى غذاء لتلك الجملة ، لا كما تظن العامة أن غذاءها بدم الطمث ، فذلك كذلك ، والأمطار ساكنة ، والرياحات معتدلة.

فلمّا حدث في الجثة الطول والعرض ، والعمق ، وكملت آلاته انقشرت الأغشية عنها ، بعد أن نضبت المغارات ، ولم يبق إلا الرطوبات ، وارتفع عن مضجعه بتمديد الجسم. وقد اتفق أنّه يكون قاعدا على أليتيه ، وذقنه على ركبتيه ، وقد ضم ذراعيه على ما يليهما من جسمه ، وهو مجتمع على ما وصفنا.

وذلك أنه ، لما كملت صورته ، وتخطط رأسه ووجهه ، انبعث فيه الروح من الحرارات التي كونته ، ثم استجنت في بدنه ، وأعطاه القمر قوة الحياة الإلهية المحيية ، التي يحيي بها ما استكن فيه ، من حرارة الشمس

١٤٤

وقوتها ، وفي باطنه من حرارة الشمس جزء لطيف معتدل ، محيي (١) مادته من الشمس إلى باطن القمر كما ذكرنا.

فلمّا نفخ فيه الروح ، ودارت في جميع أعضائه ، ومادتها من قلبه ، تنفس من منخريه وفمه ، وتنسم النسيم الحار المعتدل من جنس حرارة الهواء ولينه ، المتفرد بطبعه ، فجعل التنفس يزيد به انبساطا وحركة ، وحسابا بالنسيم الذي يستمده من خارجه الذي هو من سطوع أشعة الأفلاك والأملاك ، الذين كان منه اجرامها أولا ، ووقوعه على بسيط الأرض.

ثم لم يجد منفذا فيها ، فترجع الأشعة صاعدة ، فتمتزج (٢) ، وتعتدل ، فيصير على غير طبائع الأمهات ، لأنه من أشعة الأفلاك ، ومن قوى الأمهات. وقد صار جنسه غير جنس الكل ، حياة طبيعية ، محيية للحيوان ، مبردة على النبات ، ملينة لما خشن. وهو النسيم المشار إليه بالبحر السيال ، المحيط بالأرض ، وهو أصل الرطوبات ، المنشف من الأرض الدخان ، ومن البحر البخار ، الكائن منه المزاج والممتزج ، وهو الذي يكف أذى الأثير والزمهرير ، في كثير من الأوقات بقوة اعتداله ، وتوسط حاله ، فكان ذلك كذلك.

فلمّا تحرك الإنسان بالحياة المتصلة به ، التي دخلت عليه عند كماله ، من قوى الأفلاك ، التي هي نفس الحس ، فيتنفس ورجلاه تجذبان رطوبة ذلك الدهن (٣) ، ويستمد منه مادة الغذاء ، وهو يتمرغ في الموضع الذي نشأ فيه ، وهو يجتذب ببدنه تلك الرطوبات وخواصها ، كما يجتذب حجر المغناطيس الحديد ، بالمشاكلة والمناسبة ، بسريان العناية الإلهية إليه. وهو يتقلب يمنة ويسرة ، وقد انحسمت سرته ، وهو ينمو بذلك ، وتزداد قوته

__________________

(١) سقطت في ج.

(٢) فتمتزج : فتمزج في ط.

(٣) الدهن : سقطت في ج.

١٤٥

بعد إقامته فيما بين الماء والطين تسعة أشهر ، مائتين وسبعين يوما. فلمّا صارت الشمس في برج العقرب ، وتقوّى الإنسان البشري ، وفتح فاه ، وطلب الغذاء من فمه المهيأ له ، وسار لستة أشهر من يوم خلع المشيمة التي كانت تلفه ، وهو في هذه الستة الأشهر يرضع إبهامي يديه ، وهو يخرج منهما له غذاء ما بين اللبن والدهن ؛ ولذلك ان المولود إذا ولد يتعلق بإصبعيه ويرضعهما على سبيل الفطرة الأولة ، فسار وهو في الخلق والقوة كمولود أربع سنين لقوة الأبوين وعظمتهما ، والتسعة التي كان فيها في المغارات. وليس صغر جثته مولود النطف ، إلّا من ضيق مكانه ، فتأزت الأرحام على قدره.

فأول ما يأكل التين ، والعنب ، والفواكه ؛ مما لطف من الثمار بقوة الإنسان. فهذا شرح بدء (١) المواليد الثلاثة وظهور الجنس البشري الذي هو أول الفكرة وآخر العمل.

قال الشخص الفاضل صاحب الرسائل نضر الله وجهه في رسالة الحيوان (٢) : واعلم يا أخي أن الحيوانات التامة الخلقة العظيمة الصورة ، كلّها كونت في بدء الخلق ذكرانا وإناثا من الطين والماء تحت خط الاستواء حيث يكون الليل والنهار هنالك متساويين ، والحر والبرد معتدلين ، والمواضع

__________________

(١) يريد بالمواليد الثلاثة المعادن والنبات والحيوان ولا وجود لنوع من أنواعها إلا عن المزاج الحادث من الأركان الأربعة بمفاعلة كيفياتها الأربعة التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة بعضها في بعض بالإضافة إلى تأثيرات المؤثرات من فوقها.

(٢) الرسالة الثانية والعشرون من رسائل اخوان الصفاء ج ٢ ص ١٨١ والنص هكذا ورد : «واعلم يا أخي بأن الحيوانات التامة الخلقة كلها كان بدء كونها من الطين أولا من ذكر وأنثى توالدت وتناسلت وانتشرت في الأرض سهلا وجبلا ، وبرا وبحرا ، من تحت خط الاستواء حيث يكون الليل والنهار متساويين ، والزمان أبدا معتدلا هناك بين الحر والبرد ، والمواد المتهيئة لقبول الصورة موجودة دائما.».

١٤٦

الكثيفة (١) من تصاريف الرياح موجودة ، والمواد كثيرة متهيئة لقبول الصورة ، ولما لم (٢) يكن في الأرض مواضع موجودة بهذه الأوصاف ، جعلت (٣) أرحام إناث هذه الحيوانات على هذه الأوصاف من اعتدال الطباع ، لكيما إذا انتشرت في الأرض تناسلت وتوالدت ، حيث كانوا. وأكثر الناس يتعجبون من كون الحيوانات من الطين. ولا يتعجبون من كونها في الرحم من ماء مهين ؛ وهي أعجب وأعظم في القدرة. ونحن الآن نعود إلى تمام قول (٤) الحكيم قال :

ثم يكون الألف السابع الذي يرافد فيه القمر زحل ، وهو ألف سعادة وعبادة ، مثال الخلق الآخر. وانتهى دور السبعة الأولة من السبعة الآلاف التي هي دوره ، فيكون في هذه الألف السابع الأمور العجيبة ، والشخوص السعيدة ، والقرانات المحمودة ، في الملك والسلطان ، والعدل والإحسان ، وتجريد التوحيد والأديان ، وابتداء دور الكشف في هذا الأوان.

فلمّا وفت السبعة الآلاف التي تولى أمرها زحل ، ابتدأ دور المشتري من الخمسين الذي هو لزحل ، فتولى منهما بسبعة الآلاف سنة ، وكذلك المريخ ولجميع الأفلاك السبعة إلى ما يكون التمام بدور القمر ، ولكل دور منها حكم وتقدير وتدبير ، من السميع البصير ؛ إلى وفاء تسعة وأربعين ألف سنة. وكمل دور زحل.

ثم ابتدأ دور المشتري خمسين ألفا ، واختص منها بسبعة آلاف سنة ،

__________________

(١) بالعرف الإسماعيلي المواضع الكثيفة أي المواضع المظلمة السفلية ، لأن من هبط من عالم الصفاء يهبط نتيجة للكثافة التي تصيبه ، لأنه من شأن كل كثيف الهبوط ومن شأن اللطيف الصعود والعلو.

(٢) اختلاف كبير بين النص المنقول وبين النص في الرسالة.

(٣) جعلت : سقطت في ج.

(٤) قول : سقطت في ج. وهنا يعني بالحكيم صاحب رسائل اخوان الصفاء.

١٤٧

ورافده كل كوكب على ما بينا إلى وفاء خمسين ألف سنة ، إلى ما يكون المنتهي سبعة آلاف زحل ، ثم كان للمريخ «خمسون ألفا إلى ما يكون المنتهى دور المشتري ، وكذلك للشمس خمسون ألفا إلى ما يكون منها دور المريخ ، وللزهرة خمسون ألفا وينتهي ذلك إلى الشمس ، ولعطارد خمسون ألفا منتهى دور الزهرة» (١) وللقمر خمسون ألفا إلى منتهى دور عطارد.

ثم وفاء الكور وابتداء دور زحل على ما ذكرناه في أول الكلام ، وفسدت الخلقة ، وتراكمت الغيوم والثلوج ، وغشي الطوفان ، فيكون الأمر على حالة (٢) الأول بعد وفاء سبعة أيام ، لأن كل كوكب يوم ، وله خمسون ألفا من الكور ، فذلك كذلك أبدا سرمدا فسبحان من هذه القدرة قدرته ، وهذه الحكمة مشيئته ، ولا إله إلّا هو استغفره وأو من به ، وأتوكل عليه ، واستجير به من الحور بعد الكور ، وهو رجوع الكواكب من افتراقها إلى موضع اقترانها أولا فيه.

ولكل دور من هذه الكواكب حكم وتدبير وتقدير ، من ظهور وبطون ، وكشف وستر ، وفعل وانفعال ، والأمهات تستحيل بجزئياتها ، والمواليد بكلياتها ، والعناية الإلهية تديرها وتدبرها ، وتكورها وتدورها ، وتحوزها لخلاصها ، ولا خلاص لها إلّا من القامة الألفية ، لأنها الصراط بين الجنة والنار.

ونحن الآن نرجع القول على ظهور أهل المغارات الذين تقدم القول عليهم ، وظهور الفاضل بالنور الكامل وكيفية الارتقاء ، والمعاد ، والقول على الحجب النورانية في عالم الدين ، وعلى المحتجب الحق الذي لا يغيب طرفة عين.

__________________

(١) سقطت الكلمات المحصورة داخل قوسين من ج وط.

(٢) حالة : سقطت في ج.

١٤٨

الباب الثّامن

«في القول على ظهور الشخص البشري أولا ،

وفي كل ظهور بعد وفاء الكور» (١)

فنقول : إن البرهان ظاهر للعيان بما نشاهده في كل جنس من أجناس المواليد التي لها (٢) غاية ، كالياقوت الأحمر الذي لا سلطان للنار عليه ، وزوجه الزمرد ، وإنهما غاية الأحجار في الشرف والمقدار ، وكالنخل في النبات وزوجه العود في الشرف والمقدار ، وكالفرس في الحيوان وزوجه الفيل في الشرف والمقدار ، كذلك في الطير وغيره ممّا ينسبه صاحب رسالة الحيوان (٣) ، فبذلك وجب أن يكون في العالم البشري والجان غاية لكونها نهاية النهايات وغايتها ، وهو الطريق إلى الصعود إلى الملائكة الكرام. فالإنسان البشري منتهى زبدة الطبيعة بأسرها ونهايتها الثانية ، وهو حد فعلها بما قصدته العقول البرية التي أظهرت الرئيس رئيسا ، والخسيس خسيسا.

فأول ما قصده (٤) الماء الذي تحيّز في المغازات بقوى الآلة المحكمة التي هي

__________________

(١) الباب الثامن : الباب السادس في ج ، «في القول على ظهور القامة الألفية في الدور الأول من الأدوار من بعد التحويل والتبديل والتغيير لما على وجه الأرض بالطوفان ، عند وفاء كل كور وكيفية ظهور الشخص الفاضل فيهم وحدوده اللاحقين له».

(٢) التي لها : إن له في ط.

(٣) يعني رسالة الحيوان من رسائل إخوان الصفاء.

(٤) قصده : قصدته في ط.

١٤٩

الأفلاك. فجذبت إلى غور من تلك الأغوار (١) التي هي مسامتة (٢) لخط الاستواء ، من سرنديب من ألطف الماء وأعذبه وأشفه ، وأقربه ما تكوّن منه ثمانية وعشرون شخصا ذكرا ، وفيما يليه غور فيه ثماني وعشرون شخصا اناثا.

وكان سبب ذلك بعدد منازل ثماني وعشرين منزلة ، وعلى عدد حروف المعجم ، ولحظتها العقول البرية بمناظرات الكواكب السعيدة ، واعتدال الزمان بقوة أولة. وقد مزجت ماء ذلك الغور ، لما ذكرنا ، بخواص أشياء من المعادن مثل الزئبق والكبريت ، حتى امتزج بماء الغور وطينه ، وعنيت بفعله وتدريجه على سبيل الفعل بالسلالة من حالة إلى حالة ، حتى تكوّن الماء هنا ، فتكوّن فيه أجنة من الأغشية التي كل واحد منها مشيمة لشخص منها وجميعها من الآثار الطيبة ، من حبوب وثمار وفواكه وأشجار ورياحين ، ومن ماء الأنهار التي قد استتربت تلك الآثار ، وجذبتها الأمطار إلى الأغوار ، فصار ذلك هو الطين المزاوج للماء القابل للانفعال ، حتى إنها من الكافور والعنبر والمسك الأذفر ، جذبته العناية الإلهية باستحقاق ، كما يجذب حجر المغناطيس الحديد ، وذلك ممّا كان من أهل الإقرار بالحد الأعظم. فكانت أجسامهم من ذلك الحال الأشرف الذي ميّز من الخبيث ، وكانت أجسادهم شفّافة جوهرية ، صافية زكية ، طاهرة نقية ، مضيئة نيّرة نامية حسية ، على ما رمز به الشخص الفاضل صاحب الرسائل حيث قال (٣) :

وقد قيل إنّه متى كان الكبريت صافيا والزئبق نقيا ، والزمان معتدلا ، والتدبير على ما ينبغي في الوقت من اعتدال الزمان باستقامة أشكال الفلك ، والشمس في سعادتها ، وكان التدبير موافقا لها بمساعدتها فرقي إلى العلو بالصعود

__________________

(١) بعض علماء الإسماعيلية يسمونها المغاور والبعض الآخر يقولون الكهوف أو الخدد.

(٢) مسامتة : سامت في ط.

(٣) الرسالة الجامعة الورقة ٩٧.

١٥٠

بالنار اللّينة عن النسبة الفاضلة أولا ، ثم أهبط إلى السفل ، فجعل ذلك مثل الماء بالرفق ، في الحل مثل ما كان أول مرة ، ثم أجمد ، ثم رقي بألطف تدبير من الأول ، وقدر على علوه أحسن تقدير ، على النسبة الفاضلة ، والقسمة المعتدلة ، والمعرفة الكاملة ، ثم أهبط ، ثم أعيد إلى حالته الأولى بالحل ، يفعل به كذلك ما دامت الشمس في سعادتها وحسن مساعدتها ، فإن بلغ به التدبير إلى نهاية وتمام غاية كان شمسا طالعة ساطعة أنوارها ، ونعمة سابغة ، وبركة نافعة ، يدب نورها في الأجساد ، إذا أشرقت على الكواكب سرى نورها فيها (١) وصبغتها فجعلتها شموسا طالعة ، وأنوارا ساطعة.

فهذا فصل عن الصادق الأمين (٢) أوضح ما شرحناه في أول الكلام وبيناه ، وهو أيضا ينتظم الصعود إلى المعاد.

وقال أيضا : وإن قصد التدبير بفساد التقدير عن درجة الأول بدرجة كان دون الغاية ، لأنّه لم يبلغ النهاية ، فيكون ما يتولد عنه ويبدو منه ، إذا كان القمر امتلأ نوره ، وسعادته في ظهوره ، نتيجة ذلك التدبير قمرا (٣) تستمد الكواكب من نوره ، ويسري فيها وينزل بها. وإذا نزل بها ، صارت هي كهو في المثال ، فهذا قوله.

ونقول : إن شرف تلك الأجسام الجوهرية المضيئة على سائر أجسام أهل الجزائر ، وكذلك نفوسهم أشرف من نفوس أهل المغارات التي في الجزائر ، على اختلاف الألوان والأشكال والطباع. فنفوس هؤلاء الفضلاء من أزكى النفوس وأجلها وألطفها. وهي من غير من امتزج بالماء والطين (٤) وممّا لم

__________________

(١) فيها : سقطت في ج وط.

(٢) يعني الإمام الوفي أحمد صاحب رسائل إخوان الصفاء.

(٣) يرمز هنا إلى الشخص الفاضل الإمام الهادي صاحب الدعوة.

(٤) والطين : سقطت في ج.

١٥١

يتموج به الطوفان ، ولا اختلط بالخبيث في المزاج والممتزج ، الذي حدث النيرين لأنهما (١) من سكان السموات العلى في عالم الأجرام. وذلك من أقرب من أقر بالحد الأعظم الذي هو المبدع الأول ، وشهد له وسبحه وقدّسه ، وتخلف عن إجابة المنبعث الأول عند الدعوة به ، وعن إجابة العاشر لما دعا به ، بعد توبته وعودته ، فكان جميع من تصور ذلك سمي صورة ، بسبب أنّه لم يتصور غير هذه الصورة ، وسمي نفسا حسية ، وحياة هيولانية ، بعلوه على من أصر عن فعل شيء ممّا جاء به ، فتكون كما ذكرنا آلة مؤثرة في عالم الاستحالة للكون والفساد ، وسخرت وجبرت ، وأعجمت عن النطق والدراية (٢). وفي عدل باري البرية أن يخلصها (٣) بالتزامها بذلك الحد الجليل ، وبخدمتها وسعيها بالتقديس والتهليل ، لا خلاص لها من الصراط المستقيم ، النهاية الثانية التي هي جنة النعيم.

فكانت البروج الاثنا عشر في السير (٤) الأول الذي هو على وفاء ستين سنة ، عند وفاء الستين ينفعل من البخار والدخان ، اللطيف والشريف ، الذي يكون أصله ممّا يتحلل من (٥) الأجسام الطاهرة ، والأجساد الغابرة ، التي هي لا تجانس شيئا من الأمهات فتختلط به لكونها قد أشرقت وعلت عن مجانستها ، فيتردد ذلك المزاج الذي تصاعد منها ، ثم يتكوّن كوكب على سبيل ما نشاهده من (٦) النيازك التي تصعد إلى فلك النار ، فيتكوكب ، ثم لا يجد منفذا كما قال تعالى : (مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) (٧). فتخر وتسقط ، وهي منظورة معاينة ، مشاهدة تلك النيازك ، فتلك تنفعل كذلك ، وتتكوّن بتدبير المقدر لها ، على عدد نجوم كل برج قد استحق أن يقوم مقامه

__________________

(١) لأنهما : لأنها في ط.

(٢) الدراية : الدرية في ط.

(٣) يخلصها : سقطت في ج.

(٤) السير : لير في ج.

(٥) من : في ، في ج.

(٦) من : في ، في ج.

(٧) سورة ٧٢ / ٨.

١٥٢

من تخلفه ، وهو يتدرج إلى القامة الألفية لخلاصه ، فإذا صعدت تلك الجملة تكوكبت في فلك الأثير ، وكانت البداية للحمل ، فسكنت في موضعه ، وهبط الحمل الأول إلى الأرض واختلط بما يماثله ويشاكله من المعادن ، وصعد إلى شيء من النبات المحمود ، من الفواكه الطيبة ، ثم يتناوله مستحقه فيغتذي به ، فتظهر تلك الأغذية بالتدريج في أعضاء المغتذي بها «إلى ما تصير نطفا مائزة عن شيء يختلط بها» (١) ، وتصعد إلى الكمال الأول البشري. ثم تطلب الخلاص وتسعى في ملائمة أهل الاختصاص ، «فتتعلم (٢) وتعلم» ، وتكون في الكمال الثاني في الحد الذي تستحقه من أفلاك الدين ، لا يعوقها عائق ، ولا يردعها رادع ، وتقبل (٣) جميع ما يلقى عليها من الأصباغ والأكاسير ، وذلك كذلك.

فإذا وفى ستين سنة ، تكون ممّا انحل (٤) من أجساد ثانية الدخان والبخار ، وانعقد في الأثير ، كواكب عديدة على عدة برج الثور ، وصعدت فلزمت مكانه ، وهبط البرج الأول على ما ذكرنا ، وكان تكونه على ما وصفنا إلى وفاء ستين سنة ، وصعد مثل ذلك ، وكان خليفة لبرج الجوزاء ، وهبط وتكون على ما ذكرنا ، فذلك كذلك ، يصعد لكل برج من يخلفه بالعدة إلى وفاء برج الحوت وعاود الصعود إلى الحمل كما ذكرنا ، ويكون ذلك الحال والانفعال من برج الحمل إلى برج الحوت في سبع مائة سنة وعشرين سنة ، وعلى ذلك.

وقد ذكرت الحكماء أن الأفلاك تتراخى (٥) بارباطها عند اجتماعها في برج الحمل على وفاء الكور الأعظم ، ويجري التحويل والتبديل ، حتى إنهم ذكروا أن الفلك يعود أرضا والأرض أفلاكا ، وهذا ما لا يمكن زوال الكل معا.

__________________

(١) سقطت الكلمات الموضوعة داخل قوسين من ج.

(٢) فتتعلم وتعلم : فتعلم وتعلم في ط.

(٣) وتقبل : ويقبل في ج.

(٤) انحل : نجل في ط.

(٥) تتراخى : تترقى في ج.

١٥٣

وإنّما على ما قد بينا وأوضحنا ؛ وكذلك أيضا إذا عاود التدبير لزحل بعد وفاء الكور الأعظم ، ثم استحال ما على وجه الأرض من المواليد الثلاثة ، وطحنت الطبيعة ما تحتها ، وذلك كالطاحونة إذا أديرت على ذر وكر ، طحنت (١) ؛ فتجذب العناية الإلهية باقي فضلات أجسام الطاهرين الموحدين ، ثم تتصاعد فينعقد منها شمس وقمر وكواكب ، مثل زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد ، في وقت ما ينضب ما على وجه الأرض من ماء الطوفان. ثم ترتبت الصاعدة في مواضع الأولة ، وتهبط تلك الأولة فتكون هي أهل المغارات السعيدة الثمانية والعشرون شخصا (٢) ، وتدعو إلى توحيد باريها بلا واسطة ولا إلهام ، كحال ما فعله المبدع الأول ، وعلى ذلك أبد الآبدين ، عدلا ورحمة ، لخلاص من أجاب ورجع وأناب.

رمز بذلك سيدنا حميد الدين حيث قال في راحة العقل (٣) : ولخلو الطبيعة التي هي النفس من هذا العلم الثاني قال الله تعالى (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) (٤). أي لا تعلمون شيئا من الكمال الثاني الذي هو العلم الثاني الذي يتعلق بالأديان والاعتقادات التي بها تكمل النفس وتصير عقلا ، وهو يستفاد من جهة الأئمة الهداة من أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين (٥). ولما كان ذلك كذلك كان سبيل هذا العلم الثاني لا كسبيل ذلك العلم الأول ، بكون ذلك العلم الأول موجودا بكل نفس في أول وجودها من الحيوان وغيرها. إلا آحاد (٦) تمتاز وتختص لعلل موجبة تزول بعد حين فتلحق بغيرها ، فهذه الآحاد هي ما تجوهر من أثارات الصالحين في الجواهر

__________________

(١) طحنت : طحمنة في ط.

(٢) شخصا : سقطت في ج.

(٣) نقلت هذه العبارات من المشرع الثالث من السور الخامس.

(٤) سورة : ١٦ / ٧٨.

(٥) من .. أجمعين : أضافها المؤلف إلى الأصل المنقول.

(٦) إلا آحاد : الآحاد في ج.

١٥٤

الثمينة ، وبقيت في الأرض ما تعود إلى السحيق ، ثم إلى القامة الألفية. ثم تلحق بعد حين بغيرها بعد زوالها مما كانت متصورة له من الجواهر.

ثم قال الشخص الفاضل صاحب الرسائل رمزا : واعلم يا أخي أيدك الله وإيانا بروح منه ، أن القوى النفسانية أول ما بدت وسرت لما هبطت إلى الأجسام من أعلى سطح الفلك المحيط ، إلى نحو مركز الأرض مرت أولا بالكواكب والأفلاك والأجرام ، وبلغت مركز الأرض الذي هو أقصى غاياتها في هبوطها ، ومنتهى نهاياتها في حضيضها ، فمنها ما تابت وأنابت ، وتذكرت ورجعت من قريب ، فاتحدت بالكواكب النيرة ، والأجرام الصافية ، ولذلك قيل لها : «النفس المطمئنة الراجعة» (١) من قريب ولم يطل بها الأمد في جهالتها «وطغيانها ثم كانت» (٢) لذلك تتفرق وتتحد الشيء بعد الشيء على قدر الصفاء (٣) والرجوع إلى الإقرار والاعتراف بالخطإ والاقتراب «إلى فلك» (٤) القمر آخر أبواب العالم العلوي.

ثم هبطت المتخلفة عن الإجابة نحو المركز واتحدت بعالم الأمهات ، وسرت قواها في المعادن والنبات والحيوان والإنسان ، وعطفت عليها النفوس الناجية المتحدة بالكواكب وحنت عليها ورحمتها كما ذكر ذلك في كتابه الكريم (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) (٥) ، فبالبرهان الصادق إن كل شيء يحن على جنسه ، ويرحم بعضه بعضا.

فدارت الأفلاك وسارت الكواكب النيرات وترتبت الأمهات وظهرت

__________________

(١) سقطت الكلمات الموضوعة داخل قوسين في ج وط.

(٢) سقطت الكلمات الموضوعة داخل قوسين في ج وط.

(٣) الصفاء : سقطت في ج وط.

(٤) إلى فلك : سقطت في ج وط.

(٥) سورة ٤٢ / ٥.

١٥٥

الأشخاص من المعادن والنبات والحيوان ، وبرزت صورة الإنسان فامتلأ العالم من الأشخاص ، ونزلت النفس القدسية بالروح من أمر ربّها على من يشاء من عباده بالدعاء إليه ، والدلالة عليه ، فمن أجاب لحق بعالمه ، ومن أبى واستكبر وخالف وأصر نزل في هوانه. وهذا فصل عن الثقة الأمين من الرمز الخفي والبرهان المضيء.

ونحن نعود بعد بيان شرف النفوس الزكية «والأجسام الصافية» (١) من أهل المغارات السعيدة الملحوظة ما نهضت من أهل المغارات السعيدة الملحوظة. ما نهضت من أهل المغارات لطلب المعاش «مما يليها» (٢) من الفواكه والأشجار إلّا بقوة في أجسامها قوية ، وفطنة (٣) في حواسها زكية ، وهي تهيش في صقعها ذلك وتعيش وتأوي معا تحت الأشجار وتشرب من الأنهار ، ثم بلغت في سبع سنين رتبة الاحتلام ، ولها على سائر المغارات من التمام والكمال أضعافا (٤) مضاعفة ، ثم لحظتها العقول بسريان أنوارها بوساطة المتولي لذلك من أدناها رتبة الموكول إليه أمر ما دونه من عالم الهيولى ، فصفت لطائفها ، وعلت صورتها ، وترتبت في السبق إلى التوحيد والإقرار كترتيب العقول الخارجة عن الأجسام ، الأول فالأول على النظام.

__________________

(١) والأجسام الصافية : سقطت في ج وط.

(٢) مما يليها : سقطت في ج وط.

(٣) فطنة : سقطت في ج وط.

(٤) أضعافا : سقطت في ج.

١٥٦

الباب التّاسع

«في القول على ظهور الشخص الفاضل

من تحت خط الاعتدال» (١)

فنقول : إن أهل (٢) هذه المغارات التي طابت عناصرها ، وصفت جواهرها في نفوسها وأجسامها ، لما تحركت إلى منافعها من مآكلها ومشاربها ، تحرك من جملتها شخص واحد فيه من الفطنة والذكاء والتمييز في جميع الأشياء بقصد عن العقول ، ووحي وإلهام ، وتفضل وإنعام ، إلى ذاته بذاته بتأييدات ربانية ، ومواد إلهية قدسية علويّة «ففكّر ودبر وتفطن» (٣) وأبصر فأقر أن لهذه الصنعة صانعا حكيما ، وشهد لباري البرايا بالإلهية ، وجرده عن الصفات الاختراعية ، وكانت شهادته كمال الشهادات الثلاث (٤) في الآية بقوله محققا ذلك : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (٥). فهذه شهادة المبدع الأول الواقع عليه اسم الإلهية ، ثم قال : (وَالْمَلائِكَةُ) (٦) ، الذين شهدوا بمثل ذلك ، المنبعث الأول ، والعقول الانبعاثية ، والعاشر ؛ ثم قال : (وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٧) الآية ، وهذه الشهادة الثالثة لأهل المغارات الذين وسمهم بالعلم.

فوحد الشخص المذكور وجرد ونزّه وسبّح وقدس ؛ فطرقه التأييد بروح

__________________

(١) الباب التاسع : الباب السابع في ج.

(٢) أهل : سقطت في ج وط.

(٣) ففكر ودبر وتفطن : سقطت في ج وط.

(٤) الثلاث : سقطت في ط.

(٥) سورة ٣ / ١٨.

(٦) سورة ٣ / ١٨.

(٧) سورة ٣ / ١٨.

١٥٧

القدس والتمجيد ، فكان في سبقه وشرفه بفعله ، كسبق المبدع الأول وشرفه ، وكسبق المنبعث الأول إليه. فظهر بالفعل في العلم والحكمة ، وظهرت به المعجزات ، ونطق بالأسماء والصفات (١) ، لاستحقاقه لذلك ، وسبقه إلى ما هنالك ، إذ هو زبدة العوالم (٢) أجمع ، وبسببه تحركت المتحركات ، وتمكنت المتمكنات ، وتزمنت المتزمنات ، وكان نهاية تلك النهايات وغاية جميع الغايات ممّا في الأرض والسموات ، فكان سبقه ممّا لا يترجم عنه «عقل طيني ولا لسان توحيدي» (٣) ، وكان إمام الأئمة ، وقبلة كل قبلة ، كمال الأمر ، ورأس المشيئة (٤) ، سبق السبق ، وكان في نفس الرتق أول الخلق.

ثم جرى به الظهور والاتحاد ، واختصه النهاية الأولة بذلك. وكان أول الآحاد والأفراد ، في عالم الكون والفساد ، الهادي إلى دار المعاد ، فنطق بالحكمة ، والموعظة الحسنة ، وتشعشعت صورته ، وأنارت بصيرته ، وكان قيامه ابتداء دور الكشف ، وعلم الأشخاص الذين ظهروا معه علم الكيفيات واللميات ، بعد أخذه عليهم عهد الله المؤكد ، وميثاقه المغلظ (٥) المشدد ، والوحي متصل به غير منفصل ، والعلم لديه بالفعل ، فعرفهم الخلقة بأسرها ، ودلهم على أسمائها وصفاتها ، وحركاتها وسكناتها ، وابتداء انفعالها ، من أول كرة من المكان ، وحركات الأفلاك التي جرت بها الأزمان. وهذبهم في العلوم الأربعة التي هي : علم اللسان ، ثم علم الأزمان ، وعلم الأبدان ، وعلم الأديان ، بمادة الواحد المنّان. اختصه بعلم جميع ذلك لكونه قائم الابتداء في العالم الجسماني ، وأول عالم في الجنس الإنساني بقوة ظهور الاتحاد ،

__________________

(١) الصفات : الصفايات في ج.

(٢) العوالم : العالم في ج وط.

(٣) عقل طيني ولا لسان توحيدي : سقطت في ج وط.

(٤) المشيئة : المشيمة في ج وط.

(٥) المغلظ : سقطت في ج وط.

١٥٨

تلألأت أنواره بالإشراق ، وأظهر العلوم وأنبأ بالمعلن منه والمكتوم ، ودعا بلسان التوحيد الى المتحد به ، الأول في البداية ، غاية كل غاية ، وجه الله الكريم ، واسمه العظيم.

ثم أمر من تلك الأشخاص أحد عشر شخصا إلى الجزائر النائية عن جزيرته ، ورتب كل واحد منهم في جزيرة من الجزائر. وأقام الثاني عشر في جزيرته التي هو فيها. وأقام أيضا اثني عشر حجة بحضرته وأمر بتعليم الخلق في الجزائر وتهذيبهم ، وتسديد أمورهم وتأديبهم ، فاستجاب كثير من الخلق بقبول وطاعة ، وصفاء خالص ، وولاء (١) مخلص من جميع من له سابقة ونية بتشريف ذلك الحد الأعظم ، أو بحد من الحدود دون الآخر لقوله تعالى واصفا لأهل الطاعة : (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (٢).

وكان أيضا في كل جزيرة مغارة فيها من الوحوش الماثلة بالقامة الألفية التي هي من ظلمة الجهالة وكدر الخطيئة تكونت عن المياه الأجنة الفاسدة الوسخة ، مثل القرود والذّئبة والنسانيس (٣) والغولة والعديرة (٤) وما شاكلها إبعادا ولعنا وإقصاء لها ، حتى (٥) لا يظهر عنها شيء ممّا هو في خواطرها من الفساد وقلة الرشاد. وكذلك من أجناس العجم ما هو يماثل هذه الخلقة الممسوخة ، مثل الزنج وما شاكلهم من السودان ، وغيرهم من الأشخاص ، والأنواع ؛ لكونهم في البعد من النهايات ، فكان ذلك كذلك.

__________________

(١) وولاء : ولواء في ج.

(٢) سورة : ٣ / ٨٤.

(٣) والنسانيس : والنسناس في ج وط.

(٤) العديرة : هكذا وردت في النسخ الثلاث.

(٥) حتى : لئنا في ج ؛ لأن في ط.

١٥٩

وأقام الشخص في الدار ، يأمر وينهي ؛ فأحل النكاح وحرم السفاح ، وهدى إلى جميع الحلال ، ونهى عن الحرام ، وحذّر وبصر ، وأنذر وبشر ، وقدر كل خير ونفع وضر. لأن دوره روحاني عقلي نوراني مضيء ، وعمر طويلا حتى استخرج من دعوته ، وأرواح صورته ، ولطائف أهل طاعته ، أعضاء اجتمعت وتواردت شيئا بعد الشيء إلى بابه الأقرب ، وخاصته المهذب ، شخصا نورانيا كملت أعضاؤه ، مجردا روحانيا ، صورة محضة ، خالصة مخلصة ، قائمة بالفعل. فأسلمها إلى الشخص الفاضل عند وفاء الأجل المحتوم. فكانت المشار إليها بالولد التام ، الذي يقوم مقامه ، وينوب منابه ، فنص عند أوانه ذلك عليه ، وأشار بالإمامة إليه. وخنس هو عن الدار ، إلى دار القرار ، لجوار الملك المقرب ، الموكول إليه أمر العالم المكنيّ عنه بجنّة المأوى عند سدرة المنتهى ، بحظيرة القدس ، صفحة السموات العلى ، عند باب حجاب الحجاب ، الموقوف للأنبياء والأوصياء والأئمة النجباء ، في دائرته جيلا بعد جيل إلى قيام القائم الذي يقوم مقامه ، وينوب منابه ، في تدبير العالم السفلي عند الانتهاء والتمام ، وكمال الختام.

فإذا صعد إلى فلك (١) العاشر المكنيّ عنه بنفس الكل ، صعد وسكن هو عما كان فيه ، ورقي إلى رتبته شخص ملكي انبعاثي ، وصعد ذلك أيضا بصعوده. على ذلك الترافع في العلو والسفل أبدا سرمدا (٢). وهذه خاصة للإمام الظاهر من المغارات الذي قام في عالم الدين مقام الأول في العقول المجرّدة ، إذا صعد إلى رتبة العاشر ، صعد العاشر بصعوده وخلافته له. لأن ذلك الإمام كان ظهوره بعد السبعة الآلاف ، التي ذكرناها. فكان عقلا قائما بالفعل ، أعضاؤه كاملة في المغارة من عالم الأفلاك ، والصعود إليه إلى ما يقوم

__________________

(١) فلك : الفلك في ج.

(٢) سرمدا : سقطت في ج.

١٦٠