كنز الولد

ابراهيم بن الحسين الحامدي

كنز الولد

المؤلف:

ابراهيم بن الحسين الحامدي


المحقق: مصطفى غالب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٢

الإدراك من المدرك إنّما يكون بالقيام تجاه المطلوب علمه ، وطلب ما ينعته به منه. فالعقول تكع عن ذلك ، وتعجز وتتحير فيه ، وتقصر مثل قصور أبصارنا عن مقابلة عين الشمس ، لا لنقصان فيها عن الإدراك ، بل لكون الشمس فيما عليه هويتها على أمر تخطف الأبصار إذا قابلتها ، فتعجز وتبرق ، فتنقلب عنها خاسئة وهي حسيرة.

وقال في موضع ثان (١) : الله تعالى متكبرا بقدسانيته عن جميع النعوت والصفات المدركة بالعقل والحس ، فلا شيء في وجه من الوجوه يشاركه ، ولا معنى من المعاني المدلول عليها بالألفاظ يعتوره ، وهو المتقدس الذي عجزت العقول عن نعته ، وأظلمت المقاصد في السلوك نحو شيء يضاف إليه ، فيليق به تعالى وتكبر عمّا يقول الظالمون علوا كبيرا.

وقال أيضا : ولمّا كان الباري لا محسوسا (٢) ولا معقولا ، استحال أن يقال عليه ما يقال عليهما ، فهو من حيث هو هو لا يدرك أصلا لسموه على مخترعاته ، سمو المحيط الذي لا ينال ، وعلوه عليها علو المتعالي الذي ليس في الاستطاعة أن تصطاد معرفته بشيء فيقال ذلك بأنّه تعالى وراء الكمال ، وفوق الجلال ، وكون العقول مبهورة تحت ثقل العجزة ، فسبحان من هذه العزّة عزته ، ولا إله إلّا هو.

وعنه وقد سأله بعض تلامذته (٣) عن إجماع الخلق بأن الله سبحانه موحّد ، والمخلوق موحّد ، فكيف يكون ذلك من جهة الفاعل والمفعول؟ فقال : إن الله تعالى يجل عن أن يكون فعل الموحدين. وقد قال النبي

__________________

(١) ثان : ثاني في ط تالي في ج.

(٢) أي لا يدرك إلا بالإقرار بأن لجميع العوالم مبدعا أبدعهم تعجز العقول عن إدراكه.

(٣) يريد بعض المستجيبين الذين هم في دور الاستفادة والاستمداد بالعلوم العرفانية الباطنية.

٢١

صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك قولا يدل على معنى حقيقة التوحيد بقوله : إن الله موحّد ، والمؤمن أيضا موحّد ، وذلك أن الله لمّا وجد عنه الواحد الفرد مبدأ الأعداد ، وأصل الآحاد والأفراد ، وكان بذلك هو الفاعل للواحد الموجد له أولا ، أصلا لكل شيء ومبدأه ، فقد ثبت أنّه موحّد هذا الواحد وموجده ومبدعه ، لا من شيء (١). وأمّا توحيد المؤمن فهو معرفته لهذا الواحد الأول الفاضل الكامل الذي هو الوجود الباري ومبدعه ومخترعه ، وإنّه لا شيء يماثله ولا يشاكله ، بسبقه وشرفه بفعله ومعرفة (٢) ما انبعث عنه من الآحاد والأفراد من عالم الخلق وعالم الأمر ، وسلبه عن جميعهم الإلهية للمبدع الحق ، وتجريدهم عنها ، وتنزيهه (٣) الباري عن الأسماء والصفات ، وجميع الإشارات.

وقد قال العالم ع م في ذلك المعنى يحققه ويصححه بقوله : وأمّا معرفة التوحيد ، فإن حد الصفة والمعرفة هو لأول موجود عن المبدع الحق ، وأن المبدع الحق يتعالى عن الصفات ، ويتنزه (٤) عن الإشارات ، والكل عاجز عن صفته وتوهمه ، والإشارة إليه ، يتساوى في ذلك العجز آخر موجود

__________________

(١) لأنه كامل متجرد عن الاتحاد بالأجسام متعال عن ذلك علوا كبيرا ولا يكون له رتبة من نوع رتب الموجودات التي تم وجودها بإبداعه لها واختراعه إياها. إذ لو كان له مثل لكانا اثنين ، ولكانا من حيث كونهما اثنين يوجد في كل واحد منهما ما يباين به الآخر. وبه تقع الاثنينية فيكون لكل واحد منهما جزءان بهما وجود ذاتيهما أحدهما مشترك والآخر خاص ، فيجب بذلك ما يتقدم عليهما جميعا ويكون هو الذي أعطى كلا منهما ما اختص به وباين الآخر وهو بالإلهية أحرى. وهو متعال عن المراتب كلها وحدة وكثرة. وأما توحيد هذا الواحد وموجده ومبدعه لا من شيء فرد لامتناع وجود مثله : سقطت هذه الجملة من م وهي زيادة من النساخ.

(٢) معرفة : عرفان في ج.

(٣) أي نفي جميع الصفات عن غيب الغيوب.

(٤) ويتنزه : وتنير ط.

٢٢

وأول موجود على جلالته ، فليس إلّا إثباته بالإقرار بأنّه المبدع المبدع الحق تعالى ، لا من جهة صفة تقع عليه ، إذ لا ند له ولا ضد سبحانه. وإنّما من آثار صنعه في المبدع بأنّه لا إله إلّا هو. فهذه معرفة التوحيد والخروج من التعطيل والتشبيه ، وكل قول في التوحيد غير هذا فهو خطأ يدخل في التشبيه أو في التعطيل ، أعاذنا الله عن ذلك برحمته.

وقال أيضا : اعلم أن محض التوحيد ، وحقيقة التجريد ، هو إثبات الواحد المحض ، وتنزيه (١) الفرد عن الحد ، ولا الحدود ، ولا أي الوجهين المذكورين في نفي صفات الخلق عن الخالق ، وإثبات ذلك كما تقدم القول والشرط. فتوحيده معرفة (٢) أسمائه ، وتجريده الاتصال بأوليائه ، فمن عرفهم ووحده من قبلهم ، نجا ، ومن جهلهم ولم يتصل بهم ضل وغوى.

وقال سيدنا المؤيد قس : الحمد لله مبدع الأحد كاملا ، ولذاته عاقلا ، وباختراعاته كافلا ، الكائن لكل مفعول فاعلا ، ولكل محمول حاملا ، لا يستند إلّا إلى هويته من سند (٣) ، ولا يقوم إلّا بعمد وحدانيته من عمد.

وقال في موضع ثان : وأشهد أن لا إله إلّا الذي أوجد الوجود فامتنع عن مشاكلته في كيفيته ، واستعبد الفرد المعبود ، فارتفع عن مماثلته في هويته. وقال في موضع ثان : «أشهد أن لا إله إلّا الذي لا يوصل

__________________

(١) وتنزيه : وتنزيهه في ط.

(٢) أي معرفة الحدود وقبول الفوائد التي تؤخذ عنهم عرفانيا.

(٣) الإسماعيلية ينفون الهويات واللاهويات عنه تعالى لأن الهوية المحضة التي تضاف إلى المبدع عن هو ولا هو ، إنما هي أيسية السابق من أيسية الابداع المجود به عليه ، يعني أن المبدع هو الذي عرفه السابق بأيسيته ، فصارت معرفته لمن أبدعه هوية المبدع ، فلا هناك هوية موجودة ، ولا هوية معدومة ، سوى ما أظهر للسابق من أيسيته.

٢٣

إلّا بحدوده إلى معرفة توحيده» (١) وأهل الزيغ يتألهون (٢) في تشبيهه وتحديده.

وقال أيضا : اللهم يا من جل عن علّة المحدود وعلا عن ذكر الموجود وخفي في وجوده ، وظهر في حدوده ، ودل بما ظهر من مبدعاته على توحيده. وقال في بعض أشعاره في ذلك :

هم الأولى بهم تجلى ربّنا

لخلقه سبحانه عزوجل

وقال في موضع ثان :

هم نهايات كلّ من خلق الل

ه وغايات خلقه والسلام

وإليهم تنمى اللطائف إذا را

حت إلى الأرض تنتمي الأجسام

وقال في بعض خطبه : وأشهد أن لا إله إلّا الذي من ألحد في حدوده سقط عن معالم توحيده ، ومن عدل عن اتباع من شهد لهم كتابه بالتطهير (٣) ، فقد عدل عن حكم تعديله إلى التجوير ، أحمده إذا قام منهم في كل عصر هاديا ، نصبه للدين داعيا ، وللإيمان مناديا ، فمن آمن به أمن ، ومن زاغ عنه امتحن وامتهن ، ومن خالف محدوده ، وحاد حدوده (٤) ، سلبه الله سعوده.

__________________

(١) سقطت الكلمات الموضوعة داخل قوسين من ج وط.

(٢) يقصد أهل الضلال الذين يقولون بالحلول والتجسد من أصحاب الغلو. يتألهون : يتأهلون ج ط.

(٣) يريد بذلك الأئمة من آل البيت الذين اصطفاهم سبحانه وتعالى وطهرهم فاكتسبوا بذلك عصمة ذاتية وتنزهوا عن الذنوب والمعاصي صغائرها وكبائرها ، وهم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا بقوله تعالى : «ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا» سورة ٣٣ / ٣٣.

(٤) حاد حدوده : يذهب الإسماعيلية إلى أن هناك حدودا علوية روحانية هي : السابق والتالي والجد والفتح والخيال ، يقابلها حدود دينية سفلية هي : الناطق والأساس والحجة والإمام والداعي ، ويقولون بأن السابق والتالي هما الأصلان العلويان والناطق والأساس الأصلان الدينيان ، ويطلقون على هؤلاء الأصول الأربعة. ولديهم العقول العشرة الروحانية يقابلها المراتب الدينية العشرة. وكل هؤلاء هم الحدود الواجب معرفتهم وطاعتهم ومن عرفهم عرف الله.

٢٤

وقال أيضا : باري البرايا في القدم ، أوجد لهم ذاته ، كما حكم حكم بالحق ، ولم يدع إلى عدم. فهو الظاهر لتثبيت الحجّة عليهم ، وهو الباطن الذي لا يدرك بالحواس والأوهام ، أقام في العالم الذي برأه (١) ، وكل ينظر إليه على قدر صفائه ، أو كالناظر إلى وجهه في المرآة. آنس إليهم لتثبيت الحجة عليهم ، إذ هم يعجزون عن إدراك كيفيته (٢) ، ولا يبلغون بقوة عقولهم إلى معرفة ماهيته ، وحقيق على من لم يصح له الوجود ، ولا معرفة الحدود ، أن يلزم الإنكار والجحود.

وروي عن مولانا الصادق (٣) صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سمع رجلا يكبر فقال له : بما ذا أكبر من كل شيء؟ فقال : إذا حددته والله أكبر أن يحد أو يوصف ، ولا ينعت بالأشباح ، ولا يقرن بالأرواح ، ولا بالحدود والنواح ، وتعالى أن يجس أو يحس أو يدرك بعقد ضمير ، أو إحاطة تفكير ، وما كان من آي التشبيه فمراده به أولياؤه الذين هم صفاته الحسنى ، وأسماؤه العليا (٤) ، وإلّا لم يصح عقد التوحيد ، ولا بان الازدواج من التجريد ، جل عن العيون أن تبصره ، وعن الأوهام أن تحصره ، وعن الحجب أن تستره ، وعن الأزمنة أن تغيره ، وعن الأمكنة أن تعتوره ، وتعالى عن الاضداد والأنداد ، وفعل الفساد ، وإخلاف الميعاد ، وتكليف ما يعجز عنه العباد.

__________________

(١) براه : براه إلى ما بعد إمام في ج وط.

(٢) يكون العجز بالمفهوم الإسماعيلي عن الإحاطة لأن النفس قائمة بالقوة بالطبع لذلك فهي تشتاق إلى القيام بالفعل وذلك لن يتيسر لها إلا عن طريق الإفادة من المفيد للوصول إلى كمالها ، لكونها ناقصة محتاجة إلى ما تسد به من المعارف التي فيها كمالها وذلك عن طريق العقل الذي تكتسب من فوائده ما يمكنها حمله وإحاطته به. فإذا اعجزها صعوبة المسلك ، هبطت كليلة تعبة من جهة الهبوط لا من جهة الصعود ، والعقل يفيض العجز عليها عن نيل جميع فوائد العقل. يعجزون : عاجزون ج.

(٣) الإمام جعفر الصادق (٨٣ ـ ١٤٨ ه‍).

(٤) العليا : العلية ج.

٢٥

فهذه فصول تنزه المتعالي عما تتصف به مبدعاته ، وعن الأسماء التي تتسم بها مخترعاته ، فلا ثبات لتوحيده وتمجيده ، وتنزيهه وتجريده ، إلّا بمعرفة حدوده (١).

وقد جاء عن سيدنا حميد الدين ق س. في آخر كتاب راحة العقل ما ختمه به ، ما هو الحق الواضح ، والمعنى اللائح بقوله : وإن سعادة الأنفس بالتعليم من الهداة المرسلين (٢) مثل نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) والأئمة من ذريته القائمين مقامه في الهداية والتعليم. وإن سعادتها لا تتم إلّا باستفادة ما تعمله وتعلمه منهم (٤) ، وإن تعلم وتعتقد في توحيدها أن المتعلّق به (٥) الموجودات سبحانه ليس له في الموجودات لا صورة ولا صفة ولا أمر من الأمور ، فيكون للعقول بها وصلة إلى الإحاطة به (٦) وبحسب تصورها ، فإن كل متصور ومنبأ عنه بلغة من اللغات ، فهو خلقه وفعله تعالى وتكبر ، وإذا قصد أحدنا الإخبار عنه بما يحسب أنّه دقّق ونظر ، وفكر وتوهم

__________________

(١) يعني العلوية والسفلية.

(٢) المرسلين : الراشدين ج.

(٣) باعتباره الناطق السادس مثال السابق في دوره.

(٤) لأنهم صفوة البشرية يمنحون السعادة لمن طلب حقائق الأشياء ، وشاء الانتقال من العالم الطبيعي إلى العالم الروحاني مغبوطا مثابا قادرا على نيل فوائده من الاغتذاء من نعيمهم ، والالتذاذ باتحاد روحه الجزئية بالنفس الكلية ويصير لها ناموسا أصليا.

(٥) يريد السابق في الوجود علة العلل الذي يمد كافة الحدود الروحانية ولا يستمد منها لأنه هادي بجوهره.

(٦) الإحاطة به : العقل جوهرا محيطا بالأشياء كلها لأنه السابق في الوجود قبل كل محاط به ، ولا يمكن توهم شيء نه محيط بالعقل لأنه يحيط بكافة المعقولات لأنه علة لجميع مراتب الموجودات فجميع مراتب الموجودات واقعة تحته لأنه أصلها ، والمعلول لا يعطي ولا يوجد فيه إلا ما أفاضت عليه علته بذاتها لأن ما كان في المعلول موجودا موجود في العلة التي عنها كان المعلول موجودا.

٢٦

وقدر ، كان ذلك الذي يحسبه تاما كافيا في الإخبار عنه تعالى منقلبا إلى صفة ما هو داخل في الموجودات التي هي مخترعة محدثة ، كانقلاب ما يراد به الإعراب عن الهمزة التي ليست لها صورة في اللغة ، إمّا إلى الألف ، وإمّا إلى الواو ، وإلى الياء التي هي من اللغة ومبانيها ، وهذه جملة وراءها تفصيل يحيط بها من كان أخانا حقا (١).

فهذا ما رمز به وهو تصريح لمن عنده علم من الأصول التي بها الوصول إلى حقائق الأشياء وهو قوله : فمن قصد بوهمه أنّه دقق ونظر وفكّر ، في معرفة الله وحسب أن ذلك تاما كافيا في الإخبار عنه تعالى ، كان ذلك منقلبا إلى صفة ما هو داخل في الموجودات التي هي مخترعة محدثة ، وضرب بالهمزة مثلا إنّها ليست من الحروف ، وإنّها لا تقع من الحروف إلّا على ثلاثة : الألف ، والواو ، والياء.

وقال : تحت هذا تفصيل ، وتفصيله أن الأسماء والصفات لا تقع على المتعالي سبحانه ، وإن مثلها مثل الهمزة في اللغة ، وأن أكثر وقوعها على ثلاثة حدود عظماء فضلاء كرماء : أولها الواحد الذي هو المبدع الأول الذي هو لألف من الحروف وممثوله. والواو في حساب الجمل ستة ، كما الألف واحد يدل على وحدانيته ؛ فالستة التي هي الواو ، النطقاء الستة في أدوار الستر والشرع ، ومعناها أمير المؤمنين (٢) لأنّه لطيف الشرائع وممعنيها ؛ والياء لها عشرة وإليه انتهاء العدد ، وهي آخر الحروف ، وهي ياء النداء ، وبها التوسل لقولك يا الله ، يا رحمن ، فهي علي القائم الذي هو

__________________

(١) يريد من كان من العارفين المستفيدين من التأييد الواقع عليه من المؤيد والقائم بالظاهر والباطن معا يكتسب الصعود من القوة إلى الفعل وينال الكمال المطلق.

(٢) أمير المؤمنين : أمير المؤمنين مولانا علي صلوات الله عليه وآله في ج وط.

٢٧

الناطق السابع آخر الحدود ، الذي (١) يقوم مقام الأول. كما أن صورة الياء التي لها عشرة صورة الألف ، فذلك كذلك فالأسماء المتناهية بالشرف والجلال والعظمة والبهاء لهؤلاء الحدود خصوصا ، ثم من بعدها لما هو من جنسها عموما. فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى ، وعليك بمعرفة الحدود (٢) لتتصل بالمعبود ، والتزم بكل إمام حق يقوم تنجو من موبقات الغموم.

قال سيدنا المؤيد : فالعمل العمل أيها الأخ ، فبالعمل تتصل بالعلم (٣) ، وبالعلم والعمل تكمل صورتك ، وتنال الدرجات ، وتبلغ غاية الغايات ، فلمثل هذا فليعمل العاملون. قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) (٤). والعمل هو ولاية الأئمة (ص) وبطاعة إمام الزمان ينال عفو الرحمن ، ولا تقبل الأعمال المفترضات والمسنونات ، إلّا بطاعة من قد فرض الله طاعته ، لقوله (٥) سبحانه : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٦). فطاعة الله سبحانه واجبة على كل مسلم ومؤمن ، وكذلك

__________________

(١) يعتبر القائم آخر إمام من أئمة دور محمد (ص) وتكون نفسه حاملة لهم ويصيرون وإياه صورة واحدة نورانية قائمة ، ويكون الناطق السابع والإمام صاحب القيامة الكبرى ويصبح دوره مع ولده خمسين ألف سنة وهو دور كشف ، ومن ثم تتعاقب الأدوار كشف وستر.

(٢) تذهب الأصول والأحكام الإسماعيلية إلى أنه لا يمكن للإنسان أن يعرف ربه إذا لم يعرف حدوده الذين يوصلونه إليه.

(٣) يريد عن طريق الظاهر أو بالأحرى العبادة العملية وما تتضمنه من واجبات جسمانية يستطيع المؤمن أن يصل إلى العبادة العلمية بما فيها من معان عرفانية روحانية باطنية.

(٤) سورة ١٨ / ١٠٧ ، ١٠٨.

(٥) لقوله سبحانه : لقول الله سبحانه في ج وط.

(٦) سورة ٤ / ٥٩.

٢٨

طاعة الرسول وأولي الأمر. فهذه ثلاث طاعات مفترضات لا ينفك بعضها من بعض. أي وقت تركت واحدة منها بطل الباقي.

فقد صح أن توحيد الله سبحانه بمعرفة حدوده ، وهم أشرف الصنعة وأكملها وأفضلها. كما قال رسول الله ص (١) : تدلك الصنعة على صانعها ، والفعل على فاعله. فهم زبدة الصنعة وأجلها ، وأعظم بها لنطقها بالتوحيد ، وتجريدها عن ذاتها الإلهية لمبدع المبدعات المبدي المعيد ، وقد لقطنا من أوضاع الحدود بحسب ما أردنا إيراده تعريفا وتصريحا ، لأن يكون المعتقد في اعتقاده على بصيرة وحقيقة ، ولتكون صورته سامية على الصور القاصرة ، متميزة عن العقول الحائرة الخاسرة ، أهل الشك والإلحاد والتيه في طرق الفساد ، أهل الشرك الذين وصفهم الله تعالى بقوله : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (٢). فمنهم ملحد وغال وقال ، وهم ثلاثة أصناف :

الأول منهم فريق من الفلاسفة يعتقدون أن العقل الأول الذي هو السبب الأول لا مبدع له (٣) ، ولا مسبب إلّا هو فهو مسبب ذاته. فشبهوا بذلك وألحدوا ، ونفوا المبدع الحق وجحدوا ، فبذلك عاندوا الحدود ، وقطعوا الوسائط ، فبعدوا. والعقل الأول هو علّة الموجودات ، وفي معلولاته أثر منه ، وذلك الأثر هو العقل المولود الذي به يفرق المخلوق بين الحق والباطل ، وبين الخطأ والصواب ،

__________________

(١) ص : صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ج وط.

(٢) سورة ١٢ / ١٠٦.

(٣) يرى الإسماعيلية أن من يذهب إلى أن المبدع الأول لا مبدع له لأنه هو الذي أبدع ذاته قد ألحد لأن المبدع الأول بنظرهم أبدعه الباري سبحانه وتعالى من نور وحدته كحد أول من الحدود الروحانية. وقالوا إنه هو القلم والعقل الأول أو العقل الفعال يقابله في عالم الدين الناطق ، ووكله تعالى بحفظ العالمين ليتم حكمته ، لأنه مشرف وحدته الذي به شرف نور التأييد ، ومعدن حكمته الذي به صح تجريد التوحيد. فريق : فرق ط.

٢٩

وبين الخير والشر ، والنفع والضر ، والباري سبحانه يتعالى أن يكون علّة لشيء ، وكذلك العلم الأول الذي هو ذات الحيوان والنبات أثر من المبدع الأول. وكذلك هو أصل الموجودات (١) وأولها وواحدها ، ومبدأها ومنتهاها (٢) ، وهي (٣) ملزمة له بجميع هذه الصفات والإضافات ، بسمة الحدث والازدواج والاختراع ، فهو الحي ، والحياة (٤) صفته التي هي ذات ما وجد عليه ، وله كمال أول ، وكمال ثاني ، وهو حامل في ذاته ، محمول في ذاته ، فهو أول وما كان له أول فله آخر ، وما كان له آخر فله أول ، وهو بصفاته معروف ، وبسريان تأييده (٥) موصوف ، وهو تحت انحصار العبودية موقوف.

ونحن نبين في الباب الذي يتلو هذا الباب حقيقة ذلك ، فهؤلاء قوم أدركوا الطبائع ومطبوعاتها ، والأفلاك وهيئاتها ، فظنوا أنهم قد وقعوا على حاصل. قال الله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) (٦). وقال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٧).

وقال [ومن يشرك بالله](فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) (٨).

والصنف الثاني الذين يعتقدون بإلهيّة الهيئة أجمع. ومن يعتقد منهم بالشمس

__________________

(١) أصل الموجودات : لأنه العلة الأولى التي بها استقامت السماوات بأقطارها ، والدوائر بغاياتها ومراكزها ، واستفاءت الكواكب بحركاتها وطبائعها ، ولمعت الصورة الطبيعية منه بأشخاصها وأنواعها وأجناسها للإقرار للصانع بمحض التوحيد.

(٢) مبدأها لأنه السابق في الوجود ، ومنتهاها لأن كافة الموجودات تنتهي إليه يريد الإمام الأول ، وخاتم الأدوار القائم المنتظر.

(٣) وهي : سقطت في ط.

(٤) لأنه أصلها ولأجله وجدت بما فيها من موجودات.

(٥) التأييد : يكون ابتداء التأييد بالمؤيد ، إذا صار قادرا على استنباط الأشياء من غير طريق الحواس والاستدلال بالظواهر على الخفيات.

(٦) سورة ٢ / ٢٢.

(٧) سورة ٤ / ٤٨.

(٨) سورة ٥ / ٦ في أصل الآية (يكفر بالإيمان).

٣٠

الجرمانية وما شاكلها ، بأنّها هي الكل والجملة ، ولم يميزوا بعقولهم السخيفة ، وآرائهم الضعيفة ، أنّها تدرك ببعض الحواس ، وتحويها الجهات ، وأنّها مدبرة مسخرة ، مجبورة مقدرة ، كما قال تعالى : [و](الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) (١).

وقال : (وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ) (٢). وقال : (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (٣).

وقال : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) (٤). وهي متحركة حركة عرضية ملازمة لها أبدا ، ولها شرف وهبوط ووبال ، وأوجات وحضيض ، وأفول وكسوف ، ونحوس وسعود. وبعض هذه الأوصاف تسلب عنها الإلهية ، وتجري عليها العبودية والحدث الممتنع عن الأزل.

والصنف الثالث الغلاة الذين يعتقدون إلهية البشر ، ولم يتضح لهم معاني سلب الإلهيّة عنهم. أول ذلك كونهم في عالم الكون والفساد ، ومقارنتهم للأجساد ، وقد علموا بتناسلهم وتناكحهم ، ويأكلون ويشربون ويتغوطون ، ويفرحون ويترحون ، وتعتريهم الأحزان والغموم والهموم والأمراض والأعراض ، والأسقام والآلام ، والموت والقتل ، والخوف والفاقة في كل وقت وحين إلى الماء والطعام. وهذه صفات من هو مخلوق محدث محتاج مقر بالعبودية ، داخل تحت عظمة الإلهية.

ونحن نبين في الأبواب التالية بشرف هذه الآيات التي اعتقدوا إلهيتها ، وعظمتها وجلالها عند الله سبحانه بمعاني حقيقة ، لا على ما يتوهمونه. والله سبحانه الموفق للصواب بعونه وبركته ورحمته ومشيئته إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) سورة ٥٥ / ٥ أضاف إلى الأصل و.

(٢) سورة ٧ / ٥٤ و ١٦ / ١٢.

(٣) سورة ٤١ / ٣٧.

(٤) سورة ٣٦ / ٣٨. في ج : الآية.

٣١

الباب الثّاني :

في القول على الإبداع الذي هو المبدع الأول من حيث (١)

شرفه وفعله ووحدانيته وسبقه ، ووجوده أولا وكماله ،

وأزليته ، وجلاله ، وعلمه ، وبهائه ، وعقله ، وثنائه ،

وعظمته ، وكبريائه ، وقدرته ، وحياته ، وانفراده بجميع صفاته.

اعلم علمك الله تعالى الخير وجعلك من أهله ، إن هذا الباب بعد إثبات توحيد (٢) المتعالي سبحانه ، من أشرف الأبواب المذكورة ، وفيه من الأسرار التي رمزت بها الحدود تلويحا لا تصريحا ، لأنّه المبدأ الأول الذي تعرف به الأصول (٣) ، والفروع ، والفصول ، والعلل ، والمعلولات ، والأسباب ، والكائنات ووالفوا بين ذلك (٤) ، حتى لا يقع علم الكيفيات واللميات ، في أيدي الجهلة الغفلة من فسقة الجن والأنس (٥) ، لأنّه العلم المكنون ، المستور المصون ، ولا يظهرون شيئا من ذلك ، إلّا وحيا من لسان إلى أذن ،

__________________

(١) حيث : سقطت في ط.

(٢) في الباب الأول أثبت التوحيد على رأي الإسماعيلية.

(٣) أول ما يطلب من الإسماعيلي كمبدإ عرفاني أول التوحيد والتجريد والتنزيه ومتى عرف المستجيب ذلك وأقر به تسهل عليه معرفة الأصول الأربعة وبقية الحدود والفروع والعلل والمعلولات.

(٤) أي ليتسنى لهم تطبيق المثل والممثول والظاهر والباطن.

(٥) نرى المؤلف ينهج نهج كل من بحث في علم الحقيقة فيصر على وجوب التقيد بنظام التقية والكتمان أسوة بمن سبقه من الدعاة والعلماء الإسماعيلية حتى لا يكشف هذا العلم لغير أهله.

٣٢

بعد قبض العهود المؤكدة ، وتغليظ المواثيق المشددة ، والامتحان بدفع النجاوى والزكاة (١) والشراوي ، والفطر ، والصدقات (٢).

وقد وثقت بك في حفظ مجموع من الحكم التي شرحتها (٣) في مصدور قبله ، وتحملت فيه الأمانة التي هي عهد الله وميثاقه الذي أخذ على الملائكة المقربين ، والأنبياء والمرسلين ، والأوصياء الطاهرين ، والأئمة المنتجبين ، والحدود التابعين ، أنّك لتصونه غاية الصيانة ، ولتراعي فيه الأمانة ، ولتتجنب (٤) الخيانة ، وتجعله لخلاص صورتك ، وإنارة بصيرتك ، والله على ما نقول وكيل.

نعود إلى ما كنّا فيه : فجميع أهل الشرائع من الأولين وفرق الآخرين ينتحلون في ذلك انتحالات (٥) ويرجمون أقوالا. فمنهم من يقول : إن الله سبحانه أبدع العقل الأول وحيدا فريدا لا ثانيا له ، وإن النفس الكلية انبعثت عنه على سبيل وجود الضوء من الضوء. ووجد عن النفس الكلية : الجد والفتح والخيال ، ثم الهيولى والصورة ، ثم الأفلاك والبروج ؛ والأملاك والطبائع ، والأمهات والمواليد المتأخرات. وهؤلاء أهل التأويل المحض ، ومن ينحو نحوهم من الفلاسفة ، وغيرهم من أهل الشرائع الظاهرة يقولون بالقلم ، واللوح ، وإسرافيل ، وميكائيل ، وجبرائيل ؛ وذلك حدهم من العلم.

__________________

(١) النجاوى والزكاة : تدفع هذه الضرائب عن طيب خاطر بين يدي الإمام أو من يمثله في قطره ، والإسماعيلية لا يزالون حتى هذا العصر يؤدون هذا الواجب.

(٢) الصدقات : الصدقة ج.

(٣) يظهر أن المؤلف أصدر عدة أبحاث باطنية قبل هذا الكتاب وقد تحمل الأتباع الأمانة في الكتمان. شرحتها : ما شرح ط.

(٤) لتتجنب : لتجنب ط وم.

(٥) انتحالات : انتحارات ج.

٣٣

ومن أهل المقالة من يرى أن في الابتداء خطيئة وقعت على بعض العالم الروحاني مثل الشخص الفاضل صاحب الرسائل نضر الله وجهه ، وأن تلك الخطيئة أوجبت الهبوط والتكثف.

وفرقة تنفي الخطيئة ، وتقول (١) التكثف من سبب نقصان النفس عن مرتبة العقل «وبعد الهيولى والصورة عن مرتبة النفس والعقل» (٢) ؛ وجاءوا في ذلك بمثل ما جاء به أهل الظاهر ، باعتقادهم أن الله تعالى خلق آدم من طين على ما جاء في التنزيل ، ولا مخلوق معه سواه ، وخلق زوجته من ضلعه ، ثم تزاوج وأولد ذكورا وإناثا ، وزاوج بينهم باختلاف البطون ؛ فأوقعوا على قدرة الله تعالى العجز والقصور في جميع الأمور ؛ باعتقادهم أنّه قدر على خلق واحد من البشر. فما المانع الذي منعه أن لا يخلق ما قد أراده معه؟ فكان اعتقادهم ذلك خداجا شابوه بالجور والفساد ، فضلّوا وأزالوا وأضلوا ، ببعدهم عن الطريق وميلهم عن أهل الحق والتحقيق ؛ لقوله : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٣). قوله : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ

__________________

(١) أقوال فلاسفة الإسماعيلية حول نقصان النفس عن مرتبة العقل متنوعة لأن كل واحد منهم سلك طريقا غير الذي سلكه زميله لإثبات هذا النقص ونوعه وكيفيته ، ولكنهم متفقون على أن ذلك النقصان هو في الرتبة لا في الذات ، لأن وجود ما دون العقل الأول بالإضافة إليه وجود ناقص لأنه فوقه ، فإن الأشياء كلها تامة في ذواتها لكون وجودها عن التمام الذي هو العقل الأول ، ولا نقصان فيها إذ لو كانت ناقصة في ذواتها لكان محالا وجودها عن التمام. والمحتاج إلى التمام هو فعل النفس لا ذات النفس ، لأن فعل النفس لا يتم إلا بزمان ، وانبعاث النفس هو مع الزمان ، كما ان العقل الأول هو والزمان واحد ، لأن المبدع الأول هو والإبداع والزمان والتمام أيس واحد ، لأن الباري أبدع الأيسيات كلها دفعة واحدة.

(٢) سقطت هذه الكلمات الموضوعة بين قوسين من ج وط.

(٣) سورة ١٦ / ٤٣ و ٢١ / ٧.

٣٤

أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) (١).

وقوله لرسوله الكريم : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) (٢). وقوله : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) (٣). وقوله : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (٤). وقوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (٥).

فإذا كان الرسول الفاضل متعلما وله معلم ، وبينه وبين خالقه وسائط ، فمن أي جهة يقع العذر لأهل العمى والجهل عن العلم والتعليم والالتزام بالوسائط التي نصبها الرسول «ودلّ عليها بقوله» (٦) :

إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما (٧) لن تضلوا من بعدي ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، إنّه نبأني العليم الخبير أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض كهاتين ؛ وأشار بإصبعيه المسبحتين (٨).

فأهل التأويل يمتازون عن أهل الظاهر بحقيقة ذلك بما أخذوه عن أهل بيت

__________________

(١) سورة ١٦ / ٧٨.

(٢) سورة ٢٩ / ٤٨.

(٣) سورة ٤ / ١١٣.

(٤) سورة ٥٣ / ٥.

(٥) سورة ٢٦ / ١٩٣ ، ١٩٤.

(٦) ودل عليها بقوله : ودل عليها بالأخذ من علي عليه‌السلام يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ج وط.

(٧) بهما : به في ط.

(٨) الشيعة بفروعها وأصولها تتخذ من هذا الحديث دليلا قطعيا على وجوب الرجوع إلى آل البيت ، وانهم المرجع الأصلي بعد النبي لأحكام الله المنزلة لقوله (ص) : «إني قد تركت فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا : الثقلين ، وأحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي. ألا وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» وهذا الحديث اتفقت الرواية عليه من طرق أهل السنة والشيعة. والقول واضح المعنى.

٣٥

النبوة ؛ وكذلك أهل الحقائق يمتازون بمعرفة المبدإ الأول الروحاني عن أهل التأويل الذين ناسبوا أهل الظاهر في تأويل ما يعتقدونه في المبدع الأول ووحدانيته ، وإدخال العجز على قدرة الله سبحانه في إقرارهم بأنّه أبدعه لا من شيء.

فما المانع الذي حجز قدرته من أن يوجد ما قد شاء إيجاده. فهذا بذلك أشبه ؛ ولا فرق بين العقول القاصرة ، والألباب الحدة (١) ، ببعدهم عن المعلم الصادق (٢) ، وقلة وقوع بصائرهم على الحقائق ، أفلم يتدبروا قول من يقول العقل القائم بالفعل ، وإن كل اسم واقع على مسمى ؛ فما هو إذا الفعل الذي قام به؟

قال سيدنا حميد الدين ق س : فكان العقل ذا نسبتين : نسبة أشرف ، ونسبة أدون. فأما النسبة الأشرف فاضافته إلى مبدعه ، وأمّا النسبة الأدون فنسبته إلى ذاته. فوجب بكون ذلك أن يوجد عنه اثنان : أحدهما قائم بالفعل عن النسبة الأشرف ، وأحدهما قائم بالقوة عن النسبة الأدون (٣).

«فبذلك وجب لما قام هذا المنبعث الثاني بالقوة» (٤) أن يكون عن المبدع الأول والمنبعث الأول عقول سبعة مجردة ، واحد عن واحد إلى المنبعث الأول ، وذلك قوله. ونقول : إن الموجود عن العقل الأول اثنان : وأن أحدهما أشرف من الآخر كشرف الوصي القائم بالفعل ،

__________________

(١) الحدة : الحاسرة ج وط.

(٢) يعني بذلك صاحب الإفادة الروحية الهادي ينبوع المعرفة الإمام أو من ينوب عنه من حدوده.

(٣) يريد بالقائم بالفعل الإمام ، وبالقائم بالقوة الكتاب ، وهذا ما ذهب إليه الفيلسوف الكرماني في كتابه راحة العقل.

(٤) سقطت الكلمات الموضوعة داخل قوسين من ج وط.

٣٦

القيم بجميع ما جاء به على ما تركه (١) ، ومن كون تمامية دوره بأتماء سبعة ، وقيام كل منهم بنص من تقدمه صاعدا إلى الأساس (٢). وفعل كل منهم في ركن من أركان الدين ، ودعائم الإسلام (٣) التي جاء بها الناطق لظهور الحكم والمعارف المضمنة تحته ، على أن الموجود عن العقل الأول ، والمنبعث الأول ، عقول سبعة ، كل واحد منهم عن الآخر صاعدا إلى المنبعث الأول ؛ وأن نور كل منهم ساطع سار فيما وجد عن الأول ، من الهيولى والصورة.

فقد أوجب في هذا الفصل أن كل عقل من هذه العقول المنبعثة ، واحدا بعد واحد ، إلى المنبعث الأول.

ثم جاء في الكتاب بعينه بفصل ينافي فيه هذا الفصل ، إذ لم يكن هنالك معنى يؤيد القول عليهما ، ويصحح كل واحد منهم بحقيقته (٤) وعلى جهته. وإلّا كانت الفائدة ضائعة ، وحاشا لذلك الحد الشريف أن يقول بما ليس له معنى يشده ويعضده. وهو قوله نضر الله وجهه : ودار الإبداع والانبعاث لا عائق فيها ، لخلوها من المواد (٥) التي تعوقها وتجردها عنها ، وكونها صورة

__________________

(١) كون الوصي أو الأساس أساسا بالناطق التام في الذات والفعل الذي به وجوده وإليه معاده ، والناطق أصلا في عالم الشرع والوضع إليه ينتهي الكل من الحدود وليس فوقه إلا من أبدعه وعن الناطق وجد الكتاب والأساس. القيم : القائم في ج.

(٢) يقصد أساس الدور الجديد الذي يلي الإمام الذي أتم الدور السابق ونصب أساس الدور اللاحق.

(٣) من الأمور الشرعية والوضعية التكليفية.

(٤) يريد بوجودهم في الصنعة الإلهية بالموازنة لوجودهم في الصنعة النبوية ومطابق لها. وإذا حللنا الشريعة الجامعة لأركانها ومعالمها والحدود القائمين بها إلى ما منه وجد الكل وجدناها منحلة إلى شيئين علومها وأعمالها ، أو بالأحرى الكتاب بما عليه صيغته من الإعجاز بالموازنة مع ما انحل إليه العالم بأركانه وأفلاكه وكواكبه من الهيولى التي هي وصورتها شيء واحد. والآخر الأساس القائم بحفظ الكتاب الذي منه كانت الشريعة وهو كالمادة له يعمل فيه ويستخرج مكنون علمه ويبسطه ويؤيد الشريعة وينصرها.

(٥) المواد : المراد ط. قلت : وهي خالية من المواد لأنها جوهر.

٣٧

محضة لا تعتلق بمادة ، ولا بها مادة فتحجزها عن الفعل (١) ، وإذا كان لا عائق فيها ، فوجود موجوداتها لا بزمان بل دفعة واحدة مثل وجود إشراق بسيط الهواء عن ضوء الشمس لا بزمان ، وإضاءة النار للبيت المظلم ، دفعة واحدة بلا زمان ، وكفعل الطبيعة في حركاتها (٢) تلك الأفعال المرتفعة عن الزمان فيما تخرجه إلى الوجود مثل الطلع الذي تخرجه بكمه وحباته وأعلاقه ، في بدء أمره من الجمّار معا على أصغر شيء هيئته من غير أن تقدم شيئا منه على شيء ممّا يتعلق بالكمال الأول ، وكالرمان الذي تخرجه من الجلنار بحباته وأقسام باطنه ، وقشوره على أصغر شيء صاغه (٣) ، وأرق شيء جسما من غير أن تخرج شيئا منه بعد شيء بل معا.

وقال أيضا : ثم يكون الإبداع الذي هو المبدع الأول ذات الفعل الصادر عن المتعالي سبحانه وكونه قائما بالفعل ، لا قائما بالقوة ، فيكون بين كونه قائما بالقوة ، وبين قيامه بالفعل ، إحاطته منه بذاته التي يتعلق بها وجود كل عقل منبعث تصور مدّة وزمان يلزم أن يكون وجود الكل بوجود الإبداع معا. وإذا كان ذلك كذلك فوجودها بوجوده معا ، لا بزمان.

فهذه الفصول ينقض بعضها بعضا كما ذكرنا إذ لم يكن لكل فصل معنى يثبته ويؤيد معناه ويشده ، ويبرهن إرادته. وإلّا لم يكن لقارئ كتابه محصول فائدة ينتفع بها. وهو نضر الله وجهه ما وضع كل فصل في موضعه إلّا لمعنى من المعاني ، وقد أوجب في هذين الفصلين الآخرين أن وجود عالم الإبداع معا.

__________________

(١) لأنها مجردة بصورها النورانية المحضة لا كثافة فيها ولا تجسيم ، ولا يحويها مكان ولا احتاج مبدعها إلى زمان.

(٢) حركاتها : محاكاتها ج وط.

(٣) صاغه : صيغة ط وم.

٣٨

ونحن نبين حقيقة ذلك ، وحقيقة الفصل الأول. فحقيقته أن وجود عالم الإبداع ظهر دفعة واحدة عن المبدع الحق تعالى لا من شيء ، أي لا من مادة تقدمت عليه ؛ ولا بشيء ، أي لا بآلة استعان بها عليه ؛ ولا في شيء ، أي لا في مكان طبيعي فيكون لها مستقرا ؛ ولا مع شيء ، أي لا مع غيره يشاكله ويساويه ؛ ولا مثل شيء ، أي لا مثل معلوم كان له نظير فيه ؛ ولا لشيء ، أي لا لحاجة في زيادة ولا نقصان في ملكه ومشيئته ؛ فكان وجود الكل كما رمز به الحكماء ، ولوح به العلماء عنه تعالى بحرف الكاف والنون (١) ؛ فكان ما كان بلا معين ، ولا مشير ولا قرين ؛ لم يسبق أوله آخره ، ولا آخره أوله ، قدرة قدير ، لا يعجز عن الأمور والتقدير. فكان في حد واحد لا يفضل بعضه بعضا ، ولا يزيد بعضه على بعض ، بل متساوي ومتكافي (٢) لا تغير فيه ، ولا تزايل ، ولا تباين (٣) ، وذلك بميزان العدل ، وموجب الحكمة دفعة واحدة ، إشراقه وظهوره مثل حب التين الذي يلفه غشاوة ، وظهوره معا كما ذكر ذلك حميد الدين ، وضرب بحب الرمان والجمار من النخل المثل دفعة واحدة ، من غير تقدم لبعضه على بعض.

وقال في ذلك الشخص الفاضل صاحب الرسائل (٤) : إن الأمور أوجدت دفعة واحدة ، لأن الله تعالى قدر أمر خلقه لما بدا بالقوة في دفعة واحدة ،

__________________

(١) في العرفان الإسماعيلي «كن» هي الكلمة القدسية التي أبدع الله تعالى فيها كافة الحدود وقالوا إن الكاف منها دليلا على السابق والنون إشارة إلى تاليه ، أي إلى التالي. ويقال لهما الأصلان العلويان يقابلهما في عالم الدين الناطق والأساس.

(٢) متساوي ومتكافي : مساومة كاف ج وط.

(٣) لأنه هو التمام ، وهو التام على الحقيقة ، ويستحق أن يكون تاما لامتناع الوجود من نوع وجوده ، فإن الشيء التام هو ما لا يوجد له خارجا عن مثل في نوعيته. لأنه سرمدي الذات يستحق اسم الواحدية. والتباين : التفاوت لأن التفاوت يلزم النقصان بالذوات الطبيعية التي تظهر عند إضافة بعضها إلى بعض.

(٤) انظر رسائل إخوان الصفا (الرسالة الرابعة في العقل والمعقول).

٣٩

وبالفعل (١) بالتدريج حتى تكون نهايته تامة كاملة ، وبلوغه إلى الحال الأفضل ، والأمر الأكمل ؛ وهذا هو الحق بأن ذلك العالم لما أوجد كان وجوده جميعه بالقوة التي هي الكمال الأول في درجة التساوي «لا إله إلا الذي لا يوصل إلا بحدوده إلى معرفة توحيده ، وأهل الزيغ يتناهون في تشبيهه وتحديده ، وقال أيضا : اللهم يا من جلّ عن علة المحدود وعلا عن ذكره الموجود وخفي في وجوده وظهر في حدوده دل بما ظهر من الموجود في مبدعاته على توحيده ، وقال في بعض أشعاره في ذلك :

هم الأولى بهم تجلى ربنا

لخلقه سبحانه عزوجل

وقال في موضع ثان :

هم نهايات كل من خلق ال

له وغايات خلقه والسلام

وإليهم تنمي اللطائف إن را

حت إلى الأرض تنتمي الأجسام

وقال في بعض خطبه : وأشهد أن لا إله إلا الذي من الحد في التساوي» (٢) في الحياة والعلم والقدرة التي فطروا عليها ، وأوجدوا على التشاكل فيها ، ولا يصح لأحد منهم إلّا الكمال الثاني بالفعل المؤدي إلى ذلك.

وقد صورنا لك هذا الضرب في كيفية وجوده معا متساويا في الكمال الأول بالقوة ، ثم ظهور من ظهر منهم إلى الفعل الذي هو الكمال الثاني ، لتعاين حقيقة ذلك إن شاء الله تعالى ، ويكون المرتاد (٣) على بصيرة ويقين ، يلوح له الحق المبين فلا يدخل على من تجلت قدرته في عدله الجور في اختيار شخص على شخص بغير علم ولا عمل ، وفي الخلقة الجسمانية ما يدل على المبدع

__________________

(١) ينتقل القائم بالقوة الذي يعتبر ناقصا إلى القيام بالفعل وهو الكمال عن طريق تلقي الاستفادة العلمية من المفيد.

(٢) سقطت هذه الأسطر الموضوعة داخل قوسين من ج وط.

(٣) يريد طالب العلوم الروحانية الباطنية يعني المستفيد طالب التأييد.

٤٠