كنز الولد

ابراهيم بن الحسين الحامدي

كنز الولد

المؤلف:

ابراهيم بن الحسين الحامدي


المحقق: مصطفى غالب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٢

القائم فيصعد (١) بصعوده. وكذلك يجري الأمر في ذرية الشخص الفاضل واحدا بعد واحد ، والصعود إلى البرازخ المذكورة (٢) في أعلى عالم الطبيعة ، صفحة السموات ، كما أوضحه سيدنا حميد الدين الذي هو باب الحجاب ، وذلك كذلك إلى وفاء دور الكشف خمسين ألف سنة ، ووفاء دور زحل ، وبدء دور الستر خمسين ألف سنة ، وأيضا كذلك ، وكل قائم يصعد إلى فلك العاشر يقوم بالفعل عقلا محضا مجردا ، «ودبر عالم الطبيعة وأمر ونهى وحرك المتحركات» (٣) ودبر المدبرات ، وقدر (٤) الأزمنة والأوقات.

قال سيدنا المؤيد في الدين في تصحيح ذلك : إذا انتقل القائم ع م ، من هذا العالم إلى العالم الروحاني بعد استقرار ما يقرره ، وتدبير ما يدبره ، أمر ونهى من أمور (٥) ما يحتاج إليه كيف يشاء ، لأن كوره ودوره (٦) طويل ، وليس لصفته سبيل ، ولا يجوز أن نذكر ما كان بعده إلّا رمزا وإشارة دون التصريح ، وفي هذا المقدار كفاية لمن عنده علم الكتاب ، فإذا انتقل إلى العالم الروحاني يكون كلّا لمن دونه ، وتلحق النفس بمنزلة الأولى ، وفي هذا كفاية لمن عنده علم من الابتداء.

فهذا قوله يبين ما ذكرناه ، وذلك أن يكون في كل عشرة آلاف سنة قيام صورة كما قال مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه وآله في كل عشرة آلاف سنة تكمل صورة. وكذلك يكون دور الكشف في كل عشرة آلاف سنة قيام صورة تكون قائما بالفعل ، إذا كملت الصورة التي هي الأعضاء

__________________

(١) يذهب الإسماعيلية إلى أن القائم هو آخر إمام من أئمة دور محمد (ص) فيتصل به جميع المنتقلين من الأئمة من آدم إلى وقت قيامه ، وتكون نفسه حاملة لهم ، ويصيرون وإياه صورة نورانية واحدة قائمية.

(٢) المذكورة : المكورة في ج ؛ المذكور في ط.

(٣) ودبر عالم الطبيعة وأمر ونهى وحرك المتحركات : سقطت في ج وط.

(٤) وقدر : ويقدر في ج وط.

(٥) من أمور : سقطت في ج وط.

(٦) ودوره : سقطت في ج وط.

١٦١

الروحانية عند البرزخ ، كانت عند الوفاء ذلك القائم الذي يقوم ويصعد ويخلف صاحب المرتبة العاشرة ، فيكون من دور الكشف خمس صور إلى وفاء سبعة وأربعين ألف سنة ، وقام العلم بالقوة ، وظهر الجهل بالفعل ، واندرس العلم الحقيقي واضمحل ، وتغطى واستتر في الثلاثة الآلاف (١) من الخمسين ، وكان العلم طبيعيا فلسفيا ، وعطلت الحدود ، وأشرك في توحيد المعبود «ثم حدث دور الستر سبعة آلاف سنة» (٢).

وقام قائم الستر بالكشف على ما ذكرنا ووصفنا من الصعود إلى أدوار النطقاء الستة (٣) إلى البرزخ وتواردهم إليه ، ووقوفهم عنده ، وهم من صفو صفاء (٤) العالم ، قد صفتهم الامتحانات ، وصقلهم الأضداد بالعداوة ، وهذبتهم الأزمنة (٥) بالشرور الكائنات ، من أهل العمى والجهالات ، فهم أصفى وألطف ، وأعلى وأشرف ، ممّن لم يمتحن بمحنة ، ولا يختبر بغمة.

وعلى ما وصفنا أن ولد الإمام المنصوص عليه يقوم بدعوة أبيه ، وتكون الدعوة على سبيل الخلقة من حد السلالة إلى الخلق الآخر ، دعوة الآخر أطهر وأشرف من دعوة الأول ، واتصال الإمامة بالإمام عند التسليم في آخر دقيقة منها عند الأول وأول دقيقة منها عند الثاني ، والمتحد الذي لا يغيب طرفة عين ، هو المسلم (٦) المتسلم ، على مرور العصور ، والأدوار (٧) والدهور ، فالمنمي للأجسام البشرية ، والقوالب الألفية ، للحدود المعنوية ، والفاعل لها المتولي لأمورها ، الشمس ، والزهرة ، والقمر ، بالاستحقاق والاتفاق ، وموجب العدل والحكمة.

ونحن نبين ذلك في موضعه ، ونوضح كيفيته إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) الآلاف : آلاف في ط.

(٢) سقطت هذه الجملة المحصورة بين قوسين في ج.

(٣) يعني الأنبياء الستة الذين هم : آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (ص).

(٤) صفو صفاء : صفو في ط.

(٥) الأزمنة : الأزنة في ج.

(٦) المسلم : المستلم في ج.

(٧) الأدوار : الآباد في ط.

١٦٢

الباب العاشر

«في القول على المعاد وصعود النفس المتجوهرة الخالصة الطاهرة المطهرة» (١)

إن سلوك النفس (٢) في أبواب النجاة بالولاء المحض ، والعلم الحقيقي الذي لا يشوبه كدر ، والإقرار بالحدود ، وتوحيد المعبود ، والعمل الصالح ، والرضى والتسليم والبراءة من الأضداد (٣) ، ومباينة أهل الفساد ، من الأقارب والأولاد ، وخدمة الحدود ، والسعي في طاعة الولي الموجود (٤) ، كما بين سيدنا المؤيد بأن كل حد جنة لمحدوده إن أطاعه ، وعذابه إن عصاه. وكثير من الناس يقول لمن هو أعلى منه : أنت جنتي وناري. فبهذا (٥) ينال الإنسان الخير ويتصل بأهله.

ونحن نقول : إن أفلاك الدين خمسة رتب محيطة (٦) بعالم الهيولى ، عاملة فيها ، مستخرجة لما صفا منها من العدم إلى الوجود ، محيط بعضها ببعض ، فأقربها نحو المؤمنين المستخلص من دار الطبيعة ، فلك المأذونين المحصورين ، ويعلو هذا الفلك فلك المأذونين المطلقين ، ويعلو هذا الفلك فلك دعاة البلاغ ، ويعلوه فلك الأبواب ، ويعلو الجميع فلك هذه الأفلاك المحيط بها ، المحرك

__________________

(١) الباب العاشر : الباب الثامن في ج.

(٢) يريد النفس الجزئية المنبثقة من النفس الكلية.

(٣) الأضداد : يقصد الذين لم ينفذوا وصية الرسول (ص) يوم غدير خم واغتصبوا حق علي عليه‌السلام.

(٤) أي الإمام الموجود في كل عصر وزمان.

(٥) فبهذا : هذا في ط.

(٦) أفلاك الدين المحيطة هم : المأذون المحصور أو المطلق ، داعي البلاغ ، الباب ، الحجة ، الإمام. في ط : محيط.

١٦٣

لها المتحرك من ذاته بذاته ، بتأييد مولاه الذي هو الحجة (١) العظمى ، فلك الوحدة الانبعاثية. الانبعاث الثاني (٢) غاية رتب الدين ، ومعنى معاني الموحدين ، خلاصة النسب ، وحقيقة السبب ، النهاية الثانية ، والغاية العالية ، مغناطيس الأرواح الروحانية ، ومركز الأنوار الشعشعانية ، فصاحب هذه المرتبة قلم ، وفلك الأبواب لوح ، وفلك الأبواب قلم ، وفلك الدعاة لوح وفلك الدعاة قلم ، وفلك المطلقين لوح ، وفلك المطلقين قلم ، وفلك المحصورين لوح ، وفلك المحصورين قلم ، وأهل الإيمان والاستجابة لوح ؛ كما قال سيدنا حميد الدين قدس الله سره : فجعل السابقات منها في الوجود أسبابا ، والمتأخرات منها في نيل كمالاتها كتابا (٣).

وكذلك أيضا فإن أهل الإيمان نفس ، وفلك المحصورين عقل ، وفلك المطلقين غيب لأهل الإيمان. وفلك المحصورين نفس ، وفلك المطلقين «عقل ، وفلك الدعاة» (٤) للمحصورين غيب ، وفلك المطلقين نفس ، وفلك الدعاة عقل ، وفلك الأبواب للمطلقين غيب ، وفلك الدعاة نفس ، وفلك الأبواب عقل ، وفلك الحجة العظمى للدعاة غيب ، وفلك الأبواب نفس ، وفلك الحجة العظمى عقل بالفعل ، وما اتحد به غيب لا يدرك (٥).

__________________

(١) الحجة : العقل الخامس والفلك الخامس (المريخ) له رتبة الحكم فيما كان حقا أو باطلا ، ويستمد الفوائد من السابق له وهو الباب.

(٢) الانبعاث الثاني : وهو الموجود الثالث يقابله الفلك الثالث (زحل) وهو الإمام وله رتبة الأمر.

(٣) في كتابه راحة العقل المشرع السادس من السور الرابع.

(٤) عقل وفلك الدعاة : سقطت في ج وط.

(٥) من هنا يتبين لنا كيف جعل الإسماعيلية نظام الترتيب في الدعوة تابعا لنظام الوجود في الإبداع والانبعاث ، وعلى هذه الصورة أسسوا قوانين العبادة العلمية الباطنية بالتأويل الذي يجمع أشياء كثيرة بها تتصور الأنفس بالصورة الأبدية وتترقى من حد القوة إلى حد الفعل وهو الكمال والتمام. وجعلوا الحدود العلوية كلية للحدود السفلية وكذلك الحدود السفلية بالنسبة للحدود العلوية أجزاء تستمد منها كليتها. لا يدرك : سقطت في ط.

١٦٤

قال مولانا الصادق عليه‌السلام : ظاهرنا إمامة ، وباطننا غيب لا يدرك. وقال مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

نحن منكم لكم وفي النور نور

عزّ من يستمد منه وجلا

نحن أدنى البيوت منكم وفينا

من علينا من الغيوب تدلّى

وكذلك أيضا فإن أهل الإيمان اسم ، وفلك المحصورين لهم مسمى ، وفلك المطلقين للجميع معنى ، وفلك المحصورين اسم ، وفلك المطلقين مسمى ، وفلك الدعاة للجميع معنى ، وكذلك فلك المطلقين اسم ، وفلك الدعاة مسمى ، وفلك الأبواب للكل معنى ، وكذلك فلك الدعاة اسم ، وفلك الأبواب مسمى ، وفلك الحجة العظمى للجميع معنى ، وهي ممعنية للمعاني ، ومسمية الأسماء ، وهي الجوهرة المجوهرة ، لما قرب إليها ودنا.

وعلى ذلك (١) فإن الإمام نفس ، وجبرائيل عقل ، المكني عنه بالخيال ، وميكائيل غيب المكنيّ عنه بالفتح ، وجبرائيل نفس ، وميكائيل عقل ، وإسرافيل غيب المكنيّ عنه بالجد ، وميكائيل نفس ، وإسرافيل عقل ، ونفس الكل غيب ، وإسرافيل نفس ، والنفس الكلية (٢) عقل ، والعقلي (٣) غيب لا يدرك ، وكذلك نفس الكل نفس. والعقل بالحقيقة عقل ، وغيب هذه الغيوب غيب لا تتجاسر (٤) نحوه الخواطر ، فلا يحد ، ولا يوصف ، ولا يدرك ، ولا يشبه سبحانه وتعالى لا إله إلّا هو : القدرة قدرته ، والحكمة مشيئته ، والأمر إرادته. فأشهد بأنّه لا سواه إله ، وأن الجميع من أسمائه وصفاته ، بالعبادة له أواه ، أحمده وأشكره ، وأو من به وأوحده ، وأنزهه على نعمه السنيّة التي

__________________

(١) في أصل النسخ الثلاث : وذلك على ذلك.

(٢) النفس الكلية : نفس الكل في ج وط.

(٣) والعقلي : والعقل الكلي في ج وط.

(٤) لا تتجاسر : نجسر في ط.

١٦٥

أولاها ، وقسمه الهنية التي أسداها ، حمدا يزيد ولا يبيد ، في كل عصر وأوان جديد ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وأمينه ، جاء بالصدق ، وهدى إلى الحق ، بلغ الرسالة ، ووفى بالأمانة ، وبعد عن الخيانة ، فصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووصيه ترجمان الحكمة ، وولي كل نعمة ، وعلى آلهما الطاهرين ، آل طه ويس ، وعلى مولانا وسيدنا وإمام عصرنا الطيب أبي القاسم (١) أمير المؤمنين ، وعلى آبائه وأبنائه شهادة برية من الغش والفساد ، مقرونة بالصدق والسداد ، أرجو بها الثواب والنجاة من العذاب ، إنشاء الله تعالى.

وكذلك نقول : إن الارتقاء والصعود إلى هذه الأفلاك الدينية فلكا من بعد فلك ، وإلى «حد بعد حد» (٢) إلى النهاية الذي إليه تدبير العالم ، البرزخ الروحاني ، والباب القدساني ، فإذا أخذ عهد الكريم على المستجيب كان العهد له علما ، يعرف به ، ويمتاز به عن غيره لدخول الباب ، فإذا استقام على الطريقة ، وباشر الحقيقة ، أخذ عليه الميثاق ، واستحق اسم الإيمان والإخلاص ، فإذا أنارت بصيرته ، وتشعشعت صورته ، اطلق عن الوثاق ، ورتب في فلك المكاسرين ، فإذا سمت همته ، وجدت عزيمته ، وعلت درجته ، رتب في فلك المطلقين ، فكان من الحدود السيارة المحيط بما دونه ، المصروف إليه أوامرهم ونواهيهم. فإذا بلغ رتبة الاحتلام بظهور الحدود عنه ، كما كان ظهوره عن السابق عليه (٣) في الوجود ، يدعو إلى توحيد الله سبحانه وحكمته ، رتب في فلك الدعاة

__________________

(١) يعني الإمام المستور الطيب بن الآمر بأحكام الله الخليفة الفاطمي ـ من سلالة المستعلي ـ الذي قتل بيد جماعة من النزارية سنة ٥٢٤ ه‍. الثالث من ذي القعدة. وهناك من يذهب إلى أن الاغتيال وقع سنة ٥٢٦ هجرية.

(٢) حد بعد حد : واحد بعد واحد في ج وط.

(٣) بهذه الطريقة نلاحظ أن المؤلف يشرح كيفية الترقي في المراتب والحدود عن طريق إقرار كل حد للحد الذي يليه بالسبق والأفضلية ووجوب التقدير والطاعة. وبواسطة هذا التنظيم الدقيق في مراتب الدعوة والدعاة تمكن الإسماعيلية في مختلف العصور من أن يجمعوا حولهم عددا كبيرا من المؤيدين ، ولم يغفلوا عن دعم هذه التنظيمات بنظريات فلسفية وتأويلات باطنية.

١٦٦

يجري قلمه ، وينشر علمه وعمله ، فإذا اتصل به التأييد الكلي ، وطرقه روح القدس الوضي ، كان من جملة الأبواب ، فإن ظهرت صورته ، وأنارت بصيرته كان المتسلم للصور من الأفلاك الدينية ، وحفظها صاحب العناية الإلهية عنده حفظ مجاورة من جهة نفسه ، وممازجة لصورته القدسية وهو ، المجمع الأول الأدنى ، والجنة الدانية إلى بلوغ الميقات ، وكمال الأدوات. فإذا آن الأوان ، سلمها إلى الرتبة العالية عليه ، التي هي الحجة العظمى ، مثل سدرة المنتهى ، منتهى المواقيت والأهلة ، وله ولمن وصل بوصوله ـ أعني متسلم الصور ـ أن يبلغ ذلك المقام الأشرف ، وهي الرتبة السلسلية العالية الكلية ، أي المتسلسلة من قوى الأفلاك والأجرام ، إلى أن صارت مقاما وإماما لكل إمام في دار الدعوة. فذلك على هذا النظام وعد الله عباده الأخيار بذلك بقوله تعالى : (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) (١).

وهذه الرتب الخمس كما ذكرنا محيط بعضها ببعض ، عامل بعضها في بعض. والمبدع الأول العاد لها ، المرتب الموحد المسدد (٢) ، والذي يليه منها هذه الرتبة العالية الخامسة ، وهي حجابه في عالم الطبيعة ، وبابه ، وهيكله الروحاني ، ولسانه البرهاني ؛ وهذه الرتبة محيطة (٣) بما دونها ، عاملة بها أعني بالرتبة البابية وبما دونها من الأفلاك. وكذلك البابية محيطة بما في ضمنها ، عاملة بها ، وكذلك رتبة الدعاة البلاغ محيطة بما في ضمنها عاملة بها. وكذلك رتبة المطلقين «محيطة بما في ضمنها عاملة بها» (٤) ، وكذلك رتبة المكاسرين محيطة بما في ضمنها عاملة بها ، من أهل الاستجابة وعالم الهيولى ، وكذلك عالم الإبداع محيط بالأفلاك الجرمانية ، والأفلاك الدينية (٥) محركة للعالم بأسره بالعناية الإلهية. وعالم الإبداع

__________________

(١) سورة : ٢٨ / ٥.

(٢) يعني الناطق الرسول (ص).

(٣) محيطة : محوطة في ج.

(٤) محيطة بما في ضمنها عاملة بها : سقطت في ج وط.

(٥) المقصود بالأفلاك الدينية : الحدود المعروفة بالنظام الإسماعيلي.

١٦٧

كالرأس ، والعالم بأسره كالجسد. وقد صورنا صورة ذلك ليقرب إلى أفهام الطالبين إن شاء الله تعالى. وهذه صورة العالم بأسره (١).

وهذا صورناه تقريبا للأفهام من جملة الأمثال (٢) المضروبة لهداية المعنى.

فالعقول (٣) المجردة التي هي حظيرة دار القدس خارجة عن المكان والزمان ، وهي لما دونها من الأفلاك الجرمانية وعالم الكون والفساد ، ولعالم الدين بأشعتها (٤) السارية ، وبركاتها الجارية ، وموادها الطارئة ، كالرأس جارية منها الأرواح ، والعالم الطبيعي محيط بعضه ببعض ، فالأفلاك الجرمانية تسعة أفلاك : فلك المحيط ، وفلك البروج ، وفلك زحل ، وفلك المشتري ، وفلك المرّيخ ، وفلك الشمس ، وفلك الزهرة ، وفلك عطارد ، وفلك القمر. وعالم الكون والفساد من الأمهات : معدن ، ونبات ، وحيوان. والزبدة من جميعها الإنسان ، ومن صفو الإنسان ممن خلص ونجا ورجع وسما خمسة أفلاك دينية محيط بعضها ببعض ، فاعل بعضها في بعض. الأول منها فلك الوحدة الذي هو وحيد الرتبة ، مركز النهاية الثانية ، من ناطق ، ووصي ، وإمام ، رتبة محفوظة ما دام الدوام ، ومتوليها من هؤلاء الحدود الثلاثة ، فريد المنزلة ، وحيد المرتبة لا يخالطه في فلكه (٥) أحد إلّا من نص عليه ، وخلفه من بعده. والثاني من الأفلاك ، فلك الأبواب. والثالث فلك الدعاة ، والرابع فلك المطلقين والخامس فلك المحصورين.

فالأمر على ما صورنا تقريبا ، والمعبر في الوسط للصاعد والهابط ، وللمادة السارية والتأييد من عالم الوحدة. ففلك الآحاد يماثل في العدد آحاد. وواحدها المقام صاحب الفلك العالي ، وفلك الدعاة يقابل الأعشار. وفلك

__________________

(١) سقطت الصورة من ج وط.

(٢) الأمثال : الآثار في ج وط.

(٣) فالعقول : فالأقوال في ج.

(٤) بأشعتها : بشعاعها في ج.

(٥) في فلكه : سقطت في ج وط.

١٦٨

١٦٩

١٧٠

المطلقين «يقابل المئين ، وفلك المحصورين» (١) يقابل الألوف «وأهل الاستجابة وعالم الهيولى يقابلون» (٢) ألوف الألوف الذي لا يتناهى إلّا إلى الواحد الذي هو مبدأه ، وإليه منتهاه ، فكل فلك عامل بما في ضمنه محيط مدبر له ، محرك مؤيد.

فإذا ظهر من المؤمنين من انتقشت صورته ، وأنارت بصيرته ، وأقبل على العلم والعمل ، وأقبل على مربيه ، يوالي من والاه ، ويعادي من عاداه ، ينزهه ويشرفه ، ويضعه (٣) في منزلته التي يعلم أنها له ، فصورته لا تتعداه ، وكان بالحقيقة مبدأه ، وإليه منتهاه ، وهو مغناطيسه في آخرته وأولاه ، ومعنى لاسمه ومسماه ، بالإكسير الذي صبغه به الذي استودعه مولاه ، لخلاص من تولاه. فإذا فارق غشاوة المشيمة التي قارنها في دنياه ، كانت صورة مربيه معادة قميصا روحانيا ، وهيكلا نورانيا ، وجاورت نفسه نفسه ، ومازجت صورته صورته إلا أن نفسه لا تكون شيئا غير ما «تصوره واكتسبه» (٤) من العلم والعمل ، وكان يسمع عنه ما ينطق به من العلم والحكمة ، وما يجيب به من يستفيد منه «ممن هو دونه وما يستفيده ممن» (٥) هو أعلى منه ، فيصير بذلك كالسائل والمجيب. فيبلغ إلى حد منزلته ببلاغه. فإذا وقع التساوي كانا ذاتا واحدة. وإذا وقع الفراق لذلك الحد مازجت صورته صورة حده ، وجاورت نفسه على ما ذكرناه ولا يفارق حد من الحدود موضعه حتى يقيم في رتبته من يقوم مقامه ، وينوب منابه (٦). وعلى ذلك

__________________

(١) سقطت هذه الجملة من ج وط.

(٢) سقطت هذه الجملة من ج وط.

(٣) ويضعه : ويصنعه في ط.

(٤) تصوره واكتسبه : تتصوره وتكتسبه في ج وط.

(٥) سقطت الجملة الموضوعة بين قوسين من ج وط.

(٦) يريد الدعاة المطلقين المعروفين لدى أتباع الفرقة المستعلية الطيبية بفرعيها الداهودي والسليماني ، فهؤلاء يعتبرون الداعي المطلق قد أحل محل الحدود العلوية السابقة له نظرا لغيبة الإمام لأنه حسب رأيهم في دور الغيبة والستر ، لذلك فقد أصبح الداعي المطلق يقوم مقامهم ويحل محلهم في تولي المهمات التي خصصت لهم.

١٧١

سياق التدرج في المعاد إلى منتهى المواقيت والأهلة ، وكل من صعد إلى رتبة بلغ حد من يرتقي إليه ، وإذا صعد إلى حدثان كانا ذاتا واحدة ، لا فرق ولا تباين بل لطيف نيّر «غير متجزّئ» (١) وتصير تلك الصورة كما قال سيدنا المؤيد قدس الله سره : سمع كلها ، بصر كلها ، شم كلها ، ذوق كلها ، لكون الكثائف قد افترقت ، واجتمعت اللطائف. وتكون أيضا كما ذكر في بعض مجالسه ، بقوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) (٢).

وعلى ذلك الصعود والارتقاء إلى كمال الصور وتمامها أعضاء روحانية معروفة من جميع الأفلاك الدينية إلى صورة باب من جملة الأبواب العشرة التي قد استحقت تسليم الصور ، وهي لها مجمع لجميع ما يرد إليها ، إلى وفاء التمام.

وقد صارت الصورة صورة واحدة لا انفصال لها ، قائمة بالفعل شفافة ممتزجة بصورة ذلك الباب ، مجاورة لنفسه ، وتواردها إليه شيئا بعد شيء. وترتب الصور الروحانية عضوا بعد عضو حتى تكمل وتستحق الخلق الآخر على سبيل النشأة الأولى ، وتصير صورة ذلك الباب لتلك الأعضاء بمنزلة القلب.

فإذا قد آن الأوان وحان ولادة الإمام عليه‌السلام من عقب المقام الذي هو ولي الزمان ، وولد ووفى له سني التربية (٣) ، انتقل الباب بالصور الدينية ، والأعضاء الروحانية. واتصلت تلك الصور التي قد صارت ذاتا واحدة بلطيف ذلك الناشئ الظاهر بالصورة. وصارت في رتبة الخلق الآخر (٤) ، وصارت في كنف الإمام الأول في حال الحضانة ، لأنّه مغناطيسها

__________________

(١) غير متجزئ : نير متحرف في ج وط.

(٢) سورة : ٥٨ / ٧ سقطت من أصل الآية (ما).

(٣) التربية : الرتبة في ج.

(٤) الآخر : سقطت في ج وط.

١٧٢

الذي جذبها بالساري إليها منه ، وهي في الأفلاك الدينية بتأييد المتحد به ، الممد له بروح قدسه نهاية النهايات ، وغاية الغايات ، اسم الله الأعظم ، ووجهه الأكرم ، الذي لا يغيب طرفة عين ، المتجلي بكل مقام ، من نبي ، ووصي ، وإمام ؛ فنوره ساطع متصل بالنفوس الخيرة ، والصورة النّيرة المميز لها عن نفوس أهل النحوس (١) ، وذلك الساري هو العمود الذي يذكرون أنّه بين الإمام وبين باريه ، عمود من نور ، مجري الوحي على ممر الدهور ، في ليله ويومه «ويقظته ونومه» (٢) وهو القائم بذلك التأييد مقامه في خلقه ، وذلك الساري أيضا هو الحبل المذكور أن طرفه بيد الله ، وطرفه الثاني بأيدي عبيده. وهو معنى اتحاد ذلك النور الساري إلى كل مقام ، لا ينقطع عنه لحظة عين ، يدرك به ما في العالم العلوي ، وما في العالم السفلي. كما قال مولانا أمير المؤمنين صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والله لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا. فهو روح القدس الجاري عن النهاية الأولة ، الذي هو الأمر ، علّة العلل ، الموجود الأول. فهو سار إلى جميع الموجودات ، كل يأخذ منه بقدر قبوله وحظّه ، وبه تحركت المتحركات ، وإليه اشتاقت الموجودات : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (٣). فاتحاد ذلك النور خصوصا (٤) بكل من استحق مقام الظهور ، الذي هو النهاية الثانية ، الماثل بصفاته لخلاص الأنام.

وعنه صلوات الله عليه ظهور شعاع من ذلك النور إلى من استجاب فتاب وأناب ، ورجع إلى دخول الأبواب ، وعاود إلى منهج الصواب.

وهي الخميرة الإبداعية «يعني النفس الصاعدة» (٥) المنسلة من قوى الأفلاك

__________________

(١) النحوس : النفوس في م.

(٢) ويقظته ونومه : سقطت في م.

(٣) سورة : ١٧ / ٤٤.

(٤) خصوصا : خاصة في ج.

(٥) سقطت الجملة الموضوعة بين القوسين من ج وط.

١٧٣

والأجرام ، وقد جاوزت الصور المعكوسة ، والمنكوسة والموكوسة ، والمركوسة.

فلما صعدت إلى الكمال الأول وتطهرت بالقدس والنور من دنس الخطيئة ، وتدرجت في عالم اللطافة ، إلى أن بلغت النهاية ، فوقفت عند الغاية ، وهي في (١) تدرجها في أفلاك الدين تشاكل تدرج الخلقة من السلالة إلى الخلق الآخر : فهي إذا فارقت موضوعها ، وصعدت إلى صور المؤمنين كانت أولا كالسلالة. وفي فلك المؤمنين في العلم ، والقبول والطاعة ، ممثول النطفة (٢) ، وإذا فارقت هذه الرتبة إلى فلك المكاسرين ، كانت في القبول والعلم والفعل كالعلقة. فإذا فارقت هذه الرتبة فصعدت فلك المطلقين كانت في القبول والعلم والانفعال كالمضغة. فإذا فارقت هذه الرتبة فصعدت فلك الدعاة ، كانت في القبول والعلم والانفعال كالعظام. فإذا فارقت هذه الرتبة فصعدت فلك الباب (٣) ، الذي هو المجمع ، كانت في القبول والانفعال والعلم كاللحم.

فإذا فارقت هذه الرتبة وصعدت فلك الوحدة ، كانت في العلم والقيام بالفعل وظهور الحياة والنور والتمام والكمال والوجود والقدرة ، كالخلق الآخر. ولم يكن لها بعد ذلك منفذ إلى رتبة أخرى إلى ورود النفخة الثانية ، فهي حينئذ قد بلغت الغاية وتجردت نورانية ، ولم توصف بعدها ببشرية ، يطلع بها نور النور ، ويتجلى بها الحق عند الظهور ، كما وصف تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٤) وقال : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) (٥). وقال : (فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) (٦).

__________________

(١) وهي في : وفي في ج وط.

(٢) النطفة : النطقة في ج.

(٣) أي رتبة الباب المعروف بفصل الخطاب.

(٤) سورة : ٣٢ / ١٧.

(٥) سورة : ٢١ / ١٠٣.

(٦) سورة : ٣٦ / ٥٥.

١٧٤

قال ابن حمدون (١) في رسالته التي أضافها (٢) إلى منصور اليمن نضّر الله وجهه قال : والنفس الناطقة ترجع إلى عالمها وقد أحرزت جميع الصور من الأشياء كلها في ذاتها ، فلا تحتاج إلى حفظها إذا فارقت جميع الكدورات (٣) ، وصفت فتصير الحواس كحاسة واحدة بصورة لطيفة دراكة ، إذا كانت متولدة من فضائل العلم والحكمة بأفلاك عالم الربوبية ، وسنة الآلة الإلهية ، على ما سبق في بدء الكون في قدس عالم الوحدانية «الربوبية حين أخذ العهد على ذريته بالإقرار بالوحدانية» (٤). وهذا هو المعاد الفاضل ، والنعيم الكامل ، كما قال سيدنا المؤيد نضر الله وجهه : ما أشرف هذا الإنسان وأجله إذا عرف نفسه ، وعرف من أين بدأ ، وإلى أين يعود؟ أعاننا الله على بلوغ ذلك برحمته إن شاء الله تعالى.

فإن اعترض معترض وسأل عن كيفية صعود صورة المستفيد إلى صورة مفيده؟ أو إلى حد ممن يماثله؟ أو كان قد انتقل المفيد قبله؟ وكيف الاتصال بالحدود بعد مفارقة الأجسام ، حتى تكون مجاورة من جهة النفس ، ممازجة من قبل الصورة؟ قلنا : بأنّه قد ضرب لنا في ذلك مثل قريب. اعلم أن الإنسان بجملته لطيف وكثيف ، فلطيفه من الحياة الطبيعة التي هي الصورة المشار إليها بالخميرة الإبداعية ؛ وكثيفه من الأمهات والمواليد الهيولانية ، وإن الصورة الدينية العلمية الحقيقية (٥) ، هي الحياة المحيية لهذه الطبيعة ، لأنها من الروح القدسية ، وهي الجاذبة لها إلى المبدإ الأول ، والمحل الأفضل.

وحقيقة ذلك قول أصدق القائلين : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا

__________________

(١) لم نهتد إلى معرفة ابن حمدون هذا ، وقد يكون أحد دعاة الفرقة المستعلية.

(٢) أضافها : إضافه في ج وط.

(٣) أي الشوائب السيئة التي علقت فيها قبل استفادتها التأييد.

(٤) سقطت الجملة الموضوعة بين قوسين من ج وط.

(٥) الحقيقية : سقطت في ج وط.

١٧٥

لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) (١). وقول سيدنا حميد الدين من الرسالة الوضيئة (٢) من رسائله في صورة أقسام الموجودات في الدائرة نضر الله وجهه : والعرض ينقسم إلى الجسماني ، وإلى النفساني ، والجسماني ينقسم إلى المقوم ، مثل : الطول ، والعرض ، والعمق ؛ وإلى المتمم مثل الألوان والأشكال ؛ والنفساني ينقسم إلى المقوم ، مثل : العلم ، والحياة ، والقدرة ، المقوم لذات ما كان عقلا ونفسا ، والمتمم مثل الصورة. فقد صح وثبت أن العلم حياة العقول ، والنفوس. والصورة هي القيام بالفعل ، والصورة هي الكمال الثاني. إذا قد صار الإنسان بالغا في الحقيقة ، تطرقه مادة التأييد ، في انقداح جميع ما يدور في خلده ، وينفتح له من التصور ، ما لا ينفتح لغيره ، ويجيب عما يربح على غيره ، فصورته حينئذ قد قامت بالفعل.

قال الشخص الفاضل الكامل صاحب الرسائل : اعلم أن العلم الذي به الوصول إلى الإقرار بأن الله سبحانه واحد ، وأن العقل محدث مبدع مخلوق ، وأن له خالقا ، وأنّه محتاج إلى وجود مبدعه ، وأنّه قابل الأمر ، مطيع لباريه ، خائف منه ، مجتهد في عبادته ، وأن النفس دون العقل بالرتبة والمنزلة ، وأن الكلمة متحدة بالعقل الأول ، وأنّه مفيض الجود على النفس ، وما يتفرع من هذه الأصول ، ومن هذا القول والبرهان ، يدل على أنّه جوهر ، وأن النفس ساكنة إليه ، مطمئنة به ، وإن المخبر بذلك عن العقل والنفس ، أنهما مخلوقان ، محدثان ، مربوبان ، بالقوة الناموسية المؤيدة بكلمة الله تعالى إذ كان لا يخبر بحقيقة الشيء بالإحاطة به والقدرة عليه خالقه وباريه المطلع عليه ، الذي لا يخفى عنه من خلقه صغيرة ولا كبيرة ، إلّا أحصاها.

__________________

(١) سورة ٨ / ٢٤.

(٢) الرسالة الوضيئة للداعي أحمد حميد الدين الكرماني ورقة ٤٨ مخطوطة.

١٧٦

ولما كان العلم جامعا لحقائق الموجودات بأسرها ، حاكما عليها ، وهي به تعرف ، ومن القول الذي يتفرع منه توصف ، وهو المرتب لها مراتبها ، ومعطيها فضائلها ، اللائق بكل واحد منها ، بسبقها إلى ما اتحد بها من قواها ، وكونها في أماكنها ، وأنّه الفاصل الذي به يفصل الحق من الباطل ، والصدق من الكذب ، وبه يتحد (١) العقل بالفضيلة الأولة ، ويختص بالسبق ، والمنزلة على النفس اللاحقة به ، وأنها دونه ، وكذلك القول به على النفس لمعرفة ما دونها ، وصفة ما صدر عنها ، فالبرهان الصادق قد دل على أنّه الشخص الجامع لجميع فضائل جواهر الموجودات من البسائط والمركبات ، ذوات الأنفس الروحانيات ، والصور الجسمانيات ، ولذلك وصف الله تعالى به نفسه ، فقال : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) (٢).

فلذلك قلنا : إن العلم ماهية العقل ، وكيفية (٣) اتحاده من أمر الله عزوجل ، وان الله عزوجل ألقاه من أمره إلى من اصطفاه من عباده وخلقه واستصفاه ليدلوا به عليه ، ويدعوا خلقه إليه ، وأنّه مبني على مباني متقنة ، ظاهرة من ألسنة فصيحة ، وأدوات صحيحة. فقد صح بأن العلم هو الكلمة ، الذي هو كلمة الله ، وهو الأمر الذي أشار إليه أنّه فوق العقل (٤) ، ودون الباري وأنّه روح القدس ، والقدس هو العقل والروح ، وهو العلم. قال الله تعالى : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) (٥). وهو العلم الذي علمه العقل الأول الذي قام به فاعلا ، وأنّه ذات العقل ، وصورته ، وكماله الثاني. فهذا ما جاء عن الحدود أن العلم هو روح القدس ، وأنّه أمر الله تعالى ، وأنّه كمال ثان لمن تعلق به. وأنّه الحبل

__________________

(١) يتحد : يتحيز في ج وط.

(٢) سورة : ٦ / ٧٣ و ١٣ / ٩ و ٣٢ / ٦.

(٣) وكيفية : وكسفية في ج.

(٤) العقل : سقطت في ج وط.

(٥) سورة : ٤٠ / ١٥.

١٧٧

الممدود بين الله وبين خلقه ، وأنّه النور المتصل بكل مقام ، وأنّه الساري المتصل بالحدود ، فهو الجاذب لصور المستفيدين إلى صورة المفيد ، وهو مغناطيسها الممسك لهاتين الصورتين على سبيل حجر المغناطيس وجذبها للحديد ، وإمساكها لما اتصل بها منه للنسبة التي هي بينهما. وكذلك عمود النور الذي هو روح القدس يجذب الصور ويمسكها في جميع أفلاك الدين ، فيما بين صور المفيدين والمستفيدين ، إلى أن تتكامل في أفق الباب المجمع الأدنى الأول.

فقد بينا حقيقة ذلك بيانا شافيا كافيا ، بالبراهين الواضحة من أوضاع الحدود ، وأظهرنا المعاني في جميع ما لوّحوا به وصرحوا. فالعلم والحكمة معدنها كل مقام ع. م بالجاري إليه من النهاية الأولة على أحسن نظام ، وأتم تمام ، وهو سار من الإمام ببركاته ولحظاته إلى حدوده الكرام ، ومن الحدود إلى المؤمنين لتمام التمام.

قال سيدنا المؤيد قدس الله سره في حقيقة ذلك (١) : أيها المؤمنون ، إن علم الإمام متصل بحجته المقام للإبلاغ عنه والإعلام ، اتصال خفي عن المستجيبين كاتصال نفس الجنين ، يتصل به من لطائف خالقه ما لا تدركه العيون ، فتبدو منه حركة مخلوقة من سكون. وهذا هو معنى الوحي ، وحقيقة الساري من الله تعالى إلى من يشاء ويختار. بين ذلك سيدنا حميد الدين بقوله (٢) : فالوحي

__________________

(١) من المجالس المؤيدية ، المجلس الخامس عشر بعد الستمائة.

(٢) راحة العقل للكرماني المشرع الرابع عشر من السور السابع. ذهب الكرماني إلى أن القسم الأول الذي هو الوحي الذي يفيد معرفة الأصول ومثله بالشرر المعروف بالجد فهو الذي يحصل للمؤيد في اليقظة والإغفاء فيدرك أولا إما بأن يرى في ذاته شخصا يخاطبه أو يسمع خطابا لا من شخص مثل هتف هاتف ، فيقف بذلك على ما في الأنفس ويطلع على الاعتقادات ، فيكون ذلك كليا ، وأما القسم الثاني الذي هو الخطاب من وراء حجاب ، الذي هو الفتح فهو ما يكون من جهة قيام آثار الصنعة الإلهية في الموجودات ، مثل الخطاب الإلهي بالأمثال. فيقع منها العلم له بكل شيء بحسب قوته في قبول الضوء الذي يضيء له ذلك ، وأو له إثبات التوحيد ـ

١٧٨

يستوعبه أقسام ثلاثة بيّنها الله في كتابه بقوله : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) (١) :

فالقسم الأول هو رتبة الجد الذي هو كلام الله وحيا ، فذلك هو الساري من روح القدس بلا واسطة متصل بالمبعوث المختار في كل وقت وحين ، وهو أعلى الرتب. أو من وراء حجاب ، هو إدراك الأشياء بالفكرة الصافية بالأمثال المضروبة ، وهو رتبة الفتح. أو يرسل رسولا ، وهو الرتبة الثالثة ، رتبة الخيال ، يتمثل له بشرا سويّا عن القوة التي تواصله من دار القدس الذي هو الملك ، أما قولا بالسمع ، أو تشخيصا برؤية العين ، هو يراه دون غيره.

فقد بين حقيقة الوحي ، فجعل الأول هو الساري الذي أشرنا إليه بلا واسطة. والثاني من وراء الحجاب ما حدث بالفكرة الصافية ، ورأى (٢) أنّه يكون فيكون ، والثالث تشخص الملك للرسول ، إما بالنطق وإما برؤية العين ، يدركه ولا يراه سواه. فقد صح أن الأرواح الروحانية ، والأشخاص الملكوتية ، تتشخص (٣) وتتمثل ، وترى ويسمع نطقها ومخاطبتها على ما وصف من خديجة بنت خويلد ، وما أمرها به ورقة بن (٤) نوفل ، تخبر به رسول الله «صلى الله عليه (٥) وآله». وذلك أصح من كل صحيح.

__________________

ـ الذي يشهد منطقها عن ذاتها بوجوب آثار الصنعة فيها والتركيب بأن لها صانعا واحدا ، ثم إثبات الملائكة السابقين عليها في الوجود. وأما القسم الثالث الذي هو إرسال رسول يتمثل بشرا سويا ، ويعرف بالخيال هو الذي يكون شرحا وبيانا كله ، فلا يشارك المؤيد في رؤية ذلك غيره ، هو الروح الأمين المسمى بجبرائيل. وبالجملة فالمؤيد له من كل شيء يدركه بحسب حظه من المعارف الدينية وما يتعلق بها فلا يفوته شيء ولو حركة بعوضة فما فوقها.

(١) سورة ٤٢ / ٥١.

(٢) ورأى : سقطت في ج.

(٣) تتشخص : شخص في ج.

(٤) حد من الحدود الخمسة الذين كانوا في دور الناطق السادس.

(٥) صلى الله عليه : سقطت في ج.

١٧٩

وكثير من أهل مقالتنا يرى أن المعاد يكون لطائف روحانية لا تنطق ، ولا تشخص ، ولا لها وجود في معادها ، لأنها غير مدركة ، وإذا كان كل عقل قد قام بالفعل في دار القدس «وقد تشخص بكماله وتمامه ، وليس» (١) له نطق «بالتسبيح والتهليل ، والتوحيد يصير ذلك عيبا فيه ، بل كل عقل قد قام بالفعل في دار القدس له نطق» (٢) ، يسمع نطقه ، ويرى شخصه ، بنوره وضيائه وبهائه ، وجماله وعلوه ؛ وفي غاية التعارف ، وإلّا فلا معاد ، وذلك لقلة علمهم ، كما قال سيدنا المؤيد ، قدس الله سرّه : «فيكون سمعا كله ، بصرا كله ، نطقا كله» (٣) لأن الكثائف قد تفرقت ، واجتمعت اللطائف.

ونحن نعود إلى ما كنا فيه من القول على اتصال كل محدود بحده : وذلك أن المستجيب إذا اتصل بالمعلم الصادق ، ونفخ فيه من روح الحياة المتصلة به من أمر الله سبحانه كما قال سيدنا المؤيد قدس الله سرّه (٤) :

وكم من غشاوة جهل كشفت

وروح نفخت بها في بدن

ثم علمه وهداه ، وأكسبه الإكسير المرقي له من الرتبة الدنية إلى الرتبة العالية ، صارت صورته حياة بالحقيقة لا مجازا أزلية. كما قال : فمن كان علّة أزلية صار بها أزليا. وكان ذلك الذي صوره به من صورته هي النسبة الجامعة لهما ذاتا واحدة ، لأن الحسية إذا علمت وعملت ، صارت ناطقة منصبغة كما قال سيدنا حميد الدين (٥) : مثل الحسية عند ظهورها من الرحم ، مثل دهن

__________________

(١) سقطت الكلمات الموضوعة بين قوسين من ج.

(٢) سقطت الكلمات الموضوعة بين قوسين من ج.

(٣) سقطت الكلمات الموضوعة داخل قوسين من ج وط.

(٤) راجع ديوان المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي داعي الدعاة ، القصيدة العاشرة.

(٥) راحة العقل المشرع العاشر من السور السابع ، قال الكرماني : «وذلك حين تتصور

١٨٠