كنز الولد

ابراهيم بن الحسين الحامدي

كنز الولد

المؤلف:

ابراهيم بن الحسين الحامدي


المحقق: مصطفى غالب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٢

قال سيدنا المؤيد نضر الله وجهه : وكما ينتقل المولود الجسماني من السلالة إلى النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى العظام إلى اللحم ، ثم النشأة الآخرة ؛ فكذلك تنتقل اللطائف العقلية والقوى الروحانية درجات ومراحل حتى تكمل صورتها وتشاكل صورة أبويها (١) وأصلها وهما العقل والنفس ، فإذا أشبهتهما وشاكلتهما بالغذاء الواصل إليها عنهما على لسان الرسول والوصي والإمام في كل عصر وزمان ، قدرت على اللحوق بعالمها ، والبلوغ إلى الموضع الذي بدأت منه فتأبدت في أفق الوحدة ، وقدرت على كل خير ونعمة ، وعلمت جميع ما في العالمين ، وأدركت خير الدارين : ومنازل ارتقائها في سبع قوى : أولها القوى المعدنية ، والنباتية ، والحيوانية ، والأجسام البشرية ، والجن ، والملائكة ، والإنس بالفعل ؛ وهم أرباب الثواب المشاكلون للأصلين اللذين ظهروا عنهما ، فكانت موادهم منهما ، ففي أصل الخلقة ونشوء الفطرة أن الإنسان لا بد له في آخر أمره وكمال صورته ، أن يصير ملكا ؛ وكما انتقلت صورة الجسم إلى أن كملت وأشبهت أبويها وصلحت للاستخدام ، وقدرت على التصرف في دار الدنيا ، وصورتها غير عالمة ، ولا حية ، ولا عارفة ؛ وإنّما قدرها الله تعالى ودبرها بمواد هذه الآلات التي هي الأفلاك العالية ، والكواكب المضيئة ، حالا بعد حال ، هكذا تنتقل (٢) صورة النفس الناطقة إلى أن تكمل وتشبه أبويها وتصلح وتقدر على التصرف في الدار الآخرة ، وهي غير عالمة بما يصلح لها ، يقدرها الله تعالى ويدبرها بمواد هذه الآلات التي تصلح لهذه الصورة الفاضلة الشريفة التي في طبعها وقوتها أن ترجع إلى صورة أبويها العالمين ، القادرين الفاضلين الحيين ، اللذين هما أصل جميع المخلوقات الجسمانية ، والجرمانيات النفسانية الروحانية العقلية.

__________________

(١) أبويها : أبوابها في ط.

(٢) تنتقل : انتقل في ط.

٢٨١

وما يبلغ المؤمن إلى أغراضه ونهاياته إلا باعتقاده لولي الزمان الذي مرجوعه إليه ، ومعوله في معاده عليه ، لأنّه هو الصراط في كل وقت وحين وأوان ، وهي الدرجة التي يبلغ بها إلى ما لا نهاية كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ومن تخلف عنهم أو أعرض أو اعترض عليهم ، أو ألحد فيهم ، فقد سقط عن الصراط وضلّ وهلك ، وصار من حزب الشيطان. فليعلم المرتاد الطالب كيفية خلاصه إلى الآخرة بالأدلة ؛ كما أن معرفة الشهور بالأهلة ، فالمؤمنون مستقرهم وحدودهم ، والحدود ترفعهم إلى درجات الآخرة والجنة العالية ، هم الدرجات إلى درجات البقاء ، ومصيرهم إليهم كما قال سبحانه : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) (١) ، فمن فارق هذا الجسد لحق بهم متصورا في صورتهم على قدر علمه وعمله واعتقاده ، فمن كان من جوهرهم طاب اغتذاؤه ورجع إليهم بالمشاكلة ، وعرفهم وعرفوه ، واتصل بهم ، وحصل في زمرتهم ومقرهم ، وعلت درجته على السموات ونال درجة عظيمة مهولة إذا قام القائم وجرت نفخته ، لأن النفخة نفختان ، فالنفخة الأولى في الصورة التي بها صارت الصورة المكتسبة من العلم والعمل بمنزلة الأجساد ، والنفخة الثانية (٢) فيها بمنزلة الأرواح. فيكون لا موت ولا فناء ، ولا تعب ولا نصب ولا تغيّر ، يرتقون من منزلة جليلة إلى منزلة أجلّ منها ، إلى أن ينتهي كل دور إلى منزلته. فقد أوضح في قوله هذا أنّه ينتقل من منزلة جليلة. يعني من المقامات الدينية إلى المقامات الروحانية على ما ذكرناه بقوله.

فإذا كانت السلالة ترتقي من حالة إلى حالة ، وبرزت من العدم إلى

__________________

(١) سورة : ١٧ / ٧١.

(٢) الثانية : سقطت في ط.

٢٨٢

الوجود وتحلت بحليتها حتى صارت صورة حساسة مدركة ، فكذلك الصورة المنشأة من الكلمة بوساطة الأصلين والأساسين والفرعين ومن دونهم من الحدود ، فالأصلان العقل والنفس ، والأساسان النبي والوصي ، والفرعان الإمام والحجّة ، بتصورهم (١) بصورتهم اللطيفة الروحانية ، فلا تزال ترتقي من حال إلى حال ، ومن درجة إلى درجة حتى تتم صورتها وحليتها ، فإذا تمت صورتها قامت بذاتها وعلتها الكلمة ونشؤها العلم الذي به تدرك الحقائق ؛ فإذا اتحدت بالعلم وعملت ، خرجت بصورة العمل ، فحينئذ لا فناء عليها ولا تغير ، إلى أن ينتهي إلى درجتها المقدرة لها بالاتصال ، فيكون عددها بكمال وتمام ، لأن بالعلم والعمل تبلغ إلى غايات الغايات ونهاية النهايات ، وبها تعلو على ملكوت الأرضين والسموات.

ويجب على من يطلب هذا العلم الشريف أن يقف على حقيقته وأصوله ليتضح عنده معرفة الحدود الروحاني والجسداني ، وينزل كل بمنزلته لا يزيد فيهم ولا ينقص منهم ، ولا يتعداهم ولا ينقص منهم ما أعطاهم الله سبحانه ، لأن الحدود منازل ودرجات ، ولكل منهم حد محدود لا يتجاوزه ، ولهم قدر معلوم لا يتعدونه.

قال الشخص الفاضل صاحب الرسائل من الرسالة الجامعة في الرسالة الثانية من الرياضيات نضر الله وجهه (٢) : والغرض أن يعرف المناظر والمطلع بنفسه الزكية وروحه الطاهرة المهدية بالعلوم الرياضية منها أن الغرض منها هو التهدي من المحسوسات إلى المعقولات ، ومن الجسمانيات الطبيعيات المركبة إلى الروحانية ، ومن ذوات الهيولى إلى المجردات وكيفية رؤية البسائط والاتحاد

__________________

(١) بتصورهم : بتصور فهم في ط.

(٢) في ط ورد في المتن «قال الشخص الفاضل صاحب الرسائل نضر الله وجهه» وفي الهامش «عن الرسالة الجامعة في الرسالة الثانية من الرياضيات».

٢٨٣

بها ، وكيفية المعراج إليها والارتقاء نحوها واللحوق بعالمها الذي لا يتكثر ولا يزداد ، وينفرد بالفضائل التي لا توجد في العالم الجسماني ، وأنّه لا يتقدر بمقدار جرماني ، ولا انحصار مكاني ، ولا يتكون في أوان زماني ، ولا نحو الأقطار كالصور المعراة من المواد المبرأة من الهيولى ، والجواهر المحضة الروحانية العالية المنيرة والذوات الشريفة الطاهرة ذوات الرتبة العالية ، والدرجات التي لا تدرك بالعيان ولا يحويها ، ولا توصف بذلك وهو المكان للمكان وسبب حركات مبدإ الزمان وتكوين الكيان.

ولما كان الفلك هو سبب وجود المكان ومدد حركاته هي الزمان علمنا أن الصورة الروحانية المبرأة من الجواهر الجسمانية هي سبب وجود الفلك وهو سبب حركاته ، فالبرهان أن هذه الجواهر العالية الخالية من المكان وحركة الزمان لا توصف بالمكان وبالزمان ؛ ولما كان ذلك كذلك فالبرهان أن العقل يجب أن ينزه بصفات هي أعلى من صفات النفس وأجل ، لعلو منزلته ، وعظم مرتبته.

فهذه الفصول توجب معرفة الحدود إلى التزامهم ولا يتجاوز بهم عن حدهم. فإذا عرف المرتاد ذلك احتاج أن يعرف بين كل منهم في الروحاني والجسماني ، وذلك لا يدرك إلّا بحقيقة العلم المحض ، ونحن نشرح من ذلك ما أمكن. وذلك أن العلوم أربعة : فعلم الأزمان وهو معرفة المكان ومعرفة حركاته الذي هو الزمان ، ومناظرات الأملاك وما يوجبه تسييرها وحقيقة ذلك لا يدركه إلّا أهل علم الهندسة والمساومة والمنطق الذي يجمع علم العدد وماهية الجواهر الجسمانية والجواهر النفسانية ، وهم ينقسمون إلى أنحاء كثيرة ، فمنهم الطبيعيون الذين حدهم معرفة الهيئة ويجعلون منها الغاية ، وينفون الوسائط ويعطلون الشرائع وحدودها ورسومها ، هم أهل الشبه والشرك ، وهم فسقة الجن ، ومنهم من يعرف من العدد الكسر والجبر ، ليحل به علم النجوم من

٢٨٤

الزيجة وهم يقولون بالوسائط الجسمانية ، ولا يعرفون الحدود الروحانية. وهاتان (١) الفرقتان جميعا لا تعرفان الفلك وما أصله (٢)؟ بل يقولون طبيعة خامسة (٣) لطيفة شريفة تعلو على الأمهات الأربع وهو لها كالروح.

وفرقة ثالثة هم الحكماء الإلهيون الذين يعرفون ويعلمون العوالم الثلاثة بحقيقة معرفتها ، عالم الملكوت المتجرد عن الأجسام ، الروحاني النير الشفاف ، والذي إليه المعاد المحيط بالمكان والزمان ، والخارج عن سلطانهما بالبرهان ، ويعرفون العالم الجرماني ما مبدأه وما هو (٤) بحقيقة واضحة؟ وما تكثفه؟ وكيفية انفعاله؟ ولم حركاته ، وعلى ما تقع تأثيراته وجميع أسبابه؟ ثم يعلمون العالم الثالث الجسماني في عالم الكون والفساد ، وما علة كونهم وفسادهم وتفاضلهم؟ وما أصل ابتدائهم وإلى أين معادهم؟ وهؤلاء هم النطقاء والأسس والأئمة وتابعوهم عليهم‌السلام ، الذين أيدهم الله سبحانه بأسرار غيبه ، ومكنون علمه ، كما قال تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) (٥).

فهؤلاء الصنف الثالث الذين أوجب الله طاعتهم والالتزام بهم والمحبة لهم دينا ودنيا.

وفرقة يعلمون علم اللسان في النحو والعروض واللغة فقط ، فقد قال مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى (٦) آله بمقيم الألسن شعرا :

وإذا أردت من العلوم أجلها

فأجلها منها المقيم الألسن

فالزموا ظاهر القول واطرحوا باطنه ، ومقيم الألسن العلوم الحقيقية ، والألسن هم الحدود ، من حد الناطق إلى المستجيب ، فهو المقيم لها في الكمال

__________________

(١) وهاتان : وهذان في ط.

(٢) أصله : أضله في ط.

(٣) خامسة : خساسة في ط.

(٤) هو : سقطت في ط.

(٥) سورة : ٧٢ / ٢٦ ، ٢٧.

(٦) على : سقطت في ج.

٢٨٥

الثاني ؛ وعلم الأدب من الكمال الأول فقط لا فائدة ولا عائدة. وقال بعض أهل الحقيقة في ذلك من شعر له :

وما ضرّ ترك النحو من كان مؤمنا

وما نفع الإعراب من كان ذا كفر

وكذلك جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : لا صلاة لمن لحن. والصلاة بالحقيقة هي الاتصال بالإمام يعني (١) لا صلاة لمن شك في إمام عصره ، ونبذ منهاجه فذلك هو اللحن بالحقيقة لكونه عكس معاني الإعراب عن موضعها.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أثبت قراءة فاتحة الكتاب ولم يلحن فيها تمت صلاته ، والحمد هي سبع آيات. أي على الحدود السبعة الذين هم الأتماء ، وهي تثنّى ، فهي كل صلاة مكررة لأنها على الثاني إلى خاتم الخلفاء ، وعلى الاشهاد ، وعلى الابدال ، فهي تنتظم الأربعة الأسابيع ، من الحجة إلى الحسن بن علي.

فمن أثبت هذه السورة (٢) بإعرابها لم يلحن ؛ أي من التزم (٣) بها والأئمة لم يلحن ، وصنفهم أهل علم الأبدان في لحنين : في الطب لا نفع فيما هم يعالجون إذ لا بقاء للأجسام ، وإنّما المعني هم أطباء النفوس ، والكل من هؤلاء هالك ، إلّا صنف الذين ذكرناهم بالحكمة والفلسفة الإلهية الذين يقولون بالعوالم الثلاثة ؛ وأما أهل الظاهر المحض فهم أهل العمى والضلال والتعصب والمحال.

وأهل الدعوة النبوية على وجوه شتى : منهم الغلاة ، ومنهم المقصر ، ومنهم النزارية (٤) والحاكمية (٥) ، ومنهم الاثنا عشرية (٦) ومنهم الشبه والعمى. ومنهم

__________________

(١) يعني : أي في ط.

(٢) السورة : سقطت في ط.

(٣) التزم : الالتزام في ج.

(٤) يريد بالنزارية : الإسماعيلية النزارية القائلين بإمامة نزار بن المستنصر الفاطمي وهم على خلاف مع الإسماعيلية المستعلية الذين قالوا بإمامة المستعلي الابن الثاني للمستنصر الفاطمي.

(٥) يعني بالحاكمية جماعة الحمزة بن علي الزوزني الذين وقفوا في تسلسل الإمامة على الحاكم بأمر الله الفاطمي وهم الدروز.

(٦) يريد الشيعة الذين وقفوا في تسلسلهم الإمامي عند الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري.

٢٨٦

فرقة يلتزمون بالحدود ، ويوحدون المعبود ، ويلزمون بالمقام عليه‌السلام يعلمون ويعملون ؛ والعمل على وجوه شتى : فعمل بالصلاة والزكاة والصوم والحج ، والجهاد لا غيره ، وهذا العمل الذي لا يدخل جنّة ، ولا يخرج من نار إلا بسبب طرح الولاية التي هي روح دعائم الإسلام.

ومنه ما ذكره سيدنا حميد الدين قدس الله سرّه : إن الصلاة تصرف في التأويل على وجوه كثيرة : فمنها الطاعة ، ومنها تعلم العلم ، ومنها الدخول في العهد والإحرام ، ومنها الرحمة ، ومنها ظاهر الشريعة ، ومنها إقامة الدعوة ، ومنها الصورة الروحانية.

وقال سيدنا المؤيد نضر الله وجهه : فإذا أدرك الإنسان حقيقة المعاد ، وتأمل ذلك بعين البصيرة ، نظر الحقيقة ، رأى ثم رأى (١) نعيما وملكا كبيرا ، كما قال الله سبحانه ، والملك هو الإمامة والقوة والبسط في العلم الحقيقي كما قال تعالى : (آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (٢) يعني الإمامة والنبوة اللذين هما الملك بالحقيقة ، وكل ملك لا يكون مع النبوة والوصاية والإمامة فليس ذلك بملك ، لأن ذلك الملك زائل ، لا قرار له ولا ثبات عنده ، نعني ملك الدنيا الفانية ، فاعلم ذلك وتحققه ولا تتجاوز حدوده.

وقال أيضا : فإذا خرج الإنسان من هذا العالم الكثيف إلى العالم اللطيف الروحاني تجرد من هذا الجسد الكثيف ، ويدعه مثل المشيمة ، ويكون قد اكتسب بعلمه وعمله من الشريعة جسدا لطيفا يقدر على الصعود مع النفس الناطقة مع اللطافة. فتأمل ما ذكرناه رمزا واستعدادا. الزاد للدار الآخرة لخلاص النفوس الناطقة وبلوغها إلى ما لا نهاية ، ونقلتها من حالة إلى حالة ،

__________________

(١) رأى : سقطت في ط.

(٢) سورة : ٤ / ٥٤.

٢٨٧

ومن درجة إلى درجة ، فعند ذلك ترى ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

ثم قال أيضا : فعليكم بمجاهدة النفوس وأي جهاد أكبر وأعظم من أن تجعل النفس الحسية البهيمية بالعلم والعمل إلى حد أن تكون مثل الملائكة «وتصير لطيفا مثل النفس الناطقة وتصير شيئا واحدا ، ويكونان ملكا من الملائكة» (١) وذلك بوساطة النبي والوصي والأئمة ، وقبول ما جاءوا به من العلم والعمل ، فعند ذلك تنال الدرجات ، وتثبت صورتها في أعلى عليين كما ثبتت صورة البشر في بطن أمه ، فكذلك النفس الناطقة إذا علمت وعملت في دار الدنيا التي هي رحم الآخرة ، رفعت كاملة عاملة ، وبلغت في دار المعاد مناها ، ووجدت ما عملت حاضرا بين يديها ، ونالت بذلك ما أرادت من الدرجات العلوية ، والعلوم الروحانية إلى أن تنتهي إلى أقصى النهايات وإلى أفضل الرتب والمراتب ، وذلك لقوله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢).

وقال أيضا : فإذا كمل المؤمن في هذا العالم على هذا الترتيب ، وأخذ بحظه من حده وجد السبيل عند نقلته إلى عالمه ووصل إلى الجنة الحقيقية ، فلا فناء فيها ولا انزعاج ، ولا تغير من حال إلى (٣) بعد حال.

واعلم أنا قد ذكرنا القوى الثلاث وامتزاجها ، التي هي القوّة النامية ، والقوة الحسية ، والقوة الناطقة ، وأن كل واحدة منها منفردة بذاتها ، فلما اجتمعت وامتزجت خرج ما هو أجل وأحسن في العالم الجسماني والروحاني ؛ وإنّما يتغير حالها من حال إلى حال ، ونقلة بعد نقلة حتى تتصور صورة

__________________

(١) سقطت الكلمات الموضوعة بين قوسين من ج.

(٢) سورة : ٣٢ / ١٧.

(٣) إلى : سقطت في ج.

٢٨٨

كاملة حساسة دراكة لا يفوتها شيء من الأشياء ، عالمة بما كان وبما يكون إلى يوم الدين.

وكما أن السلالة تنتقل من حالة إلى حالة إلى أن تنتهي إلى الخلق (١) الآخر الذي هو اللطيف الحي العالم القادر إلى قوله وهذا دليل واضح بأن النفس الناطقة تنتقل من حال إلى حال ، ومن درجة إلى درجة حتى تصير خلاف ما كانت عليه ؛ قال الله تعالى في أمنية المؤمن لمن بعده : (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (٢). فالعمل العمل بما شرحته ، فبالعمل تتصل بالعلم ، وبالعمل تكمل صورتك وتنال الدرجات وتبلغ غاية الغايات ، والعمل هو ولاية الأئمة ، وبطاعة إمام الزمان تنال عفو الرحمن ، ولا تقبل الأعمال المفروضات والمسنونات إلّا بطاعة من قد فرض الله تعالى طاعته بقوله عزوجل : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٣).

فهذه ثلاث طاعات واجبة مفروضة مسنونة لا رخصة فيها ، ومن فرق بينها سقط عمله وباء بإثمه.

ثم ذكر البرازخ (٤) قال : فالبرزخ شيء بين شيئين ، وقيل إنّه بين الجنة تردم (٥) أرواح الخلق فيه إلى يوم القيامة ، فإذا وقع الحساب دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار. وهذا فصل بين فيه أن المجمع برزخ يردم فيه أرواح أهل الدعوة إلى الانبعاث المنبعث الثاني الذي هو الملك المقرب الذي به تتعلق الأنفس وبه تستمد في دار الحس.

وللبرزخ وجوه ومعان جمة ؛ ووجه من الوجوه أن البرزخ هم النطقاء

__________________

(١) الخلق : سقطت في ج.

(٢) سورة : ٣٦ / ٢٦ ، ٢٧.

(٣) سورة : ٤ / ٥٩.

(٤) ثم ذكر البرازخ قال : وقال أيضا ثم ذكر البرازخ في ج.

(٥) تردم : ترزم في ط.

٢٨٩

والأوصياء والأئمة «في كل دور» (١) «لأن رجوع المؤمنين من قبل النبي والوصي» (٢) والأئمة والحجج والدعاة كل واحد من الحدود ممن هو دونه بمنزلة الأب ، والأدنى بمنزلة الأم ، على هذا الترتيب ؛ لأن العالم الروحاني نتيجة هذا العالم ، فكل من ينتقل من هذا العالم في وقت إمام من الأئمة فرجوعه إلى ذلك الإمام الذي انتقل في أيامه لقوله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) (٣) ، وهو برزخه ومعاده ، والرسول والوصي برزخ الكل. فهذا البرزخ والمعاد في وجه من الوجوه ؛ واعلم أن هذا للمؤمنين لا غير.

فإن قال قائل إذا كان رجوعنا إلى الحدود الذين هم الرسول والوصي والإمام في كل زمان فإلى أين معادهم؟

قلنا : إلى من هو فوقهم من الحدود الروحانيين من حيث مادتهم واتصالهم بروح القدس والتأييد من قبلهم وهم السابق والتالي ، لأنهما أصلا لجميع الخلائق الروحاني والجسماني ، وهذا فصل عنه قدس الله لطيفه ، بين فيه البرازخ بحقيقتها ، وأوضح أن معاد المؤمنين إلى هؤلاء الحدود الثلاثة ، وأنهم نهايتهم ، وأن أهل هذه المراتب الثلاث معادهم إلى السابق (٤) والتالي.

قال أيضا : قال النبي : يوم القيامة يقوم الناس من قبورهم للحساب ، فإذا فرغ الحساب ، يمر أهل الجنة إلى الجنّة وأهل النار إلى النار. وإنما أراد بالقبور من الأنفس فإنّه مثله مثل القبر ، لأنّه يقبر فيه إلى وقت خروجه من القوة إلى الفعل ، وكذلك عند قيام القائم صلوات الله عليه ويكون يوم الجزاء بالثواب ، ويوم العقاب بالعذاب. وقال أيضا : النفس الناطقة عمالة بالجسد

__________________

(١) في كل دور : سقطت في ط.

(٢) لأن رجوع المؤمنين من قبل النبي والوصي : سقطت في ط.

(٣) سورة : ١٧ / ٧١.

(٤) السابق : سقطت في ط.

٢٩٠

لا ترضى لنفسها بالبطالة طرفة عين وهي في الجسد حية ناطقة دراكة للأشياء مختارة (١) مميزة مدبرة لما تحتاج إليه من خير وشر ، فإذا نام الجسد فهي تجول يمينا وشمالا وشرقا وغربا وبرا وبحرا وسهلا وجبلا. فإذا تجردت من جسدها كانت تدرك غاية الغايات ونهاية النهايات ، وتقوى بصائرها على ما تريد من همتها ، لأنها أبدا تطلب علوا ، ومن طلب وصل إلى محبوبه ، وتحتاج مع ذلك إلى غذاء غير غذائها الأول ، لأنها قد ارتفعت عن الغذاء الأول الذي هو من الأساسين ، وإنّما تطلب الغذاء من الأصلين الروحانيين بمادة الواسطة التي هي بينها وبينها لتدرك يوما ما منزلتها.

فهذه غاية النفس الناطقة «إذا تناهت وصفت فخلصت وخلصت ، والنفس الناطقة» (٢) التي هي حامل الجسم الثقيل ؛ لأن النفس الناطقة لا كجنس في صورة ، ولا كجوهر في عرض ، ولا كعرض في عرض ، ولا بمعنى الشيء في الشيء ، بل بمعنى المحرك والمتحرك ؛ وإنها مرتبطة بالجسم بالإضافة والمثل وبالحال على طريق الإضافة. وإن النفس رمز في الجسم ، كما أن المعنى رمز في اللفظ ، فإذا زال اللفظ تجرد المعنى.

وقال أيضا : واعلم أنّه إن كانت صورة الإنسان طاهرة نقية زكية مرضية قد صفاها بالأعمال الصالحة تراءت لها الأنوار ونضدت لها الأسوار حتى تعاين حقيقة الملكوت بما اكتسبت من علوم أهل التأييد ، وما اتصل بها منهم على التدريج ؛ فإذا لحقت هذه الصورة بعالمها كانت بصيرة كلها ، ولذة كلها ، سمعية كلها ، لأن الكثائف تزول وتجتمع اللطائف ، فتكون اللذات والفرح والسرور أضعاف ما يجده وهو مع كثيفه مربوطا. فما

__________________

(١) مختارة : مختالة في ط.

(٢) سقطت الكلمات الموضوعة داخل قوسين من ج.

٢٩١

أشرف هذا الإنسان وأجله إذا عرف ذاته ، وما أنعم الله عليه من فضله على أيدي أوليائه وحدوده.

وقال أيضا : فإذا تعلمت الناطقة العلم ، وتهذبت ووقفت على حقائق الأشياء وتطهرت من كل دنس ، وتبرأت من الأفعال الردية ، والخصال المذمومة إلى الخصال المحمودة ، وعملت ما يوجبه الحق ، واستحقت ثوابها ، ووصلت إلى النفع المجموع في قدرة باريها ، وعرفت الحق في أي جهة هو ، ولم تتعد الحدود ، وعلمت فعل الولي وفعل الضد ، صارت معهم بالمشاكلة والمجانسة ، ولا تفارقهم حيث كانوا إلى أن تصل إلى أعلى المراتب بالحكمة التامة وتعلم العلم الحقيقي ، وإن نقوش دار الآخرة هي العلم والعمل الذي أورده الأنبياء والأوصياء والأئمة ، صلى الله عليهم أجمعين ، عن الله سبحانه الذي تصور النفس الناطقة التي تتخلص بها في معادها عند عودها إلى معدنها التي جاءت منه ، وتنال الدرجات الموعود بها من انتقالها من حالة إلى حالة ، ومن درجة إلى درجة ، إلى أن تصير مركزا لغيرها كما كان غيرها مركزا لها ، إلى أن أخرجتها من حد القوة إلى حد الفعل ؛ ومن الاستفادة إلى حد الإفادة ، ومن حد الإناث إلى حد الذكور ، ونقلها من أسفل سافلين ، إلى أعلى عليين.

فتأمل رحمك الله هذا الفصل الذي جاء عن الأئمة الطاهرين ، ولا يمر عليك صفحا ، واتعب قليلا تسترح أبد الآبدين ، وتكون من العالين. فالنفس الراضية المرضية المطمئنة بفعلها ، يطلبها العلو إلى أن يبلغها أعلى عليين.

وقد جعل سبحانه الجنة درجات ، فإذا صفت وخفت ، خرقت الحجب وتعلقت بجوهر الصفاء ودار البقاء ؛ فعليك بمودة إمام الزمان الذي تدعى به عند البعث كما قال تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) (١). لأن طاعته فرض لا رخصة فيه لأحد أبدا.

__________________

(١) سورة : ١٧ / ٧١.

٢٩٢

وقد تمت الأبواب الثلاثة عشرة ، وقد بالغنا فيها بتلخيص ما أمكن من المعاني المصونة ، والحكم المكنونة ، بمختصر عن الكلام ، ووجيز من القول في التوحيد ومعرفة الحدود ، ومعرفة مراتبهم ومنازلهم ودرجاتهم وشرفهم وفضائلهم ، بلا غلو ولا تقصير ؛ وفي معرفة المعاد والارتقاء والصعود في الأبواب والدرج والمنازل ، ومعرفة البرازخ والمجامع ، وكيف الاتصال والانفصال وحقيقة الثواب والجنان بعون الله تعالى ومشيئته وتأييد ولي الأمر وصاحب العصر عليه‌السلام. ولم يبق إلّا الكلام على العذاب وأبوابه ، وما هو مرموز به. إذ الخلق في علمه غير متفقين ، بل مفترقين ، وكل يأتي في ذلك قدر هواه ومبلغ علمه. ونحن لا نأتي في ذلك إلّا بقول أهل الحقيقة لينذر من الوقوع في المهالك (١) ، وبالله نستعين وعليه نتوكل ، وبه نستجير من غضبه ، ووجوب سخطه ، إنّه غفور رحيم.

__________________

(١) المهالك : الهلكات في ط.

٢٩٣

الباب الرّابع عشر

«في القول على العذاب بحقيقته ومعنويته»

قال الشخص الفاضل صاحب الرسائل نضر الله وجهه ورزقنا شفاعته في معرفة إبليس وذريته الشياطين ، ومواضعها من المعادن والنبات والحيوان والإنسان : اعلم يا أخي أيدك الله وإيانا بروح منه أنّه لما وقعت النفوس الجزئية في ظلمة الخطيئة وتخلفت عن الإجابة ، وجنت الجناية المذكورة في القرآن بما قد ذكرنا طرفا منه في الرسائل ، اهبطت من عالمها الروحاني إلى المحل الجسماني ، وقيل لهم : (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ. لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) (١) وقيل : (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (٢). فتقطعت وهوت واتحدت بالأجسام الطبيعية والصور التركيبية ، وانقسمت قسمين ، وهبطت فرقتين مختلفتين ما بين عاص مصرّ مستكبر ، وتائب راجع مستقيل ، كتوبة آدم وإصرار إبليس ومن تبعه.

وانقسمت كل فرقة منها فرقتين ونزلت منزلتين. فالتائبون اثنان : مسارع في توبته ، عارف بزلته ، راجع إلى ربه عن قرب من مكانه ، وسرعة من زمانه ، يتذكر إذا ذكر ، ويقبل الموعظة ويتفكر في خلق السموات والأرض فيقر بتوحيد مبدعه ، ويرجع إلى طاعة خالقه. وآخر متوان في توبته ، متردد (٣) في جهالته ، فهو يتذكر الشيء بعد الشيء ، فهو

__________________

(١) سورة : ٧٧ / ٣٠ ، ٣١.

(٢) سورة : ٢ / ٣٦.

(٣) متردد : متردي في ج.

٢٩٤

متردد في كونه وفساده وانقلابه ومعاده لتكمل له التوبة ، وتحصل له الإنابة ، ويتطهر بماء الطاعة ، من نجاسة المعصية ؛ فيرجع حينئذ إلى المكان الطاهر ، والمحل الفاخر ، والمنزلة الرفيعة.

والرتبة الشيطانية انقسمت أيضا قسمين ؛ وصارت نازلة منزلتين ، وصارت طائفتين : فطائفة عالمة بزلتها ، مصرة على خطيئتها ، مستكبرة عن طاعة باريها ، تريد الفساد في الأرض ، وهو إبليس ومن تبعه من الأبالسة والشياطين المردة. وطائفة لاحقة بهم ، متعلمة منهم ، قابلة من أوامرهم ونواهيهم. فالطائفة الأولة شياطين وأبالسة بالقوة.

واعلم يا أخي أيدك الله وإيانا بروح منه أن النفوس الجزئية لما أهبطت إلى عالم الهيولى الطبيعية للاتحاد بالأجساد البشرية ، وتفرقت ونشرت قواها في الأمهات ، وامتزجت بالاستقصات ، وخالطت المعادن والنبات والحيوان والإنسان بالقوة ، ظهر أشخاصها بالفعل. فيظهر من كل شخص فعله الذي كان به بالقوة. ولما كانت أيضا فرقتين صارت الموجودات كلها اثنين : محمود ومذموم. فالمحمود أيضا صار قسمين : محمود في غاية الحمد ، والآخر لاحق به ربما يوما مثله ؛ ومذموم في غاية الذم وآخر لاحق به. وصارت العداوة بينهما بالأمر الإلهي : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (١). وصار لكونهم فيها نهاية لقوله سبحانه : ومتاع إلى حين. والحين نهاية محدودة.

فهذا فصل عن الثقة الأمين بيّن الخطيئة الأولى في الروحانية وانقسامهم إلى قسمين فمصرّ وغير مصرّ. وذلك على ما قد جرى به القول في صدر كتابنا هذا وما بيّناه من قيام العاشر بالقوة بفعله الذي لم يلتزم بالسابق عليه في الوجود الذي هو المنبعث الأول ، ويعترف بفضله وشرفه ويجعله وسيلة له وقبلة إلى

__________________

(١) سورة : ٢ / ٣٦.

٢٩٥

السابق لهما الذي هو المبدع الأول. كما أن المنبعث الأول لم يتعد طوره ، وسبح المبدع الأول وقدسه وجعله وسيلته وقبلته إلى المبدع الحق تعالى ، وجعل تسبيحه من قبله وتوحيده وتقديسه.

فكان قيام هذا الثاني بالقوة بسبب نقصه عن الفعل ، الذي هو كماله الثاني بالقوة بسبب نقصه عن الفعل الذي هو كماله الثاني ، إذ لم يلتزم بحده المذكور ، إذ كل محدود ملزوم بطاعة حده ؛ وأيضا لم يشهد لمن جلت قدرته بما شهد به المبدع ، ولا كان إقراره إلا له وحده ؛ فلما كان ذلك كذلك وظهر المبدع الأول بالمنبعث الأول ودعى به عالم الإبداع فانقسم ذلك العالم على ما ذكرنا قسمين : أجاب شيئا بعد شيء وترتبوا في الإجابة إلى سبع مراتب ، وأقروا بالداعي الذي هو المنبعث الأول ، وبالمدعو له الذي هو المبدع الأول ، وبالمستوجب للإلهية والتوحيد والتجريد والتنزيه والتعظيم ، فبقوا على حالتهم.

والقسم الثاني انقسموا أيضا قسمين : فقسم أقروا بما أقر به المنبعث الثاني القائم بالقوة بالمبدع الأول فقط ولم يقروا بالمنبعث الأول ، ولا بإلهية المبدع الحق تعالى على سبيل فعل المنبعث الثاني ، والقسم الثاني أصروا واستكبروا بما حتى لم يقروا بأول ولا بآخر ولا بمبدع ولا بمبدع. وأقبلت العقول على القائم بالقوة وعلى من تلاه في تصوره بالإلهام والتأييد ، فأقر بما غفل عنه والتزم بحده واعترف بقصوره بغير قصد ولا عمد ، وشهد لباري البرايا بالإلهية ، ولم يقر من القسم الأول الذين تصوروا بصورته ، وفعلوا كفعله أحد ؛ بل شكوا وتحيروا فأقيم فيهم مقام الواحدية ، وأمر بالدعوة والإلهام للقسم الثاني ، فزهد الكل فيه وفي دعوته وتكبروا عليه ، وأصروا بهم العصيان والهبوط.

فالقسم الأول الذين أقروا بالمبدع الأول وجحدوا المنبعثين ، ولم يستشهدوا بالإلهية لباري البرايا كانوا هم الصورة التي هي الحياة الطبيعية المشار

٢٩٦

إليها بالنفس الحسية ، فكانوا سكان السموات المنفعلة أفلاكا وأملاكا وكواكب بإقرارهم بذلك الحد العظيم فقط. وهبط القسم الثاني فكانوا عالم الكون والفساد هيولى الأجسام ونفس النمو بإصرارهم على الخطيئة وتكبرهم على الحدود ، وانكارهم للمعبود ، فصارت الصورة الحسية الفلكية هي الحواء التي احتوت على العوالم كلها ، زوجة آدم الروحاني التي أهبطت ، وغفر له الذي هو العاشر الروحاني.

وذلك ما جاء عن الشخص الفاضل صاحب الرسائل في الفصل الأول من ذكره للفرق في العصيان والهبوط ، وأن الأبالسة والشياطين المردة الذين أهبطوا إلى عالم الكون والفساد على ما ذكرناه أولا وآخرا ، وكررنا الكلام عليه فذلك هو أصل المحنة الواقعة ، والبلية الفادحة ، أصل الكثافة والشر ممن وعمّن وقع في التكبر والشك والتحير من ذواتهم في ذواتهم لا بفعل فاعل فعل بهم إذ لا أصل للشر في الإبداع.

وكما جاء عن الحكيم إذا كان الله عدلا في قضائه ، فما مصاب العالم إلّا لعلة ، فها هي هذه العلة الشاملة كما جاء عن سيدنا المؤيد أعلى الله قدسه في الدين وهذا المعني بعينه ، بقوله : الحمد لله الذي بنى على العسر واليسر الأمور ، وأجرى على الحلو والمر الدهور ، لعلة منها الإفهام اعتلت ، وفيها الأوهام ضلت ، طال فيها الكلام ، واستمر في الفحص عنها الخصام ، فما خلصت من وثاق الحيرة منها النفوس ، ولا انفكت من قناع العجز باستقصائها الرءوس ، أحمده حمد ذي عسر ، طال أمد عسره ، فما انتظر يسرا ، وعلم أن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا.

وقد قدمنا هذا الشرح وغيره ولا كان هذا الموضع موضعه ، فعللنا الكلام عليه آنفا ، وفي هذا المقدار كفاية كافية لمن كان له قلب أو ألقى السمع ، أو علم. والخلق كما قلنا يفترقون في آرائهم ومذاهبهم بأن النفوس والأجسام

٢٩٧

تبعث للثواب والعقاب جميعا. وحملوا ذلك القدرة بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.

وفرقة من الفلاسفة ومن أهل المقالة يرون أن النفوس الخبيثة المتقهقرة تفارق أجسامها وتصير في حيز فيما بين الأثير والزمهرير معذبة تنظر إلى الملإ الأعلى الذي كان يكون إليه معاد ما لو عملت صالحا فلا تقدر على الصعود إليه وتنظر إلى العالم الذي فارقته فلا تقدر على الرجوع إليه ، وعذابها أنّه تبرأ لها ، أنها تحرق وتغرق وتضرب وتسقط وتقتل وتتألّم وتمرض ، وهذا ما لا نهاية (١) حقيقة له وللمعنوية ، وإنّما فرارهم من التناسخ وتكرر الأجسام.

وهذا فصل عن أهل الحق لم يعلموه ولا أحكموه حقيقته ولا فهموه ، وهو مثل مضروب يدل على حقيقة ، والمعنى من ذلك أنها تكون في حيز الحسية النامية ، الذي هو البرزخ الظلماني من الكثافة الذي يحس فيه الأثير وبرد الزمهرير ، ويجري عليها فيه الآلام والأمراض والأعراض والخوف والفزع والسقم والحزن وهي تنظر إلى الملإ الأعلى الذين هم أرباب الدعوة ، فلا تقدر على الصعود إليهم وهي تعرفهم بحقيقة المعرفة.

فأمّا عالم القدس ، فهم محجوبون عن أهل الولاء والطاعة فلا يدركونهم لصفة ولا روية ، فكيف يدركهم أهل العمى والجهل ، والفلاسفة يرون أن العالم الأعلى الذي ينظرون إليه ، هو عالم الأفلاك ، لأنّه عندهم العشرة ، وأن المعاد إليهم ، فهذا رأيهم ، ثم ينظرون إلى العالم الذي كانت فيه فلا تقدر على الرجوع إليه.

فهذا العالم هو القامة الألفية إذ قد صاروا في الركس المماثل. يدل على ذلك قول أصدق القائلين حكاية عنهم : (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى

__________________

(١) نهاية : نهى في ج.

٢٩٨

يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١). أي هو البرزخ الظلماني.

وفرقة أهل الغلو والتناسخ والدهرية يرون أن النفوس الطائعة والعاصية لا تفارق أجسامها حتى قد هيّئ لهم أجسام يسكنونها فيكون المطيع في قميصه الآخر أعلى وأشرف ، وأعلى وأعلم مما كان فيه أولا ، وهذا هو عين الجور وعجز الصانع القادر ، إذا كان يعود بعد الحياة ميتا ، وبعد العلم جاهلا ، وبعد القدرة ضعيفا. نعوذ بالله من العمى.

والأجسام التي تكون مهيّأة لأهل العذاب ، يكون هذا يموت ويحيا في القالب الذي هيئ له ، هذا يقولون فطس ، وهذا عطس ؛ وما لعدل هاهنا في الجسم المهيّئ لعذابه ، وهو نفس نماء حتى يعذب بعذاب الساكن الذي يحل فيه. ويحتجون في ذلك بحجج بقوله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) (٢).

والكل من الفرق يحومون حول الحق من بعيد ، ولا حقيقة عندهم تخرجهم من الشك والارتياب وتجوير الباري سبحانه. وإنّما المعنى من ذلك نفوسهم. هؤلاء الذين يخرجون من دائرة الوجود إذا حضر نفسا منها أجله وفراقه للدنيا ، فذلك يسمى موتا بموته عن دائرة الحق وبخروجه عن الصراط الذي بين الجنة والنار من القامة الألفية وفراقه له ، وقد صارت نفسه متأزلة بالبقاء السرمد مما علمه وأنكره ، وبما عمله وعطله ، أو ادعى رتبة ليست له ، فتلك نفس لا يقع عليها اسم النقلة ، بل اسم استحالة ، فيكون عند حضوره الوفاة تعود نفسه الحسية نامية وتعودان جميعا حرارة زائدة هي سبب الموت ، ثم تنمو البرودة ، واليبوسة فتكثران وتزيدان حتى تغلبا الحرارة ، فتعود يبوسة وتحجب بالبرودة ، وتشيع الرطوبة في الجسم والبرودة أغلب ، واليبس وتحرك العروق السواكن وتسكن الضوارب

__________________

(١) سورة : ٢٣ / ٩٩ ، ١٠٠.

(٢) سورة : ٤ / ٥٥.

٢٩٩

وتكاثف البرودة وتزايد حتى تكون الحياة الحسية شائعة في الطبائع وببرودة (١) الحرارة ويبس الرطوبة ، وتنكظم في الجسم ويمنع فلا يوجد فيه.

فهذا هو من موتها ولا تخرج منها شيء إلّا تعود إلى طبائعها كما كانت في النطفة شائعة ، وجاورت الحياة التي هي المعدن الذي قد صارت فيه. لأن بمجاورة الحي الحياة وقابلتها الأفلاك وامدت الجسم الذي هو فيه بقوى النمو من الأغذية حتى ظهرت طبيعة خامسة من الجميع وبرزت ، وكانت الحرارة مركزها في القلب ، كذلك أنها عند الاستحالة تشيع مثل ما كانت عليه في بداية خلقها حتى تعود من السحيق إلى حسن استحقته ، وقد قيل إنّه قد يمكن أن ينفعل جسمها بما فيه من تلك النفس التي تكثفت بفعلها في جنس واحد سبعين هيكلا ، فليس عودتها في الانحلال إلّا إلى السحيق. ولا عودة إلى قناطير العذاب إلّا من السحيق.

وذلك أنها تثبت بشيء من أغذية الجنس الذي هو مستحقه للكون فيه ، ويكون نطفا ، وتتكون أشخاصا بنظر المتولي لذلك وحفظها في نشوها وابلائها في الإدراك السبعة التي هي الأمهات الأربع في المذموم من المواليد الثلاثة. وهي في السلاسل مغلولة ، وفي القيود مكبلة (٢) مسقطة مكورة ، محورة ، من ساعة خروجها من الخلق السوي إلى ما يشبهه ويماثله. مثل الزنج والعجم الأغاتم ، ثم إلى النسانيس (٣) والذيبة ، والقردة ، والغولة ، إلى ما يماثل القامة الألفية ؛ وكلما أريد به الاستحالة إلى ما هو أشر بما كان فيه ، شاع لطيفه في كثيفه وعلى ذلك أبد الآبدين. وهو يهبط كل صنف أعلى إلى ما هو أشر منه على ما رمز به صاحب رسالة الحيوان.

فتلك العوالم كلها لا بد لها من مباشرتها والكون في جملتها. وهذا هو

__________________

(١) ببرودة : ببرد في ط.

(٢) مكبلة : مكبة في ط.

(٣) النسانيس : النسائس في ط.

٣٠٠