كنز الولد

ابراهيم بن الحسين الحامدي

كنز الولد

المؤلف:

ابراهيم بن الحسين الحامدي


المحقق: مصطفى غالب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٢

عنه الفاعل ، والأمر ، والعال ، والمبدع سبحانه حتى يكون ذلك الفاعل والآمر والعال والمبدع الذي هو العقل بكونه علّة ومعلولا ، وجوده في ذاته ليس إلّا عنه الذي هو خارج عن ذاته تعالى وتكبر ، وبذلك نطق الكتاب الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (١).

وقوله حيث يقول جل من قائل : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (٢). يعني أن الله الذي قد ألّه فيما هو خارج عنه ، من موجده ومبدعه تعالى ، فتحير ووله إليه ، فاشتاق الذي هو العقل الأول لأن (٣) يدرك الأشياء كلّها ، ويحصلها بماهيتها وهويتها ، وعلى ما هي به ، ويتصورها فلا يأله فيها ولا يأله إليها ، ولا يتحير ، ولا تغرب عنه ، ولا يلحقه من إدراكها عجز ولا قصور ، إلّا فيما أشار إليه بقوله : إلّا هو الذي هو خارج عنه ، وعنه وجوده تعالى الله وتكبر. أي أقرّ العقل عند الألوهية والتحير ، والوله والشوق ، الذي له إلى مبدعه ، وهو قوله : شهد الله أنه لا إله إلّا ، أي لأوله ، ولا إلهانية. وهو قوله : «إنه لا إله إلّا فيما هو هو أي خارج عنه وهو قوله» (٤) إلّا هو ، فلا إله إلّا هو سبحانه وتكبر عما يقول الظالمون ، علوّا كبيرا.

فالأمر الأول الذي هو كونه كلمح البصر ، وهو المأمور الأول الذي لا يتغير ولا يستحيل عمّا هو ذاته ، والمعلول الأول الذي وجوده من ذات العلّة التي هي هو ، فتصير العلّة من جهة (٥) ذاتها معلولة ، ومن جهة

__________________

(١) سورة ٤١ / ٤٢.

(٢) سورة ٣ / ١٨.

(٣) لأن : سقطت في جميع النسخ.

(٤) سقطت الكلمات الموضوعة داخل قوسين من ج وط.

(٥) لكون ما وجوده عن الله سبحانه وجودا أولا ذاته غير ذي غير بكونها عين الفعل الذي هو أول وجود عنه تعالى ، وذات الفعل ذات واحد لا ذاتين ، وإذا لم يكن وجوده وجودا أولا وجب أن يتقدم عليه في الوجود غيره ، فكان لو كان العقل جسما لتقدم عليه في الوجود غيره ، ـ

٦١

ما هو عنه وجودها علّة ، ومن جهة ما يوجد عنه عالا (١).

فالأمر هو علّة البدء فهو من جهة ما وجد عنه أمر ، ومن جهة ما عليه كان وجوده من الامتناع عن الاستحالة والتغير مأمور. ومن جهة ما يظهر منه دونه أمر ، من غير أن يكون الأمر في ذاته غير المأمور ولا المأمور في ذاته غير الأمر. بل ذاك هذا وهذا ذاك ، إذ ليس هنا كثرة (٢) بالذات ، بل بالمعاني ، وذلك عبارة عن العقل الأول.

فالعقل الأول وجوده أول ، ولا يجوز أن يكون في الوجود مثله ، أو في مكان توهم أن يكون وجوده عن الله تعالى بوجود شيء آخر شاركه في الوجود معه بكونه فعلا له تعالى ، وكون الفعل عنه صدوره عن الفاعل ذاتا واحدة. وفي هذا الفصل بين فيه شهادة العقل لباريه بالإلهية ووقوع اسم الإلهيّة على هذا الشاهد المذكور في الآية على ما ذكرناه وبيّناه.

وقال أيضا في راحة العقل (٣) : ولما كانت الموجودات موجودة ثبت أنها مستندة في وجودها إلى ما يباين الموجودات ، فلا يناسبها في شيء ممّا لها ، لا في كثرة بالذات ، ولا بالمعاني ، ولا في قلة ، ولا في شيء من الأشياء المقولة على الجواهر والأعراض الذي بينّا أنّه إن لم يكن كذلك استحال وجود الموجودات. وإذا كانت الموجودات وجودها عمن لا يحتمل قلّة ولا كثرة ، ولا صفة من الصفات ، كان الموجود الأول غير متكثر بالذات ، ولا جائز أن يكون كذلك كما بينا.

__________________

ـ وبطل أن يكون شيء يتقدم في وجوده على العقل الأول إذ هو ذات الفعل الذي هو العلة والإبداع وليس وراءه إلا الله المبدع الذي عنه وجوده.

(١) كالنفس التي تحتاج إلى الاستفادة من العقل فتتحرك نحوه حركة الشوق وحركة المعلول إلى العلة.

(٢) هنا كثرة : سقطت في ج وط.

(٣) المشرع الرابع من السور الرابع من كتاب راحة العقل الكرماني.

٦٢

وإذا كان غير متكثر ، ولا جائز أن يكون كذلك ، وجب أن يكون شيئا لا يكون من ذاته ما لا يشبه شيئا منها ، بل محضا كلا فردا واحدا أحدا من جهة وجوده عن المتعالي سبحانه.

ولمّا كان الموجود الأول فردا أحدا على ما تقدم الكلام عليه لم يجز أن يكون الموجود عن هذا الفرد الأحد الموجود أولا (١) فردا واحدا بكون هذا الموجود الأول شاغلا مرتبة الواحدية فسبقه في الوجود إليها ، وكونها له حقّا.

ولمّا لم يجز (٢) كان الموجود (٣) عن الفرد الأحد الواحد زوجا الذي هو مرتبة ما يوجد بعد الفرد مقابلا لما عليه ذاته من النسبة التي لها بالإضافات (٤) لا بالذات على ما بينا فيما سبق ، فبذلك يصح بأن العلّة في وجود ما وجد عن المبدع الذي هو الموجود الأول لا من جنس واحد سبحانية المتعالي سبحانه عن مرتبة الواحدية والأحدية التي هي آية اختراعه ، وخلوصها للموجود الأول بالإبداع الذي يوجب بكونه بأن يكون ما يوجد عنه لا من جنس واحد فيكون واحدا ، بل من جنسين متغايرين (٥) بالذات ليكون اثنين بحسب النسبتين اللتين هما يختصان بعلتهما على ما قدمنا القول والكلام في بابه (٦).

ولو كان الموجود عن المبدع الذي هو الموجود الأول واحدا ،

__________________

(١) سقطت في ج : والعبارة مأخوذة من راحة العقل المشرع الرابع من السور الرابع.

(٢) ذلك كان : في ج. وهي غير موجودة في النص المأخوذ من راحة العقل.

(٣) الموجود : الموجود الأول في ج وط.

(٤) بالإضافات : بالإضافة في ج وط.

(٥) متغايرين : متغايرات في ج.

(٦) في النص المنقول عن راحة العقل بابهما. سقطت القول في ج وط.

٦٣

لاقتضى أن يكون ما وجد عنه الذي هو الموجود الأول هو المتعالي عن الواحدية والأحديّة والأولية ، الذي يكون الموجود عنه واحدا أحدا أولا. فلمّا لم يكن كذلك كان زوجا ، فلمّا كان زوجا وجب أن يكون لكل من الفردين اللذين بهما ذات الزوج ما يباين به صاحبه ويغايره لتثبت الاثنينية وإلّا فلا فرق ، فسبحانية من له الإبداع والأمر عن (١) أن يكون مترتبا في مرتبة يستحقّها ما وجد بإبداعه ، وخلوص المرتبة الأولة (٢) في الوجود للإبداع الذي هو المبدع هو علّة لكون وجود ما وجد عن المبدع الأول لا من جنس واحد.

ثم كون الموجود عن الموجود الأول في الرتبة الثانية من الوجود علة لكونه لا من جنس واحد إذ تلك المرتبة مرتبة الاثنينية ، والاثنينية لا تصح إلّا بوجود التغاير في الذات ، وأن يكون كل واحد من طرفي الاثنينية لا من هذا الموجود الأول شاغلا مرتبة الواحدية بسبقه في الوجود إليها ، وكونها له حقّا جنس واحد ، ثم كون المبدع الذي هو الموجود الأول جامعا لنسبتين (٣) :

إحداهما كونه بإضافته إلى ما عنه وجد إبداعا.

وثانيتهما كونه بإضافته (٤) إلى ذاته مبدعا ، يوجب بكونه علّة للموجودات أن يكون الموجود عنه اثنين ، والاثنينية لا تثبت إلّا بوجود التغاير ، فكون المبدع على ذلك علّة لأن يكون ما يوجد عنه لا من جنس واحد. إلى قوله : إن أولية المبدع من الموجودات ، وسلامة هذه المرتبة التي هي الأحدية والواحدية له ، يتعالى من له الإبداع والأمر عنها ، وتكثره (٥) بالنسب هي العلة

__________________

(١) عن : سقطت في ج وط.

(٢) الأولة : الأولية في ج.

(٣) لنسبتين : للسبتين في ج وط.

(٤) بإضافته : سقطت في ج وط.

(٥) وتكثره : وتكثرت في ج.

٦٤

في أن يكون ما يوجد عنه لا شيئا واحدا ، ولا جنسا واحدا بل من جنسين : عقول قائمة بالفعل ، وعقول قائمة بالقوة. فقد تبين بما أوردنا الحال في العلة التي لأجلها كان ما وجد عن المبدع الأول لا من جنس واحد.

فهذا ما أوضحه نضر الله وجهه في آخر المشرع الرابع من السور الرابع : أن وجود الموجودات عنه من جنسين عقول قائمة بالفعل ، وعقول قائمة بالقوة. وأوجب كثرة انقسمت على وجهين بأفعالها وتباينها من ذاتها في ذاتها ، لا بفعل فاعل فعل بها.

وقد قدمنا الكلام بأن وجود ذلك العالم دفعة واحدة متساويين متكافئين في معنى الكمال الأول في الحياة بالقوة إلى أن تحرك هذا الأول من ذاته بذاته في ذاته حركة وهمية فكرية تمييزية في كيفية الوجود والموجد ، فعجز عن إدراك هذين المعنيين ، فهجم بفطنة زكية ، وصورة جلية ، ان ثم مبدعا تعالى أن يدرك بعقد وهم أو ضمير ، فنفى عن ذاته الإلهية ، وشهد لمبدعه بالوحدانية ، فامتاز بذلك وسبق إلى ما هنالك ، فاختص بالرتبة السنية ، وشق له اسم الإلهية والوحدانية بتوحيده وولهه.

وقد قربنا للمرتاد تقريبا يهتدي به في ذلك صورة الكيفية ، وجعلنا ذلك الشكل مقدمة في المعرفة في الابتداء ، وجعلنا رتبته (١) التي بها علا بسبقه وفعله ، منفردة متوحدة بذاتها ، ثم صورنا صورتين من دون مرتبة منفردتين بذاتهما وسموهما على أبناء جنسهما ، فذات اليمين أحدهما وهي رتبة المنبعث الأول القائم بالفعل (٢) ولمن تلاه ؛ وذات الشمال مرتبة لمن تخلف عن المنبعث الثاني القائم بالقوة ، وذكرنا أن

__________________

(١) يريد رتبة الناطق في عالم الدين وسلامة هذه المرتبة التي هي الواحدية له.

(٢) ورد في النسخة ط مقدار ٧ أسطر زيادة في النص بينما جاء في مكان بعض هذه الأسطر نقاط في ج ولما كانت النسخة م هي المعتمدة فقد حذفنا هذه الأسطر.

٦٥

المبدع الأول لما شهد بالهية مبدعه وسبحه وقدسه بخضوع وخشوع ، وإقرار بنية صادقة ، وطوية محضة وأعلن بذلك بنطق فصيح ، وكلام مسموع معقول صحيح ، ففطن له في نطقه من جميع الجميع هذان المنبعثان ، فاستبقا كفرسي رهان ، فسبق أحدهما الثاني ، فسبح للسابق الأول ، وهو المبدع الأول ، وقدسه ، وعظمه ، وشرفه ؛ وعظم المتعالي المبدع الحق بتعظيم السابق إلى ما سبق إليه ، فقام بالفعل ، وكان شرفه كشرف الوصي ، فكان أول عالم الأمر على ما صورناه.

ثم سبح المنبعث الثاني المبدع الأول ، وقدسه اقتداء بالمنبعث الأول ، ولم يعترف بسبقه له ، وفضله عليه بفعله. فكان ذلك سبب نقصانه ، وقيامه بالقوة ، دون الفعل ، وكان أول عالم الخلق الذين تخلفوا عن الإجابة وتكثفوا ، وجميع ذلك أسرع من لمح البصر لقوله عزوجل : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (١).

__________________

(١) سورة ٥٤ / ٥٠.

٦٦

الباب الثالث :

«في القول على المنبعثين جميعا وبما تباينا»

نقول : إن المبدع الأول لما أفصح ناطقا ، وأعلن محققا بكلمة الإخلاص وكان مبتدعها ، والسابق إليها ، فنفى وأثبت وشهد لمبدعه بالإلهية ، وقنت وجهر بذلك ، وما خافت ، ففطن به كما ذكرنا هذان المنبعثان ، وتحقّقا بما خصه به مبدعه من نور ، وجلال ، وبهاء ، وكمال (١) ؛ بما فاق به من أبناء جنسه في كل حال. فسبق القائم بالفعل كما ذكرنا إلى تعظيمه ، وتشريفه ، وتسبيحه ، وتقديسه ؛ فكان ذلك هو فعله وسبقه وكماله الثاني ، وجلاله بسبب التزامه بحده السابق عليه ، وتنزيهه وتوحيده أيضا لما وحده ، وشهادته بما شهد به من الإلهية للمتعالي ، وتعظيمه بنطق إيضاح مفصح ، وقول منجح ، مسموع معقول. فاستحق باسم الفعل ، وكمل به كمال الثاني ، فكان كاملا في ذاته ، تاما في فعله ، وطرقه في ساعته من البهاء ، والنور ، والضياء ؛ ما لا يصفه واصف ، ولا يكيفه مكيف.

ثم ان المنبعث الثاني سبح المبدع الأول وقدسه ، ومجده ، وشرفه ، وعظمه ، ولم يشهد بما شهده به للمتعالي سبحانه من الإلهية فكان ذلك على سبيل الغلو (٢)

__________________

(١) لامتناع الوجود من نوع وجوده ، والشيء التام هو ما لا يوجد له خارجا عن مثل في نوعيته ، لكون مثله هو منه ، وفيه معدود منه.

(٢) على هذه الصورة يناقش كيفية وقوع الخطيئة عن طريق السهو والغفلة بلا قصد فلم يقر بمرتبة ـ

٦٧

وهو سهو وغفلة بلا قصد ، ولا عمد. ثم سها أيضا عن الأصل الأول ، الذي عليه المعول ، إذ لم يلتزم بصاحبه السابق له بفعله الذي هو المنبعث الأول ، ولم يعترف بسبقه وبفضله ، فكان كاملا في ذاته ، ناقصا في فعله (١) إذ لم يتم له الكمال الثاني بجميع حقوقه وحدوده ، فقام بالقوة التي هي كماله الأول من الحياة التي هي أصل الجميع وكمالهم الأول.

فلمّا كان ذلك كذلك احتجب المبدع الأول القائم بالفعل بالمنبعث الأول ، كاحتجاب المتعالي سبحانه به ، وذلك لتمامه وكماله وعلوه (٢) ، وجلاله ، وفعله في التزامه بحده ، وتقديسه وتمجيده ، وشهادته لمن شهد له بما شهد به ، واتحد به المبدع بمعنويته.

ثم وقعت الدعوة لذلك العالم به ، فأجاب البعض بالتلبية والإنابة والتسبيح ، والتقديس ، والتمجيد له ، ولمن دعاهم إليه ، ودلهم عليه ، لكونه قد صار غيبا لا يدرك لما احتجب به ، وتقاطر الذين أجابوا فئة بعد فئة (٣) ، سبع فئات (٤).

__________________

ـ السابق الذي هو المبدع الأول ولا بمرتبة التالي الذي هو المنبعث الأول ، ويريد بذلك أن المنبعث الثاني غفل عن إعطاء السابق والتالي ما لهما من منزلة روحية عقلية جوهرية. ومن هذه النظرية ينطلق الهبوط النفساني الملكوتي إلى عالم الكون والفساد.

(١) لأنه بوجوده الانبعاثي دونهما في الشرف والتقدم ، ولقد أوجب حكم الوجود أن يكون التمام والتام واقع على المبدأ الأول الذي هو المعلول الأول والانبعاث الأول ، والعلة تكون أدون من المعلول لأنها دونه في الشرف.

(٢) يريد أن الناطق في عالم الدين الذي هو السابق ، والوصي أو الإمام الذي هو التالي هويتهما هوية واحدة. لأن الناطق الذي قيامه في عالم الجسم قائما مقام السابق من عالم العقول والوصي أو الأساس الذي قيامه في عالم الجسم قائما مقام التالي في عالم العقول ، والإضافة تكون بالرتبة لا بالذات لأن كل واحد منهما تام في ذاته لا نقص فيه.

(٣) يريد أولئك الذين استنارت بصائرهم وعرفوا هذه الحدود العرفانية القدسية العقلانية كما رتبت عن طريق الإبداع والانبعاث.

(٤) مرتبة حسب الفضائل والأنوار المفاضة على كل منها من علته السابقة له في الوجود الانبعاثي والمؤثرة فيما دونها. وكل منها علة قريبة لوجود ما دونه.

٦٨

فكانت مراتب متقاطرة الأول فالأول ، كل مرتبة عن الأولى. أي بإلهام كل أول لما يتلوه ، وهي التي أشير إليها بالعقول السبعة الانبعاثية (١) ، وهو (٢) يقع على كل رتبة اسم الواحدية. إذ ليس بينهم في الإجابة تباين (٣) ولا تغاير ، ولا تفاضل ، فالصورة واحدة في الكمال الثاني «والوجود متكاثر في الكمال الأول» (٤).

والقسم الثاني توقف عند الإجابة ، وتحير الكل ، ولم يلتزم منهم أحد لا بالمبدع ولا بالمبدع ، ولا بأي المنبعثين ، وذلك منهم لهم تصور سهو وغفلة وشك ، لا بفعل فاعل بهم ، إذ لا أصل للشر في الإبداع ، فكان فعل الثاني القائم بالقوة في السهو عن فعل ما كان يجب فعله عليه من ذاته بذاته في ذاته ، لا بقصد قصده الأول ولا الثاني ، بموجب العدل ، وقضية الحكمة ، وترتبت العقول الانبعاثية الموجودة صورها بإجابتهم للمنبعث الأول.

ثم أشرقت بنور باريها (٥) ، وأقبلت على العاشر تؤيده وتمده ، وتعرفه بما قصر عنه تحننا ، ورحمة وعدلا ، وذلك الإقبال عليه بقصد سبب الحد الجليل وتقديسه له ، ففطن لما عرفوه به ، فتاب وأناب وأقر بما غفل منه ، وهو آدم الروحاني المتجرد عن الجسم. ونحن نبين رتبة كل واحد منهما ، ونحقق معاني ذلك إن شاء الله تعالى في موضعه ...

__________________

(١) يذهب الكرماني إلى أن العقول الفاعلة في ذواتها بذواتها عشرة ، تم بها عالم الابداع والانبعاث ، وقام العاشر منها لعالم الجسم مقام المبدع الأول في عالم الإبداع الأول والانبعاث الأول ، كما أن الموجود في الدور من الحدود العشرة أو لها الناطق والوصي وسبعة من الأتماء الذين يتمون الأدوار الصغار ، والعاشر هو الذي يقوم مقام الناطق في دوره ثم يظهر بأمر جديد في دور جديد. في ط : إليه.

(٢) وهو : سقطت في ج وط.

(٣) في ط : تبائن.

(٤) والوجود متكاثر في الكمال الأول : سقطت في ج وط.

(٥) باريها : باريه في ط ، سقطت في ج.

٦٩

الباب الرّابع

«في القول على المنبعث الأول القائم بالفعل وما ذلك الفعل؟» (١)

ونحقق ما ذكرناه ، وشرحناه من أوضاع الحدود ، ورموزهم وألغازهم ، حتى يكون المعتقد من أمره وفي تصوره على حقيقة ، وقد أوجزنا في القول على التوحيد باختصار ، وفي الكلام على الإبداع ، وحقيقة معانيه ، ثم على انبعاث المنبعثين جميعا ، وقد أفردنا هذا الباب في الكلام على المنبعث الأول وقيامه بالفعل ، وسبقه إلى ما سبق إليه.

قال سيدنا حميد الدين : فالمنبعث الأول كامل الاغتباط من جهة السابق عليه في الوجود ، وهو قائم بالتسبيح والتهليل ، مشتاق ، وله ، حيران ، كالأول ، مقدس ذلك الملك المقرب المعرب عنه في السنة الإلهية بالقلم ، وهو أيضا يسمى قلما بكونه الأول (٢) من جنس واحد. فتبارك من صنعته هذه الأمور المتناهية في الشرف والعظمة ، وسبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

فهذا فصل قد أوضح فيه التزامه بالسابق عليه في الوجود ، بفعله وتسبيحه له وتقديسه ، واغتباطه بذلك ومسرته ، وجعل تسبيح المتعالي وتقديسه من

__________________

(١) جاء في ج وط فراغ مقدار سطرين ونصف لذلك ضاع عنوان الباب مما أدى إلى دمج النص مع الباب الثالث.

(٢) ورد النص في راحة العقل هكذا «وإنما سمي ذلك بالقلم لكونه والأول من جنس واحد». المشرع الثاني من السور الرابع.

٧٠

جهته إذ هو حجابه بقربه منه ، وسبقه إليه ؛ وقد جاء عنه في ذلك الفصل يقول فيه : وإن العقل الأول الذي هو المبدع الأول ، لما كان مخترعا لا من شيء خص باسم الإبداع لكونه ذات الفعل الصادر إلى الوجود عن المتعالي سبحانه ، لا من أيس يجري منه مجرى المادة من ذوات الموجودات (١). وبينا أن علم كيفية الإبداع في حجاب أيست العقول من أن يكون لها إلى رفعه والوصول إليه سبيل ، بكونه مما لا تحويه ذواتها واحتياجها عند النهوض لتطلب ذلك إلى خروجها من كونها عقولا ، وفي خروج العقل من كونه عقلا بطلان ذاته ، وقيام الدليل على أن كيفية الإبداع لا ككيفية الانبعاث التي قد أحاطت العقول النيرة بها وأخبرت عنها. إذ لو كانت مثلها ، لكان الإبداع انبعاثا ، والانبعاث إبداعا ، فبطل أن تكون كهي لما بينا فيما تقدم.

والانبعاث انفعال ما لا عن قصد أول ، وهو وجود يحصل عن (٢) ذات جامعة (٣) لأمرين : بأحدهما تكون محيطة ، وبالآخر تكون محاطة.

وهذا الفصل قد بين فيه احتجاجه ، وقلة إحاطة العقول به. وقد جاء عن سيدنا المؤيد ما يصحح ذلك بقوله : الحمد لله لا يدركه من لا تدركه الأبصار ، ولا يحصره من لا تحصره الأفكار (٤).

وقال سيدنا حميد الدين (٥) : ولما كان الأمر في كون العقل الأول على نسبتين : إحداهما أشرف من الأخرى ، كان الموجود عن النسبة

__________________

(١) المشرع الأول من السور الرابع من راحة العقل.

(٢) عن : عنه ج.

(٣) جامعة : سقطت في ج.

(٤) من المجلس ٤١٤ من المجالس المؤيدية نسخة خطية في مكتبة مصطفى غالب.

(٥) استقى المؤلف النص من المشرع الثاني من السور الرابع من راحة العقل.

٧١

الأشرف قائما بالفعل عقلا فردا محضا في نوعيته ، صورة مجردة. وهو مع كونه ثانيا في الوجود عند الترتيب أول بالانبعاث ، كما أن المبدع الأول أول بالإبداع ، وكان الموجود عن النسبة الأخرى دون ذلك منزلة عقلا قائما بالقوة يسمى الهيولى والصورة ، مزدوجا في ذاته كالنسبة التي عنها وجد ، ويأتي عليه الكلام في بابه.

ثم قال : فالمنبعث الأول للمبادىء المنبعثة التي هي الحروف العلوية أول ، بكونه أول كل شيء محض وجد من شيء محض ، وهو من حيث كونه عقلا لا فرق بينه وبين الأول ، إلّا برتبة السبق ، فقد بين أن المنبعث الأول للعقول المنبعثة أول بكونه محضا وجد عن محض ، وذلك أنّه لما فعل كفعله ، وسبق كسبقه ، ماثله في الفضل والشرف لو لا شرف السبق (١).

ثم قال : فمنزلته من مراتب الأعداد منزلة الاثنين ، بكونه ثانيا في الوجود ، وكون وجوده عند الترتيب بعد الواحد المتقدم الرتبة في الوجود ، وكما أن الاثنين ذاته عن واحد ، وقوامه بالواحد ، الذي تقدم (٢) عليه في الوجود ، فهو كذلك قوامه بما تقدم عليه في الوجود من العقل الأول ، وذاته موجودة بعقله إياها ، وبعقله ما تقدم عليه في الوجود جميعا.

__________________

(١) لم نعثر على هذه الفقرات في السور الرابع المشرع الثاني من النسخة الخطية الموجودة في مكتبتنا الخاصة من كتاب راحة العقل ولربما عثر عليها المؤلف في النسخة الموجودة لديه ، أو لعله أضافها من عنده. أما ما جاء في نسختنا فهو التالي : «بينه وبين الأول ، كما أن الوصي أول منصوص عليه من الحدود في الدور والدعوة إلى التوحيد ، فهو من حيث كونه كاملا لا فرق بينه وبين الناطق ولا يقع الفرقان إلا بالمرتبة في التقدم. ولا يجوز أن يكون جسما لوجوده عن النسبة الأشرف التي توجب أن يكون هو في وجوده مثل ما وجد عنه عقلا محضا محيطة ذاته بذاته ، عاقلة ذاته لذاته ، والجسم ليس بعاقل ذاته ولا محيطة ذاته بذاته.»

(٢) المشرع الثاني من السور الرابع من راحة العقل نلاحظ بأن المؤلف بعد أن يسقط بعض السطور من النص يعود ثانية لينقل عن كتاب راحة العقل بالحرف الواحد.

٧٢

وهو كالأول في باب كونه جامعا للكمالين ، وذلك أن جميع ما يختص المبدع ـ الذي هو العقل الأول ـ به من الأمور العشرة التي بها هو ما هو ، من كونه حقا ، وموجودا أولا ، واحدا وتاما ، وكاملا وأزليا ، وعاقلا ، وعالما ، وقادرا ، وحيا بالإضافات والذوات ، فإن المنبعث منه يستحق ما يستحقه بالمعاني الموجودة فيه :

فأما كونه حقا ، فلكونه نهاية المنبعثات من طريق الإبداع ، وكونه موجودا أولا فلكونه موجودا أولا من المنبعثات وبكونه واحدا فلكونه عقلا محضا واحدا من نوع الانبعاث الأول ، وكونه تاما ، فلوجوده عن التمام وكونه كاملا فلوجوده عن الكمال ، وكونه أزليا ، فلكونه متعلقا بما يحفظ عليه وجوده ، وكونه عاقلا ، فلعقله ذاته بذاته. وكونه عالما ، فلعلمه بذاته وذات ما تقدمه ، وكونه قادرا ، فلوجود الإحاطة منه بذاته ، وكونه حيا فلوجود الفعل منه ، فهو تام كامل ، ووجوده عن السابق عليه في الوجود لا بقصد منه ، وذلك أن قصد الموجود الأول في ملاحظة ذاته بذاته ، وعقله إياها ، لا لأن يوجد عنه غير أول ، بل لأن يفعل بذاته ما يوجب كماله لذاته عقلا لها ، وإحاطة بها ، واغتباطا بحالها ، وتقديسا للذي عنه وجوده ، عن أن يكون كهو مع كونه ذروة الفضائل ونهاية أولى لها ، الذي كان عن فعله ذلك أولا ، ما أوجب سطوع نور الانبعاث عنه ثانيا ، الذي هو تمامية الكمال وثمرته التابع وجودها لتلك الذات ، على ما تقدم الكلام عليه ، وما يكون وجوده على ذلك فليس بقصد أول وجوده.

وهذا فصل يبين ما أشرنا إليه لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. بقوله : فهو كذلك قوامه ، بما تقدم عليه في الوجود من العقل الأول ، وذاته موجودة بعقله إياه ، وبعقله ما تقدم عليه في الوجود جميعا.

٧٣

وهو كالأول في باب كونه جامعا للكمالين (١) ، يقول : إن ذاته موجودة بعقله إياها. أي بأنّه عقل ذاته بالإقرار بأن رتبة السابق رتبة عالية شريفة جليلة فاضلة تفوق على كل مرتبة ، وتسمو على جميع ما أبدعه الله تعالى ، وإنّه أول وجود النور والجود. وواحد الآحاد والأفراد ، وإن مبدعه قد اختصه بفعله وسبقه الذي تم به كماله الثاني بمواده وبركاته وتأييده.

وقوله : وهو كالأول ، أي في باب كونه جامعا للكمالين. فصح أن كماله الأول وجوده بالإبداع الأول ، وكماله الثاني التزامه بالسابق عليه في الوجود وتسبيحه له ، وتقديسه وتمجيده ، وإقراره (٢) بسبقه ، وشرفه ، وجلالته التي قد اختصه الله بها ، كالذي كان من الأول في نفي الإلهية عن ذاته ، وسلبها عنه ، وعن جميع ما أبدعه الله واخترعه ، وإقراره بالعظمة التي لا يدرك ولا يحاط بها ، ولا تعلم إلّا من جهة الصنعة والقدرة. ثم وصف هذا المنبعث الأول بأنّه يتصف (٣) بالأحوال العشرة التي هي تختص بالإبداع أولا.

وقوله إنّه نهاية المنبعثات من طريق الإبداع ، إذ هو أصل كمالهم الثاني.

وقوله بأنّه عقل ذاته بذاته ، لا بقصد ، أي لا بمفيد ، ولا مؤيد ، ولا معلم ولا ملهم. بل انقدح له من ذاته ما انقدح للسابق عليه فيما انقدح له ما تقدم مما ذكرناه.

وقال : وكونه عالما فعلمه بذاته وذات ما تقدم ، إلى قوله : فكان ذلك لا بقصد منه بأن يوجد عنه غير ، بل لأن يفعل بذاته ما يوجب كماله

__________________

(١) بما اطلع عليه من مرتبة الناطق وقوانين أمره وإحاطته بما هو متقدم عليه بالشرف. باعتبار أن الناطق علة لوجود العقول الطبيعية بما أقامه من السنن والوضائع وبسطه من الحكم والشرائع في عالم الدين.

(٢) لتمامه وكماله في أول وجوده دفعة واحدة.

(٣) يتصف : يتعفف في ج وط.

٧٤

لذاته عقلا لها ، وإحاطة بها ، واغتباطا بحالها ، وتقديسا للذي عنه وجوده ، عن أن يكون كهو.

فهذا عين البيان ، وأوضح البرهان على ما أوضحناه وشرحناه ، من التزامه بهذا الحد الجليل ، وخضوعه له ، وخشوعه وشهادته له ولمن أبدعه ، ليكون كهو مع أنّه ذروة الفضائل ، ونهاية أولة (١) لأنها الذي كان (٢) عن فعله ذلك الذي أوجب سطوع نور الانبعاث عنه ثانيا. يعني سطوع نور العقول الانبعاثية عنه ثانيا ، الذي هو تمامية الكمال وثمرته ، التابع وجودها لتلك الذات. وإن ذلك لا بقصد ، بل من ذاته بذاته كفعل الأول.

وقوله : فوجود المنبعث الأول عن العقل الأول الذي هو الموجود الأول لا عن قصد أول وحاله في الجلالة ، والعلاء ، والكبرياء ، والهيبة ، والسناء ، والاغتباط ، والمسرة بحاله ، ورتبته ، وكماله ، كحال الأول ، الذي عنه وجوده ، إلّا أن مسرته بما عقل وحصل له ، من صورة المتقدم عليه في الوجود ، أكثر من مسرته بإحاطته بذاته وعقله إياها بذاته ، فمسرته بما عقله ، وحصل له من صورة المتقدم عليه في الوجود ، فذلك الحاصل بالتزامه به وسبقه إليه ، ومعرفته له ، ولما اختصه به مبدعه ، أعظم من مسرته بذاته. فهذا هو فعله وكماله الثاني الذي أوجب له درجة المساواة (٣) بالسابق الأول. إلا أن رتبة السبق مانعة لذلك. ومن ذلك وجب على كل محدود معرفة حده الذي هو علّة وجوده وفضله ، وشرفه عليه بسبقه. وإن طاعته ، والالتزام به ، طاعة الله تعالى على سبيل فعل المنبعث الأول (حذو النعل بالنعل).

__________________

(١) وعلة أولى ، والتام الأول الذي هو المعلول الأول ، فتماميته بإضافة وجوده إلى ما عنه وجوده ، وتماميته بإضافته إلى ما عليه ذاته ، وذلك كالابداع والمبدع الأول.

(٢) الذي كان : كانت في ج وط.

(٣) وهو من حيث كونه عقلا لا فرق بينه وبين الأول.

٧٥

وإن من زل عن حده ، سقط وهبط ، ومن لم يلتزم بواسطته كان في بحر الهيولى يتورط. فالمنبعث الأول هذا القائم بالفعل جرى اسمه بلسان التنزيل (١) اللوح ، وجنة المأوى. وبلسان التأويل النفس الكل والتالي. ويقول صاحب الرسائل وبعض أهل التأويل بأنّه منبجس عن العقل الأول ، فمعنى الانبجاس أن صورته من صورته باقتدائه به في الإقرار والشهادة ، كما أعتقد أهل الظاهر أن حواء ظهورها من ضلع آدم. وذلك أن حجته كان ظهور تأويلها من أصل شريعته ، فذلك كذلك.

وهذا معنى الانبجاس ، والانبعاث ، والشريعة وأهلها والتأويل وأهله ، يساوي قولهم في أن الحدود الروحانية (٢) خمسة لا غير ذلك ، وأنّهم عيون عالم القدس. وحميد الدين ق س ، جعل عيون عالم الإبداع عشرة عقول. ورافده سيدنا المؤيد في ذلك وأوضحه في بعض مناجاته وذلك على رأي الفلاسفة ، والكل من القولين صحيح على معناه. فأهل الظاهر جعلوا المنبعث الأول نفس الكل (٣) وجنة المأوى ، ومعاد العالم ، والمتولي لعالم الطبيعة ، وهؤلاء الذين يرون بالعشرة ، يجعلون العاشر متولي عالم الطبيعة

__________________

(١) يريد بما نطق به الكتاب الكريم.

(٢) يقصد بالحدود الروحانية الخمسة الذين هم : السابق والتالي والجد والفتح والخيال الذين اختصوا بالتأييد ، وذهبوا إلى أن جميع الأنبياء لم يتصل بهم الوحي إلا بواسطة هؤلاء الحدود الروحانية غير المتشخصة ، استنادا إلى قوله تعالى : «وما كان لبشر أن يكلمه إلا وحيا ، أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء» بأن القسم الأول من هذه الآية هو رتبة الجد الذي هو كلام الله وحيا ، وكلمة وراء حجاب ، هي رتبة الفتح ، وكلمة يرسل رسولا هي رتبة الخيال. وقالوا بأن السابق أفضى إلى التالي الذي أفضى بدوره إلى الجد بما يجري في العالم الروحاني فأفضى هذا بدوره إلى الفتح الذي أبلغه إلى الخيال ـ يعني جبرائيل ـ فبلغه هذا إلى الناطق الحي ، الذي يمثل في دوره السابق كما يمثل الحجة أي الأساس دور التالي ، ويمثل الداعي الجد ، والمأذون الفتح ، والمكاسر الخيال في كلا الدورين.

(٣) أي التالي نفس الجميع وأصلهم.

٧٦

ونفس الكل وجنة المأوى ومعاد من صفا وخلص.

وفي وجه من التأويل أن الوصي جنة المأوى ، ونفس عالم الدين ، ومأوى النفوس. وكذلك أيضا باب الإمام جنة المأوى ، ونفس كل ، لكون النفوس تتصل به ، وتعود إليه ، وجميع ذلك حق لا شك فيه. ونحن نبين جميع ذلك إن شاء الله تعالى بحقيقته ومعناه.

٧٧

الباب الخامس

«في القول على المنبعث الثاني القائم بالقوة

وما سبب ذلك؟» (١)

نقول : إنّا قد قدمنا الصورة والكلام على أن وجود الإبداع كان دفعة واحدة ، وأقمنا عليه البراهين من كلام الحدود ، ومن وضع حميد الدين وغيره ق س. بما قد جرى به القول والبيان ، وذكرنا سبق المبدع إلى ما سبق إليه ، وفعله الذي قام به ، وشهادته بالإثبات ، بعد نفيه الإلهيّة عن جميع ما أبدع الله سبحانه واخترعه ، وبينا في صورة الشكل ظهوره بذاته وبروزه عن جميع أبناء جنسه ، وعلوه وارتفاعه.

ثم بينا أيضا تسابق المنبعثين إلى الالتزام به ، والتسبيح والتقديس له ، وسبق أحدهما للثاني وقيامه (٢) بذلك بفعله الذي كمل به الكمال الثاني «وإنه كامل في ذلك بذاته تام في فعله» (٣). وإن الثاني أقر للمبدع وسبحه ، وقدسه ، وسها وغفل عن الشهادة للمبدع الحق بما شهد به الأول والثاني.

وكذلك لم يلتزم بالمنبعث الأول الذي سبقه (٤). ولسبقه له هو ملزوم بمعرفته

__________________

(١) سقط عنوان الباب الخامس من نص ج وط حيث وضع مكانه نقاط في ج وترك مكانه فارغا في ط. مما أدى إلى دمج محتوى الباب مع الباب الرابع.

(٢) أحدهما للثاني وقيامه : أحدهما للثاني ، وإنه كامل في ذلك بذاته ، تام في فعله وقيامه في ج وط.

(٣) سقطت الجملة المحصورة بين قوسين من ج وط.

(٤) لوجوده أولا عليه عن طريق الانبعاث.

٧٨

وطاعته ، والتوسل به ، والتوجه إليه. فكان بذلك كاملا في ذاته بالكمال الأول الذي ساوى فيه الأول والثاني. وناقصا في فعله ، فبذلك قام بالقوة التي هي أصل وجوده. وذكرنا وصورنا انبعاث العقول السبعة عن المنبعث الأول القائم بالفعل ، وإن وجود كل عقل عن الآخر صاعدا إلى المنبعث الأول. كما أن وجود الاتماء السبعة كل واحد عن الآخر إلى الوصي. وإن نور كل واحد منها ساطع سار فيما وجد عن الأول من الهيولى والصورة يعني في العاشر وما تلاه ممّا تكثف من عالم الطبيعة.

فتأويل قوله بأن العقول السبعة الانبعاثية وجود كل واحد منها عن الآخر صاعدا إلى المنبعث الأول ، يقول بالترتيب في الإجابة لما دعي ذلك العالم بحجاب الحجاب الذي هو المنبعث الأول ، لأنّه حجاب الإبداع الذي هو المبدع ، والمبدع حجاب الغيب سبحانه كما ذكر ذلك حميد الدين بقوله : فالأول عقل وعاقل ومعقول ، فسبحان من تعالى عن الأوهام والأفكار ، فاحتجب بباهر إبداعه ذلك عن أن يتناول بصفة ، ولا إله إلّا هو.

وهذا فصل شاف كاف لمن هداه الله ، فكل عقل من السبعة (١) التي هي المراتب السبع عن الأول منهم فالأول ، وإفادة كل رتبة سابقة للرتبة اللاحقة في الإجابة (٢).

وكل رتبة تجمع من الملائكة ما لا يعد ولا يحد. وكان انقسام ذلك العالم عند وقوع الدعوة إلى ذات اليمين ، الذين هم عالم الأمر الملائكة المقربون ، الذين

__________________

(١) أي العقول السبعة الانبعاثية العلوية يقابلهم من الحدود السفلية ، الباب ، الحجة ، داعي البلاغ ، الداعي المطلق ، الداعي المحدود ، المأذون المطلق ، المأذون المحدود أو المكاسر. وبهم تكون المواليد الروحية.

(٢) يقصد أن كل حد من هذه الحدود السفلية أي الدينية يملك حق الإفادة لما دونه من المراتب ، فالذي يملك ما دونه لا يملك ما فوقه ، فالأعالي للأسافل كلية ، والأسافل للأعالي جزئية.

٧٩

صورهم روحانية عقلية نورانية شعشعانية (١) ، مؤيدين بشمس الإبداع ، وقمر الانبعاث يشرقهم أنوارهما ، وضيائهما وبركتهما ، فهم في حجرات القدس ، في تسبيح (٢) ، وتقديس ، وتهليل ، وتكبير ، وتعظيم ، لكل سابق على لاحقه وتاليه ؛ آمنون من الفزع الأكبر ، مطمئنون فاكهون.

والقسم الثاني إلى ذات الشمال لتخلفهم عن الإجابة (٣) ، وإصرارهم عن الإنابة ، وشكهم وشركهم وإلحادهم. إذ لم يلتزموا بالذي تليهم رتبته. وقد دعوا منه وبه ، ولا أجابوا المنبعث الأول مع من أجاب وأناب.

ولا عرفوا الحد الجليل المعظم ، ولا التزموا بأي العقول من أهل المراتب السبع ، وكان ذلك عمدا قصدا تكبرا وتجبرا ، فعموا وصموا ، وزلوا وضلوا ، وهبطوا من دار اللطافة إلى كون الكثافة ، وكنّا قد صورنا في الشكل المقدم كون وجود الابداع معا في أول الوجود ، بالكمال الأول على سبيل تلك النقط المجتمعة ، ثم ظهور السابق وعلوه ، ثم ظهور المنبعثين الأول والثاني والانقسام إلى اليمين والشمال ، ونحن نجعل هاهنا كيف انقسم ذلك العالم وترتب ، وعلا بعضه على بعض ، لأن عالم الإبداع عال على عالم الطبيعة ، وهذه صورته (٤) :

__________________

(١) وهذه الصور المباركة فائضة من دار القدس لتغذية الأنفس الجزئية ونقلها من حد القوة إلى حد الفعل إلى مرتبة العقول. عقلية : تهليلية : ج وط.

(٢) القدس في تسبيح : القدس وهم في تسبيح في ج وط.

(٣) أي عن إجابة الداعي لما دعاهم إلى دعوة الحق الهادية ، وسر الملكوت الروحاني المتصل وحيا بكل مقام نوراني. وهذا الداعي يمدهم من فيض المادة الأزلية التي اتصلت به من سابقه.

(٤) سقطت الصورة من ج وط وترك مكانها أبيض لصعوبة رسمها من قبل الناسخ.

٨٠