كنز الولد

ابراهيم بن الحسين الحامدي

كنز الولد

المؤلف:

ابراهيم بن الحسين الحامدي


المحقق: مصطفى غالب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٢

لكون دوران الفلك عليهما ، وحدث من أول الحركة في الطول الأول الحرارة ، ومنتهاها البرودة ، ومن أول العرض الرطوبة ومنتهاها اليبوسة ، ولزمها الأبعاد الثلاثة ؛ «واجتمعت الخطوط ، فكان لها وسط ، هو العمق الأول ، ويسمى الجو المنفهق» (١) ، واجتمعت فيه بالمزاج والممتزج الذي تكون في الوسط كالسحاب المتراكم ، وقد صارت طبائع مثمنة ، حرارة ويبوسة ، ورطوبة وبرودة ، ورطوبة وبرودة ، ويبوسة ؛ وانعقدت منه ما انعقدت ، فكانت الأرض المسماة (٢) بسجّين. وبقي ألطفها دائرا بها ، وهو النار والهواء والماء ، وكانت في أول هيئتها الصليب ، أعني الحركات ، وهي لها وسط باجتماعها إليه ، وهو المنعقد الذي انعقد الوسط الممتزج ، وتبقى منه ما لطف ، الذي هو النار والهواء ، وتزاوج بالمناسبة التي بينها هكذا. فتناسب هكذا النار والهواء بالحرارة ، وتناسب الهواء والماء في الرطوبة ، وتناسب الماء والأرض بالبرودة ، وتناسب الأرض والنار باليبوسة.

وبهذا دار الفلك على الوسط الذي هو عالم الكون والفساد ، وهو الصنف الذي لم يلتزم بأي الحدود (٣) ، وتمرد وعصى وتكبر ، فسفل في أسفل سافلين (٤) ، والجو المنفهق (٥) ، هو من ألطفه وأعذبه وأشفه ، وهو الحاوي لجميع الأفلاك ، وهو عين المكان (٦) وأسه.

__________________

(١) المنفهق : الواسع ، وربما أراد الجو المنفتق. وما بين قوسين سقط في ط.

(٢) الاسم مأخوذ من الآية «إن كتاب الفجار لفي سجين» ويرمز المؤلف من خلف هذه التسمية إلى أن الأرض هي السجن الدائم للنفس التواقة إلى الخلاص منه. السجين : الدائم.

(٣) يعني الحدود التي أوجبها ميزان الديانة ومعيار الصنعة النبوية طلبا للفضيلة واستنباطا للعلوم الإلهية.

(٤) لأنهم من المخالفين والأضداد الذين هبطوا فلحقوا بمنزلتهم التي هي من طبيعتهم.

(٥) المنفهق : المنهق في ط.

(٦) المكان : سقطت في ج.

١٢١

ولذلك فإنّه (١) يقبل النور تارة ، والظلمة تارة ، وما وقعت الحركات التي ذكرنا إلّا من أصل حركتها ، وهو كرة الشمس كالقلب المتكون في الإنسان ، فحدث بسببها الحركات ممّا نبينه في موضعه.

فلمّا انعقدت الأرض كانت حجرا صلدة ، وجميع الكواكب والنجوم ، مترتبة وهمية ، لطائف بلا كثائف ، وكل برج وهمي لازم لموضعه. فلمّا انعقدت الأرض ودار بها الهواء وفلك النار ، وفيه دخان لطيف ، ممّا سلم من الانعقاد (٢) ولم يختلط بأي الأمهات ، دار الفلك الدورة الوهمية ، ولمّ بعد تلبس أجرامها ، فرمى كل كوكب ، وكل نجم ، بما دنا وعلا ، وكبر وصغر ، بشعاعه إلى الأرض من فوق وتحت ، وخلف وأمام. فلم تجد الأشعة منفذا ، فرجع كل شعاع إلى أصله ، وقد انجذب مع كل شعاع من ذلك الدخان مثله ، فتكون على كل كوكب وهمي صدفه (٣) الذي هو جرمه ، وذلك على سبيل ما نشاهده من انفعال النيازك التي تتساقط لأنها تنفعل كواكب ، وتردها الكواكب العالية إذا لم تقبلها ، إذ لم يكن لها مواضع.

فلما دار الفلك كان له حركتان ؛ فالمحيط يتحرك من المشرق والمغرب ، قلبة واحدة لما دونه في اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة ، وفلك البروج يتحرك من المغرب إلى المشرق ، ورمت حينئذ بأشعتها إلى الأرض ، فكان من ذلك من لطائفها ، ومما تجذب ، رطوبات الأرض وطبائعها ، النسيم المدبر بالأرض المعتدل الذي هو حياة (٤) الحيوان والنبات اعتداله ، ويسمى البحر السيال.

__________________

(١) فإنه : سقطت في ج.

(٢) أي لم يقتصر ولم يتلطف وينعقد ويتكون في مراتب الخلقة.

(٣) صدفه : صرفه في ج وط.

(٤) يريد الحياة المحيية الحسية بوساطة النسيم.

١٢٢

ثم جرت الأفلاك السبعة ، فإذا هي من فوق الأرض ، كان زحل ، الذي هو مثل الرجلين من فوق ، والقمر الذي كالرأس إلى أسفل ، وذلك على سبيل المختم ، يكون مقلوبا. فإذا ختم به كانت كتابة ثابتة ؛ فالمراد بذلك ثبات ما على وجه الأرض ، ممّا له في الفلك صورة وطبيعة ، من معدن ونبات وحيوان. والمعنى من ذلك ظهور زبدة الكل التي هي القامة الألفية (١).

ثم كانت هذه الكواكب تدور ، فإذا هي من فوق ؛ فزحل أعلاها ، والقمر من السفل إلى ما يلي الأرض ، وإذا هي من تحت الأرض كان القمر من فوق إلى ما يلي الأرض ، وزحل إلى نحو فلك البروج ، وذلك لعكس خلق من تحت الأرض ، ووحشة معوجة منعكسة لا تشبه شيئا ممّا فوق الأرض.

وذلك لثبات الكواكب ، انعكست الصورة المسجونة المظلمة ، المعذبة المغلولة أسفل سافلين ، والأرض من أسفل وجوانبها ، كالهبوط الذي هو صلد من الغار ، فهي صلدة من جميع جوانبها ملساء كالحديد ، يابسة لا ماء فيها ، ولا نداوة ، بل كبريتية (٢) زيبقية ، تتوهج بلفح كلهب النار ، بل أشد وأعظم.

وذلك لأن لا يسقط من الحجارة والتراب والماء شيئا على الأفلاك في دورانها ، ولأن تكون سجنا للعذاب ، وفيها من المغارات والكهوف ، والحدود والأصداع ، أكثر ممّا هو فوق الأرض.

ولذلك أن الهواء إذا تموج ممّا هنالك ، وحدث من شدة تموجه الرياح

__________________

(١) يذهب علماء الإسماعيلية إلى أن الشخص البشري كان ظهوره أول تدبير القمر نباتا من الأرض مستندين إلى قوله تعالى (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) وبذلك خالفوا أولئك الذين يقولون بأن الإنسان خلق من إنسان واحد على التناسل.

(٢) كبريتية : كبرتيتية في ج.

١٢٣

حتى يمتلي كهف أو غور منه ، وقع في أعلى الأرض ممّا يلي ذلك الزلازل والرجف. فالأرض من جميع أقطارها (١) وجهاتها على هذا السبيل. ووجه الأرض من فوق بسيط فيه ما أعده الله تعالى لليسر من النفع والضر. وهي مقر الدعوة ، وعرصة الولاية ، وتكليف العبادة ، للرجوع والعودة. فمن قبل وأطاع علا وبلغ إلى أعلى عليين ، ودخل الأبواب ، بابا بابا (٢) ، وخرق الحجب حجابا حجابا. ومن تكبر وعصى ، أو غفل فيها وسها ، تدرج إلى أسفل سافلين ، ودخل أبواب العذاب بابا بابا ، وجاوز البرازخ حجابا حجابا إلى أسفل سافلين.

فالفلك المحيط محرك متحرك ، وحركته من داخل ، وحركته أشرف الحركات باتصاله بما هو خارج عنه ، وقربه من دار القدس ، وفيضه متصلا به دائما غير منقطع ، والحياة التي هي محركة له ، وهي المشار إليها أنها من داخله ، وهو باب عالم القدس البسيط كما ذكر ذلك سيدنا المؤيد وهو معنى الصورة التي هي نفس الحس التي قدمنا ذكرها ، وهو فلك أطلس ، لا كوكب فيه ، ولا نجم محيط بالأفلاك والأملاك ، وهذه الصورة صورته ، وصورة فلك البروج ، وصورة الأملاك من فوق الأرض ومن تحتها. ومن جميع أقطارها في مسيرها على هذه الصورة (٣). (انظر الرسم)

فلمّا كان ذلك كذلك الصورة الأولة بتصوير الحركات وابتدائهما وهمية ، وهذه الصورة هيئة الفلك لما كمل بأصدافه وأجرامه ، ودار بتقدير المقدر له ، المدبر الحكيم الصانع ، فسبحان من هذه الصنعة صنعته ،

__________________

(١) أقطارها : أفكارها في ج.

(٢) يعني من استجاب إلى دعوة الحق العرفانية تدرج في المراتب والحدود حدا حدا.

(٣) في ج وط بياض مقدار صفحة كان من المفروض أن ترسم فيها الصورة التي نوه عنها المؤلف أعلاه. والظاهر أن الناسخ صرف النظر عنها لصعوبة رسمها ، وترك مكانها بياضا.

١٢٤

١٢٥
١٢٦

فكان عكس الأفلاك من فوق لما يراد ثباته وتمامه وكماله ، وكان من تحت الأرض ثابتا لما يراد عكسه وتشويهه ومسخه لعذابه وإهانته.

ونحن نبين حال الكواكب السبعة ، وما الأشرف منها ، وذلك أن الحياة الهيولانية التي هي الصورة بلسان التأويل ، والنفس الحسية بلسان الحقيقة التي ملأت السموات (١) والأرض كما قال تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (٢).

ولما امتزجت عند الهبوط فصار منها هيولى ، وهي النامية ، وانفعلت على ما صورنا ، وحدث الجو المنفهق الذي هو عرصة المكان ، وامتلأ أفلاكا وأمهات ، وكواكب وأملاكا ، وكواكب أمهات ؛ كان مبدأها على سبيل الخلقة الحيوانية ، وذلك أن هذه الحياة لما امتزجت وتحركت ، ولزمها الأبعاد ، وكان لها مركز جامع لكلها ، فكانت الشمس التي هي النير الأعظم ، وهميا ، باطنها برودة ورطوبة ، وظاهرها حرارة ويبوسة ، فكملت طبائعها باطنا وظاهرا ، فاتحدت الحياة بها ، كما تتحد النفس الحسية بالقلب.

فهذه الحياة التي أقرت بالحد الأعظم ، وتكبرت على أبوابه الروحانية (٣) وحجبه التي دعيت منها فعصت. ثم تكون القمر ، فكان باطنه حارا يابسا ، وظاهره باردا رطبا ، وبذلك ثبت بين هذا النيرين التزاوج والمناسبة ؛ فالقمر قابل من الشمس بباطنه المناسب لظاهرها ، «والشمس تجتذب منه بباطنها المناسب لظاهره» (٤) وبذلك ثبت أفعالهما في المواليد ، ولو كان ما يرون

__________________

(١) النفس الحسية أي النفس التي تحس بالصورة وتعلمها وتفكر وهي غير قائمة بالفعل ، بل هي قائمة بالقوة ويكون كمالها من قبل من هو في الرتبة فوقها لذاتها لا لجسمها فتصير عقلا قائما بالفعل وذلك عند ما تدرك محسوسها وتقبل صورته.

(٢) سورة : ٢ / ٢٥٥.

(٣) يعني الحدود المتصلة بعضها ببعض من أعلى الموجودات إلى الأنفس الطبيعية.

(٤) سقطت الكلمات الموضوعة داخل قوسين من ج وط.

١٢٧

إنعامه ، لكان بينهما التضاد ، وفسد الفعل.

ثم تكونت الزهرة التي فلكها ممّا يلي فلك الشمس ، فكان باطنها أيضا حارا يابسا يناسب ظاهر الشمس ، وهي بظاهرها البارد الرطب تناسب القمر ، وبظاهرها أيضا تناسب باطن الشمس بالبرد والرطوبة ، وبباطنها تناسب باطن القمر.

ثم تكون المريخ ، فظاهره حار يابس ، وباطنه بارد رطب ، وبذلك ناسب النيرين في ظاهرهما وباطنهما. ثم كان المشتري ، فكان بظاهره حارا لينا ، وبباطنه باردا يابسا ، فناسب زحل ، وبظاهره الحار اللين ، إلى باطن زحل الحار اللين ، ولذلك ازدوجا ، فكانا المتوليين للمثلثات باقترانهما ، وناسبا النيرين والزهرة والمريخ. كذلك بباطنهما وظاهرهما ، وانفرد عطارد بطبعه فكان ممتزجا ، أي كوكب جاسده ، كان طبعه يوافق طبعه ، وفعله كفعله. وكانت الشمس قلب العالم الجرماني ، والقمر بمنزلة الرأس ، والفلك المحيط كالروح المقوي للحس في جميع جهاته.

وصار الفلك بعلوه واعتداله ، وتزاوجه وتوافقه ، طبيعة خامسة ، وهو زبدة الصورة التي هي الحياة الحسية التي كان لها تصور في المبدع الأول أنّه حق ، فبذلك علة على الصورة التي هي الهيولى المشار إليها بالنامية الهابطة إلى أسفل سافلين ، مركز الكون والفساد. فهي خامسة للأمهات الأربع ، فاعلة مؤثرة فيها. اهبطوا منها بعضكم لبعض عدو.

فالفلك قابل لتأثير عالم القدس ، وهو له كالزوج بقربه منه وقبوله له. وبالنسبة التي هي له منه ، وعالم الكون والفساد قابل من الفلك لجميع تأثيره ، وهو له كالزوج ، وعالم الكون والفساد كالزوجة ، لظهور المواليد بينهما. وكذلك الخط من الفلك الخبيث الذي امتزج به فسفل عنه فكان عقدتين ، الرأس والذنب. وهما وهميان ، تدرك أفعالهما ، ولا تدرك صورهما.

١٢٨

وذلك بسبب كماله الأفلاك. فخرج من نطاقه ، ولم يلبس صدفا ، لأنّه ممّن أصر ، فكان لا من الفلك ولا معه ، ولا من الأمهات ولا معهما ، فصار ضدّا للعالمين ، وصار الرأس يقال له سعدا ، لما قارنه من سعد زاد في قوته ، وما قارنه من نحس «نقص من قوته ، والذنب نحسا ما قارنه من سعد نقص من قوته ، وما قارنه من نحس» (١) زاد في قوته ، وهما ضدان ، خصوصا للنيرين عليهما حكم الكسوف ، فذلك كذلك.

وفلك البروج فيه الكواكب البابانية ، التي عليها الحساب. وهي ألف نجم وثمانية وعشرون نجما ، واثنا عشر برجا ، وثماني وعشرون منزلة ، وكل برج ثلاثون درجة ، وكل درجة ستون دقيقة ، وكل دقيقة ستون ثانية ، وكل ثانية ستون ثالثة وكل ثالثة ستون رابعة.

وعلى ذلك أن تكون التاسعة ستين عاشرة. فمنها طالع ، ومنها غارب ، ومنها رابع ، ومنها عاشر. وهي كالقبة المستديرة (٢) وأشرفها الطالع والعاشر ، يدلان على الحياة والبقاء بمقابلة السعود ، وأخسها الرابع والغارب لأنهما يدلان على الموت والفناء بمناظرة النحوس ، وهي مثلثات للأملاك ومربعات ومسدسات ، وللمناظرات والمجاسدات ، ولها منها هبوط ووبال وأوجات ، وإشراف وحضيض ، ونحوس وسعود واحتراق ، واجتماع وافتراق.

وللكواكب المتحيرة رجوع وتقهقر ، وهو بجملته مركز الحياة السارية من عالم الربوبية التي ذكرنا ، والشمس خصوصا مركزها وحجابها ومعدنها. فهي بذلك تمد ما علا عليها وما دنا منها.

قال سيدنا حميد الدين في ذلك : إن ذات الطبيعة التي هي الحياة المسماة بالنفس ، ليست بذات أجزاء في ذاتها ، فتكون منقسمة ، أو جائزا

__________________

(١) سقطت الجملة الموضوعة داخل قوسين من النسخة ج.

(٢) كالقبة المستديرة : كالفية المستديرة في ج وط.

١٢٩

انقسامها بذاتها بكونها لا جسما ؛ وإذا بطل أن تكون منقسمة بذاتها بكونها لا جسما ، وإذا بطل أن تكون منقسمة بذاتها لزم أنها في جزء واحد من أجزائه هو محلّها ومركزها بذاتها وفي سائرها ، بقواها وأفعالها ، وإذا لزم أنها في جزء واحد من أجزاء العالم هو محلها ومركزها ، وكان المركز من الشيء قلبه وقطبه ، والجزء الذي هو أشرف من سائره ، وكان قلب الأجسام العالية ، والمختص بالشرف منها من الأجزاء المذكورة الشمس ، وكانت الشمس هي مركز الطبيعة ومحلها ، فالشمس مركز للطبيعة موجودة عن النهاية الأولى والمحيطة كلّها بما هي علّة وهي بالإضافة إلى الأجزاء كلّها لشرفها مركز فيه حلولها ، وبه كمالها واتصالها بدار الإبداع ، وقبول الفيض منها بالتشابه الذي به هي في مؤازرتها.

وذلك أن الشمس تهيؤها لقبول بركات عالم الوحدة ، لا كتهيؤ غيرها من موجودات عالم الطبيعة ، ونجوع أنوار الحروف العلوية فيها لا كنجوعها في غيرها ، واتصال الموجودات بها لا كاتصال بعضها ببعض بكونها سابقة من الموجود الأول ولكونها (١) بذلك مركزا تتوجه نحوه أنوار المؤثرات من خارج ، ويتوارد عليه الفيض ، ومصير ذاتها عند التشبيه والتمثيل في دار الجسم ، كالإبداع الذي هو المبدع الأول في دار الوحدة ، ولذلك صارت حاوية لكل شرف وجد بالإبداع بضرب ثان تشابها ، ومؤدية ما يحصل لها من البركات إلى ما دونها ، والمتعلق وجوده بها لتكون عنها المواليد ، فهي مختصة بهذا الجزء الذي هو الشمس ، وأنوارها ساطعة في شيء من كل موجودات العالم (٢) سارية قوتها في ما تفعل في كل شيء منها من أثرها ما لا

__________________

(١) في الأصل المنقول (لكونها سابعة من الموجود الأول وكونها بذلك).

(٢) كل موجودات العالم : الموجودات العالم السارية في ج وط.

١٣٠

تفعل في غيره بحسب قبوله منها ، على نحو ما يفعل السمك الذي يختص فعله وتحذيره بيد الصياد دون غيره ، أو على نحو فعل حجر المغناطيس الذي يختص بالحديد دون غيره الذي لا يقبل قوة جذبه (١).

فأقسام الجسم كثيرة مثل الأفلاك والكواكب والأركان. وليس للطبيعة منها قسم يختص به ذاتها ، لا الأفلاك ولا غيرها إلّا الشمس التي بها حياة الكل ، وبها عالم الجسم وظهور المواليد الجسمانية من معدن ونبات وحيوان ، بمرافدة الزوج الذي هو القمر. فالطبيعة التي هي الحياة ، قد ظهر أنها في الوسط بين النهايتين اللتين إحداهما الإبداع ، وثانيهما الإنسان الذي هو الجامع للفضائل الذي إليه تنتهي أنوار المؤثرات من العوالم كلها ، أعني النهاية الثانية المنبعث من طريق الانبعاث الثاني الذي هو القائم سلام الله عليه. قد جرى فيه ما قد جرى في الأول من الكمال ، فقام بكونه نهاية ثانية بإزاء النهاية الأولة التي هي الإبداع ، وهو أعني القائم نهاية النطقاء ، والأسس ، والأئمة ، والتابعين من الحدود في عالم العبادة والتوحيد ، من أول الدهر إلى الذي هو أول الأدوار.

فالعوالم كلها متعلقة بعضها ببعض متسلسل على النظام الذي توجبه الحكمة الإلهية الذي إن تحرك مثلا متحرك ، أو سكن ساكن ، كان موجودا بذلك المعنى في الكل. فيكون بتطابق الكلّ شيئا واحدا ، والطبيعة بنهايتها أعلم العلماء ، وأطب الأطباء ، وهو الملك المقرب المسلم إليه تدبير أمر عالم الجسم ، المعرب عنه بالكرسي ، فسبحان من له هذه المملكة ، ومن تدبيره هذا التدبير ، ولا إله إلّا هو (٢).

__________________

(١) وردت هذه الأقوال في المشرع الثاني من السور الخامس من كتاب راحة العقل للداعي أحمد حميد الدين الكرماني.

(٢) لاحظنا تقديما وتأخيرا في النص المنقول وإسقاط بعض العبارات مما دعانا لإيراد النص كما ـ

١٣١

فهذا فصل أوضح فيه أن الشمس مركز الحياة الهيولانية التي هي الصورة التي سمّاها الملك المقرب الذي بيده تدبير عالم الجسم المعرب عنه بالكرسي ، التي هي الحياة ، التي كنينا عنها بحواء ، التي حوت الأشياء ، وأحاطت بها. وهي الهابطة ، وهي التي يحركها آدم الروحاني لما له يقصد ، ممّا قدمنا ذكره. وإن مركزها الشمس ، ومحلها أنها أعلم العلماء ، وأطب الأطباء ، بتأييدها لعالم الجسم ، وهذه علوا وسفلا.

ونحن إذا قد بينا القول على التوحيد المحض ، ومعرفة المختص برتبة الوحدة والتوحيد بسبقه سدرة المنتهى. ثم على جنة المأوى المنبعث بالفعل بذاته في ذاته ، وشفعناه بالقول على المنبعث الثاني القائم بالقوة وكماله الأول ، ونقصانه عن الثاني ، وسبق العقول السبعة له ، وترتيبهم ، وإقبالهم عليه ، وتحنّنهم وعودته إلى ما غفل عنه بغير قصد ، وإجابته. ثم على قيامه في من تخلف (١) كقيام الإبداع الذي هو المبدع الأول ، ودعاؤهم به ، وتكبرهم وإصرارهم عليه وعلى المنبعث الأول ، وعلى هبوطهم وتكثفهم وامتزاجهم ، وكونهم هيولى وصورة ، لطيف فاعل ، وكثيف مفعول به. فاللطيف ما بيناه أنّه الصورة التي هي الحياة القائمة بالقوة المخصوصة بالعلو ، على ما جرى به القول. فكان علوها بما أسرته في الحد الجليل السابق في الوجود ، ولبوسها للكثافة ، وقبولها لها بتخلفها عن حديها ، وإجابتهما والالتزام بهما ، وعن الإقرار بمبدع الكل تعالى.

__________________

ـ ورد في راحة العقل وخاصة في الموضع الذي وقع فيه الاضطراب : «.. العوالم كلها ، وهو عقل قائم بالفعل منبعث من طريق الانبعاث الثاني قد جرى فيه ما جرى في الأول من الكمال فقام بكونه نهاية ثانية بإزاء النهاية الأولة هو بالحقيقة القائم سلام الله على ذكره الذي إليه نهاية النطقاء ...».

(١) يعني من تخلف عن التوحيد والإقرار له بالسبق والكمال والتمام.

١٣٢

وذكرنا انفعالها وامتزاجها ، وتراكمها وحركاتها الثلاث ، وانفعالها وترتبها ، وعلو ما علا باستحقاق ، ورسوب ما سفل كذلك باستحقاق. وكان ذلك جميعه من ساعة ظهور عالم الإبداع بحرف كن (١). فكان من سبق المبدع وشهادته ، وانبعاث المنبعثين ، والدعوة بهما ، وإجابة من أجاب ، وتخلف من تخلف ، وتكثف المتخلف وانفعاله ، وترتبه في مراتبه إلى حد انعقاد مركز الأرض كلمح البصر. فسبحان من له الخلق والأمر ، ولا إله سواه.

ولم يبق إلّا الكلام بعد كمال الكلام على المكان والزمان ، على ظهور المواليد الثلاثة بقصد أيضا ثان ، بتؤدة ومكنة ، وأدوار ، وفعل ، وانفعال ؛ إن شاء الله تعالى من قول العلماء ، وأوضاع الحكماء ، بما نبينه بعون ولي العون.

__________________

(١) كن : يذهب علماء الإسماعيلية إلى أن كلمة الله تعالى سميت العلة الأولى وهي الوحدة ، لأن حوامل الوحدة أربعة ، وهم الأصلان (السابق والتالي) ، والأساسان (الناطق والأساس) والكلمة أربعة أحرف كذلك. فالكاف منها نظير العقل الذي هو معدن الجواهر العلوية والسفلية وأصل الأيسيات. واللام نظير التالي ، إذ بالنفس لزم اللمية التي هي أصل المخاطبة ، وبه تلمع أنوار العقل في العالم الجسماني وفي الأشخاص المتجزئة. والميم نظير الناطق الذي ملك الجسماني والهاء نظير الأساس الذي هو المهدي ، وهو هدية الناطق إلى أمته. والسابق والتالي روحانيان ، والناطق والأساس جسمانيان.

١٣٣

الباب السّابع

«في القول على العالم الثالث الجسماني الذي هو المواليد الثلاثة» (١)

قال في ذلك علي بن حسن منصور اليمن في بعض أوضاعه (٢) قال : وإن بدء الجثة الإبداعية ، والفطرة التي عند الحكماء اليونانيين ، إبداعا ثالثا من غير جماع ، ولا توسط نطفة ، ولا اغتذاء برحم ، وإنماء في بطن أنثى ولا أم. بل ابتداء ذلك لما كانت الكواكب في بيوت أشرافها في درجات الشرف ، كل كوكب في درجة شرفه ، «حتى ذكر أن عطارد كان في درجة شرفه» (٣) وليس يمكن ذلك في عطارد خاصة. وكان الطالع السرطان. فدارت الأفلاك ودبرت المدبرات ، وتدافع الهواء ، وامتزجت الأمهات ، فانعصر البخار بذلك السحاب ، بتدافع جرم الهواء الذي يقال له : الريح. فأمطرت مطرا نظير المني ، فأخرجت الأرض الجثة لجميع الحيوان حالا بعد حال ، وظهرت جثة الإنسان والطالع العذراء بقوة تأثير الأصلين (٤) اللذين

__________________

(١) السابع : الخامس في ج. التاسع في ط.

(٢) لعل المقصود هو أبو القاسم الحسن بن فرج بن حوشب بن زادان الكوفي (منصور اليمن) مؤسس الدولة الفاطمية في اليمن ، وربما كان علي هذا حفيد منصور اليمن أي ابن ولده حسن الذي خرج على الدعوة في اليمن بعد وفاة منصور اليمن.

(٣) سقطت الكلمات الموضوعة داخل قوسين من ج وط.

(٤) يقصد السابق والتالي.

١٣٤

كانا سببا لوجود آدم الروحاني وزوجه في الروحانيين ، وسبب وجود الطين. فخلق من ذلك جميع الموجودات في الأرضين (١) والسموات.

قال الله تعالى : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (٢) الآية. وروي عن مولانا جعفر بن محمد ، الصادق (صلع) أنّه ، قال : إن ظهور الجثة من غير نطفة ، ولا ازدواج بالقوة الإلهية المكنونة بالآلة المعتدلة الشريفة السعيدة (٣) الفلكية ، وقوّة العوالم ، والفلك هو معلول علة العلل الواحد الذي ليس كمثله شيء.

فالبشر نتيجة الفلك ، ثم كان من بعد ذلك الازدواج ، والتناسل من الذكر والأنثى ، من كل زوج ليبقى الجنس إلى الوقت المعلوم ، الذي في مثله يكون فتور الأفلاك ، وسكون الجنس باجتماع الكواكب في الحمل ، وهلاك سائر الحيوان.

وقد ضربنا لذلك مثلا بسير الشمس وإصلاحها ، وإفسادها عند معادها في رءوس البروج المنقلبة. لأنها في رأس الحمل أظهرت الأشجار ثمارها ، وفي رأس السرطان يتم نضوجها ، وفي رأس الميزان يبدو تغيرها واندثارها ، وفي الجدي فسادها وحصادها ، ثم يبدو صلاحها.

وكذلك إذا عادت الكواكب بعد افتراقها من اجتماعها ، وحلت بيوت شرفها كما تقدم لينشو العالم نشوا جديدا ، كما ترجع الصور التي لها في الفك صورا روحانية ، وتبقى على ما كان في الدور الماضي. وهو من ستة وثلاثين ألف سنة «إلى أن يكمل عشر دورات للكواكب الثابتة من ستة

__________________

(١) يريد بذلك أرض الدين وعالم الكون والفساد أي الكرة الأرضية.

(٢) سورة ٧١ / ١٧.

(٣) لم نعثر على هذا القول في أي كتاب من الكتب التي بين أيدينا التي روت عن جعفر.

١٣٥

وثلاثين ألف سنة» (١) فيتم ثلاثمائة (٢) ألف سنة وستين ألف سنة ، وافيا بلا نقصان.

وقد ذكر أن الجن خلقوا من قبل هذه الجثة ، من الحارة واليبس ، التي هي النار. وأسكنوا الأرض ، فأقاموا ثلاثمائة ألف سنة وستين ألف سنة ، ثم كان الإنسان والحيوان.

فالإنسان من الأرض ، والطبائع ، وسينقرض ذلك بعد تمام الكور ، ويبدو خلق جديد كذلك ، والله أعلم بغيبه.

كذلك جاء عن الفيلسوف الإلهي بأن الكواكب المدبرات لعالم الكون والفساد ، سبعة أملاك بتجاسدها حدوث القرانات ، فباجتماعها في الحمل جميعا وجوب الكور الأعظم ، الذي هو ثلاثمائة ألف سنة وستون ألف سنة.

ثم قران يسمى القرآن الأكبر ، وهو خمسون ألف سنة دور الكشف ، ثم قران ، يسمى القرآن الأصغر ، وهو سبعة آلاف سنة دور الستر ، من قيام آدم والنطقاء من بعده إلى القائم سلام الله عليه. فكل دور ناطق تسعمائة (٣).

ويتلو هذه القرانات الثلاثة القران المتردد ، وهو باقتران الكوكبين العلويين بحكم المثلثات. وذلك مائتان وأربعون سنة ، وقران زحل والمريخ في برج لثلاثين سنة. وقران دون ذلك ، وهو قران زحل والمشتري في كل عشرين سنة كرة واحدة.

__________________

(١) سقطت الكلمات المحصورة داخل قوسين من ج وط.

(٢) في بعض النصوص الإسماعيلية أن مدة الدور خمسون ألف سنة ، ويذهبون إلى أن دور القائم مع ولده خمسين ألف سنة دور كشف ، ودور الستر سبعة آلاف سنة ويأتيه بين الدورين فترة مقدارها ثلاثة آلاف سنة ومن يتوفاه الله من الأئمة في هذه الفترة كان في أفق العاشر أما ما أشار إليه المؤلف فهو مدة العذاب الأكبر والكور الأعظم الذي أعد للمخالفين من الكبار وهي ثلاثمائة ألف سنة وستون ألف سنة مضروبة في مثلها.

(٣) ومنهم من يقول ألف سنة.

١٣٦

ثم قران أصغر «هو اجتماع النيرين قبل دخول الشمس أول دقيقة من الحمل لكل سنة شمسية ، ودونه قران» (١) وهو مجاسدتهما في كل شهر عربي كرة.

فلمّا كان ذلك كذلك ، وجب أن يكون لكل كوكب من السبعة الأملاك خمسون ألف سنة ، من جملة الكور الأعظم ، والابتداء منها لزحل ؛ وكل كوكب منها يرافده ألف سنة إلى أن يفي العدد سبعة آلاف إلى القمر فيبدأ العدد في سبعة أخرى كذلك إلى القمر. وعلى ذلك إلى أن يفيء دوره خمسين ألف سنة.

وكذلك للمشتري خمسين ، وللمريخ خمسين ، وعلى ذلك إلى خمسين للقمر فيوفى الكور. وابتداء دور زحل يجري التبديل والتحويل ، فيعود البر بحرا ، والبحر برّا ، ويستحيل ما على وجه الأرض من المواليد ، ونحن نبين كيفية ذلك.

فلما كان الدور الأول الخمسين لزحل ، وكان على ما ذكرنا الحد من السبعة الأولة بألف منها ، وذلك بسبب استحجار الأرض من جميع نواحيها على ما قدمنا ذكره وصلابتها.

فعمدت العناية الإلهية بقصد العقول الإبداعية ، تأييد العاشر (٢) ومرافدته على ترتيب الفلك على ما بيّنا ، وجعلت زحل أعلى الكواكب ، إذ كان على وجه الأرض ومن فوقها عكسا لإثبات ما يراد إثباته ، وهو من تحت الأرض من أسفل الكواكب ، بعكس ما يراد عكسه ، وذلك لبرودته (٣) ويبسه

__________________

(١) سقطت الكلمات الموضوعة داخل قوسين من النسخة ج.

(٢) يريد المنبعث الثاني الذي هبط فانتظم عاشرا من العقول الانبعاثية ويقابله في عالم الدين الداعي المكاسر المكلف بجلب الأنفس المستجيبة إلى دعوة الحق الهادية.

(٣) لأن الأرض تجمع البرودة واليبوسة ، والبرودة جامعة للماء والأرض ، ومثل ذلك من الحدود الحجة الذي يجمع الولاية والسياسة والدعوة ، والدعوة الباطنة الجامعة للحجج والدعاة.

١٣٧

وبخسه ، وهو متولي كرة الأرض لأنها من جنسه ، فأحدث زحل في ألفه الذي اتحد به البرد المفرط ، واليبس والثلج المتراكم المفني ، وتكاثف البخار والدخان ، ونشأت الغيوم والضباب.

وأظلم الجو ، وصار الفعل فعل الزمهرير ، ونبعت المياه من الأرض ، وغزرت الأمطار ، وجرت الأنهار ، وغمر الطوفان الأرض على وجهها البسيط الأعلى ، وتلاطمت الأمواج ، وتدفقت إلى كل جانب ، فتقلقلت الجبال وتصدعت ، وتحللت واستتربت ، وتصدع وجه الأرض وتشقّق ، وخشن الشيء بعد الشيء ، فتمعدنت واستتربت وجهها لأنّه كان في حال انعقادها ، فعمدت العناية الإلهية ان جعلتها من جميع نواحيها صلدة متحجرة. وجعلت وجهها حجرا خشنة ، متحثمة ، متمعدنة بالأكلاس والرمل. فقبلت فعل ما يراد بها من التصدع ، والتشقق ، والتمعدن ؛ حتى اكتسى وجهها ترابا ، وصارت أودية وسهولا ، وجبالا وحزونا.

وكان ذلك سبب اقتران الكواكب جميعا في برج الحمل الذي هو أول البروج المنقلبة ، وشرف الشمس. وأول البروج وخروجها منه إلى بيوت أشرافها ، فكانت الشمس حينئذ في تسع عشرة درجة من الحمل ، والقمر في ثلاث درجات من الثور ، وصار هذان البرجان بشرف النيرين ، لكونهما في خط الاعتدال ، وكان زحل في إحدى وعشرين درجة من الميزان.

والمشتري في خمس عشرة درجة من السرطان ، وهو ، أعني السرطان ، طالع العالم بأسره ، وهو بيت القمر ، والمريخ في ثماني وعشرين درجة من الجدي ، والزهرة في سبع وعشرين درجة من الحوت ، وعطارد في خمس عشرة درجة من السنبلة التي هي العذراء. فلمّا كان ذلك كذلك ، واتحد زحل بالألف الأولة ، وحدث ما ذكرناه إلى وفاء الألف الذي أفسد ما على وجه الأرض من الأحجار.

١٣٨

ثمّ دخل الألف الثاني الذي يرافد فيه المشتري لزحل ، فقل المطر دون ما كان في الألف الأول ، وبقيت الأرض مغمومة مغمورة ، وحلّت فزاد في قوّة زحل بباطنه البارد اليابس ، واكسب الأرض سخونة بظاهره الحار اللين ، ووقع بينهما الاعتدال ببواطنهما وظواهرهما ؛ ثم دخل الألف الثالث الذي يرافد فيه المريخ زحل ، والمريخ بظاهره حار يابس ، وباطنه بارد رطب. فاتفق برد ظاهر زحل ويبسه ، وبرد باطن المشتري ويبسه ، ويبس ظاهر المريخ ، فتولد من هذه الخمس قوى (١) في الألف الثالث باجتماع قوى التحسين مع باطن المشتري : السباع الضارية على عدة أجناسها وأنواعها ، وأشخاصها وأصنافها ، وذوات الأنياب والمخالب ، والهوام ذوات السموم على عدتها في أصنافها ، وذوات الجوارح من الطير والهوام في البحار ، وبنات وردان (٢) ، والجراد.

وذلك المزاج الممتزج الفاسد الذي بعد عن العلة ، وهو في رسوب الهبوط ، وذلك حكمة بالغة ان قرنت هذه الأجناس في الأصفاد ، فاعجمت وألجمت ، وأبعدت باللعن إقصاء لها عن الفساد.

ثم بدأ الألف الرابع بمرافدة الشمس لزحل ، وظاهرها حار يابس ، وباطنها بارد لين ، وهي مركز الحياة ومعدنها. فحدث انقشاع الغيوم ، وانحلال البرد ولينه ، وبدأت سخونة قريبة مع برد معتدل باللين ، فحدث ظهور أجناس صغار من الحيوان ، مثل الفأر ، وما شاكله في البر والبحر ممّا هو يمشي على أربع ممّا صغر خلقه ، وما كبر أيضا مثل الجواميس

__________________

(١) في ط : القوى. ويقصد بذلك القوى الروحانية الحساسة الخفيفة اللطيفة وهي : الباصرة ، السامعة ، الذائقة ، الشامة ، اللامسة ، وهي تشبه الكواكب الخمسة الجارية في السماء : المريخ ، المشتري ، عطارد ، زهرة ، زحل.

(٢) نوع من الحشرات المشابهة للجراد.

١٣٩

والفيلة ، وبقر الوحش وحمر الفرا ، وما كان في البحر من القروش وأشكالها. ثم بدأ الألف الخامس الذي يرافد الزهرة فيه زحل ، وظاهرها برودة ورطوبة ، وباطنها حرارة ويبوسة.

فابتدأت الأمطار معتدلة غير دائمة ، بل على أنواع موقتة باعتدال. لأن المياه قد كانت نضجت من على وجه الأرض بحرارة المشتري في ألفه شيئا ، وبحرارة المريخ ، وبحرارة الشمس كان انقضاؤه ، وجفاف الأرض في آخر ألفها.

وهبت الريح الغاذية في ألف الزهرة مع برودة معتدلة ، فنبتت الأشجار طيبة الروائح من جميع الرياحين ، وما شاكلها من العود والصندل وأمثاله ؛ وكذلك الفواكه اللذيذة ، والأزهار والأنهار من النجم والمرعى ، ودودة القز والنحل ، ودواب المسك والزباد.

ثم الحيوان القريبة المحللة مثل : الإبل ، والبقر ، والأغنام ، والخيل ، والحمير ، وجميع ما ينتفع به الإنسان ، مما هي للاغتذاء به ، والاستخدام بالطاعة والخشوع ، والخضوع ، والانقياد لقربه من النهاية الثانية ، ومناسبته في بعض طبائعه إذ هو جزء منه لأنّه معاده ، وإليه رجوعه ، ومآبه ؛ ومنه إصداره وإيراده.

ثم تكوّن الطائر على أنواعه ، وانتشر على الأرض ، وأكل من الثمار ، وحبوب النبات ، من النجم والأشجار. ثم انقضى هذا الدور بالسعادة المشوبة بضدها ؛ ثم ابتدأ الألف السادس ، المرافد فيه عطارد لزحل ، وهو سادس الأملاك ، قد جمع قوى الجميع.

وكان فعل زحل كالسلالة في الخلقة ، وفعل المشتري كالنطفة ، وفعل المريخ كالعلقة ، وفعل الشمس كالمضغة ، وفعل الزهرة كالعظام ، وفعل عطارد كاللحم الذي هو التمام.

١٤٠