كنز الولد

ابراهيم بن الحسين الحامدي

كنز الولد

المؤلف:

ابراهيم بن الحسين الحامدي


المحقق: مصطفى غالب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٢

التاسع من منيرة البصائر قال : نقول وبالله أستعين ، وعليه نتوكل ، إنّه لما كنا قدمنا في الباب السابق على هذا الكلام على قضية العدل ، وميزنا المستحق لنظره بعين العدل ، ممّن لا يستحقه لضعته ودناءته ، نفينا عن الله تعالى ما تضيفه إليه الجهلة الغفلة من أقضية العدل المنسوبة إليه في عالم الطبيعة اللائقة بما يناسبها من جنسها ، ورددنا ذلك إلى الآلات المحكمة ، القائمة في عالم الكون والفساد بالإنشاء والإبلاء ، اللذين هما أصلان ، والأمور الكائنة بينهما في عالم الكون والفساد ، من الحالات المائزة المذكورة في الباب السابق على هذا الباب ، فروع. وإذا كانت الآلات المحكمة متولية للأصول ، فهي بتولي الفروع أولى فأولى (١) ، كما بينا في حال مرافدة بعضها لبعض ، باتصال النظر المحمود والمذموم ، وكون جميع ذلك إنّما القصد به والغرض منه ، استخلاص الذات الهابطة من عالم الإبداع ، التي وعدنا بالكلام عليها ، والسبب في هبوطها وكيفيته.

فعمدت العناية الإلهية المتوجهة إلى عالم الهيولى بانعطاف الأوائل من طريق السبق على الأواخر ، من طريق التخلف ، فأعطت أصفاء ذات عالم الهيولى قدرة ، وأيدتها بتأييد كان توجهه إليها من أدنى تلك الرتب ، منها ما هو آلة فعالة مؤثرة ، هي أصفاها وكذلك ما بعدت من التغيير والفساد ، وطالت بها المدد ؛ ومنها ما هو هيولى منفعلة قابلة للتأثير ، هي ما كدر منها ، ولذلك ما

__________________

ـ بن الحسين أخا الملكة في الرضاع ، ذا منزلة جليلة ، وهو أرفع الدعاة بعد الداعي الذؤيب بن موسى ، وعاضده في إقامة الدعوة الآمرية والطيبية في أو ان الحرة الملكة السيدة الصليحية. قتل غدرا سنة ٥٣٣ ه‍ ، ومن مؤلفاته العديدة في علم الحقيقة : كتاب النفس ، وكتاب منيرة البصائر وهو في عشرة أبواب ، ورسالة النعيم ، وكتاب غاية المواليد. وهذه المخطوطات في مكتبة مصطفى غالب الخاصة.

(١) بتولي الفروع أولى فأولى : تتولى الفروع أولا فأولا في ج وط.

١٠١

قربت من قبول التغير والفساد. وكان قصد المؤيد حتى أدركت ما أدركت من هذا الصنع العجيب بالقدرة المعطاة إياها. والذي منها ما هو فاعل ، ومنها ما هو منفعل ، إنّما الغرض به كما ذكرنا في غير موضع ، وجود القامة الألفية المهيأة لقبول تأثير العقول الإبداعية ، ولتأثير العقول الانبعاثية في دار الطبيعة ، التي هي مطارح أشعة تلك العقول النورانية البسيطة لتفعل فيها هذه العقول من الأفعال ما تحفظ به رتبتها ممّن قبل منها ، فتقيمه مقامها في استخلاص تلك الذات ممّا يظهر على مرور الأوقات من تلك الأشخاص ، ليحصل لهذه العقول القاصدة هذا القصد بذلك التي هي أدنى عالم اللطافة ، أعني العقول القاصدة العود إلى المبدأ (١) الأول بإقامتها مثلها حدودا فاعلة كفعلها ، مقيمة من النفوس التي استخلصتها كالذي أقامته من الصور.

وإنّما قلنا عليها إنها أدنى عالم اللطافة ، لما كان من تبطئها (٢) عند الدعوة ، وعند المبادرة بالإجابة. فعلى حسب تبطئها ترتب كل على قدر إجابته من سرعة وإبطاء. فأمّا المتخلف عن الإجابة ، فهو عالم الهيولى المظلم الكدر الذي قلنا عليه هابطا. ونحن نشرح الحال في ذلك إن شاء الله تعالى فنقول :

إنّه لما كان الكلام قد تقدم في معنى العدل ، وكونه متوجها في عالم الكون والفساد إلى الآلات المتولية لإنشائه وإبلائه ، وكونه وفساده. وإن كان لا يقال عليه إنّه عدل ولا جور ، كما قد سبق ، لكن القول على المجاز ، وكونه من الطريق الآخر التي هي الحقيقة للطائف ، ومنها وفيها كل يقيمه (٣) في من هو دونه على حسب الدرج (٤) والرتب وما تحويه الدوائر حتى تنتهي

__________________

(١) لأنه أصلها ومتمها وتمامها وسابقها في الوجود ، ومن شأن اللطيف الصعود والعلو. المبدا : المبدع في ج وط.

(٢) تبطئها : تباطوئها في ط : تباطأ في ج.

(٣) يقيمه : تقيمه في ط تقومه في ج.

(٤) الدرج : الدرجات في ج.

١٠٢

إلى غاية الرتب التي لا غاية بعدها ، منها ، فيكون الحال في جميع ما دون هذه الرتبة منوطا بصاحبها ، وكذا قد ذكرنا أن الموجود من عالم الهيولى على وجهين : صاعد ، وهابط. وقلنا : إنّه لا يجوز أن يقال صاعد على غير هابط ، كما لا يجوز عند عكسنا القول هابط لما لم يكن صاعدا قبل كنايته عن النفوس الناجية بالصعود عن عالم الكون والفساد ، وعن النفوس الهالكة بالهبوط إليه ، والانحلال (١) نحوه ، على أنهما جميعا قد جمعهما اسم الوجود ؛ ثم اسم الصعود بعده. إلّا أن هذه الناجية استقامت وثبتت. وهذه نكثت (٢) وارتدت. وانما أوقعنا عليهما جميعا اسم الصعود ، لكون الهبوط قد كان جامعا لهما أولا. وهو ما نريد الإنابة عنه ، إلا أنّنا عللنا القول زيادة في البرهان.

وإذا تقرّر ذلك وثبت فإنّا نقول : إن جميع الموجودات خلقا وأمرا في بدء الوجود الإبداعي يقتضي قضية الحكمة والعدل أن يكون كلّه شيئا واحدا محضا ، وذاتا واحدة لا تفاضل بينهما ، ولا تفاوت من جهة الإبداعية ، ولا تمييز لشيء منها على شيء لكون الحكمة توجب ذلك وتقتضيه ، لأنّه لو وجدت متفاضلة لاقتضى تفاضلها استحقاقا استحق به الفاضل التمييز على المفضول ، ولعل (٣) ذلك الهوية المتعالية سبحانها ، ومحال ذلك ، إذ هو تأييس من ليس ، ولأنّنا متى طلبنا التصور للحال قبل إبداعه احتجنا إلى آلة سابقة عليه في الوجود ، وذلك محال.

فلمّا كان عالم الإبداع بالقضية التي وجد عليها من التمام ، والسناء ، والعظمة ، والكبرياء ، والجلال ، والبهاء ، والعزة ، والعلاء ، وكان

__________________

(١) الانحلال : الاحتلال في ج.

(٢) أي هبطت من عالم الصفاء نتيجة للكثافة التي لحقتها. نكثت : نكصت في جميع النسخ.

(٣) ولعل : ولعلا في ج وط.

١٠٣

إبداعه لا من شيء ولا بشيء ، ولا في شيء ، ولا على شيء ، ولا مع شيء ، ولا مثل شيء ، ولا لشيء. بل على طريق الإبداع المتعالي مبدعه عن أن يوصف بصفاته المناسبة له ، وقع الاتحاد ببعضه بفعله الذي استحق به ذلك ؛ وإن كان لا تبعيض هنالك ، بل على طريق التقريب باللفظ فقط ، فاتحد به اتحادا كليّا عرف به مع كون الحيرة والعجز عن تصور المتحد والمتحد به أيضا.

وذلك أن المتحد به سبق السابقين في الإجابة بعد التمييز والفكرة التي سبق إليها ما لا يترجم عنه عقل طيني ، ولا لسان توحيدي ، فاستحق الاتحاد بسبقه ، لأنّه سبق السابقين ، فاتحد به لاستحقاق سبقه ، ودعا (١) عالم الإبداع ببابه الذي سبق إليه إلى السجود ، والطاعة والخضوع والإذعان. فكان منه ما أجاب عند الدعوة ، فبقي على حاله الموجود عليه إبداعا. ومنه ما أجاب على الترتيب ، فكانت السوابق منه ملاحظة للواحق مؤيدة لها على قدر رتبها في الإجابة من تقدم وتأخر ، وإبطاء وسرعة.

وكان المتخلف عن الإجابة والواقع عليه اسم الهيولى المتكثف المظلم ببعده عن مركزه وسقوطه من مقامه ومفارقته إياه ، فوقع به الإهباط عن الحال الأفضل الموجود إلى الحال الأرذل المهبط إليه ، من قبول التشكل بالطول والعرض ، والعمق والخلف ، والأمام واليمين ، والشمال والفوق والتحت ، وهو المكان.

فلما كان ذلك كذلك وسقط الهيولى ، فتكثف وقبل الأشكال ، وبعد إلى غاية البعد ، على أنّه حياة محضة (٢) مظلمة ، عمدت العقول المرتبة في الإجابة

__________________

(١) يريد أنه دعا عالم الإبداع بالمبدع الأول أو الموجود الأول السابق في الوجود والتوحيد.

(٢) يذهب الإسماعيلية في تأويلهم الباطني العرفاني إلى أن من كان قبل آدم الجسماني فحكمه حكم من يكون في آخر الدور السابع مثلا بمثل ، ولما بعث الله تعالى آدم عليه‌السلام ليعلمهم ـ

١٠٤

فأيدت أدناها رتبة ما أيد به الهيولى تأييدا بسريان تلك الأنوار وسطوعها ، فأعطته قوّة وقدرة كان بها من ذاته ما هو فاعل ، ومنها ما هو منفعل.

فالفاعل منها المؤثر بتلك القوة والقدرة ، التي أمد بها كالأفلاك والنجوم ، والكواكب السيارة ، بمرافدتها وتعاونها ، الذي كان سببا لظهور أجناس المواليد والمنفعل منها القابل للتأثير ، كالأركان الممتزجة ؛ والمزاج الذي عنه ظهور النشوء الذي غايته الشخص الألفي المعروف بأنّه زبدة عالم الهيولى ، وكان السبب في دفع الدافع إليها هذه القدرة والقوّة ، طلبا لظهور القامة الألفية ، التي لا صعود إلّا منها ، لكونها آخر المواليد ، وهي الدار الآخرة لمن سعد وفاز ، وكان من الناجين.

والغرض به أن تحفظ العقول الدينية رتبها لمن يقيم صورته منها ، كما قدمناه أولا ، لتكون مستخلصة لمن أذن له بالخلاص (١) ممّا يظهر عنها على مرور الأوقات ، بأن تنقشه النقش السوي ، ويستخرج منه الجني ، فتكون سببا له في نيل كماله الثاني ، كما كانت تلك الآلات سببا لنيل كماله الأول ، مثلا بمثل.

ومعنى قولنا الكمال الثاني هو الرجوع إلى المبدع الأول بالتدريج ، وتكون العقول الدينية بذلك الذي حفظت به رتبها راجعة إلى محلها الأول ، ومسكنها الأفضل ، في عالم القدس بعد أن رقته من مسقطه ، وأصعدته من مهبطه ، بالطاعة والانقياد منه لها ، والقبول الذي كان السبب في إهباطه بما

__________________

ـ وغيرهم ما لم يكونوا يعلمون ، ويكسبهم التمامية إذا كانوا ناقصين ، وإن كانوا عن الغير بالفضل متميزين وقاصرين عن درجة الكمال ، بتركهم العمل في العبادة ، فشرع ، وقنن ، ودعا إلى العبادتين علما وعملا ، فمنهم من اتبع وأطاع ، ومنهم من امتنع والتوى عليه على السنة السابقة في ابتداء الأدوار.

(١) يقصد أن تكون مستخلصة لإمام العصر الذي تتجسد فيه القوى العقلية والروحية والدينية لأنه أصلها ومبدؤها.

١٠٥

وقع به منه التخلف. وإنّما وجد ما وجد من عالم الأفلاك والكواكب ، والطبائع والأركان ، والمزاج والممتزج ؛ كل ذلك أسبابا لظهور من ذكرنا ظهوره.

ثم إن الحال المائزة (١) بينهم من الغنى والفقر ، والعز والذل ، والعجز والقدرة ، والضعف والقوة ، إنّما هو باتفاق نظر الكواكب كما بينا في الشكل المحمود ، والشكل المذموم ، لا بقصد منها الخاسر شيء ، ولا إسعاده. بل اتفاق عن مناظرة هذه الآلات المؤثرات ، وهي كالنار لا تعلم بما تحرقه ، وكالماء لا يعلم ما يغرق فيه ، فلا يصرف أفعالها إليها بعدل منها ولا جور ، وإنّما يضاف العدل إلى مدبر عالم الطبيعة (٢) الذي يحركها إلى المسير ، إلى المناظرات ليعطي كلّا ما يستحقّه ، وفعله ذلك لظهور الولد التام (٣) ، الذي بظهوره وحصوله يسكن هو عن التدبير. وإن كان لا يقع هنالك عنده تعب ولا نصب. وإنّما إظهار الحكمة والخدمة لمن أيده. وأيضا يفعل الجود ، لإظهار الوجود ، الذي هو التفضل ، فهو الحفيظ العليم.

فهذه الفصول قد بينت معنى الخطيئة المرموز بها في ألفاظ الحدود ، ولم يظهروا حقيقة ذلك خيفة أن تقع أسرار أولياء الله مع الجهلة الغفلة الذين يكفرون أهل الحكمة على غوامض علومهم. وقد ذكر الخطاب (٤) في شعر له ذلك بحقيقته ، وهو المرتضى الذي ارتضته حجّة الجزيرة وداعيها ،

__________________

(١) المائزة : المميز ط. الماز ج.

(٢) يقصد به العقل العاشر المتولي لتدبير عالم الطبيعة.

(٣) من هنا جاءت تسمية الكتاب «بكنز الولد» باعتبار أن العلوم العرفانية الموجودة بين سطوره توصل إلى معرفة الولد التام.

(٤) يعني السلطان الخطاب بن الحسين أو الحسن بن أبي الحفاظ الحجوري وله ديوان شعر ، وهو من ـ

١٠٦

واستعراضهم لصورته. قال شعرا (١) :

ألا ليت شعري كيف من طبقاتها

خلاصي فقد أعيا وكيف نجائي

وفكّي عن أغلال حسي بشهوة

لقيت بها في الذل كل لقاء

لعلّي بدار القدس أرجع كالذي

وجدت به من عزّة وعلاء

حننت إلى تلك المقامات والتظى

فؤادي بحرّ الشوق والبرحاء

ولألاء نور واقتدار وغنية

ومحض جلال باهر وبهاء

وما لي إليها لا أحن وإنّها

لداري وفي ساحاتها قربائي

تغربت والمرء المفارق داره

وأهليه معدود من الغرباء

فيا سفري هذا الطويل عسى الذي

قضى بك يقضي أوبتي وأدائي

ويا شجني العواق لي عن مآربي

عدمتك من ما أنت من قرنائي

صحبتك إذ عيني عليها غشاوة

فلمّا انجلت فرغت منك وعائي

فهل لك في بين يفرّق بيننا

فراق تقال قاطع وتناء

ويلحق منّا كل جنس بجنسه

ومشبهه من تربة وسماء

وإنّي لأرجو ذاك والله قادر

بتبليغ آمالي ونيل رجائي

واعلم علما ليس بالظن بالذي

إليه معادي عند كشف غطاء (٢)

__________________

ـ الشعراء المعروفين في اليمن وفي انتسابه إلى حجور يقول الخطاب في القصيدة ١١١ من ديوانه :

قومي حجور جناح لي أطير به

وأهل عزمي من دون الورى قدم

لا يبدلون لرسم حين أرسمه

ولا أبدل رسما غير ما رسموا

(١) هذه الأبيات نقلها المؤلف من قصيدة طويلة للخطاب ألقى فيها ضوءا على عقيدته وعلى النظام العرفاني الإسماعيلي.

(٢) وحتى تكون الفائدة أعم رأينا أن نقتطف بعض الأبيات من هذه القصيدة العصماء التي لا تزال تعيش في كنف التقية :

وذلك أني قد بلوت فلم أجد

مذاهب هذا الخلق غير هباء

سراب كما قال الإله بقيعة

تراءى لقوم مصحرين ظماء

١٠٧

وما أنا لاق من نعيم متى أرم

له الوصف تعجز فكرتي وذكائي

ونحن الآن نعود إلى شرح ما قدمنا عليه القول : وذلك أنّه لما جرى في عالم الإبداع الدعوة الأولة بالمنبعث الأول ، وانقسم العالم الإبداعي قسمين : إلى ذات اليمين ، وإلى ذات الشمال ، وأجاب القسم الانبعاثي على الترتيبي شيئا عن شيء ، فترتبت المراتب بحسب سرعة الإجابة وتبطيها ، وكانت إجابتهم للحدين الأعظمين اللذين هما : المبدع الأول ، والمنبعث الأول ، بتسبيح وتقديس ، للمتعالي سبحانه مبدع المبدعات.

فهذا القسم هو عالم الأمر ، فبقوا على حالهم في الجلالة والعظمة والعلاء والسناء. والقسم الثاني أقروا بما أقرّ به العاشر من تسبيح المبدع الأول وتقديسه أولا ، وتخلفوا عن إجابة المنبعث الأول الذي دعوا به (١) ، وأنكروا وتوقفوا عن طاعته. وقد أجاب العاشر في آخر مراتب العقول السبع ، وأقر للسابق عليه بسبقه له ، وفضله عليه ، والتزم به ، وجعله له قبلة ووسيلة إلى السابق الأول ، وإلى مبدعه.

ولم يفعل المتخلفون كفعله هذا الذي كمل به عن النقصان ، فأمر هو بدعوتهم عدلا وتحننا ، بسبب إقرارهم للأول وتعظيمهم له ، وإلهامهم بأن يلتزموا بالمنبعث الأول لسبقه لهم ، واختصاص المبدع له بفعله وسبقه ،

__________________

ولا شيء إلا ما علقتم بحبله

وعروته للعترة النجباء

ألا واغسلوا من كل حقد قلوبكم

عليكم فداء الحقد أخبث داء

ولا تجعلوها للحقود أوانيا

فإن إناء الحقد شر إناء

(١) يرمز بذلك إلى الذين تخلفوا عن تنفيذ وصية الرسول (ص) بأن تكون الخلافة للإمام علي ابن أبي طالب ع. م.

١٠٨

ولكونه حجاب الحجاب وبابه ، وسبب الأسباب وثوابه (١) ، فخالفوه أيضا ، وأنكروه.

ومنهم أيضا من لم يقر بالمبدع الأول ولا بغيره ، فهم الذين سفلوا إلى أسفل سافلين ، بعد أن أظلم الكل ، وامتزج البعض بالبعض. وكان المقرّ بالمبدع السابق منهم على ما فعل العاشر زوجا للعاشر في تصوره ذلك. فهو آدم الروحاني الذي استعطف ، واستتيب ، فعطف وتاب. والذي زاوجه على التصور الأول حواء ، وهي الصورة التي هي النفس الظلمانية (٢) ، التي تخلفت عن طاعة من أطاعه ، ووقع بهم القول : اهبطوا بعضكم لبعض عدو. وكانت هذه الزواجة المقرّة بالحد الأول في أعلى المكان مراتبهم وترتيبهم على معنى خواطرهم ، والمتخلف عن الكل في أسفل سافلين.

قال سيدنا حميد الدين قدس الله سرّه في الرمز بذلك (٣) : ولذلك يقال عند حد الطبيعة إنها مبدأ حركة وسكون ، في الشيء الذي هو فيه بالذات ، وذات هذا المحرك هي الحياة السارية من عالم الربوبية المعرب عنها بالصورة التي وجودها بالانبعاث من الإبداع ، من الهيولى عن النسبة الموجبة وجودهما على ذلك ، بأن تكون إحداهما فاعلة ، والأخرى مفعولة فيها (٤) ، إلى قوله : بل هي من شيئين بهما وجوده : أحدهما الهيولى ، والأخرى الصورة ، سماهما عالم الدين ، الكرسي والعرش ،

__________________

(١) لأنه جوهر محيط بالأشياء كلها. وهو من حيث كونه عقلا لا فرق بينه وبين الأول ، كما أن الوصي أول منصوص عليه من الحدود في الدور والدعوة إلى التوحيد ، فهو من حيث كونه كاملا لا فرق بينه وبين الناطق ولا يقع الفرقان إلا بالمرتبة في التقدم.

(٢) هذا هو رأي العرفان الإسماعيلي في آدم وحواء في الابداع الروحاني.

(٣) المشرع الرابع من السور الخامس من كتاب راحة العقل للداعي أحمد حميد الدين الكرماني.

(٤) «على النظام الموجود عليه حال الموجود الأول الذي هو الإبداع على ما عليه طبيعة النسبة مفعولا وذاته لا كذات العقول في التجرد من المواد صورا محضة ، بل هي من شيئين».

١٠٩

وهيولاه التي هي جسمه في التهيؤ والموافقة والانبساط لصورتها على أمر يكاد أن يكون كهي لشدة اتحادهما ، بما شاع فيهما من نور الوحدة (١). فسمى الفلك المحيط الكرسي ، والبروج العرش.

وجعل الصورة هي الحياة ، وهي نفس «الحس وهي المحركة المتحركة من داخل الجسم الذي هو الهيولى نفس النماء» (٢). فقد بان هذا الذي ذكرناه من علو الصورة باستحقاق ، ودنو الهيولى كذلك باستحقاق.

وقال أيضا (٣) : بأن الذي يبقى منه هذا الباقي الذي هو الهيولى في وجودها وانبعاثها عن الموجود الأول ذات صورة رافدة إياها الوجود كما أنها لها بها الوجود ، إذ لا وجود لإحداهما إلّا بوجود الأخرى ولا لهما وجود إلّا معا ، بكون وجودهما عن نسبة هي في ذاتها زوج معرب عنها بالمبدع الذي يقتضي إبداعا ، وما بالإبداع هو مبدع ، فلا الهيولى سابقة في وجودها على الصورة ولا الصورة سابقة في وجودها على الهيولى ، بل هما ذات واحدة ، هي في ذاتها ، جزءان بهما ذات الجسم جسم ، على كون الصورة أشرف من المادة ، لتعلق الفعل بها ، وعلى كون كل منهما ـ أعني الهيولى والصورة ـ في ذاته غير جسم ، فلا الهيولى بمجردها جسم (٤) ولا الصورة بمجردها جسم.

وهذا فصل أوضح أنهما لطيفان. فالحسية لطيف ، والنامية لطيف.

__________________

(١) في الأصل المنقول عن راحة العقل «نور الوحدة بقربه منها ، واستعلاء حكم الصورة عليها حتى كأن كليهما شيء واحد».

(٢) سقطت الكلمات الموضوعة داخل قوسين من ج وط.

(٣) المشرع الأول من السور السادس من راحة العقل.

(٤) حتى تكون الفائدة أعم نكمل هذه الجملة اقتباسا من راحة العقل «ولا الصورة بمجردها جسم أيضا ، لكنهما باعتضاد كل منهما في الوجود بالآخر على أمر ينافي ذاتيهما إذ كانتا في حالهما الأولى لا كهما في حالهما الثانية عند البحث».

١١٠

ولكنّهما لبسا (١) الكثافة من ذاتهما بذاتهما ، والكثافة ليست (٢) بشيء إلا الجهل الذي تصوره مع صورة البقاء ، فكان ذلك ظهوره كظهور الخبث من جميع الصنعة الهيولانية. وكذلك جاء عن الشخص الفاضل صاحب الرسائل (٣) :

إن الشر لا أصل له في الإبداع من جهة المبدع سبحانه ، فإذا سائل سأل وقال : فمن أي جهة حدوثه؟ فليعلم السائل أن الخير الكلي هو العلم المحض ، والجود إفاضة الباري سبحانه على العقل بجوده ، فكان له السبق والتمام ، والكمال ، والتقدم بالوجود على الأشياء.

ثم كانت النفس منبعثة منه تالية له ، فكان ما بينهما من التفاضل مرتبة منحطة النفس عن اللحوق بالعقل ، ونقصانا عن درجته ، فقصرت عن الكمال ، فصار ذلك التقصير عجزا ، فحدث من ذلك العجز نقص عن البلوغ إلى الفضل الكلي.

ثم حدثت الطبيعة عن النفس أفضل منها ، لكونها أصلا لها (٤). فكان ما بينهما من التفاضل عجزا هو أكثر من عجز النفس عن بلوغ مرتبة العقل. فقد بين بأن هذه النفس الناقصة ، هي العاشر بما ذكرناه ، وإن الطبيعة هي الهابط الذي تخلف وكان نقصه أكبر من نقصان النفس ، كما ذكرنا. وهذا هو الشر الحادث من المحدث له.

ثم قال : سميت تلك الشوائب الكدرة ، لما غطت على الفضائل ونقصت من جنسها وبهجتها ، وسترت بغلظتها من نورها شرّا لما كانت

__________________

(١) لبسا : ليس في ج وط.

(٢) ليست : سقطت في ج وط.

(٣) هذا النص منقول من الرسالة الجامعة الجزء الأول. مخطوطة في مكتبتي الخاصة.

(٤) أصلا لها : الإله في ج : إلا لها في ط.

١١١

معوقة للخيرات ، أن ترد بما هي عليه من الصفاء ، فكان ذلك الأشياء المتضادة ، المخالفة بعضها لبعض من المحن والبلاء ، والأمور العارضة المكدرة ، إلى قوله : فإن قال قائل فلما وجب الفناء للطبيعة ، وإنّها لا تلحق بمنزلة النفس ، كما النفس تلحق بمنزلة العقل؟

قيل له : من أجل أنها لاهية عن الأمور العقلية ، غير عارفة بها ، ولا مشتاقة إليها ، لبعدها عنها ، ولأنها ليس هي المراد ، ولأنها محنة للنفس وعذاب لها. وإنّما أهبطت النفس إليها ، وبليت بها لخطيئة كانت منها استوجبت ذلك ، وموضع المحنة ، ومكان البلية ، لا يبقى عند خروج المذنب من ذنبه. فالنفس إذا فارقت الطبيعة بعلم وعمل (١) ، رجعت إلى حالتها الأولى التي كانت عليها قبل الخطيئة. فالنفس التي أشار إليها هاهنا ، هي الصورة التي هي الحياة الحسية الهابطة ، والطبيعة التي أهبطت إليها ، وامتحنت بها ، هي الكثافة التي هي الهيولى ، النفس النامية.

وقال في فصل ثان من الجامعة (٢) : وإن النفس في عالم الكون والفساد ، كائنة في محل الأجساد ، وهي الأرواح الهابطة للزلة التي كانت منها ، والخطيئة التي جنتها ، فأهبطت وأبعدت من دار الكرامة ، فبقيت معذبة مربوطة بالطبيعة الحسية والتكليفات اللازمة لها في الشرائع الناموسية ، جزاء لها بما أسلفت. وما ذكره الحكماء من الهيولي والصورة إلّا تنبيها للنفس اللاهية ، والأرواح الساهية الغافلة عن آيات الله وتذكارا لهم (٣). وإن الهيولى والصورة ،

__________________

(١) أي بالعبادة العلمية والعبادة العملية.

(٢) انظر الجزء الأول من رسالة الجامعة لإخوان الصفاء وخلان الوفاء ورقة ٨٣. مخطوطة في مكتبة مصطفى غالب.

(٣) يريد بذلك الأنفس التي تتكشف بالمعاصي وهذا يختص بالأضداد الكبار من الخبثاء والأشرار أعداء الإمام الأساس.

١١٢

أعراف عليها واقفون ، وبرازخ لهم إلى يوم يبعثون ، كلما بليت صورة بالفساد كونت أخرى (١) بالكون. فهم بين البلاء والنشوء مترددون ما بين الهيولى الجسمانية ، والصورة التركيبية إلى كون النشأة (٢) الأخرى الروحانية ، كالبداية الأولى ، والنشأة الثانية. فالمحرك للنفس قوة جزئية من قوة النفس الكلية بالإرادة الإلهية ، والعناية الربانية ؛ وإن ملكا من جملة الملائكة موكل بها. وإن الرؤساء الظاهرين في الآفاق والأنفس ، بالآيات والمعجزات ، هم أشخاص صورانية متحدة بها أرواح نورانية مؤيدة لها ، بتأييدات إلهية ، منبعثة من النفس الكلية القدسية القابلة لفيض العقل بلا واسطة انزلت لخلاص النفوس الجزئية من عالم الفناء (٣) ، وتذكيرهم بمحل البقاء (٤) ، وتمحق عنهم أثر الخطيئة الكبرى ، وما حل بهم من المصيبة العظمى ، وتنقذهم من أسر الهيولى ، وتفكهم من قيود الطبيعة ، وتردهم إلى عالم السموات ،

__________________

(١) يذهب الإسماعيلية إلى أن هؤلاء إذا ماتوا شاعت أنفسهم في أجسامهم ولم تفارقهم إلا الهوائية. ثم يتحللون ويصيرون من البرازخ فيما يستحقونه منها على قدر أعمالهم ، إن استحقوا بعضها أو كلها. ثم يرجعون صاعدين بالاستحالة والولادة إلى الصور البشرية ، وتعرض عليهم الدعوة. فإن استجابوا خلصوا وإلا ردوا إلى ما يستحقونه باكتسابهم في المرة الثانية ، لأنه عدل لا يظلم العباد ولا يخلف الميعاد ، والغرض كله في إنشاء الخلقة استخلاصها مما وقعت فيه من الخطيئة والإنكار. فمن تخلص صعد ، ومن أبى وعائد الحدود ، ارتكس وهبط ، وكل ذلك بالاستحالة مرة بعد مرة.

(٢) نلاحظ بأن الإسماعيلية ينكرون ما يذهب إليه أهل التناسخ ويعتبرون ذلك جهلا وضلالا لا يجب اعتقاده ، بل يقولون بأن معتقد ذلك هالك ملعون. لأن ذلك بالاستحالة والاغتذاء والولادة والتنقل في برازخ العذاب الأدنى ثم إلى العذاب الأكبر.

(٣) يعني بذلك المنبعث الأول أو التالي الذي اتخذه السابق أو العقل الأول بابا وحجابا يخاطب منه من دونه ، وأمده من المادة التي طرقته من مبدعه ، بما شرف به على المنبعث الثاني ، وعلى كافة أبناء جنسه ، وعلم بذلك ما كان وما سيكون ، وهو المسمى بالنفس الكلية وباللوح ، والأنفس الجزئية منه تنطلق وإليه تعود إذا خلصت من جزئيتها وبلغت حد الكمال.

(٤) يريد بذلك المعاد أو عودة الجزء إلى الكل الذي انبثق منه.

١١٣

والرجوع إلى دار الملكوت ، في عالم العقل.

وهذا فصل أوضح فيه أن ملكا من الملائكة موكل بها فهو العاشر المحرك لها لتنال كمالها في جميع الحالات ، ثم تدرج بها الحركة إلى الكمال الثاني.

وقال أيضا في أن من كان من صالح أو طالح في عالم الكون والفساد «فإنه ممن هبط بالخطيئة ، قال : وأما النفوس الزكية المنصرفة عن المركز الخارجة من عالم الكون والفساد» (١) الداخلة في عالم الأفلاك ، «وزمرة الأملاك ، وهي الأرواح الزكية والأنفس النورانية» (٢) الطاهرة المضيئة التي قد تخلصت من هاوية الطبيعة ، وقيد الهيولى ، وبحر الظلمة ، فقد خلصت ونجت ، فهي منصرفة عن محل البلاء ودار الشقاء ، إلى دار النعيم والملك المقيم ، طوبى لهم وحسن مآب. وهي النفس المطمئنة الراجعة إلى ربها راضية مرضية. إلى قوله :

وإن التفاوت في الدرجات والمنازل ، غير مستحق له ، ومخصوص به نوع دون نوع ، ولا شخص من ذلك النوع دون شخص. فالبرهان وجب أن يكون ذلك لعلة موجبة للعدل ونفي الظلم والجور عن المبدع الحق سبحانه وتعالى.

وقال سيدنا حميد الدين ، قدس الله سرّه ، في إيضاح رتبة العاشر عن الإبداع ، وفي الصورة التي لها نسبة من عالم القدس :

__________________

(١) سقطت الجملة الموضوعة داخل قوسين في ج وط.

(٢) يقصد أهل العرفان الحقيقي من الحدود والدعاة والمستجيبين العارفين لمعاني الحكمة السرمدية القدسية الذين صاروا سببا قريبا للمواليد الروحانية. والحدود في عالم الدين وسائط بها يعرف أهل الدعوة حقائق الأمور ومن جهتها يدرك علم المعقولات ومنازل آيات الله وحدوده. والأئمة مصابيح الظلام الذين أضاءوا للناس طرق الهداية. سقطت الكلمات الموضوعة داخل قوسين من ج وط.

١١٤

ولمّا كان الإبداع الذي هو المبدع الأول والملك الأول خارجا عن الجسم مفارقا ، ولم يكن مثله لزم لما لم يكن مثله أن يكون الإبداع الذي بذاته ، علة قريبة لوجود ما في الإمكان أن (١) يوجد عنه ممّا يجب أن يكون ، وأن يترتب دونه ممّا وجد عنه ما يكون علّة لوجود ما سواه ، وأن يوجد فيه ممّا به كماله ، ما يكون من جنس هذا المفارق الخارج عنه القائم بالفعل ، ليكون بكونه من جنسه فاعلا ، فيكون باقترانهما في الوجود ، وإذا نهض لما يوجبه كماله حدوث الحركة التي بها يتعلق وجود الموجودات في عالم الجسم ، وبها يصير محركا متحركا لا عن قصد منه لأن يكون متحركا ، ولا لأن يكون محركا ، بل لأن يقدس المتعالي سبحانه وما عنه وجوده ، الذي فيه فرحه وحبوره وكماله ، فكان الذي في هذا الموجود الأول من الهيولى الذي هو من جنس ما هو خارج عنها ممّا لا وجود لها إلّا به ، هو الحياة المعرب عنها بالصورة التي هي العاقلة لذاتها ولذات ما هي فيه من الجسم ، وإذا نهضت لفعل ما يوجبه كماله من استدامة المسرّة بالتقديس والتمجيد ، تحرك بحركته المتحرك من جسمه. ولما كان ذلك كذلك قلنا :

إن سبب كون هذا المحرك ناهضا للفعل الذي يلزمه الحركة فيكون متحركا ، هو أنّه لما كان هذا المحرك المتحرك الأول من شيئين يعقل بأحدهما بكونه من جنس ما يعقل ، وكانت غايته وكماله الثاني الذي به يتعلق بقاؤه وقيامه بالتقديس والتمجيد ، وفيه سروره وبهجته ، ودوامه في عقل ما به وجوده [وعنه وجوده (٢)] من الموجود الأول السابق عليه في الوجود «فأحاط بذاته من جهة ما يعقل فعقلها وعقل الموجود السابق عليه في

__________________

(١) انظر المشرع الرابع من السور الخامس من كتاب راحة العقل للكرماني.

(٢) هذه العبارة (وعنه وجوده) غير موجودة في الأصل المنقول عن راحة العقل.

١١٥

الوجود الذي» (١) به كماله ، اغتبط بذلك أشد اغتباط ، وكان له من الحبور والمسرة بكماله الذي ناله بعقله ما هو خارج «عنه ومصادفته ذاته على أكمل الأحوال والجمال الذي» (٢) يليق به أعظم حبور ، وأعظم مسرة ، فصار عقله ذلك صورة في ذاته ، مقومة له ، بها قيامه بالفعل كاملا في التقديس والتحميد والتسبيح ، وبها اغتباطه ومسرته بما هو عليه من صيغة البقاء والسرمد ، محركة إياه إلى ما له أن يتحرك إليه من استدامة الغبطة والمسرة بفعله إذا الصور أبدا فاعلة بما هي له صورة.

وإذا كانت الصورة محركة إياه ، لزم أن ينبعث للفعل الذي يقتضي كماله ، وإذا لزم أن ينبعث للفعل ، لزم بفعله في جسمه الذي به تمامية ذاته أن تحدث عن نهوضه بجسمه ، لإصدار الفعل الحركة في جسمه. وإذا لزم أن تحدث الحركة في جسمه لزم أن يكون بكونه فيه متحركا (٣) فكانت تلك الحركة بكونه أشرف موجود ، عن الهيولي والصورة أشرف الحركات ، وبدوام فعله ما يوجبه الكمال من التقديس والتوحيد والمسرة (٤) ، والاغتباط ، والابتهاج ، أدوم الحركات ، فالسبب في حركة المحرك المتحرك الأول ، هي تلك الصورة المعقولة عن المبدع الأول ، التي هي المحركة لما

__________________

(١) سقطت من الأصل المنقول هذه الكلمات (في الوجود فأحاط بذاته من جهة ما يعقل فعقلها وعقل الموجود السابق عليه في الوجود الذي) في ج وط.

(٢) سقطت من الأصل المنقول عن راحة العقل هذه العبارات (عنه ، ومصادفته ذاته على أكمل الأحوال والجمال الذي) في ج وط.

(٣) يبدو أن الناسخ أضاف في ج وط هذه الأسطر المنقولة عن راحة العقل : كحركة الملاح عن حركة السفينة ، حركة عرضية طارئة عليه من جهة جسمه عن قصد ما يوجبه كماله على نحو ما يحدث للنفس من الحركة عند طلبها المسرة بالانتقال أو العبادة لله تعالى وتقديسه ، واستعانتها في ذلك بابعاض جسمها.

(٤) في الأصل المنقول من المشرع الرابع من السور الخامس من راحة العقل (والتمجيد والتحميد والمسرة).

١١٦

هي له كمال إلى ما فيه دوام غبطته وبقائه.

وهذا فصل قد أوضح فيه أن الحياة هي الصورة ، وبالحقيقة هي الحية. وإنّما لم تسم صورة إلّا بسبب تصورها للمبدع الأول ، فكانت هذه صورة أوجبت لها صورة البقاء والأزل فيما هي فيه. ثم تصورت إنكار من أنكرته ، فكانت ذات صورتين : أوجبت لها الأولة اللطافة ، والثانية الكثافة. فقرنت بالهيولى الذي هو المصر المستكبر المنكر للكل. وامتزجت به التي هي النامية السفلية ، التي رسبت أسفل سافلين ، فهي محركة لها متحركة من داخلها ، فهي محركة من الأفلاك لها في عالم الكون والفساد ، ومتحركة بذاتها في عالم الأجرام لدوام النشوء (١) وظهور المواليد وهي المتحركة في عالم الكون والفساد ، قابلة التأثير. والنامية قابلة التغاير والتضاد ، والاستحالة من حالة إلى حالة ؛ والصورة هي التي لها العلم الأول في النبات ، يطلب الغذاء له ، ثم في الحيوان المحركة المتحركة إلى المآكل والمشارب والنكاح. وهي بذلك تطلب الالتذاذ والبقاء ؛ والعناية الإلهية تريد بها الخروج إلى الكمال الذي هو القامة الألفية ليخلص منها ما خلص إلى الكمال الثاني ، فذلك سبب امتزاج الهيولى والصورة لهذا المعنى ، لا لغيره فقط.

فصل : من ذلك في كيفية انفعال المكان والزمان ، وتكثف عالم الخلق والابتداء في ذلك بعون الله ومشيئته ، نقول :

إن عالم الخلق لما أظلم ووجب عليه الهبوط والتكثف والسقوط ، عما كان عليه امتزج بعضه ببعض ، وتراكم كتراكم الغيوم والضباب ، وامتزج ، فتحرك من ذاته بذاته حركة أولة بمحرك قاصد بذلك ما له أن يقصد بتأييد إلهي وأمر رباني ، فكانت تلك الحركة هي الطول الأول ،

__________________

(١) النشوء : النشأة في ج ، في النشو ط :.

١١٧

فكان مبدأها (١) حرارة ، ومنتهاها برودة.

ثم تحركت حركة ثانية تطلب الخلاص ممّا وقعت فيه. فكانت العرض الأول ، وأولها رطوبة ، ونهايتها يبوسة ، فأكملت الأفراد الأربعة ، التي هي الاستقصات لجميع الموجودات.

ثم تحركت حركة ثالثة تريد الخلاص ممّا وقعت فيه ، فلزمها العمق الأول بين الأقطار ، ولزمها الأبعاد الثلاثة. ثم كان من الحركة الثالثة لما بعدت حدوث طبيعة جامعة للكل في الوسط حرارة ويبس ، وحرارة ورطوبة ، وبرودة ورطوبة ، وبرودة ويبوسة ، وتزاوجت «وحوتها الأقطار في الوسط فامتزجت» (٢) وصارت كالكرة في الوسط ، وهي في ذاتها بذاتها مزاج وممتزج ، قابلة الأغيار ، قابلة التضاد ، قابلة الاستحالة ، قابلة الكثافة ، قابلة الفعل ، متوجهة إلى كل ما وجهت إليه ، وهي المسماة بسجين دار العذاب ، والذل والهوان لأهل العذاب ، وما ربك بظلام للعبيد. «وهي أيضا باب المعاد ، وطريق الرشاد لأهل الصواب» (٣).

ولما كان ذلك كذلك ، وجرت الحركات الثلاث مبدأ الأبعاد ، وتكوين المكان ، لظهور الزمان ، وكملت الطبائع والأمهات ، ولزمت الجهات الست لخروج ما يخرج إلى الحس ، كان ابتداء ذلك على هذه الصورة تقريبا للمرتاض إلى فهمه هذه. (انظر الرسم) (٤)

ولما كانت الحركات الثلاث على هذه المثابة ، التي هي الطول والعرض والعمق ، ولزمها الطالع والغارب ، والرابع والعاشر ، وقطبا جنوب وشمال ،

__________________

(١) مبدأها : مبدلها في ج. وكل هذه الحركات من حكمة العاشر المكلف بتدبيرهم.

(٢) سقطت الكلمات الموضوعة داخل قوسين في ج.

(٣) سقطت الكلمات الموضوعة داخل قوسين في ج.

(٤) في النسخة ط : وجد مكان الصورة بياض بمقدار صفحة. وفي ج نقط وفراغ.

١١٨

١١٩
١٢٠