نفحات القرآن - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-98-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٠٠

المشروبات الكحولية يُصَبْ بقرحة المعدة ، وضعف القلب والأعصاب ، ويُمكن أن تُرافقه هذه الأمراض طيلة عمره أحياناً.

فلو قال أحدٌ الآن : أمِنَ العدل أن يُعاني مَنْ تعاطى المشروبات الكحولية شهراً واحداً مِنْ قرحة المعدة واضطراب القلب والأعصاب طيلة عمره!؟

في الرّد على ذلك يُقال له : هذا ما قدّمت يداه ، وليست هذه الأمراض عقوبة وضعيّة ، لاسيّما وأنّ هذا الشخص قد نُهي عن هذا العمل وذُكّرَ بهذه العواقب الإلهيّة.

فلو كان لهذا الشخص عمرٌ خالدٌ في دار الدنيا ، لوجب أن يُعاني من هذه الأمراض إلى الأبد ، دون أن يمسّ موضوعه مسألة العدل الإلهي (تأمل جيداً).

وكذا الحال بالنسبة إلى مسألة الخلود في النار ، فأعمال الإنسان لا تمحى أبداً ، بل تبقى وتترك آثاراً في جسمهِ وروحه أيضاً ، وهذه الآثار سترافق الإنسان في جميع العوالِم ، وسينال العذاب والاذى بسببها إن كانت طالحة ، وسنتطرق إلى تفصيل هذه المسألة بصورة أكثر في بحوث المعاد إن شاء الله تعالى.

٦ ـ إنَّ مشكلة حوادث الحياة الأليمة : كالآفات والبلايا والعواصف والزلازل والآلام والمتاعب وحالات الفشل والاحباط لا تتنافى مع أصل العدل ، وتحتاج إلى توضيح نذكره أدناه :

إنّ لكلّ واحدة من هذه الأمور فلسفة تتضح بقليل من الدقّة ، فعندها يُصدّق الإنسان بكون هذه الأمور في اتجاه العدل الإلهي لابعكسه.

ويُلاحظُ وجود مسائل في حياة الإنسان لا نجد لها تفسيراً واضحاً في باديء الأمر ، وقد يتزلزل إيمان البعض بالعدل الإلهي أحياناً ، أو باثبات وجود الله أحياناً اخرى عندما يواجهون مثل هذه المسائل من دون أن يبذلوا جهوداً لزيادة المطالعة أو التدقيق فيها.

وتُشير القرائن المختلفة إلى وجود هذا النوع من التفكير بين بعض الفلاسفة منذ قديم الزمان.

بل وكان موجوداً عند بعض الأدباء نوعاً ما أيضاً ، وقد أنشد بعضهم أبياتاً من الشعر

٣٤١

العربي والفارسي في هذا الخصوص ، ظهر من خلالها شكهم في هذه المسألة أو إنكارهم لها. ويُمكن تلخيص الظواهر غير المحبذة بعدّة نقاط :

١ ـ الفرق في القابليات : تختلف درجة الذكاء من إنسان لآخر ، فمنهم من يتمتع بذكاء خارق ، ومنهم ذو ذكاء متوسط ، وبعضهم أقلّ مستوى من الطرفين ، وهذا التفاوت موجودٌ أيضاً في القوى الجسمانية ، وكذلك الحال بالنسبة لظاهر الناس ، فمنهم القبيح ، ومنهم الحسن ، وهكذا التفاوت في اقتناء الثروات والأموال فهو موجودٌ أيضاً.

٢ ـ النقائص والعيوب : إنَّ أغلبية الناس يولدون سالمين ، في حين يُعاني البعض من نقص عضوٍ معين ، وهذا النقص يجعلُهُ يعيش في أزمةٍ نفسيةٍ حادّة طيلة حياته.

٣ ـ الإنكسارات والهزائم : إنّ الحياة الإنسانية مفعمة دائماً بأنواع المشاكل المُنهكة ، كالأمراض ، حالات الفشل ، الاحباطات ، وما شاكل ذلك ، فكيف يرتضي عدل الله أن يُعاني الأنسان من هذه الأمور ، وتتحول حلاوة الحياة في فمه إلى حنظل؟

٤ ـ الحوادث المُّرة : تحدث في حياة الإنسان حوادث طبيعيّة مفجعة ينتج عنها هلاك الحرث والنسل ، فَمَن الذي لم يسمع بدمار وضحايا الزلازل ، والعواصف ، وسنوات الجفاف والمجاعات؟ وعند حلول هكذا كوارث مُدمرّه يُطرَحُ هذا السؤال عادةً : أو لَمْ تكن جميع العوامل والأسباب الطبيعيّة منقادة لأمر الله تعالى؟

وإذا كان كذلك ألمْ يكنْ الماء والهواء والنار من جنوده تعالى ، ويُطيعون ما يأمرهم به؟ ألا تتنافى مثل هذه الأمور مع أصل العدل والحكمة الإلهيّة؟ إِنَّ الإجابة عن مسألة الحوادث المُرّة هي :

إنّنا نعترف بأنّ الإنسان المؤمن عندما يواجه مِنْ قَبيلِ هذه الأسئلة يقع في ضيق ، إلى الدرجة التي لا يَسلَمُ البعض من هذا المنزلق ، وربّما يقع في هاوية الكفر والإنكار.

لكن الظريف في هذا الأمر هو أنّنا كُلّما تفكّرنا ودَرسْنا جوانب هذه المسألة أكثر ، توصلنا إلى آفاقٍ أكثر وضوحاً.

بالضبط كالمسافرين الراكبين في القطار الذي يجتاز نفقاً مُظلماً حيث يتملكهم القلق

٣٤٢

والإضطراب ، ولكن بتقدم القطار إلى الأمام يلوح بصيص نورٍ شيئاً فشيئاً ، ثم يتّسع مع استمرار التقدم ، حتى يتلاشى ظلام النفق تماماً بخروج القطار.

وعلى أيّة حال هنالك جوابان إجماليّان في مقابل هذه الأسئلة المحيّرة ، مال البعض إلى الجواب الأول ، والبعض الأخر إلى الثاني ، وجماعة إلى كليهما.

والمهم هو أنْ نعزّز الأجوبة بإيضاحات جديدة ، والاستعانة بالآيات القرآنية أيضاً بشكل يتناسب مع البحث التفسيري.

الجواب الإجمالي المختصر

بمراجعة النقاط التالية نحصل على جواب واضح وقصير لجميع هذه الأسئلة ، والذي يُمكن أن يُخرجنا من هذا المأزق :

لا ريب في كون ما نعلمه من المجهولات قليلاً جدّاً ، وما نعلمه عن أسرار الخلق والوجود بالقياس إلى ما نجهله منها كقطرةٍ من بحرٍ عظيم.

هذه حقيقة اعترف بها جميع العلماء الإلهيين والمادييّن ، لذا ، فإنّ جميع وجهات نظرنا تجاه حوادث هذا العالَمِ تقع في حدود دائرة معلوماتنا وليست مُطلقة بتاتاً.

فإذا عجزنا عن معرفة أسرار هبوب العواصف ، أو حدوث الزلازل فإننا لا نستطيع أن نتّهم مُسببّها بشيء ، فهل نحن متيقّنون من عدم وجود أثر إيجابي من الدمار الناشيء عن العاصفة أو الزلزلة يطغى على سلبيات هذا الدمار؟

كُنّا في الماضي نُعِدُّ الكثير من المسائل من الآفات والبلايا ، لكننا اليوم وفي ظل التطورات العلمية وكشف أسرار جديدة عن الكون نعتقد بفائدتها ، فمثلاً كان الرأي السائد في السابق هو أنْ بكاء الأطفال المواليد لا ينجم إلّاعن ألمٍ أو أذى لا غَيْر ، في حين يُقال اليوم بأنّه لولا هذا البكاء لكان من المحتمل أن يفقد هذا المولود سلامته بالمرّة ، وأنّ البكاء خير رياضةٍ لبدنه ، فهو ينشّط الجهاز التنفّسي ويُسرّع جريان الدم في عروقه ، ويُغذي جميع ألياف البدن ، ويقوّي عضلات اليدين والرجلين والصدر والبطن ، علاوةً على طرده الرطوبة

٣٤٣

الزائدة الموجودة في دماغه والتي يُمكن أن تُحدث التهابات معينة فيه.

وما إلى ذلك من قبيل هذه النماذج.

ومن جهةٍ اخرى ، إنّنا نقف على النظام الدقيق المدهش الحاكم على أغلب الموجودات ، عندما ننظر إلى عالم الوجود ، وقد ذكرنا شرحه بصورة تامّة في بحوث معرفه الله ، وليس لهذا النظام من تفسير سوى وجود عقلٍ كُلّيٍ وعلم غير محدود في ما وراءه.

علاوةً على ذلك ، فإنّنا في البحوث المنطقية في مجال صفات الله ، توصّلْنا إلى أنّه تعالى لا يحتاج إلى أي أحد وهو بكل شيء عليم ، لذا فذاته المقدّسة منزّهة عن الظلم الناشيء من الجهل والعجز ، فما المبرر في أن يظلم أصغر عباده؟

إذن ، إنّ ما نعتقد بكونه ظُلماً أو خلافاً للعدل ناجمٌ قطعاً عن محدوديّة اطلاعنا وعلمنا. وبتعبيرٍ أوضح : كما يحتوي القرآن الكريم (كتاب التدوين) على آيات محكمات وأُخر متشابهات ، أي أنّ أغلب الآيات مجملة لا تخلو من الإبهام لوحدها ، فعلّمنا القرآن هنا اسلوباً منطقياً لحل ابهام واجمال المتشابهات ، وأمرنا بالاستعانة بالمحكمات في تفسير وتحليل المتشابهات ، وأمرنا بالمقارنة فيما بينها لدفع جميع الإشكالات.

وتوجد في (كتاب التكوين) أي عالم الكائنات ـ آيات محكمات كثيرة أيضاً ، وهي النُّظم والقوانين المفيدة الحاكمة فيه ، وإلى جنب هذه المحكمات يُلاحظُ وجود بعض المتشابهات كالزلازل والعواصف ، التي تحدث أحياناً ، وبغض النظر عن بعض المشوّهين للحقائق الذين يشكّلون نسبة ضئيلة بين الناس فانَّ الإنسان العاقل والمدرك يؤمن بأنَّ لهذه الآيات التكوينية الواضحة مسائل وحسابات معينة ، مع أنّنا نجهلها بسبب محدودية علمنا.

فلو أُعطينا كتاباً ضخماً (يحتوي على ألف صفحةٍ مثلاً) مليئاً بالعناوين البديعة ، والبحوث الغنيّة ، والحقائق القيّمة الواضحة ، لكنّنا تحيّرنا في تفسير عدّة جُملٍ منه لأنَّ فيها شيئاً من الإبهام والإجمال ، فهل من الصحيح أن ننفي علم ومعرفة ومنطق الكاتب بسبب بعض العبارات التي لا نُدرك تفسيرَها؟ بل بالعكس فبالنظر إلى كثرة المطالب العلمية في الكتاب سنعترف بعجزنا عن تفسير تلك العبارات المعدودة.

٣٤٤

إذا وجدنا عمارة عظيمة تجلّى فيها رونقُ الفن المعماري بكل أشكاله ، وصادفنا جانباً صغيراً منها لم نستطع أن نفهم فلسفته ، فهل نخطّيء المعمار؟ أم أنفسنا؟ لا سيّما إذا عرفنا من القرائن الأُخرى مهارة معمار تلك البناية وكماله العلمي ، وصفو وصدق نيّته أيضاً.

وخلاصة القول : هو أنّنا لو ألقينا نظرة على هذه الحوادث الخاصّة ، بل ولو نظرنا إليها إلى جانب مجموعة نظام العالَم ، وحَكَمْنا حُكماً شموليّاً لتوصلنا مجملاً إلى هذه النتيجة وهي : إنّ هذه الأمور ذات أسرار خاصّة أيضاً ، بالرغم من جهلنا ، ويُحتمل انكشاف قسم منها بمرور الزمان وتطوّر العلم ، كما انكشف قسمٌ منها لحد الآن ، وفي نفس الوقت يُحتمل أن يبقى قسمٌ آخر منها مستوراً عنّا إلى الأبد ، لكننا مع ذلك نعلم بأنّ في جميع هذه الأمور أسراراً خفيّة.

* * *

القرآن والجواب الإجمالي على مسألة الآفات والبلايا :

إنّ القرآن الكريم الذي يُري الطريق ويُعين في الوصول إلى المقصود في جميع المسائل الفكريّة ، له إشارات كثيرة أيضاً في هذا المجال من جملتها :

١ ـ قال تعالى في موضعٍ : (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلمِ إِلَّا قَلِيلاً). (الأسراء / ٨٥)

فاحذروا أن تحاولوا بعلمكم المحدود أن تُنظّروا في كُلّ شيء ، وتتصوروا بجهلكم بأسرار الحوادث عدم وجود تلك الأسرار.

٢ ـ بعد أن أشار تعالى في سورة النساء إلى قسمٍ من الاختلافات التي قد تحدث بين الزوجَيْن ، أمر الرجال بحسن معاملة النساء فقال : (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكرَهُوا شَيئاً وَيَجعَلَ اللهُ فِيهِ خَيراً كَثِيراً). (النساء / ١٩)

وقد ورد نفس هذا المفهوم بتعبيرٍ آخر ، بالنسبة إلى الجهاد في سورة البقرة ، كقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيئاً وَهُوَ خَيْرٌلَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَاتَعلَمُونَ). (البقرة / ٢١٦)

٣٤٥

مع أنّ الآية الاولى تخص المعاشرة الزوجيّة ، والآية الثانية تخصُّ الجهاد المسلّح ضد العدو ، لكن ما ورد في نهايتهما قانون كُلّيٌّ حيث يقول : إنّ محدودية علمكم في الكثير من الموارد تحول دون تمييزكم الخير والشّر ، وعليه لا يُمكن النظر فقط إلى ظاهر الحوادث والقضاء بشأنها ، فمن المسلَّمِ أن الحوادث البشريّة المُرّة تقع في دائرة هذا القانون الكلّي أيضاً.

٣ ـ إنّ قصة الخضر وموسى عليهما‌السلام التي وردت في سورة الكهف والتي تُعدُّ من القصص القرآنية الغنيّة الرامية إلى أهداف متعددة ، تشير بوضوح إلى بحثنا ، والتي يُمكن القول : إنّ أحد ألاهداف الأساسية من طرحها هو هذه المسألة وهي : عندما يصدر فعلٌ معينٌ من حكيم ، يجب عدم الحكم بظاهره والقضاء بشأنه استناداً إلى ذلك ، فما أكثر الحالات التي يبدو فيها ظاهر العمل قبيحاً ، لكنّه يحتوي في باطنه على أسرار عميقة.

فمثلاً خرق سفينة المساكين المستضعفين التي كانت تشكّل مصدر عيشهم (رزقهم) المحدود ، أو قتل الغلام الذي كان يبدو بريئاً ولم يرتكب جرماً وخيانةً ظاهراً ، أو إقامة الجدار الذي أو شك على الانهيار بدون ثمن ، في قرية البخلاء الذين أبْوا أن يضيّفوا (موسى وصاحبه عليهما‌السلام) كانت جميعها أعمالاً يُعد كلٌّ منها أقبح من الآخر.

ولهذا السبب كان موسى عليه‌السلام يعترض كُلّما ارتكب الخضر عليه‌السلام أحد هذه الأعمال ويقول له : لِمَ فعلت هذا!؟

ففى الموقف الأول قال له : (أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهلَهَا لَقَد جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً). (١) (الكهف / ٧١)

وفي الموقف الثاني استنكر قائلاً : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيرِ نَفسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً). (الكهف / ٧٤)

وفي الموقف الثالث أراد مِنَ الخضر عليه‌السلام أن يتقاضى أجراً مقابل عمله (قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً). (الكهف / ٧٧)

__________________

(١) «إمر» على وزن «بِئْر» تُطلق على العمل المهم والعجيب ، أو المبغوض والقبيح جدّاً.

٣٤٦

وكان يبدو لموسى عليه‌السلام أنَّ العمل الأول اتلاف مال الغير ، والثاني اتلاف النفوس ، والثالث اتلاف الحق الخاص.

ولكن عندما كشف (الخضر عليه‌السلام) ، ذلك العالم الكبير الذي كان يُعَدُّ في هذه الواقعة بمنزلة استاذ ومعلّم لموسى عليه‌السلام ، حجباً عن أسرار عمله تأسف موسى عليه‌السلام على استعجاله في القضاء بشأن تلك الأمور ، لأنّه عرف أنّ من وراء ظاهر هذا العمل القبيح أسراراً خفيّة تعود بالمصلحة للمستضعفين في النهاية!

فخرق السفينة وإعابتها المؤقتة حال دون غصبها من قبل سلطانٍ جبّارٍ غاصبٍ كان يغصب جميع السفن السليمة.

وبقتل ذلك الشاب غير المؤمن والكافر الظالم (الذي كان مستحقّاً لمثل هذه العقوبة حسب القوانين الإلهيّة) قد خلّص أبويه المؤمنَيْن من الخطر.

وبترميمه ذلك الجدار الذي كان مُشرفاً على الإنهيار كان قد حفِظَ كنزاً لطفلَيْن يتيميْن ، والذي كان يُعدُّ إرثاً خلّفه لهما أبوهما المؤمن ليستفيدا من أوان بلوغهما سنَّ الرشد.

كان الخضر عليه‌السلام إنساناً عاقلاً حكيماً ولكنه بالقياس إلى علم الله وحكمته لا يُساوي شيئاً مذكوراً ، وكانت أعماله في الظاهر بدرجة من القباحة بحيث لا يُمكن في باديء الأمر توجيهها بأي بيان ، وكان هذا هو السبب في استنكار موسى واعتراضه عليها ، لكن أسرارها الإنسانية والمنطقيّة انكشفت تماماً بتوضيحٍ قصير ومختصر من قبل الخضر عليه‌السلام ، واقتنع بها موسى عليه‌السلام بصورة تامّة.

يمكن الاستفادة من هذا البيان القرآني كقانون كُلّي ، والإستنارة به لمعرفة حقائق الأمور الظاهرية التي قد نشاهدها أحياناً في عالم الوجود ، واعتباره جواباً إجمالياً لنستيقن بالأسرار الخفية المحتمل وجودها من وراء هذه الظواهر.

٤ ـ وتُلاحظ إشارة اخرى إلى هذا الموضوع في قصّة قارون ، ذلك الرجل الثري والأناني الظالم من بني اسرائيل ، في الموضع الذي استعرض قارون يوماً ما كان يملكه من الثروات الطائلة والنفيسة (من الخيول والغلمان والإماء والمجوهرات الذهبية) أمام أنظار

٣٤٧

بني اسرائيل ، فدُهشَ جماعة من الأفراد ذوي النظرة الظاهرية ، من هذا المشهد بحيث قالوا : (يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قَارُونُ). (القصص / ٧٩)

ولكن في اليوم التالي الذي خُسفت فيه الأرض بقارون وأمواله وتبيّن بأنّ من وراء ذلك الجمال الظاهري قبحٌ باطني وعقوبة أليمة ، قالوا مستوحشين : (لَوْلَا أَن مِّنَّ اللهُ عَلَينَا لَخَسَفَ بِنَا). (القصص / ٨٢)

علاوة على ما تحمله هذه القصّة من التجليات التربويّة فإنّها تُشير إلى هذه المسألة وهي : استحالة إمكانية القضاء بشأن أمرٍ معينٍ خيراً كان أو شرّاً على أساس ظواهر الأمور.

فأحياناً ما يراه الإنسان خيراً في الظاهر فانّه شرٌفي باطنه بحيث لو عرف نتائجه لولى منه فراراً. ومن قبيل هذه الحوادث تُعَدّ الأرضيّات المنطقية للجواب الإجمالي على الأسئلة المطروحة في داخل روح الإنسان.

٥ ـ في المسائل المتعلّقة بالوصيّة في القرآن الكريم ، بعد أن أشار تعالى إلى إرث الطبقة الأولى (الأبناء والوالديْن) قال : (آبَائُكُمْ وَأَبْنَائُكُمْ لَاتَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقرَبُ لَكُم نَفعاً). (النساء / ١١)

مع كون الأب والأم والولد اقرب إلى الإنسان ممن سواهم ، ويقضي أغلب سنين عمره معهم ، إلّاأنّ القرآن يقول : أنتم لا تدرون أيّاً من آبائكم وأبنائكم أقرب لكم نفعاً ، وأيّهم صاحب الدور في حياتكم ، لذا لم يوكل أمر تعيين حصّة الارث إليكم.

فالإنسان الذي لا تسمح له محدودية علمه في أن يحكم حكماً قطعياً في مثل هذه المسائل كيف يُمكنه أن يحكم سَلفاً على حدَثٍ ينتج عنه الألم في الظاهر بأنّها مسألة غير موزونة في عالم الخلق؟

خلاصة الكلام هو أنّ الأدلّة العقلية بل والآيات القرآنيه أيضاً تدل بوضوح على هذا الجواب الإجمالي الكلّي حول الأسئلة المطروحة أعلاه ، وعلى الأقل إنّها قد منعت الإنسان من القضاء القطعي بشأن الأمور ، وحثّته على التريُّث والتفكُّر بصورة أكثر.

* * *

٣٤٨

الحوادث الأليمة في الروايات الإسلامية :

وردت في المصادر الإسلاميّة روايات كثيرة عن المعصومين عليهم‌السلام حول بحث الرضا والتسليم ، وبالرغم من كونها تُشير إلى بحثٍ أخلاقيّ واسع ، فهي تحتوي أيضاً على أشارات حول بحثنا ، ومن جملتها ماروي عن الإمام علي عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله سبحانه وتعالى يُجري الأمور على ما يقتضيه لا على ما ترتضيه» (١).

أي لا تقلقوا من كون الشيء خلافاً لرغبتكم ورضاكم ، فهنالك أسرار ومصالح لا تعلمون بها.

وفي حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ أعلم الناس بالله أرضاهم بقضاء الله» (٢).

أجَلْ ، إنّ الذي يؤمن بعلم الله وحكمته ولطفه ورحمته وإحاطته بهذه الأمور ، على يقين بأنّ (كل ما يأتي منه خير) ولو أنّه لم يدرك أسرارها بدقّة.

وفي حديثٍ آخر عن أميرالمؤمنين علي عليه‌السلام : «أجدر الأشياء بصدق الإيمان الرضا والتسليم» (٣).

أي أنّ أوضح أثرٍ على صدق الإيمان بعلم الله وحكمته ورحمته هو التسليم لإرادته التكوينيّة والتشريعيّة. لا تسليماً عن كراهة ، بل عن رضىً ، لأنّ المُسلم يعلم بأنّ كل ما يصدر من الله تعالى يحتوي في طيّاته على حكمة خفيّة.

تحذير!!

طبعاً إنّ هذا الكلام لا يعني أبداً أن نحتسب مصائبنا وعدم الموفقيه والفشل و... التي تحصل بما كسبت أيدينا ، على القضاء الإلهي ونُسلّم ونرضى بها.

__________________

(١) غرر الحكم ، الفصل ٩ ، الحكمة ٥٦.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٦٨ ، ص ١٤٤ ، ح ٤٢.

(٣) غرر الحكم.

٣٤٩

ولا يعني أيضاً أن نتقاعس عن التصدّي للآفات والحوادث والمشاكل ، لأنّ بروز هذه الحوادث ناتج من أعمالنا وتعود نتائجها علينا في هذه الحالة ، ولا يُمكن احتسابها على الإرادة الإلهيّة ، لأنّه إن أوجد الألم فهو قد خلق العلاج أيضاً.

فإذا قصّرنا في مثل هذه الحالات فإننا ليس لم نبلغ مقام الرضا والتسليم فقط ، بل نتحمل مسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى ، لأننا بتقصيرنا نكون قد ألقينا بأنفسنا في التهلكة ، وسيأتي شرح مفصل بخصوص هذا الكلام في بحث الرضا والتسليم إن شاءالله تعالى.

* * *

الجواب التفصيلي عن الحوادث الأليمة

١ ـ فلسفة التفاوت

غالباً ما يُشتبه بين (التفاوت) و (التبعيض) ويأخذ الثاني الذي له صفة سلبية مكان الأول الذي له صفة إيجابية في الكثير من المواقع.

ولزيادة التوضيح : يُقصد من (التبعيض) هو أن نُفرّقَ بين موجودين يحملان نفس الشروط تماماً ، مثلاً أن نُعطي أحد العامليْن اللذيْن أنجزا عملاً متشابهاً أجراً ضعف أجر الآخر ، أو نعاقب أحدهما نصف عقوبة الآخر إذا ارتكبا عملاً قبيحاً ، وهما يحملان نفس الشروط أيضاً ، أو أن نعفو عن أحدهما تماماً ونعاقب الآخر أشَدّ العقاب.

ولكن إذا كانت الأعمال الإيجابية والسلبية متفاوته مع بعضها أو اختلف الفاعلون عن بعضهم ، لكان التفريق فيما بينهم عين العدالة.

هذا من حيث الثواب والعقاب ، أمّا من حيث الخلق والتكوين فإنّ عالم الخلق مجموعة من الموجودات المتفاوتة تماماً ، لأنّ لكلٍ منها وظيفتها الخاصّة ، ويلزم تناغم الخلق والوسائل والإستعدادات معها.

ومن خلال نظرة إلى أعضاء بدن الإنسان نُشاهد أنّ بعض خلايا البدن بدرجة من الظرافة بحيث يختل نظامها لأقل ضربة ، أو حتّى هبوب نسيم معين ، أو انبعاث نور شديد ،

٣٥٠

(كشبكيّة العين) لذا نجد أنّها موضوعة في محفظة قوية جدّاً لكي تكون بعيدة تماماً عن ساحة الحوادث ، وهذه الخلقة اللطيفة والظريفة جدّاً ، إنّما هي بسبب الواجب الحسّاس جدّاً الملقى على عاتقها وهو (التصوير المستمر للمشاهد المختلفة من مسافات بعيدة وقريبة وفي أجواء متفاوتة).

وهنالك خلايا صلبة ومحكمة ومقاومة جدّاً ، كخلايا عظام كعب القدم ، أو عظام الساق التي علاوةً على تحمّلها جميع وزن البدن ، يجب أن تكون مُقاومة للضربات القوية والصدمات.

فلا يُمكن إذن لأي عاقل أن يعترض على تفاوت بُنية هذيْن العضويْن؟ أو يعترض على عدم خلق جميع خلايا البدن بنفس ظرافة خلايا شبكيّة العين ، أو بنفس صلابة خلايا الساق ، أو القدم ، أو بنفس سُمك جلد كعب القدم؟

ويُمكن إجراء نفس هذه الحسابات بخصوص أعضاء شجرة أزهار صغيرة مع شجرة كبيرة ابتداءً من جذورها القويّة ، إلى سيقانها ، وأغصانها الصغيرة والكبيرة ، وبالتالي أوراقها مع أوراق الأزهار والشعيرات الصغيرة الدقيقة الموجودة في داخل كُلّ زهرة.

ولو أمعنّا النظر جيّداً لوجدنا أنّ أقسام المجتمع البشري تشبه تماماً أعضاء بدن الإنسان أو شجيرة أزهار صغيرة وشجرة كبيرة.

فصنع النظام الأحسن يفرض وجود التفاوت في استعدادات وأذواق أفراد المجتمع وبنائهم الروحاني والجسماني ، ليتناسب كُلُّ واحدٍ منهم مع الواجب الذي يُلقيه نظام الخلق على عاتقه ويتمكّن منه ، وإلّا لتبعثر كُلّ شيء ، ولما كان هنالك نظامٌ أحسن ، ولصار الوجود كالشجرة التي جميعها جذور أو سيقان أو أوراق فقط ، ومن قبيل هذه الشجرة لا تستطيع أن تواصل الحياة لأكثر من فترة قصيرة ، وإن كانت قادرة فلا فائدة منها.

فلا يُمكن أن يتساوى تركيب وجود الأم ، التي يجب أن تكون كتلة من العواطف لتقوى على تحمل كل مشقّات حفظ وتربية الأولاد ، مع تركيب وجود الأب ، الذي يجب أن يُمارس عمله دائماً في قلب المجتمع ، لأنّ العكس معناه إمّا تلاشي دور الأمومة أو تعطيل دور الأبّوة.

٣٥١

وكذا لا يُمكن أن يتساوى تركيب أعصاب جرّاح للقلب مع اعصاب شاعرٍ دقيق النظر ، أو عالمٍ في الرياضيات مع مهندسٍ زراعي ، أو كلاهما مع عامل صناعاتٍ ثقيلة ، وهؤلاء الثلاثة مع جندي أو ضابطٍ عسكري ، وهؤلاء الأربعة مع قاضٍ مُعيَّنْ ، لأنّ لكل واحدٍ منهم وظيفته الخاصّة في المجتمع وله ذوق واستعداد وبناء جسماني روحاني خاص مناسب لذلك.

وهذا المطلب بدرجة من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى زيادة في التوضيح ، وبالأساس أنّ من إحدى دلائل عظمة الله هي هذا التقسيم الدقيق للأذواق والاستعدادت التي تُشكّل جميعها مجموعة متعادلة ومتوازنة كلٌّ في محله الخاص!

وخلاصة الكلام هي أنّ البشر ليس كالأواني المتشابهة التي تُصنع في معملٍ واحد ، ولجميعها فائدة واحدة ، فلو كان كذلك لما استطاعوا العيش مع بعضهم حتى يوماً واحداً ، فالمهم في حياة البشر وجميع عالم الخلق هو العدالة لا المساواة ، ووضع كل شيءٍ في محلّه لا التشابه.

وللقرآن الكريم إشارات غنيّة في هذا المجال ، حيث قال في موضعٍ : (وَرَفَعنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيّاً). (الزخرف / ٣٢)

«سُخريّاً» : مشتقة من مادّة (تسْخير) ، ومفهوم الآية هو : إنّ تفاوت درجات الناس تؤدّي إلى تسخير بعضهم بعضاً ، أو تدفع بهم إلى التعاون المتقابل ، فالمريض مُسَخّرٌ للطبيب والطبيب مُسخّر للمعمار في حوائج اخرىْ ، أو الفلاح مسخّر للتاجر ، لأنّ لكل واحدٍ منهم أفضليّة على الآخر من جهة معينة ، وهذه بذاتها تُوجِد (الخدمات المتقابلة) أو (التسخير) وفق التعبير القرآني.

وقد اتفق أغلب المفسّرين الإسلاميين من الشيعة والسُّنة على تفسير الآية بهذا الشكل ، أي كون المقصود من (سُخريّاً) هنا هو التسخير في الخدمات المتقابلة (١).

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٤٦ ؛ تفسير الميزان ، ج ١٨ ، ص ١٠٤ ؛ القرطبي ، ج ٩ ، ص ٥٩٠٣ ؛ تفسير الكبير ، ج ٢٧ ، ص ٢٠٩ ؛ تفسير روح المعاني ، ج ٢٥ ، ص ٧٢ ؛ تفسير المراغي ، ج ٢٥ ، ص ٨٥.

٣٥٢

والقول بأنّ المقصود من (سُخريّاً) هو (الإستهزاء) احتمالٌ ضعيفٌ جدّاً طُرح في بعض التفاسير بعنوان رأي غير مقبول.

ونُلاحظ في موضعٍ آخر : (وَرَفَعَ بَعضَكُم فَوقَ بَعضٍ دَرَجاتٍ لِّيَبلُوَكُم فِى مَا آتَاكُمْ). (الأنعام / ١٦٥)

ونظراً إلى عدم كون هدف الإمتحان الإلهي معرفة حقيقة الأشخاص واكتشاف الأمور الخفيّة ، لأنّ الله محيط بكل شيءٍ علماً ، بل المقصود منه تربية البشر في البلاء والإمتحان ليخلُصوا ويقوى تحملهم ، وبتعبيرٍ آخر : إنّه وسيلة لتكاملهم ، لذا فالآية تقول : إنَّ هذا سبب التكامل (المادي والمعنوي).

وهناك نموذجٌ آخر : هو ما جاء في الآيات التي تُشير إلى تفاوت واختلاف نصيب الناس من الأرزاق ، فغالباً ما يَسأل بعض الأفراد : لِمَ هذا غنيٌّ وذاك فقير؟ والقرآن يُجيب عن هذا السؤال بصورة إجمالية من خلال الآيات المختلفة ويقول : إنّ تقسيم الرزق بين العباد يجري وفق حسابٍ دقيق وبرنامج منظّم مفعم بالأسرار ، ولو أنّ الناس لا يعلمونه ، كما ورد في سورة الإسراء : (إِنَّ رَبَّكَ يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقدِرُ إِنَّه كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً). (الاسراء / ٣٠)

طبعاً يجب عدم خلط التفاوت الإلهي الواقعي والطبيعي مع التفاوت الوضعي الناشىء عن الإستثمار والاستعمار ، واحتسابها جميعاً على إرادة الله ، فالمسألة تتخذ طابعاً آخر في هذه الحالة وتخرج بشكل تفسيرٍ انحرافي وتؤدّي إلى التخلُّف الأقتصادي والاجتماعي ، والقرآن مخالف جدّاً للنوع الثاني ، بل ويُحاربه أيضاً.

ويُلاحظ في الروايات الإسلامية وجود إشارت غنيّة بشأن هذا المطلب ، كقول علي عليه‌السلام : «لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا فإذا استووا هلكوا» (١).

* * *

__________________

(١) منتهى الأمال ، ج ٢ ، ص ٢٢٩.

٣٥٣

٢ ـ المشاكل هي من صنع الإنسان!

يُصاب الإنسان في حياته بمصائب كثيرة هي بالواقع من صنعه هو ، ولكن الكثير من الأفراد ولأجل تبرئة أنفسهم ، والتغاضي عن تقصيرهم ، واهمالهم اللذين ينتج عنهما حدوث المشاكل ، نراهم يحتسبونها على قضاء الله وقدره ، ويوجهون التقصير إلى المشيئة الإلهيّة ، وبعدها يشكّكون في عدالة الله أحياناً ، في حين أنّنا لو دقّقنا جيّداً لوجدنا أنّ الكثير من الحوادث الأليمة ، والفشل ، والمصائب التي يعاني منها الناس ، هي بما كسبت أيديهم ، وأنّ الفرد أو المجتمع هو العامل الأصلي والمقصّر الحقيقي فيها ، مع أنّهم يُبرّئون أنفسهم ظاهرياً.

والمصائب التي تصيب الناس بسبب تعسّف الحكومات الظالمة والمستبدة ، هي من هذا القبيل عادةً ، لأنّ الظلمة والجبابرة افرادٌ معدودون ، وسكوت الناس حيال جرائمهم البشعة وتعاون بعض الناس معهم هو السبب الذي يكسبهم القدرة والقوّة للتسلُّط على رقاب الناس ، وخلق المشاكل الكثيرة لهم.

والكثير من الأمراض مَنشأُها هوى النفس ، والكثير من الاحباط وحالات الفشل تنبع من ترك المطالعة والإستشارة المطلوبة ، وعاملها الأساسي أنانية واستبداد الإنسان برأيه.

وسبب الكثير من حالات الفشل التقاعس وترك الجهاد والسعي.

وكانت الفوضى دائماً سبب الفاقة والاختلاف ، والفرقة سبب المصيبة والبلاء.

والعجب هو أنّ كثيراً من الناس نَسُوا علاقة العلّة بالمعلول واحتسبوا جميع الأمور على الخالق!

علاوةً على هذا فإنّ من المصائب التي تلاحظ في المجتمعات البشريّة ناتجة من ظلمهم لبعضهم ، أو ظلم جماعةٍ لجماعةٍ اخرى ، فمثلاً إذا سمعنا بأنّ هنالك خمسين مليون انسان تقريباً في عصرنا الحاضر يموتون جوعاً ، أو بإصابة أكثر من هذا العدد بأنواع الأمراض بسبب سوء التغذية ، فإنّه لا يعني بأنّ سببه هو أنّ الله قد حرمهم من لطفه ، بل سببه هو سوء استغلال جماعة اخرى من أبناء الدنيا للحرية الإلهيّة ، وقيامهم بغصب حقوق الآخرين. فصار استعمار واستثمار هذه الجماعة.

٣٥٤

إنّ الأمراض والموت الناشيء من الجوع ، يحصل في الوقت الذي تلقي الكثير من الدول الثريّة ـ الغافلة عن ذكر الله ـ كثيراً من المواد الغذائيّة في البحر ، أو يلقونها في المزابل ، ويُعانون من أنواع الأمراض الناشئة من الإفراط في الشبع.

وكذا إذا رأينا أنّ أطفالاً يُعانون من أمراضٍ أو نقص أعضاء معينة بسبب ذنوب آبائهم وأمهاتهم الذين أسرفوا في تناول المشروبات الكحولية أو سوء التغذية وما شاكل ذلك ، فهو ظُلمٌ صادرٌ من آباء أو أمهات هؤلاء الأطفال أو مسؤولي مجتمعهم بحقّهم ، وبالضبط كأن يأخُذ أبٌ خنجراً ويفقأ به عين طفله الرضيع ، أو كذبح الأطفال من قبل الجبابرة كفرعون مثلاً.

حينئذٍ لا يُمكن احتساب أي عملٍ من هذه الأعمال على فعل الله ، بل جميعها ممّا كسبت يد الإنسان ذاته ، والتي أعدّها الإنسان لنفسه أو للآخرين.

* * *

القرآن والمصائب الذاتية الصنع :

١ ـ يُلاحَظُ وجود آيات قرآنية كثيرة توضح بصراحة علاقة قسم عظيم من المصائب بأعمال الإنسان السيئة ، إلى الحدّ الذي يُلاحظ فيه أنّ تعبير بعض الآيات جاء بصيغةٍ عموميّة تشمل جميع المصائب : قال تعالى : (مَّا أَصَابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِئَةٍ فَمِن نَّفسِكَ). (النساء / ٧٩)

والظريف هو أنّ المخاطب في هذه الآية هو شخص الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لتأكيد وبيان أهميّة الموضوع ، فعندما يكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مُخاطباً بهكذا أسلوب يتضّح أنّ التكليف واقعٌ على الأخرين حتماً ، وإلّا فمن المعلوم أن الرسول الأكرم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يفعل فعلاً يُوْدي إلى ابتلائه بمصيبةٍ من نفسه.

ونَسْب (الحسنات) إلى الله إنّما هو لأنّ الله قد وضع جميع إمكاناتها تحت تصرُّف الإنسان ، ونَسْب (السيئات) إلى الإنسان إنّما هو لأنّها تحرف هذه الإمكانات عن الأهداف

٣٥٥

التي خلقها الله لأجلها ، وإلّا فمن حيث كونه مسبّب الأسباب يُمكن نَسْبُها إليه جميعاً.

ولعل هذا هو السبب في نَسْب بعض الآيات القرآنية جميع الأعمال إلى الله ، لذا فإنّ التفاوت الموجود انّما هو بسبب تفاوت جهات البحث وزوايا النظر ، (تأمل جيداً).

ولا يُمكن إنكار كون الكثير من الحوادث الأليمة الموجودة في حياة الإنسان من صنع نفس الإنسان ، فمثلاً إنَّ سبب الكثير من الأمراض هو عدم الاهتمام بأصول الصحّة وقواعدها ، أو الإفراط في تناول الغذاء إلى حد التخمة ، أو عدم التدقيق في النظافة ، أو الإنزواء وعدم التحُّرك ، أو عدم الإحتراز من المناطق الملوثة أو الأفراد الملوثين. ولو راعى الإنسان الأسُس والقوانين التي وضعها الله في عالم الخلق والتكوين لما أُصيب بها.

ولكن مع هذا لايُمكن انكار كون قسم من الأمراض التي تُصيب الناس ذات عوامل خارجة عن قدرتهم ، كالتغيُّر المفاجيء في حالات الطقس التي تحصل خلافاً لمقتضى طبيعة الفصل ، فيُصابُ البعض بمختلف الأمراض.

ويُمكن ملاحظة نفس هذا التقسيم بخصوص بقيّة المصائب والحوادث الاخرى ، لذا فإنّنا نقول : بالرغم من كون صيغة الآية الآنفة الذكر عامّة لكن مقصودها الأصلي أغلب الموارد.

ولأنّ (الفخر الرازي) لم يستطع حل هذه المعضلة ، فقد فسّر (السيئة) الواردة في الآية بمعنى (المعصية) في الوقت الذي نجد بأنه معنىً غير متزّن جدّاً ، لأنّ مفهوم الآية سيصير كالتالي (ما أصابك من معصيةٍ فمن نفسك) ، وهذا الشيء من قبيل توضيح الواضحات ، وعليه فإنّ تعبير (سيئة) له مفهوم عام.

٢ ـ وفي موضعٍ آخر اعتبر الفساد الذي يظهر في البر والبحر كنتيجة لأعمال الناس ، حيث قال : (ظَهَرَ الفَسَادُ فِى البَرِّ وَالبَحرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيدِى النَّاسِ). (الروم / ٤١)

ونظراً لكون الفساد المذكور في الآية معرّف بألف لام التعريف ويفيد العموم ، فإنّه يدل على كون الفساد الذي يظهر في البر والبحر من صُنع الإنسان ، وتشير إلى المفاسد الاجتماعية.

٣٥٦

ويُضيف قائلاً في تكملة الآية : (لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذِى عَمِلُوا لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ).

اعتقد بعض المفسرين بأنّ هذه الآية تُشير إلى العقوبات والمجازاة الإلهيّة التي تصيب الناس بسبب (أعمالهم السيئة) ، ولكن يبدو أن صدر الآية يُشير إلى وجود نوع من الرابطة التكوينيّة فيما بين (الفساد) و (الذنب) ، وذيل الآية يُصدّق هذا المعنى أيضاً ، لأنّه لم تُذكر كلمة (عقوبة) فيها ، بل : (لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذِى عَمِلُوا) لا (جزاء الذي عملوا) ، ويُمكن أن يكون سبب استعمال كلمة «بعض» هو إبطال الله مفعول بعض هذه النتائج الطبيعيّة بلطفه ورحمته.

وعلى أيّة حال فإنّ الآية أعلاه تدلّ على أنّ المفاسد الاجتماعية : كانعدام الأمن ، الحروب ، تسلُّط الظالمين ، ابتلاء المظلومين ، وأمثال ذلك وليدة عمل الإنسان نفسه ، ويجب أن لا تُحتَسب أبداً على الخالق ويُشكّك بالعدل الإلهي بسببها. (تأمل جيّداً).

٣ ـ يُفهم من آيات أُخرى أن سبب تغيّر النعم الإلهيّة هو تغيُّر أحوال الناس ، حيث قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لَايُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم). (الرعد / ١١)

وقد بين نفس هذا المطلب في موضعٍ آخر مستعملاً كلمة (النعمة) بصريح العبارة ، حيث قال تعالى : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَم يكُ مُغيِّراً نِّعمَةً أَنعَمَهَا عَلَى قَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم). (الأنفال / ٥٣)

وبتعبيرٍ آخر أوضح : إنّ الفيض والرحمة الإلهيّة عامّة وواسعة ، لكنها تُقسَّمُ بين الناس وفق الإستعدادت والاستحقاقات ، فإن استفادوا من النعم بصورة صحيحة كانت دائمية أبديّة ، وإن صارت وسيلةً للطغيان والظلم والجور والغرور والكفر ، فلا ريب في أنّها تكون بلاءً ، وهذا تأكيدٌ على أنَّ الكثير من المصائب التي تصيب الإنسان هي مِمّا كسبت يداه.

٤ ـ وفي موردٍ آخر ، وضمن الإشارة إلى ضيق صدور الناس ، أشارت الآية التالية إشارةً لطيفة إلى العلاقة بين (المصائب) و (أعمال الناس).

قال تعالى : (وَإِذَا أَذقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيدِيهِمْ إِذَا هُم يَقنَطُونَ). (الروم / ٣٦)

٣٥٧

إنّ أكثر المفسّرين اعتقدوا بأنّ مثل هذه الآيات تُشير إلى العذاب الإلهيّ ، ولكن يبدو من ظاهر الآيات أنّ المصائب ناتجة عن أعمال الإنسان نفسه ، وبتعبيرٍ آخر ذُكرت الأعمال بعنوان (سبب) ، والمصائب بعنوان (مُسبّب).

وإن حصلت هنا عقوبة معينة فهي كأثر طبيعي للعمل ، وانعكاس عن أفعال وتصرُّفات الناس ، ولا يوجد دليل واضح على تأويل كلمة العقوبة والعذاب في جميع هذه الموارد ، كما ورد ذلك في كلام أغلب المفسّرين.

* * *

٣ ـ مصائب العقوبات الإلهيّة

إنّ البعض الآخر من المصائب التي تُصيب الإنسان عبارة عن عقوبات إلهيّة تصدرُ منه تعالى وفق استحقاق الأفراد ، وهي تخص الأفراد الذين ارتكبوا ذنوباً إما كثيرةً وكبيرةً جدّاً ، بحيث تستوجب العذاب الدنيوي والعذاب الأخروي ، وإمّا طفيفة بحيث تُمحى بالعذاب الدنيوي فقط ، وهو بالواقع نوع من اللطف الإلهي بحق هؤلاء الأفراد.

ويُحتمل أن تكون هناك فاصلة زمنية بين (الذنب) و (العقوبة) لكن العلاقة محفوظة ، وأحياناً أُخرى تنزل العقوبة مباشرة ويكون الحساب سريعاً.

وتفاوت هذا البحث عن البحث السابق هو أننا تحدّثنا في البحث السابق عن الأثر الطبيعي للأعمال ، وفي هذا البحث عن العقوبة الإلهيّة.

وعلى أيّة حال فإنّه لا يُمكن للمؤمنين والمعتقدين بالعدل الإلهي إنكار وجود هذه المسألة ، وهي تحقُّق العقوبة الإلهيّة الدنيويّة بحق فئة معينة على الأقل ، ولكن يُمكن أن تكون تلك المصيبة بالنسبة للذين يجهلون سببها عجيبة وأليمة.

وصفحات التاريخ تُخبر عن حال الذين ارتكبوا جنايات فجيعة عند الاقتدار ، وكان مصيرهم أنْ هلكوا بعقوبات أليمة ومصائب موجعة ، بحيث لا يكفي كتاب أو عدّة كتب لذكرها بالتفصيل.

٣٥٨

وغالباً ما رأينا بأمّ أعيُننا في حياتنا اليوميّة نماذج من هذه المسألة بحيث لا يبقى لنا مجال للشّك في وجود هذه العلاقة والآصرة بصورة إجمالية.

والقرآن المجيد أيضاً علاوةً على إشارته إلى هذه المسألة كأصل كُلّي ، فقد وضع إصبعاً على مواضع خاصّة أيضاً ، وأشار إلى الأقوام الذين ذاقوا أشدّ العذاب كعقوبة دنيويّة ، وإليكم أدناه نماذج من كلا القسمين :

١ ـ (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَريَةً كَانَت آمِنَةً مُّطمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوفِ بِمَا كَانُوا يَصنَعُونَ). (النحل / ١١٢)

إنَّ هذه الحادثة سواء كانت تُشير إلى مصير جماعة من بني إسرائيل ، أو الى قوم سبأ ، أو كانت مثلاً عامّاً ـ وردت كل من هذه الاحتمالات في كلام المفسّرين ـ فإنّها شاهدٌ حي على موضوع بحثنا ، وتوضح وجود العلاقة فيما بين الذنب وقسم من المصائب.

فلو دخل جماعة مدينةً معينة أثناء إصابتها بالقحط ، والخوف ، والبلاء ، دون أن يعرفوا ماضيها ، لكان من الممكن أن يتعجبّوا ، ويستوحشوا ، ويسألوا أنفسهم قائلين : كيف يُمكن أن تتناسب كل هذه التعاسة والبلاء مع عدالة الله سبحانه!؟

ولكنهم عندما يطّلعون على ماضيها يُقرّون بعدالة الجزاء ، وأحياناً يرونَهُ أقل من الإستحقاق.

٢ ـ بخصوص (فئات) من الأمم السابقة أُصيبت كل فئةٍ منها بعقوبة معينة بسبب ما ارتكبت من الذنوب.

قال تعالى : (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنهُمْ مَّن أَرْسَلنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهم مَّن أَخَذَتْهُ الصَّيحَةُ وَمِنْهُمْ مَّن خَسَفْنا بِهِ الأَرضَ وَمِنهُم مَّن أَغْرَقنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُم يَظْلِمُونَ). (العنكبوت / ٤٠)

ووِفقاً لهذه السنّة فقد أصاب قومَ عادٍ حاصبٌ هدّم منازلهم ، وهلكَ قومُ ثمود بالصاعقة ، وخسفت الأرض بقارون ، وغرِقَ فرعون ووزيره هامان في البحر ، فإنّ هذا البلاء المتنوع لا يُنافي أصل العدل الإلهي فقط ، بل يعتبر عين العدالة لأنّ الجميع كانوا مستحقّين لذلك.

٣٥٩

وقد نقلت بعض التفاسير قصّة لطيفة في تفسير ذيل الآية (٩٠ / يونس) بخصوص فرعون تُعدُّ شاهداً حيّاً على موضوع بحثنا ، وهي : دخل جبرائيل عليه‌السلام على فرعون ذات يومٍ بهيئة إنسان واشتكى إليه قائلاً : يا صاحب الجلالة! كان لي غلامٌ على سائر عبيدي ، وسلّمته مفاتح كنوزي ، فعاداني وعادى من يُحبّني وأحبَّ أعدائي ، وقربّهم إليه ، فاقض أنت بشأنه وعيّن عقوبته!

فقال فرعون : لو كان هذا غُلامي لأغرقته في البحر!

فقال جبرئيل عليه‌السلام : اكتب لي هذا الأمر (الحكم) يا صاحب الجلالة (لكي استفيد من خطّك) ، فأمر فرعون باحضار دواةٍ وقلم وورقٍ فكتب : (إنني أحكم على العبد الذي يتمرّد على مولاه ويكفر بأنعُمِهِ بأن يُقتلَ غرقاً).

(انتهت هذه الحادثة) وعندما أوشك فرعون وجنوده على الغرق في البحر ، ظهر إليه جبرئيل وأراه خَطّهُ وقال له : «هذا ما حكمت بنفسك» (١).

والجدير بالذكر هو أنّه لو كان أحدٌ حاضراً في هذه الأقوام عند نزول البلاء كالعاصفة والصاعقة ، والسيل ، والزلزلة ، من دون أن يعرف شيئاً عن ماضيهم ، ويرى بأُمّ عينيه الدمار الناجم عن السيل وكيفيّة تهدُّم المنازل على رؤوس أصحابها بسبب العواصف ، وكيف تحوّل الصاعقة كُلّ شيءٍ إلى رماد في لحظة واحدة ، لتعجب ودُهِش ولأمكن أن يُشكّك في مسألة العدل الإلهي في عالم الوجود.

ولكن لو اطّلع على الحوادث السابقة وأعمال تلك الأقوام الماضية لزال شكّهُ.

وهذه فلسفة قسم من الآفات والبلايا (وسبب قولنا ـ قسمٌ ـ هو وجود فلسفة خاصّة لكل قسم من أقسام البلاء).

٣ ـ أشار القرآن الكريم في سورة سبأ إلى قصّة مفصّلة وغنيّة وموقظة بشأن قوم من اليمن ذوي تمدُّنٍ ملحوظ ، وكان هذا التمدُّن ناتجاً عن وجود سدٍّ عظيم مُحْدَثٍ بين الجبال يحصر مياه البراري والجبال ليوزعها بتنظيمٍ دقيق على المزارع والحقول ، فصارت أرضاً خصبةً مليئة بالنعم الإلهيّة (جنّة).

__________________

(١) تفسير روح البيان ، ج ٤ ، ص ٧٧.

٣٦٠