نفحات القرآن - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-98-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٠٠

عن الله عزوجل إلى الثقلين الجن والانس «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار» «ولا يحيطون به علماً» «وليس كمثله شيءٌ» أليس محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : بلى؟ قال : «فكيف يجىءُ رجلٌ إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند الله وأنّه يدعوهم إلى الله بأمر الله ويقول «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار» «ولا يحيطون به علماً» «وليس كمثله شيءٌ» ثم يقول : أنا رأيته بعيني ، وأحطتُ به علماً وهو على صورة البشر ، أمّا تستحيون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي عن الله بشيءٍ ، ثم يأتي بخلافه من وجه آخر» (١).

إنّ الأحاديث الواردة حول هذا الموضوع كثيرة ، فقد ذكر المرحوم العلّامة المجلسي في بحار الأنوار حوالي ٣٤ حديثاً ، والمرحوم الصدوق في كتاب التوحيد ٢٤ حديثاً ، والمرحوم الكليني في اصول الكافي ١٢ حديثاً ، وكلهاتدل على خلوص وطهارة المذهب التوحيدي لأهل بيت الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذي انتشر بين المسلمين ، وما ذكرنا أعلاه يُعدُّ جانباً منه ، والذي يفنّد خرافة (رؤية الله) بالعين الظاهريّة (٢).

خلاصة الكلام هو أنّ بطلان مسألة (رؤية الله) بالعين الظاهرية أمربَيّن وواضح من حيث الدليل العقلي ، وكذلك من خلال القرآن والروايات الإسلاميّة الصحيحة.

والآن نتوجه إلى شبهات القائلين بإمكان الرؤية وأجوبتها :

* * *

٤ ـ أدلّة القائلين بالرؤية الظاهريّة

وكما أشرنا فيما مضى ، فإنّ هناك جماعة من علماء أهل السُّنّة الماضين وحتى المعاصرين المؤيدين لمسألة الرؤية ، يصرحون أحياناً بإمكانية رؤية الله بالعين الظاهرية هذه ، ولكن لا في الدنيا ، بل في الآخرة! وأحياناً اخرى يؤوّلون ذلك بقولهم : (إنّ الله يُرى في الآخرة بواسطة الحاسة السادسة التي يخلقها لعباده المؤمنين ، أو بعينٍ غير هذه العين

__________________

(١) توحيد الصدوق ، ص ١١١ ، ح ٩.

(٢) راجع بحار الأنوار ، ج ٤ ص ٢٦ ؛ وتوحيد الصدوق ، ص ١٠٧ ـ ١٢٢ ؛ وأصول الكافي ، ج ١ ، ص ٩٥ ـ ٩٩.

١٨١

والتي يمتلكها حتى الأعمى.

ويظهر أنّ الشيء الأساس الذي قادهم إلى التسليم بهذا المعتَقد والإشتباه في تفسير الرؤية وتوجيه كلامهم بتوجيهات عجيبة ، هو الروايات الواردة في كُتُبهم عن الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بالدرجة الاولى ، وبالدرجة الثانية هو ظواهر بعض الآيات القرآنية التي لم تفسَّر بصورة صحيحة.

١ ـ ورد في الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّكم سترون ربّكم كما ترون هذا القمر لاتُضامّون في رؤيته» (١).

٢ ـ وفي حديث آخر عن ابي هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سأل أصحابه : «تضامّون في رؤية القمر ليلة البدر؟» فقالوا : كلّا «أيّ اننا نرى القمر بدون أن نزدحم في رؤيته».

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كذلِكَ لا تُضامُّونَ في رؤيةِ ربّكم يومَ القيامة» (٢).

٣ ـ وفي رواية اخرى في نفس هذا الكتاب عن «ابو رزين» عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «ضحك ربُّنا من قنوط عباده وقُرب غيرهِ.

فقال الراوي : فسألته هل يضحك ربُّنا يارسول الله؟

فقال : نعم ، فقلت : لن نعدم من ربٍّ يضحك خيراً» (٣).

٤ ـ وفي حديث آخر عن «أبو عاصم العباداني» ... عن جابر بن عبد الله ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «بينا أهلُ الجنّة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الربّ قد أشرفَ عليهم من فوقهم فقال : السلام عليكم يا أهل الجنّة! قال وذلك قول الله سلامٌ قولاً من ربٍّ رحيم ، فينظر إليهم وينظرون إليه» (٤).

بعد أن نقل ابن ماجه الحديث المذكورة نقل عن السيوطي في مصباح الزجاجة كلاماً

__________________

(١) سنن ابن ماجه ، ج ١ (المقدمة ـ الباب ١٣ ، ح ١٧٧) نلاحظ في مجمع البحرين (تَضامَّ القوم أي انضمّ بعضهم إلى بعض).

(٢) المصدر السابق ، ح ١٧٨.

(٣) المصدر السابق ، ص ٦٤ ، ح ١٨١.

(٤) المصدر السابق ، ص ٦٥ ، ح ١٨٤.

١٨٢

يدل على عدم الوثوق بأحاديث أبي عاصم العباداني.

وقد ورد الحديث الأول أيضاً في صحيح البخاري ، الذي يُعَدُّ من أشهر مصادر الحديث لدى أهل السُّنّة ، عن (جريربن عبدالله) في كتاب (مواقيت الصلاة) في بابين مختلفين مع اختلافٍ بسيط (١).

وقد نُقلَ بصراحة في قسم تفسير الآيات من المجلّد السادس لصحيح البخاري أيضاً مسألة رؤية الله يوم القيامة (٢).

٥ ـ يُلاحظ في كتاب الصلاة من «صحيح مسلم» وجود عدّة روايات منقولة عن «أبي هريرة» حول نزول الله تبارك وتعالى كلّ ليلة إلى السماء الدنيا ، من جملتها عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضى ثلث الليل الأوّل ...» (٣).

مع أنّ هذه الرواية لا تتحدث عن مسألة الرؤية لكنّها تشتمل على مسألة تجسيم الله عزوجل ، ونسب العوارض إليه أيضاً ، كالمكان والحركة والنزول والصعود!

إنّ هذه الروايات ـ ومع الاسف ـ قد وردت مراراً في مصادرهم الشهيرة التي ذكرنا قسماً منها أعلاه ، وبما أنّها تخالف صراحة الآيات القرآنية التي تقول (لا تدركهُ الأبصار) و (قَالَ لَن تَراني) ومخالفة لحكم العقل أيضاً فيجب أن تُهمل ، وإن لم يُعثر لها على تفسير وتوجيه واضح ، فيجب القول : إنّها روايات مجهولة ونسبت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله).

والعجيب ، أنّ أكثر هذه الروايات منقولة عن طريق أبي هريرة المشكوك في أمره من عدّة جوانب.

وكما نقلنا في رواية الإمام الرضا عليه‌السلام : كيف يُمكن لأجير أن يُبلّغ عن الله عبارات صريحة تقول بعدم إمكانية رؤية الله أبداً ، ثم يدّعي بأنّ المؤمنين يَرون الله في القيامة ، أو بأنّ الله ينزل إلى السماء الدنيا كُلّ ليلة؟ وهذا تضادٌّ غير ممكن ، إضافة إلى هذا ، فالروايات

__________________

(١) صحيح البخاري ، ج ١ ، ص ١٤٥ و ١٥٠.

(٢) المصدر السابق ، ج ٦ ، ص ٥٦ تفسير سورة النساء.

(٣) صحيح مسلم ، ج ٢ ، ص ١٧٥ ، كتاب صلاة المسافرين ، (باب الترغيب في الدعاء).

١٨٣

الآنفة الذكر كما تقول بامكانية رؤية الله ، تُصرح أيضاً بجسمانية الله ، وتنسِبُ إليه الصعود والنزول والضحك والقهقهة ، وهذا شيء لا يتقَبلهُ حتى الأشاعرة الذين يعتقدون بالرؤية ، وذلك لأنّهم يقولون بصراحةٍ : إنّ رؤية الله لاتعني تجسيمه ، وهذا شاهد آخر على كون هذه الروايات موضوعة.

وكذلك ماورد في (سنن ابن ماجة) عن عبد الله بن عمر أنّه سمعَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «يُدنى المؤمن من ربّه يوم القيامة حتّى يضع عليه كنفَه ...» (١).

فلو لم تُحمل هذه التعابير على المعاني المجازيّة والكنائيّة ، فهي حتماً تدلُّ على مجهولية هذه الروايات التي تجعل لله ذراعاً وصدراً وجناحاً ، وبواسطتها تُعرض الأفكار المنحطّة للقائلين بالجسميّة ، في قالب أحاديث مَجعولة.

والأعجب من ذلك وهو جود جماعة لحدّ الآن يؤيدون مسألة رؤية الله ، وذلك بسبب تقيدُّهم بمثل هذه الروايات المبتدَعة.

في حين أنّ مذهب أهل البيت عليه‌السلام قد نفى هذه العقيدة مطلقاً لأنّها مرفوضة من قِبل العقل والآيات القرآنية.

ومن بين الآيات الشريفة التي يستند عليها القائلون بالرؤية هي (وُجُوُهٌ يَومَئِذٍ نَّاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ). (القيامة / ٢٢ ـ ٢٣)

في حين أنّ كلمة (ناظرة) المشتقة من مادة (نظر) تأتي بمعنى المشاهدة ، وبمعنى الإنتظار ، وعلى أيّة حال يجب أن توضع هذه الآية إلى جنب الآيات القرآنية الاخرى التي تقول (لا تدركه الأبصار) وأن تُفسَّر هذه المتشابهة بتلك المحكمة.

وتستعمل هذه التعابير الكنائيّة بكثرة ، كقولنا : (فُلان ينظر إليك فقط ، أو عينه عليك) أي يتوقع منك المحبّة واللطف والرأفة ، فأصحاب الجنّة أيضاً ينظرون يوم القيامة إلى ربّهم ويرجون منه اللطف والرحمة.

والملفت أنّ تقدُّم الجار والمجرور في جملة (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) يعطي معنى الحصر (أي

__________________

(١) سنن ابن ماجة ، ج ١ ، ص ٦٥ ، المقدمة ، ح ١٨٣ ـ كنف على وزن هدف ، له معانٍ عديدة من جملتها الذراع ، الصدر ، الجناح ، الجانب ، والظل.

١٨٤

إنّها ناظرة إلى ربّها فقط) ، في حين أنّهم يُشاهدون أنواع نِعَمِ الجنّة بأعيُنهم ، كالأشجار والأنهر والثمار والحور العين وغير ذلك بنفس الوقت ، ممّا يدلّ بحد ذاته على أن هذه النظرة إليه تعالى والمختصّة بذاته المقدّسة ، هي انتظار كرمه وعفوه.

والاحتمال الآخر الوارد في تفسير الآية ، هو أَنَّ المقصود من النظرة هي الشهود الباطني ، والرؤية الصريحة بعين القلب والبصيرة ، والخالية من كل ألوان الشّك والترديد.

والحديث النبوي المنقول عن أنس بن مالك يُعدُّ خير دليلٍ على هذا الإدعاء وهو : «ينظرون إلى ربّهم بلا كيفيّة ولا حد محدود ولا صفةٍ معلومة» (١).

ومن المُسلَّم أنّه لو كان المقصود من الرؤية هو الرؤية البصريّة الظاهريّة فهي مستحيلة بدون وجود كيفيّة وصفة معلومة.

يقول العلّامة الكبير المرحوم (السيد شرف الدين) في كتاب (كلمة حول الرؤية) ـ بعد أن تطرّق إلى الأحاديث التي نقلها محدثو أهل السُّنّة بخصوص رؤية الله يوم القيامة ـ : (إنّهم بحملهم هذه الروايات على الصحّة اضطرّوا إلى سلوك الطريق الذي سلكه القائلون بجسمانية الله ، الطريق المخالف للعقل والنقل ، في حين أنّه لا هذه الأحاديث صحيحة ، ولا ماورد فيها شيء يقبله العقل والشرع ، ولكن كثرتها أدّت بهم إلى تعطيل حكم العقل ، وحتّى إلى تطبيق آيات من القرآن الكريم معها.

إنّه عمل غير متوقَّع ، إِنَّا للهِ وإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ!.

ثم تطرّق إلى آية : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) ، وأضاف قائلا" : التعبير بكلمة (نظر) خصوصاً عندما تتعدى بـ (إلى) لا يعني الرؤية والمشاهدة أبداً ، بل يعني صرف النظر إلى شيء حتى وإن لم يكن مرئيّاً ، كما صرّح بذلك أرباب اللغة ، مضافاً إلى ذلك وورد في القرآن الكريم : (وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيكَ وَهُمْ لَايُبصِرُونَ) (الأعراف / ١٩٨)

والذي يتبادر إلى الذهن من الآية أعلاه هو ذلك الانتظار للفضل الإلهي يوم القيامة ، (وكما أشرنا سابقاً) فإنّ استعمال هذه الكلمة بهذا المعنى والمفهوم يُعَدُّ حقيقةً لا مجازاً ،

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ص ٢٠٤.

١٨٥

وهي ملحوظة في الأشعار والكلمات اليوميّة التي تمر علينا كقول الشاعر :

وجوه ناظرات يوم بدرٍ

إلى الرحمن تنتظر الخلاصا

ويقول الشاعر الآخر :

إنّي إليك لِما وعدتَ لناظر

نظر الفقير إلى الغني الموسر

ثم أضاف قائلاً : إنّي أتعجّب من هؤلاء الأخوة كيف استدلوا بهذه الآية على إمكانية رؤية الله وحصولها ، وغاب عنهم معناها الظاهري؟ في حين أنّهم عندما يَصِلون إلى الآيات المشابهة لهذه الآية يؤوّلونها ، كالآية : (الرَّحمَنُ عَلَى العَرشِ استَوَى). (طه / ٥)

و (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيدِيهِمْ) (الفتح / ١٠)

ولا يحملون هذه الآيات على معنى جسمانية الله والمكان والحركة ، بل يعتبرون الأولى بمعنى سلطة الله الربوبيّة على العرش ، والثانية كناية عن قدرته الفائقة جلّ وعلا.

ولا يُعلَم سبب هجرهم للمعنى الجلي لجملة (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) واندفاعهم نحو مسألة الرؤية.

مضافاً إلى ذلك فيُمكن أن تكون هذه الآية كناية عن الرؤية بعين البصيرة ، كما ورد في كلام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام عندما قال : «لو كُشِفَ ليَ الغطاء ماازددتُ يقيناً». أو يقول في موضعٍ آخر : «أَوَ أعبُدُ ربّاً لم أرهُ»؟ ثم صرّح قائلا" : «لا تراه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان».

أو ماورد في كلام ولده الإمام سيد الشهداء الحسين عليه‌السلام في دعاء عرفة مخاطباً ربّه : «عميت عين لا تراك عليها رقيباً»! (١).

والآية الاخرى التي استندوا عليها لإثبات مقصودهم هي (كَلَّا إِنَّهُم عَن رَّبِّهِم يَوْمَئِذٍ لَمحَجُوبُونَ). (المطففين / ١٥)

ويستفيدون منها كون المؤمنين غير محجوبين عن الرؤية ، ويرون ربّهم حتماً.

ولكن كما أنّ كلمة «حجاب» تُستعمل للحجاب الظاهري ، فكذلك تستعمل للحجاب

__________________

(١) كلمة حول الرؤية ، ص ٤٨ ـ ٥٣ باختصار.

١٨٦

المعنوي أيضاً ، والمقصود في هذه الآية هو المعنى الثاني لا الأول ، وذلك بقرينة الآية التي سبقتها حيث تقول : (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين / ١٤)

إنّ المقصود هنا من الرَّين هو الرَّين المعنوي لا الظاهري.

والشاهد الآخر هو الآية الخامسة من سورة فُصّلت التي تخبر عن قول الكفار : (وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ). ومن المُسلَّم أنّ الحجاب الذي كان بين الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والكفّار لم يكُن حجاباً ظاهرياً.

وفي قوله تعالى : (جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً). (الاسراء / ٤٥)

وعليه فإنّ الكفّار محرومون من اللقاء المعنوي مع ذلك المحبوب ، وذلك لوجود الحجاب بينهم وبين الله تعالى ، والآية الثالثة التي استعانوا بها لإثبات مقصودهم هي : (أَنَّهمْ مُّلاقُوا رَبِّهِمْ). (البقرة / ٤٦)

وقالوا : إنّ الملاقاة تعني المشاهدة.

في حين أنّ الآيات القرآنية تدل بوضوح على أنّ اللقاء يوم القيامة بأي مفهومٍ كان لا يخص المؤمنين ، بل يتساوى فيه المؤمن والكافر ، بينما نجد أنّهم يعتقدون بأنّ رؤية الله في القيامة خاصّة بالمؤمنين فقط ، والدليل على عمومية اللقاء ما ورد في قوله تعالى :

(يَاايُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدحًا فَمُلَاقِيهِ). (الانشقاق / ٦)

إذن فالمخاطَب في هذه الآية جميع الناس. وكما ورد في قوله تعالى : (فَأَعْقَبَهُم نِفَاقًا فِى قُلُوبِهِم إِلَى يَومِ يَلْقَونَهُ بِمَا أَخلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوه وَبِمَا كَانُوا يَكذِبُونَ). (التوبة / ٧٧)

فهذه الآية خاصّة بالمنافقين ، وفي نفس الوقت فانّها تثبت أنّ لهم لقاء الله ، وعلى هذا يتضح أنّ لقاء الله ، بأيّ مفهومٍ كان ، يشمل كلاً من المؤمنين والكافرين ، في حين أنّهم يعتقدون باختصاص هذا الموضوع بالمؤمنين.

والجدير بالذكر أنّ كلمة (لقاء) في الأصل اللغوي بمعنى حدوث تماس بين شيئين ، لا بمعنى الرؤية والمشاهدة ، ونحن نعلم باستحالة تحقق هذا الأمر بخصوص الباري تعالى ،

١٨٧

والأشاعرة أيضاً لا يقولون بذلك ، لذا يجب أن يُحمَل على المعنى الكنائي.

وما يُستفاد من الآيات القرآنية المختلفة هو أن (يوم لقاء الله) ، كناية عن يوم القيامة الذي سيلقى الناس فيه الجزاء والحساب والقصاص الإلهي ، لذا فقد ورد في آيات متعددة بدلا" عن (لقاءالله) : (لِقاءَ يَومِهِم هَذَا). (الأعراف / ٥١)

أو (لِقاءَ يَومِكُم هذا). (السجدة / ١٤) (الجاثية / ٣٤)

وورد التعبير عنه في آيات اخرى بملاقاة يوم الحساب ويؤوّل باللقاء مثل : (انِّى ظَنَنْتُ أَنِّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ). (الحاقّة / ٢٠)

لهذا فقد حمل الكثير من أرباب اللغة آيات لقاء الله على هذا المعنى.

يقول الراغب في المفردات : «ملاقاة الله عزوجل عبارة عن القيامة».

وكذلك يقول إبن الأثير في النهاية : «المراد بلقاء الله المسير إلى دار الآخرة».

وقد نقل ابن منظور في لسان العرب نفس هذا المعنى أيضاً.

ويُلاحظ نفس هذا المعنى في الروايات أيضاً ، كما ورد في الحديث النبوي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من حلف على يمينٍ ليقتطع بها مال امرءٍ مسلم لَقِيَ الله وهو عليه غضبان» (١).

والظاهر أنّ التعبير عن القيامة ب (يوم لقاء الله) ينبع من هذا المعنى ، وهو : أنّ الإنسان ـ في ذلك اليوم ـ يشعر بالأمر الإلهي في كل مكان ، في الحساب ، في عرصة المحشر ، في الجنّة والنار ، ويتجلّى وجود الله عزوجل للجميع ، بحيث يراه المؤمن والكافر بعين القلب والبصيرة.

والعجب هو استدلال الأشاعرة بآياتٍ أُخرى لا تدلّ على مقصودهم أدنى دلالة ممّا يؤيد أنّهم مصرّون على تحميل الآيات القرآنية على آرائهم ، كالآية : (لِّلَّذِينَ أَحسَنُوا الحُسنَى وَزِيَادَةٌ). (يونس / ٢٦)

فقالوا : إنّ المقصود من (زيادة) رؤية الله!!

في حين عدم وجود أدنى إشارة في هذه الآية الشريفة على هذا المفهوم ، بل إنّ الآية

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ٣ ، ص ٥١ ، ذيل الآية ٤٦ من سورة البقرة.

١٨٨

تشير إلى نفس ذلك الشي الذي ورد بهذا المضمون حيث قال تعالى : (مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالَهَا). (الانعام / ٦)

وكذلك استدلوا بالآية : (لَهُم مَّايَشَاؤُنَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ). (ق / ٣٥)

فقالوا : إنّ المقصود من (لدينا مزيد) هو رؤية الخالق! في حين أننا لا نرى أدنى إشارة إلى هذا المفهوم.

وخلاصة الكلام هو أنّ مسألة رؤية الله ، ـ علاوة على كونها مخالفة للدليل القطعي العقلي والنقلي ـ كانت تستلزم جسمانية الله (إلّاأن يكون المقصود منها الرؤية بعين القلب والباطن فلا أحد يُناقش في ذلك).

ولا يوجد دليل روائي أو قرآني عليها ، والأمر الوحيد هو استعانتهم بالمتشابهات لتصديق معتقدهم هذا ، في حين أنّ القرآن أمرنا بمطابقة وتفسير المتشابهات بالمحكمات.

وإنّ قسماً من الروايات المنقولة في كتب هؤلاء القوم بخصوص هذا الموضوع ، هي روايات تتنافى مع حكم العقل والقرآن ، ونحن مأمورون بتركها وعدم الإهتمام بها.

وقد انتقد المرحوم العلّامة السيّد شرف الدين بدوره اسناد هذه الأحاديث أيضاً في كتابه القيّم «كلمة حول الرؤية» وأثبت بأنّها موضوعة (ولزيادة التوضيح راجع الكتاب المذكور) (١).

فما أقبح عصرنا الحاضر إذ يوجد فيه من لا يزالون يؤيدون خرافة (رؤية الله بالعين الظاهرية في القيامة) ، على الرغم من كون البحوث العقائدية فيه تدور حول محور الأدلّة العقليّة ، وقد اتضحت المسألة بصورة كافية من خلال آيات القرآن.

* * *

__________________

(١) كلمة حول الرؤية ، ص ٦٧ ـ ٨٠.

١٨٩

٥ ـ الله عزوجل ليس جسماً

هناك جماعة بين المسلمين وغير المسلمين تدعى بـ (المجسّمة) ، والتي تعتقد بجسمانية الله ، وتنسب إليه جميع عوارض الأجسام ، وقد نُقلَت عنهم مطالب مُضحكة ومُخجلَة في نفس الوقت ، إلى درجة أنّ الشهرستاني في كتاب (الملل والنحل) ينقل عنهم أنّهم يقولون حتى بإمكانية لمس الله ، ومصافحته ومعانقته ، من قبل المسلمين الخُلَّص!! حتى أنّه نُقِلَ عن (داود الجواربي) ، الذي كان من القائلين بهذا المذهب ، أنّه قال : «اعفوني من الفرج واللحية واسألوني عمّا وراء ذلك ، فمعبودي جسم ودم ولحم ، وله جوارح وأعضاء ، من يدٍ ورجلٍ ، ورأس ، ولسان ، وعينين ، وأذنَين ، ومع ذلك فهو جسم لا كالأجسام وليس كمثله شيء ، ولحم لا كاللحوم!».

وكذلك نُقل عنه أيضاً بأنّه كان يقول : «إنّه (١) أجوف من أعلاه إلى صدره ، مصمت ما سوى ذلك ، وإنّ له وفرة سوداء (٢) وله شعر قط (٣)).

ويذكر (المحقق الدواني) عنهم عجائب اخرى فيقول : «إنّهم طوائف مختلفة ، فبعضهم يقول : إنّه (عزوجل) مركب من لحم ودم!!

ويقول البعض الآخر : إنّه نور متلالي كصحيفة بيضاء طوله سبعة أشبار من أشباره هو! ويقول البعض : إنّه شاب أمرد ذو شعرٍ مجعّد!

والبعض يقولون : إنّه بشكل شيخ كبير لون شعر رأسه ولحيته سوداء بيضاء» (٤).

إنّ هذا الكلام غير العقلائي يشير بوضوح إلى مقدار ما تحمله هذه الطائفة من انحطاط فكري ، فعبّروا عن الله تعالى بتعابير لا تصدر حتى من الأطفال الصغار ، ولم يخجلوا من ذكر هذه الأمور.

طبعاً لا يمكن التصديق الآن بوجود أحد من المسلمين أو غير المسلمين يحمل مثل هذه الاعتقادات.

__________________

(١) الملل والنحل ، ج ١ ، ص ٩٦ ـ ٩٧.

(٢) «الوفرة» (بفتح وسكون) شعر الرأس إذا وصل إلى شحمة الاذن.

(٣) «شعر قط» (بالفتح والتشديد) و «قطط» (الفتحتين) وقيل قصير كثير الجعودة ، حسن التجاعيد.

(٤) بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ٢٨٩.

١٩٠

وبما أنّ كلّ إفراطٍ يتبعه تفريط ، فقد ظهر في مقابل هؤلاء جماعة احترزوا عن التشبيه إلى درجة أنّهم كانوا يقولون : إذا حرّك أحد يديه أثناء قراءة آية (خَلَقْتُ بِيَديَّ) وجب قطع يديه! أو إذا أشار باصبعيه عند قراءة هذه الرواية الواردة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «قلبُ المؤمن بين إصبعَين من أصابع الرحمن». وجب قطع كلا إصبعيه»! (١).

وعلى أيّة حال يظهر أنّ هذه العقائد السخيفة الركيكة بخصوص جسميّة الله تعالى تنبع من أحد أمرين :

الأول : الأنس المفرط بعالم المادّة والمحسوسات ، الأنس المصحوب بالسّذاجة والجهل الذي لا يسمح للأنسان تقبَّل شيء غير المادّة ، الأنس الذي يؤدّي إلى مقايسة الله عزوجل بالانسان وصفاته.

الثاني : التعابير الكنائية والمجازيّة الملحوظة في القرآن الكريم والروايات الإسلامية ، حيث يمكن أن يتوهّم السُّذَّج منها الجسميّة.

ولكن بالإلتفات إلى نقطة واحدة يتّضح بأنّ قبول فكرة الجسميّة بالنسبة لله تعالى يُساوي نفي إلوهيته ، ونفي وجوب وجوده ، لأنّ كُلّ جسمٍ يتشكل من أجزاء ، ولابدّ له من لزوم المكان والزمان ، وكونه معرضاً للحوادث والتغيُّرات ويتجه دائماً نحو الهلاك والفناء ، وتكفي كل واحدةٍ من هذه الصفات لنفي إلوهية الله ووجوب وجوده.

مضافاً إلى ذلك أنّه لو كان جسماً لكان له شبيه ومثيل ، ونحن نعلم أنّ آيات متعددة من القرآن الكريم نفت عن الله تعالى أى شبيهٍ أو مثيل.

ونختم هذا الكلام بحديثٍ منقول عن الإمام الكاظم عليه‌السلام : «ذكر عنده قوم زعموا أنّ الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا؟ فقال : إنّ الله لا ينزل ولا يحتاج إلى أن ينزل ، إنّما منظره في القرب والبعد سواء) .... ، ولم يحتج إلى شيء بل يُحتاج إليه ، أمّا قول الواصفين : إنّه ينزل تبارك وتعالى عن ذلك فإنّما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة ، وكل متحرك محتاج إلى من يحرّكه أو يتحرك به فمن ظن بالله الظنون فقد هلك وأهلك ، فاحذروا في

__________________

(١) الملل والنحل ، ج ١ ، ص ٩٧.

١٩١

صفاته من أن تقفوا له على حدّ من نقص أو زيادة ، أو تحريك أو تحرك ، أو زوال أو استنزال ، أو نهوض أو قعود فإنّ الله عزوجل عن صفة الواصفين ونعت الناعتين وتوّهم المتوهمين» (١).

وهناك روايات كثيرة في هذا المجال ولكن وضوح الموضوع يغنينا عن التوغُّل في البحث(٢).

والعجب من إصرار بعض أرباب الملل والنحل على نسب مسألة الاعتقاد بجسمانية الله تعالى إلى الشيعة اتباع مذهب أهل البيت عليه‌السلام ، لكن مطالعة كُتب الشيعة تشير بوضوح إلى انهم بلغوا القمّة في تنزيه الله تعالى عن الجسمانية ، وأي صفةٍ من صفات الأجسام وعوارضها ، لذا فقد قال الإمام الرضا عليه‌السلام : «إنّه ليس منّا من زعم أن الله عزوجل جسم ونحن منه بُراء في الدنيا والآخرة» (٣).

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ٣١١ ، ح ٥ باختصار.

(٢) لزيادة الأطلاع على روايات هذا الموضوع راجع توحيد الصدوق ، ص ٩٧ ـ ١٠٤ ـ باب أنّه عزوجل ليس بجسمٍ ولا صورةٍ (فهنالك عشرون رواية منقولة حول هذا الموضوع ٢٠٥).

(٣) توحيد الصدوق ، نفس الباب السابق ، ح ٢٠.

١٩٢

٣ ـ ليس له محل وهو موجود في كُلّ مكان

تمهيد :

ليس من اليسير على أفرادٍ يعيشون دائماً في أسر عالم المادة وقد جبلوا على هذا التفكير ولم يتجاوز نطاق تفكيرهم هذا الحد أن يتصوروا وجوداً مجرّداً من المادة.

ولكن وكما قُلنا في بداية بحث الصفات الإلهيّة ، فإنّ أول خطوة في طريق معرفته هي تنزيهه عن صفات مخلوقاته ، خاصةً عن صفات الموجودات الماديّة من قبيل الزمان ، المكان ، التغيُّر ، والحركة.

ومن هنا يبدو واضحاً أنّ من لوازم معرفة الله معرفة حقيقية هو تنزيهه عن المكان والمحل.

فمن البديهي أنّ الاتصاف بالمحل ملازم للقول بالتجسيم ، وقد عرفنا في البحوث السابقة أنّ الله عزوجل ليس بجسم ولا يتصف بصفات الأجسام ، ولايحيطهُ مكان ولا يسعه زمان ، وفي نفس الوقت يحيط بجميع الأمكنة والأزمنة!

بهذا التمهيد نتوجه إلى القرآن الكريم لنتأمل في الآيات التالية بأسماع قلوبنا :

١ ـ (وَللهِ المَشرِقُ وَالْمَغرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ انَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ). (البقرة / ١١٥)

٢ ـ (وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَاءِ إِلهٌ وَفِى الأَرضِ الَهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ). (الزخرف / ٨٤)

٣ ـ (وَهُوَ مَعَكُم أَينَ مَا كُنتُم وَاللهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ). (الحديد / ٤)

٤ ـ (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوى ثَلَاثَةٍ إِلّا هُوَ رَابِعُهُم وَلَا خَمسَةٍ إِلّا هُوَ سَادِسُهُم وَلَا أَدنى مِن ذَلِكَ وَلَا اكْثَرَ إِلّا هُوَ مَعَهُمْ أَينَ مَا كَانُوا). (المجادلة / ٧)

١٩٣

٥ ـ (وَلَقَدْ خَلَقنَا الإِنسَانَ وَنَعلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفسُهُ ونَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِن حَبلِ الوَرِيدِ). (ق / ١٦)

٦ ـ (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَىءٍ عَلِيمٌ). (الحديد / ٣)

٧ ـ (وَأَنْتُم حِينَئذٍ تَنظُرُونَ* وَنَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِنكُم وَلَكِن لّاتُبصِرُونَ) (١). (الواقعة / ٨٤ ـ ٨٥)

جمع الآيات وتفسيرها

أينما تُولوا فثم وجه الله :

حاول اليهود بعد مسألة تغيير القبلة (من بيت المقدس نحو الكعبة) إلى إيجاد شُبهة في إذهان المسلمين من خلال هذه المسألة ، واعتبار تغيير القبلة دليلا" على عدم ثبات الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله على رسالته ، فنزلت الآية الأولى من بحثنا وبيّنت : (وَللهِ الْمَشرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).

فهو حاضر في كُلّ مكان وبكل شيءٍ عليم ، لذا فأينما تولّوا فثمّ وجهه ، وإمّا الغرض من التوجه نحو القبلة فهو لتمركز توجُّه المؤمنين إلى أنّ الله عزوجل له محل خاص او جهة معينّة وهي القبلة ، فوجوده واسع إلى درجة كونه حاضراً ورقيباً في كل مكان ، وفي نفس الوقت ليس له محل أو مكان خاص!

وطبعاً ليس المقصود من كلمتي المشرق والمغرب في الآية المذكورة الجهتَين الجُغرافيّتَين ، بل هو تعبير كنائي عن جميع العالم ، كما أننا عندما نريد أن نقول : إنّ أعداء علي عليه‌السلام حاولوا إخفاء فضائله ، وشيعته أخفوها أيضاً خوفاً من أعدائه ، ومع ذلك فإنّ فضائله ملأت العالم ، نقول : (إنّ فضائله ملأت الشرق والغرب!).

وعلى أيّة حال فإنّ تَعبير (فَأَيْنَما تَوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) هو تعبير حيّ وواضح على عدم إحاطة المكان بالله تعالى.

__________________

(١) ماذُكِر أعلاه هو قسم مجمل من هذه الآيات ، وتوجد آيات قرآنية مشابهة للتي ذكرناها كالآية ٢٠ من سورة البروج ؛ والآية ٣ من سورة الأنعام.

١٩٤

لأنّ التواجد في كل مكان إمّا يعني امتلاك الموجود أبعاداً واسعةً وأجزاءً كثيرة تملأ المكان ، وكل جُزءٍ منه موجود في جهة معينة ، ونحن نعلم باستحالة هذا المعنى بالنسبة إلى الله تعالى ، لأنّه سبحانه ليس له أجزاء ، وقول القرآن : (هو معكم) لايعني أنّ جزءاً من وجود الله تعالى هناك (فتأمل جيداً).

أو يعني عدم إحاطة المكان به ، أي هو فوق الزمان المكان ، وطبعاً مثل هذا الوجود تتساوى فيه جميع الأمكنة والأزمنة ولا معنى للبعد والقرب عنده.

والملاحظة المهمّة هنا هي أنّ التعبير بعبارة (وجه الله) تعني في القرآن الذات الإلهيّة المقدّسة.

ولكون (الوجه) أشرف أعضاء الإنسان ويحتوي على أهم حواسّه ، فإنّ هذه الكلمة تُستعمل كناية عن (الذات) ، ولكن بعض المفسّرين فسّروها بمعنى الرضا الإلهي ، أو الثواب الإلهي ، أو القبلة ، ولا نعتقد بصحة أيٍّ من هذه المعاني.

* * *

قال تعالى في الآية الثانية ـ ضمن ردّه على المشركين والذين جعلوا له ولداً ، وتنزيه ذاته المقدّسة عن هذه الصفات : (وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَاءِ إِلهٌ وَفِى الأَرضِ إِلهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ).

إنّ إلوهيّة الله تعالى لا تخص جهة معينة ، أو مكاناً خاصاً ، ومساحة إلوهيته وسعت كُلّ مكان ، وبسبب وجوده في كل مكان فهو بكُلّ شيءٍ عليم وخبير ، وأفعاله حكيمة ، بل إنّ هذا التعبير يشير إلى أن (العليم) و (الحكيم) الوحيد في عالم الوجود هو الله سبحانه ، لأنّ علم وحكمة من سواه قاصرة وناقصة ومشوبة بالجهل.

ولكنّ المشركين على مدى التاريخ قالوا : إنّ لكل واحدة من موجودات العالم إلهاً وربّاً : إله السماء ، إله الأرض ، إله البحر ، إله البر ، إله الحرب وإله السلام ، وما شاكل ذلك ، والآية أعلاه تنفي جميع هذه المعتقدات الباطلة ، وتؤكّد على ربوبيّة الله الواحد الأحد على جميع عالم الوجود.

١٩٥

قال بعض المفسّرين : إنّ هذه الآية خير دليلٍ على هذا الموضوع ، وهو عدم تواجد الله في السماء ، لأنّه يقول : (فِى السَّمَاءِ إِلهٌ وَفِى الأَرضِ الهٌ) ويعني أنّ نسبة وجوده في السماء وفي الأرض متساوية ، وبما أنّ الأرض لا تعتبر مكاناً له ، فكذلك السماء أيضاً (١).

وقال البعض الآخر من المفسّرين : إنّ مقصود هذه الآية هو أنّه معبود في السماء وفي الأرض ، فالملائكة تعبده في السماء وفي الأرض تسجد له موجوداتها.

وفي حديثٍ ظريف ورد أنّ أحد زنادقة عصر الإمام الصادق عليه‌السلام وهو «أبو شاكر الديصاني» قال لهشام بن الحكم : إنّ في القرآن آية هي قولنا. قلت : وما هي؟ فقال : (وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَاءِ الهٌ وَفِى الأَرضِ الهٌ) ، فلم أدر بما أجيبه! فحججت فخبرت أبا عبد الله عليه‌السلام فقال : هذا كلام زنديق خبيث إذا رجعت إليه فقل : ما إسمك بالكوفة فانّه يقول : فلان ، فقل له : ما اسمك بالبصرة؟ فانّه يقول : فلان ، فقل كذلك الله ربّنا في السماء إلهٌ ، وفي الأرض إله ، وفي البحار إله وفي القفار إله ، وفي كل مكان إله ، قال : فقدمت فأتيت أبا شاكر فأخبرته فقال : هذه نقلت من الحجاز (٢).

إنّ هذا التعبير يُعَدُّ إشارةً إلى أنّ الله تعالى لا مكان له من جهة ، وحضوره في كل مكان من جهة اخرى ، كقولنا : (إثنان زائد اثنين يساوي أربعة) ، فإنّ هذه المعادلة الرياضية كما أنّها في الأرض ، كذلك فانّها في السماء وفي جميع المجرّات ، وفي نفس الوقت ليس لهذه المعادلة الرياضيّة محلٌّ معين ، فيمكن أن نقول : بانّها في كل مكان وليس لها مكان في آنٍ واحد.

* * *

وهو معكم أينما كنتم!

تقول الآية الثالثة بصراحة (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم). ولأنّه كذلك فهو بما تعملون بصير : (وَالله بَمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ٢٧ ، ص ٢٣٢.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٦١٧ ، ح ٩٨.

١٩٦

يُشير هذا التعبير بوضوح إلى أنّه جلّ وعلا لا مكان له ، أو بتعبير آخر ، هو فوق الزمان والمكان ، ولهذا فهو حاضر في كُلّ مكان وقد أحاط بكُلّ شيءٍ علماً.

قال بعض المفسرّين ـ كما ورد في تفسير (روح المعاني) : يجب تأويل هذه الآية وحملها على المعنى المجازي والقول بأنّ المقصود منها هو : (علمهُ بنا لا ذاته المقدّسة).

وهؤلاء غافلون عن أن علم الله تعالى علم حضوري ، لا كعلمنا الذي يتم عن طريق تصوير الأشياء في الذهن ، والعلم الحضوري معناه حضور كل شيءٍ بين يديه ، وبحضور ذاته في كل مكان فهي تحيط بها جميعاً (١).

وقال بعض المفسرين في تفسير هذه الآية : كل ممكن فوجوده من الواجب ، فاذن وصول الماهية الممكنة إلى وجودها بواسطة فيض الواجب الحق ذلك الوجود لتلك الماهية فالحق سبحانه هو المتوسط بين كل ماهيه وبين وجودها ، فهو إلى كل ماهية أقرب من وجود تلك الماهية (٢).

وقد ورد في تفسير الميزان أنّ هذه المعيّة نابعة من إحاطته بكم ، فلا تغيبون عنه اينما كنتم ، وفي أيّ زمان عشتم ، وفي أيّ حال فرضتم ، فذكر عموم الامكنة (أيْنَ مَا كنتم) لأنّ الاعرف في مفارقة شيء شيئاً ، وغيبته عنه أن يتوسل إلى ذلك بتغيير المكان ، وإلّا فنسبته تعالى إلى الأمكنة والأزمنة والأحوال سواء (٣).

ولكن من لم يستطيعوا فهم إحاطة الله الوجوديّة بجميع الممكنات بصورة صحيحة ، حملوا هذه الآية على المعنى المجازي فقالوا : إنّ المراد من معيّة الله للموجودات ، هو شمول علمه وقدرته وحاكميته عليهم (٤).

__________________

(١) ورد توضيح أكثر حول علم الله في بحث علم الله في نفس هذا المجلد.

(٢) تفسير الكبير ، ج ٢٩ ، ص ٢١٤.

(٣) تفسير الميزان ، ج ١٩ ، ص ١٦٧.

(٤) تفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٠٧ ، ويُلاحظ وجود معنى قريب من هذا التفسير في تفسير روح الجنان ج ١١ ، ص ٣٨ ، وقد نُقلَ أيضاً في تفسير الكبير ، ج ٢٩ ، ص ٢١٥ ، عن المتكلمين بأنّ هذه المعيّة إمّا من جهة العلم أو من جهة الحفظ والحراسة.

١٩٧

أمّا الآية الرابعة فقد أشارت إلى مسألة النجوى فقالت : (مَا يَكُونُ مِن نَّجوَى ثَلَاثَةٍ إلّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُم وَلَا أَدنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَينَ مَا كَانُوا).

«النجوى» : في الأصل بمعنى المكان المرتفع المنعزِل عمّا حوله لارتفاعه ، ولكون إذا أراد شخص أن يُسِرَّ شيئاً لصاحبه يأخذه إلى معزل عن الناس. فإنّ كلمة نجوى استُعملت بمعنى الهمس في الأُذن.

يعتقد البعض بوجوب وجود ثلاثة أشخاص أو أكثر لتحقُّق معنى (النجوى) ، وإن كانا إثنين يُطلق على هذا العمل (إ سرار) ، لكن هذه المسألة لم تثبت ، خصوصاً أنّ كلمة نجوى وردت في آيات سورة المجادلة للتعبير عن الذين كانوا يناجون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بصورة انفراديّة.

وللمفسرين بيانات متعددة بسبب ذكر ثلاثة وخمسة أشخاص بالخصوص وعدم ذكر الأربعة التي تقع بين الثلاثة والخمسة ، أقواها هو أنّه لو ذُكرَ الأربعة أشخاص لتكرر العدد (أربعة) في الجملة الأولى والثانية ، وهو ينافي البلاغة والفصاحة (سوى في حالات خاصّة) ، مضافاً إلى ذلك فإنّ قوله تعالى في نهاية الآية : (وَلَا أَدنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكثَرَ) سيشمل مالم يُذكر بين هذين العددين ، وعليه يشملُ ماقبل العدد ثلاثة (أي إثنين) وما بعده (أي أربعة) ، وكذلك الأكثر من الخمسة ، وهذه نقطة اخرى تدلّ على فصاحة هذه الآية ، وعلى أن تعبير (نجوى) يشمل الشخصين أيضاً.

وقال البعض الآخر : إنّ الآية أعلاه تتحدث عن حادثتين قام بها المنافقون اشترك في الاولى ثلاثة أشخاص ، وخمسة أشخاص في الثانية.

وعلى أيّة حال فإنّ المراد من المعيّة (معيّة الله لعباده في نجواهم) هو نفس الإحاطة الوجوديّة المشار إليها في الآية السابقة ، والعجب من بعض المفسّرين الذين أيدوا هذا المفهوم في الآية السابقة ، لكنهم فسّروا المعيّة هنا بمعنى الاحاطة العلميّة ، ولعل ذلك بسبب تحدُّث الآية في البداية عن سعة علم الله وشموله جميع ما في السموات والأرض : (أَلَم تَرَ

١٩٨

أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى السَّماوَاتِ وَمَا فِى الأَرضِ). (المجادلة / ٧)

ولكن من البديهي أنّ إحاطة الله الوجوديّة بكلّ شيء هي عين إحاطته العلمية ، لأنّه وكما أشرنا سابقاً فإن علم الله علم حضوري ، ولازمهُ حضوره عزوجل في كل مكان (فتأمل جيداً).

* * *

نلاحظ نفس هذا المفهوم في الآية الخامسة وبتعبيرٍ جديد ، حيث قال تعالى : (وَلَقَد خَلَقنَا الإِنسَانَ وَنَعلَمُ مَاتُوَسوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِن حَبلِ الوَرِيدِ).

تُطلق كلمة (وريد) على أي نوعٍ من أنواع عروق البدن ، لكن الكثير من المفسّرين فسّروها بمعنى الوريدين الرئيسين الموجودَين في جانبي الرقبة ، وفسرها جماعة بمعنى الوريد الرئيس المتصل بالقلب.

ولكن عندما نضيف كلمة (حبل) إلى كلمة (وريد) فلا يراد منه الأوردة الصغيرة والعاديّة الموجودة في البدن ، بل يُقصد به أحد الأوردة الكبيرة والمعروفة في البدن ، وقد ورد كلا التفسيرين في تفسير ذيل هذه الآية في كلام المفسّرين وأرباب اللغة (١).

لكن المناسب لهذه الآية هنا ، هو الوريد الرئيس في القلب لأنّه ورد أيضاً في الآية :

من سورة الأنفال : (وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرءِ وَقَلبِهِ). (الأنفال / ٢٤)

وكلا الآيتين كناية عن منتهى قُرب الله تعالى لجميع عباده ، لأننا لو اعتبرنا قلب الإنسان مركز وجوده ، لما كان هنالك شيء أقرب إليه من وريد القلب ، فالقرآن يريد أن يقول : (ونحن أقرب إليه حتّى من هذا أيضاً).

وعلاوةً على هذا فإنّ الآية قد تحدثت في البداية عن علم الله بما توسوس به نفس الإنسان ، ممّا يتناسب مع القلب لا الرقبة.

على أيّة حال ، إنّ هذه المسألة تصوّر عموم المكان لله تعالى بأفضل وجه ، لأنّها تقول :

__________________

(١) التحقيق ، مفردات الراغب ، مجمع البحرين ، لسان العرب ، تفسير الميزان والقرطبي وغيرها.

١٩٩

إنّه تعالى أقرب إلى كل إنسان من وريد قلبه ، إذن فهو حاضر في كل مكان ، حتّى في أرواحنا وقلوبنا ، ومن الواضح أن وجوداً كهذا هو فوق المكان ، لأنّ الشي الواحد لا يمُكن أن يكون بجميع وجوده في مكانات متعددة ، إلّاأن يكون ذا أعضاءٍ يشغل كل واحدٍ منها مكاناً معيناً.

وقد ورد نفس هذا المفهوم في الآية السادسة والأخيرة من بحثنا والذي يخصُّ المحتضرين الذين أشرفوا على نهاية حياتهم ، قال تعالى : (وَأَنتُم حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ* وَنَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِنكُم وَلَكِن لَّاتُبصِرُونَ).

فيقول نحن نعلم جيداً بما يجري في باطن ذلك المحتضِر ، وأي غوغاء قائمة في عمق وجوده! هل هو سرور لتحرُّره من سجن البدن وانطلاقه إلى رياض الجنّة ، أم هموم لمشاهدته العقوبات الإلهيّة بسبب أعماله الظلامية التي ارتكبها؟!

لكنكم لا ترون أي واحدةٍ من هذه المسائل ولا تعرفونها.

وقد حمل بعض المفسرين ـ الذين لم يدركوا مفهوم القرب الإلهي من الإنسان بصورة صحيحة ، ـ هذه الآية على المعنى المجازي ، فقالوا : إنّ ملائكة الموت أقرب إليه منكم ولكنكم لا تبصرونهم.

ولكن بالإلتفات إلى كون هذا التعبير وأمثاله ـ كما عرفنا ذلك في الآيات السابقة ـ لاينحصر بالشخص المحتضِر ، حيث شمل جميع الناس بتعابير مختلفة ، فقد اتضحَ بُطلان هذا التفسير.

وتأكيد الآية على قرب الله تعالى من المحتضِر فقط ، دلالة على أنّ الكلام يدور حول هذا الموضوع ، وبصورة عامّة فإنّ هذه الآية تُعَدُّ دليلا" واضحاً آخر على انعدام المكان بالنسبة إلى الله تعالى.

نتيجة البحث :

يتضح جلّياً من مجموع الآيات الآنفة الذكر أنّها تتطرق إلى حقيقة واحدة بتعابير متنوّعة ، وهي أنّ الله موجود في كل مكان ، ويُشرف على الكون ، في الوقت الذي ليس له

٢٠٠