نفحات القرآن - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-98-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٠٠

فوصفت الآية الأولى الله سبحانه بـ (خَيرُ الرَّاحِمِينَ) ، لأنّ رحمته لا متناهية وتشمل المحب والمبغض ، الصالح والطالح ، فرحمته العامّة شملت الجميع ، ورحمته الخاصّة خصّ بها عباده المؤمنين ، وهو على أيّة حال لايريد منهم أي جزاءٍ أو ردٍ للجميل.

* * *

وقد وُصِفَ الباري في الآية الثانية بصفة (خَيرُ الحَاكِمِينَ) ، لأنّ ما يحكم به الآخرون مقرون بأنواع الأخطاء والانحرافات الناتجة عن الميول الشخصيّة والطائفيّة ، أو الأهواء المادية ، لكنّ حُكمه جلّ وعلا منزّهٌ عن أي خطأ وأي إفراطٍ وتفريط ، وأي ميلٍ إلى الباطل ، لأنّ علمه غير محدود وهو غنيٌّ عن العالمين.

* * *

وقد ذُكِرَ في الآية الثالثة باسم (خَيرُ الفَاصِلِينَ) ، لأنّ الناس لو أرادوا أن يميّزوا الحق من الباطل فإمّا أن يقعوا في الكثير من الإشتباهات ولا يميّزوا بينهما بصورة صحيحة ، وإمّا أنْ يلتبس عليهم التمييز بين الحق والباطل بسبب جهلهم ، أو يخلطوا بينهما بسبب تحكيم أهوائهم النفسانيّة.

أمّا الذي يعلم السرّ وما تخفي الصدور ، وأحاط بكل شيءٍ علماً فلا معنى عنده سبحانه لكل هذه الأمور ، فهو خير الفاصلين.

علاوةً على هذا فقد يشخّص الإنسان الحق من الباطل بصورة جيّدة لكنّه عاجزٌ عن إعمال علمه ومعرفته ، ولكن الله تعالى هو القادر الأزلي الوحيد الذي يستطيع إعمال علمه في كُلّ حال.

* * *

٢٨١

والآية الرابعة تحدّثت عن (خَيرُ الْفَاتِحِينَ) ، وكلمة (فاتح) مشتقّة من مادّة (فتح) ، فإن كانت بمعنى الحكم والقضاء فإنَّ مفهومها يعني «الله خير الحاكمين» ، وقد ذكرنا سبب ذلك فيما مضى ، وإن كانت (فتح) بمعنى فتح كل شيءٍ مغلق ، لكان سبحانه وتعالى أيضاً «خير الفاتحين» ، لأنّه لايصعُب شيء مقابل قدرته ، وإن كان المقصود منها فتح أبواب الرحمة فهو ذو رحمةٍ وسعت كل شيء في الوجود ، في حين لو كانت هنالك رحمة في الموجودات الاخرى فهي محدودة وجزئيّة.

وبالحقيقة أنّ لكلمة (فتح) معاني كثيرة جدّاً تعود جميعها إلى أصل الفتح المطلق ، فأحياناً فتح أبواب العلم والرحمة ، وأحياناً حلّ عقدة النزاع بين شخصين ، أو فتح (حل) عقدة الحرب ، ويظهر أنّ تعبير (خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) ذو معنىً واسعٍ جدّاً يشتمل على جميع هذه المعاني والمفاهيم.

وقد وصفت الآية الخامسة الباري تعالى بصفة (خَيْرُ الرَّازِقِينَ) ، فالأرزاق التي يعطيها البعض لغيرهم (إنّ أمكن أن نسميّها بهذا الأسم) مشوبة بنقائص عديدة : محدودة ، سريعة الزوال ، لايُؤمَّل مُستقبلها ، وأحياناً تعقبها المنّة والأذى الجسماني أو الروحاني ، وأحياناً مصحوبة بالتحقير أو توقُّع ردّ الجميل.

في حين أنّ الأرزاق الإلهيّة لا تعرف الحدود ، ولا يُخشى عليها من الزوال ، ولا فيها أدنى شيء من المنّة والأذى وانتظار ردّ الجميل ، بل هي تشمل حال الإنسان أو غيره منذ لحظة انعقاده كنطفة تكوينة في رحم امّه ، وحتّى آخر لحظات حياته ، وتشمل حال المستحقين والمؤهلين لها في يوم القيامة أيضاً ، وبمستوىً أعلى وأسمى.

نقل أحد المفسّرين حكاية عن أحد خلفاء بغداد مع (بهلول) تعكس المباحث الواردة بصورة لطيفة.

يقول : قال خليفة بغداد لبهلول : تعال أُعطِكَ رزقك كل يوم لأُريحك من التفكير في طلب الرزق ، فأجابه بهلول قائلاً : لولا بعض النقاط السلبيّة في عملك لقَبِلْت! أولاً : إنّك لا تعرف ما احتاجه ، ثانياً : إنّك لا تعرف وقت حاجتي ، ثالثاً : ولا تعلم مقدارها ، رابعاً : قد

٢٨٢

تغضب عليَّ ذات يومٍ فتسترجعها منّي ، لكنَّ الله الذي يرزقني منزّهٌ عن جميع هذه النقائص والعيوب ويرزقني حتى في اليوم الذي أعصيه فيه! (١).

وكم يكون رائعاً لو أضاف بهلول هذه الجملة أيضاً : من يضمن بقاءك في السلطة إلى الغد حتى تقدر على رزقي أو رزق الآخرين؟

نختتم هذا الكلام بحديثٍ مبارك منقول عن أمير المؤمنين الإمام علي عليه‌السلام ، حيث قال في بداية خطبة الأشباح :

«الحمد لله الذي لا يَفِرُهُ المنع والجمود ولا يُكديه الإعطاء والجود ، إذْ كلّ معطٍ منتقصٌ سواه ، وكلّ مانعٍ مذمومٌ ما خلاه ، وهو المنّان بفوائد النّعم ، وعوائد المزيد والقِسَمْ ، عيالُهُ الخلائق ، ضمِنَ أرزاقهم وقدّر أقواتهم ونهج سبيل الراغبين إليه والطالبين ما لديه ، وليس بما سُئِلَ بأجود منه بما لم يُسألْ» (٢).

* * *

وفي الآية السادسة وُصِقت ذاته المقدّسة بصفة «خير الناصرين» ، لأنّ الناصر الحقيقي هو من يقدر على النصرة ضدّ كلّ عدوّ ، وفي أي مكان وزمان ، وفي أي ظرف ، هو الناصرُ الذي لا يُغلَبُ أبداً ، ولا تستطيع أيّةُ قدرة من الوقوف ضدَّه ، إضافةً إلى ذلك فهو يحيط علماً بجميع مؤامرات الأعداء ، ونقاط ضعف من يحتمي بهم ، وبغض النظر عن جميع هذا ، فهو سبحانه لاينتظر ردّاً للجميل الذي يصنعه (النصرة).

ونحن نعلم أنّ هذه الصفات لم تجتمع إلّافي الذات الإلهيّة المقدّسة ، في حين نلاحظ أنّ الناصرين الآخرين فاقدون لهذه الصفات.

علاوةً على جميع ذلك فإن استطاع أحدٌ ما أن ينصُرَ آخر فنصرتُه محدودة بدار الدنيا فقط ، أمّا الله سبحانه وتعالى فهو الناصر الوحيد الذي يقدر على النصرة الدنيوية والاخروية.

* * *

__________________

(١) تفسير روح البيان ، ج ٩ ، ص ٥٢٨.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ٩١.

٢٨٣

أمّا الآية السابعة فقد وُصِفَ فيها الباري بصفة (خَيْرُ الغَافِرِينَ) ، يقول الفخر الرازي حول هذا الموضوع : «إنّ سبب وصفه تعالى بهذه الصفة هو لكون الآخرين إِنْ غفروا ذنباً إمّا لكسب مدح وثناء الناس ، أو للحصول على الثواب الإلهي الجزيل ، أو لدفع قساوة القلب ، وخلاصة الكلام إنّ عفو وغفران الناس لبعضهم إمّا لكسب منفعةٍ ، أو لدفع ضررٍ ما ، في حين أنّ الغفران الإلهي ليس كذلك أبداً ، بل هو نابعٌ من فضله وكرمه لا غير» (١). وعلاوةً على هذا فإنّ حقوق الناس على بعضهم حقيرة جدّاً بالقياس مع الحقوق الإلهيّة ، وعفوهم في هذه الحقوق الحقيرة قليلٌ جدّاً أيضاً ، والوحيد الذي يتجاوز عن عظيم الحقوق والخطايا ، ورحمته ومغفرته غير مشروطةٍ بشيء هو الله سبحانه وتعالى ، لذا هو (خَيرُ الغَافِرِينَ).

أضف إلى ذلك أنّه تعالى لايغفر ذنوب عباده فقط ، بل ويستر عليهم أيضاً ليحفظ كرامتهم في الدنيا والآخرة ، ولا يُفتضحون أمامَ الخلائق ، بل وأحياناً يُبدّل سيئاتهم حسنات شريطة أن لا يخرقوا جميع الحجب ، وأن يكون لديهم استعداد قليل لتقبّل كل هذا اللطف والإحسان.

إنَّ معرفة سبب نزول الآية المذكورة ، التي تحكي عن بني إسرائيل وارتكابهم أحد أكبر الذنوب وهو طلبهم رؤية الله بالعين الظاهرية كشرط مُسْبَق لإيمانهم به ، يُبيّن عمق مفهوم هذه الصفة الإلهيّة أي (خير الغافرين).

ووُصِفَ الباري في الآية الثامنة بصفة : (خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ).

فبعد أن أشارت الآية إلى قصّة نوح والطوفان العظيم الذي أصاب قومه ، ذكرت دعاء نوح عليه‌السلام بعد أن هدأ الطوفان ورست سفينته : «ربِّ انزلني مُنزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين».

ويُمكن أن تكون كلمة «منزل» اسم مكان أي (مَنزِلاً) أو مصدر ميمي بمعنى (النزول والهبوط).

وعلى أيّة حال : فمن الواضح أنّ النزول من السفينة في تلك الظروف العصيبة ، وبالنظر

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ١٥ ، ص ٢٠.

٢٨٤

لعدم وجود بيت ولا مظلَّة ولا قوت ولا غذاء لايُمكن أن يتحقق سوى في ظل لطف الله (خَيرُ الْمُنْزِلِينَ) ، ويُنجيهم من المخاطر التي كانت تهدّدهم بعد رسوِّ السفينة.

وكذلك تتسبب قدرة الله اللامحدودة وعلمه بحاجات ضيوفه في أن يكون (خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ).

* * *

وتحدثت الآية التاسعة عن المكر الإلهي الفريد إزاء مؤامرات المنحرفين والظالمين ووصفته جلّ وعلا بصفة (خَيْرُ الْمَاكِرِينَ).

فكلمة (ماكر) مشتقةٌ من مادّة (مكر) ، وكما قال الراغب : إنّها تعني بالأصل صرف الغير عن الوصول إلى المقصود عن طريق المكر والحيلة ، وهو على قسمين : ممدوح ، وهو ما كان الهدف منه الوصول إلى مقصودٍ حَسن ، ومذموم : وهو ما كان هدفه قبيحاً.

ومن هنا يتّضح أنَّ ما يختلج في أذهاننا حول اقتران كلمة (مكر) دائماً بنوع من الشرّ والفساد ليس صحيحاً ، كما هو الحال في كلمة (حيلة) التي لها مفاهيم مشتركة عديدة بالرغم من تداعي المفهوم السلبي منها إلى أذهان عامّة النّاس.

يقول القرطبي في تفسيره : (المكر) معناه (التدبير الخفي في داء عمل معيّن).

ولكن يُسْتنتج من بعض كلام أرباب اللغة أنّهم يعتقدون باقتران كلمة المكر بنوع من المذمّة ، لذا فهم يقولون «إنّ هذه الكلمة ذات معنى مجازي عندما تستعمل بخصوص الباري تعالى» ، ولكن تعميم مفهوم (المكر) كما يُلاحظ عند الكثير من المفسّرين والمتكلمين ، يبدو أصحّ بنظرنا.

وعلى أيّة حال فإنّ السرّ في وصفه تعالى بصفة (خَيرُ المَاكِرِينَ) إمّا لكون قدرته على المكر والحيلة أكبر ممن سواه ، أو لأنّ (مكر) من سواه يُحتمل فيه الخير والشرّ ، لكن المكر الإلهي ممدوح دائماً.

وقد ذكر الزبيدي في شرح القاموس عدّة معانٍ للمكر ، عندما يُنسَبُ إلى الله سبحانه

٢٨٥

وتعالى ، منْ جُملتها : إنزال البلاء على العدو لا على الصديق والعقوبات الاستدراجيّة أي الإنعام مقابل الأعمال السيئة (ليحسب) الشخص المسيء أنّه يُحسن صنعاً ، ثمَّ يعاقبه بعدها ، والثالث : مجازاة العباد على أعمالهم (١).

وعلى أيّة حال فإنّ المكر الصحيح هو ما يصدر عن العالِم بعواقب الأمور وحقائق الأشياء الماضية والمستقبلية ، إضافةً إلى قدرته المطلقة على القيام بتدبيره ، ولكون هاتين الصفتين (العلم والقدرة اللامحدودتين) منحصرتين بذات الباري جلّ وعلا فهو «خير الماكرين».

والظريف هو أنّ وصف الباري بصفة (خَيرُ المَاكِرِينَ) قد ورد فقط في موضعين من القرآن الكريم ، أحدهما في قصّة الهجرة التي تُعدّ من أهم مراحل حياة الرسول الأكرم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثبِتُوكَ أَو يَقتُلُوكَ أَو يُخرِجُوكَ وَيَمكُرُونَ وَيَمكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيرُ المَاكِرِينَ). (الأنفال / ٣٠)

وكما نعلم فإنّ مؤامرة قريش على قتل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله زادت من عزيمته وقوّت من إرادته على الهجرة ، الهجرة التي صارت سبباً في حدوث أكبر التحوّلات في تاريخ الإسلام وانتشار الحكومة الإسلامية في أنحاء العالَمِ ، وهنا يتّضح غلبة المكر الإلهي.

والآخر في المؤامرات المشتركة التي حاكها اليهود والنصارى في محاربة الإسلام والرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ الآية ٥٤ من سورة آل عمران ـ والتي كانت من أخطر المؤامرات ، لكن الله سبحانه قد أبطلها جميعاً.

وأخيراً فقد وُصِفَ الباري تعالى في الآية العاشرة والأخيرة بصفة : (خَيرُ الْوَارِثِينَ).

وهذه الصفة وردت مرّة واحدة فقط في القرآن الكريم عن قول زكريّا عليه‌السلام ، في حين يُلاحَظ تكرار وصف الباري بصفة «وارث».

والسّر من وراء وصف الباري بهذه الصفة واضح تماماً لأنّه الوحيد الذي يبقى ويدوم ويرث العالمين ، وأمّا سواه من الوارثين فسيكونون موروثين يوماً ما.

__________________

(١) تاج العروس في شرح القاموس ، مادّة (مكر).

٢٨٦

علاوة على هذا فإنّ ما يرثه الورثة العاديّون محدود وهم بحاجةٍ إليه ، إضافةً إلى بخلهم في صرفه غالباً ، لذا يُلاحَظُ حصول الكثير من المشاكل والنزاعات بين الأقرباء من أجل أموالٍ ورثوها ، أمّا الله تعالى وهو الوارث النهائي للجميع فهو غير محتاج ، ولا يوجد حدّ لصفته هذه ، ولا طريق للبخل إلى وجوده فهو (خَيرُ الوَارِثِينَ).

وكما قال «الآلوسي» في «روح المعاني» : «إنَّ هذه الصفة تُشير إلى بقاء الذات الإلهيّة المقدّسة ، وفناء جميع الأشياء» (١).

وتعتبر طبعاً من صفات الذات إذا كانت تشير فقط إلى مسألة البقاء (أي أبدية وجوده المقدّس) ، ومن صفات الفعل إذا كانت تشير إلى مفهوم تملُّك مايبقى من الآخرين (فتأمل).

* * *

الله خير من كل شيء :

كما لاحظنا في الآيات العشر التي ذكرناها ، فقد وُصِفَ الله سبحانه وتعالى بصفات : (خير الراحمين والحاكمين والرازقين والناصرين و...).

فهل يُمكن قياس الباري مع غيره!؟ (نظراً إلى كون كلمة (خير) في مثل هذه الموارد ذات صيغة تفصيليّة).

هناك جوابان عن هذا السؤال :

الأول : إنَّ كلمة (خير) تفقد مفهومها التفصيلي في مثل هذه الموارد ، وتعطي معنى الكثرة ، وعليه فالصفات أعلاه تُشير إلى رحمة الله الواسعة ، وحكومته الواسعة ، ورزقه الوفير ، ونُصرته اللامحدودة ، دون أن يكون هنالك قياس في الموضوع ، «ما للترابُ وربّ الأرباب»؟ (٢)

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ١٧ ، ص ١٨٠.

(٢) يقول المرحوم الكفعمي في مصباحه حول تفسير «خير الناصرين» : «معناه كثرةُ تكرار النّصر منه كما قيل خير الراحمين لكثرة رحمته» (المصباح ، ص ٣٤٦).

ـ ورد نفس هذا المعنى في توحيد الصدوق مع فارقٍ قليل. (توحيد الصدوق ، ص ٢١٦).

٢٨٧

الثاني : إنَّ هذه الصفات لها مفهوم تفضيل وقياس ، لكنّه قياسٌ صوريٌّ وظاهري كما هو الحال في (أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ) ، والحقيقة فقد اعتُبِرَ الذين هم واسطة لإيصال الأرزاق إلى غيرهم (رازقين) ، وحُملت الرحمات الجزئيّة الصادرة من البشر على حساب (الرحمة) ، وهكذا بخصوص النصرة والحاكميّة والغفران ، ومن قبيل هذه التعابير ليست قليلة في القرآن الكريم (انتخب المرحوم العلّامة المجلسي في بحار الأنوار التفسير الثاني) (١).

وبتعبيرٍ آخر : (من الناحية الفلسفية) فإنّ الوجود الحقيقي المستقل القائم بذاته هو الذات الإلهيّة المقدّسة ، وما سواه عدم ، وجود ظاهري ، كسراب الماء ، لذا فإنّ الموجودات الممكنة لا هي خالقة ولا ناصرة ولا راحمة ولا رازقة ، فجميع هذه الأمور تخص تلك الذات المقدّسة الفريدة ، ومن سواه يأكلون من فتات مائدة إحسانه جل وعلا ، لذا فقد قيل : «ليس في الدار غيره ديّار!».

ولكن من حيث التحليل العادي المتعارف فإنّ الممكنات لها وجودها الخاص أيضاً ، ورحمتها ونصرتها وقدرتها وحاكميتها الخاصّة ، وورود مثل هذه التعابير في القرآن الكريم إنّما هو من باب تكليم الناس بلسانهم : (وَمَا أَرسَلنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَومِهِ). (ابراهيم / ٤)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

١ ـ العالَم مظهرٌ لصفاته وأسمائه

من المتعارف عليه أنّ عالَم الوجود محلُّ بروز وظهور الصفات الإلهيّة ، وهذه المسألة واضحة تماماً خصوصاً بالإلتفات إلى صفات الفعل ، لأنّ جميع ما نشاهده في هذا العالَم من الخلق والتكوين مظهر لخالقيته سبحانه وتعالى.

وجميع ما نشاهده من الرحمة الماديّة والمعنويّة مظهرٌ لرحمانيته.

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٤ ، ص ٢٠٧ (يقول : الخير بمعنى التفضيل ولا حاجة إلى ما تكلّفه).

٢٨٨

وكل تدبير في هذا العالم يدلّ على ربوبيته ، وجميع الأرزاق الظاهريّة والباطنيّة هي مظاهر لرازقيته سبحانه.

وكما أشرنا سابقاً ، ونظراً لكون صفات الفعل مشتقّة من أفعاله جلّ وعلا ، وأفعاله لا تعدّ ولا تحصى فإنّ صفاته الفعلية لا تعدّ ولا تحصى أيضاً.

وقد ذكرنا في البحوث السابقة ستين صفة من أهم (صفات الفعل) الواردة في القرآن الكريم ، والتي تتشعّب من كلٍّ منها صفات اخرى ، وتطرّقنا إلى تفسيرها وتحليلها.

إنَّ الانتباه إلى هذه الصفات لا يُعرفنا بالأفعال الإلهيّة فحسب ، بل إنّ معرفة أفعاله تؤدّي إلى تخلّقنا بها وتربية نفوسنا وتهذيب أرواحنا ، (فتأمّل).

* * *

وينبغي التذكير بهذه المسألة أيضاً وهي أنّ بعض الصفات الإلهيّة لا ريب في انتسابها إلى صفات الذات (مثل عالِم) وبعضها إلى صفات الفعل (كالرازق والخالق) ، وبعضها الآخر ذات جانبين ؛ ذاتية من ناحية ، وفعليّة من ناحية اخرى ، كالقيّوم مثلاً فإن فُسّرت بمعنى (القائم بالذات) صارت من صفات الذات ، وان فُسّرت بمعنى (مقوّم الموجودات) صارت من صفات الفعل.

* * *

٢ ـ الصفات الاخرى التي تعتبر من زمرة الصفات الفعليّة

هنالك أفعال في القرآن الكريم تنسب إلى الله تعالى دون ذكر مصطلحها الوصفي ، وقد ذكرها علماء العقائد بعنوان صفات الفعل أو أسماء الله الحسنى ، ولأنّهُ كان من المقرّر أن نبحث في مباحثنا الصفات المذكورة في القرآن الكريم فقط ، لذا لم نتطرّق إليها ضمن الأسماء والصفات التي ذكرناها ، في الوقت الذي نعتقد بوجوب الإشارة إلى أهمها هنا ، ومن جملتها (متكلّم) و (صادق).

* * *

٢٨٩
٢٩٠

أ) الله المتكلّم

تمهيد :

لم يُصرّح القرآن الكريم بصفة «المتكلّم» لكنّه ذكر الفعل الدال عليها : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكلِيًما). (النساء / ١٦٤)

ولذا عُرِفَ موسى عليه‌السلام بأنّه (كليم الله).

علاوةً على هذا فقد ورد في القرآن الكريم تعبير (كلام الله) في ثلاثة مواضع (١) ، وتعبير (كلامي) في موضعٍ واحد (٢).

ويُلاحظ أيضاً تعبير (كلمة ربّك) أو (كلمة الله) في موارد عديدة.

يُمكن الإستنتاج من مجموع هذه الموارد بأنّ صفة (متكلِّم) هي من إحدى صفات الله سبحانه وتعالى.

وكما قال «القوشچي» في «شرح تجريد العقائد» :

«إنَّ وصف الله بصفة (المتكلّم) لا ينحصر بالمسلمين فقط ، بل إنّ جميع أرباب الملك والمذاهب يعتقدون بكلام الله بالرغم من اختلاف وجهات نظرهم في تفسير معنى كلام الله وتكلّمه سبحانه».

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

١ ـ ما المقصود من كلام الله؟

هنالك اختلاف شديد بين المسلمين حول تفسير معنى كلام الله ، وفسّرته كل طائفة

__________________

(١) البقرة ، الآية ٧٥ ؛ التوبة ، الآية ٦ ؛ الفتح ، الآية ١٥.

(٢) الأعراف ، ١٤٤.

٢٩١

بشكل معيَّن : فقد قال جماعة من الحنابلة : إنَّ كلام الله مركّب من الحروف والأصوات القديمة والقائمة بذاته المقدّسة ، ثم أصرّوا على هذا الكلام التافه إلى الحدّ الذي قالوا : إنّ جلد القرآن أيضاً قديم وأزلي ناهيك عن رسوم حروفه.

وقالت جماعة اخرى : إنّ كلام الله معناه تلك الحروف والأصوات ، وهي أمور حادثة وقائمة بالذات الإلهيّة المقدّسة في نفس الوقت ، وتفاهة كلام هؤلاء ليس بأقلّ من الحنابلة.

وذهبت طائفة ثالثة إلى أنّ كلام الله معناه تلك الحروف والأصوات ، وهي حادثة وغير قائمة بذاته المقدّسة ، بل هي من زمرة مخلوقاته التي أوجدها الله في وجود جبرائيل أو الرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو شجرة موسى عليه‌السلام.

وقالت جماعة رابعة وهم «الاشاعرة» : إِنَّ كلام الله ليس من سنخ الأصوات والحروف ، بل هو مفاهيمٌ قائمة بذاته ويسّمونه (كلام نفسي) ، ويعتقدون بكونه قديماً (١) ، وحتى كانوا يعتقدون بكفر من يعتقد بحدوث كلام الله (أي القرآن) (وأوجبوا قتله!) (٢).

وقد شهدت القرون الأولى من تاريخ الإسلام نزاعات شديدة ودمويّة حول (كلام الله) وكونه حادثاً أو قديماً ، ووصلت الحالة إلى تكفير بعضهم الآخر ، نزاعات وقفنا اليوم على بطلانها ، ويمكننا القول وبجرأة : إنّها كانت من سياسة حكومات ذلك الوقت لتخدير الشعب المُسلمِ والعمل بسياسة (فرّق تسُدْ).

* * *

٢ ـ الإستنتاج النهائي

على أيّة حال فهنا توجَدُ مطالب عديدة ، جميعها واضحة ، ونعتقد بأن لا محلّ للمناقشة فيها.

١ ـ إنّ الله قادرٌ على إحداث أمواج صوتية في الفضاء ، وإيصالها إلى مسامع أنبيائه

__________________

(١) شرح تجريد العقائد للقوشچي ، ص ٤١٧.

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ، ج ١ ، ص ١٠٦.

٢٩٢

ورسله لإبلاغهم بهذه الطريقة ، كما ذكر القرآن حول تكليم الله موسى بن عمران عليه‌السلام في الوادي (الأيمن) ؛ حيث أوجد الله في تلك الشجرة المباركة الخاصّة أصواتاً دعا موسى بواسطتها إليه.

٢ ـ (التكلَّم) بمعنى التحدُّث باللسان وعن طريق الأوتار الصوتيّة ، من عوارض الأجسام ، ولا معنى له بخصوص الله المنزّه عن الجسمانيّة ، سوى ماذكرناه من إيجاد أمواج صوتية في الأجسام.

٣ ـ القرآن الكريم الذي في متناول أيدينا هو عين هذه الألفاظ والحروف التي قد تظهر في قالب الكلام أحياناً ، وفي قالب الكتابة أحياناً اخرى ، ولا ريب في أنّ كليهما من الحوادث ، وما قاله البعض من كون هذه الألفاظ والحروف قديمة أو وجوب الاعتقاد حتى بقدم جلد القرآن وأزليته ، خرافات لاتستحق أن نبحثها.

ويبدو أنّ الذين اعتقدوا بِقِدَم كلام الله ، كان منشأ اعتقادهم هو ذكر القرآن الكريم (التكلُّم) كإحدى صفات الله ، ومن هنا سمي القرآن بكلام الله ، هذا من جهة ، ومن جهةٍ اخرى هو كون وجود الله أزلياً ، إذن فصفاته يجب أن تكون أزلية أيضاً ، ومنه استنتجوا بأنّ كلام الله أزليٌّ أيضاً.

إنَّ هؤلاء وبسبب ضعف إدراكهم وقلّة معلوماتهم لم يستطيعوا التمييز بين (صفات الذات) و (صفات الفعل) ، فصفات ذاته أزليّة (كالعلم والقدرة) ، أمّا الصفات التي ينتزعها عقلنا بسبب صدور أفعال معينة من قِبَلِهِ جلّ وعلا ، فهي أمور حادثة ، لأنّ هذه الصفات غير قائمة بالذات الإلهيّة ، بل هي مفاهيم عقليّة منتزعة تحصل من ملاحظة أفعاله.

وبتعبيرٍ آخر لا شك من وجود أفعال إلهيّة حادثة كخلق السموات والأرض ، وخلق آدم ، ومسألة الرزق ، وغفران ذنوب العباد ، وإرسال الأنبياء والرسُل ، وعندما يُشاهد العقل صدور هذه الأفعال من جهته ينتزع منها صفات لله سبحانه (كالخالقيّة والرازقية والغفارية) ، ومن المسلَّم به أنّ هذه الصفات لم تكن تصدق على الله قبل أن يخلق موجوداً أو يعطيه رزقاً أو يشمله بمغفرته ، (طبعاً كان قادراً على هذه الأمور ، لكن الحديث لا يدور حول القدرة بل حول صدور عين هذه الأفعال).

٢٩٣

وبناءً على هذا فإنّ هذه الصفات التي تُدعى (صفات الفعل) تختلف عن (صفات الذات) القائمة بالذات الإلهيّة المقدّسة ، بل هي عين ذاته ، وعدم فهم هذه الحقيقة من قبل المعتقدين بقِدَم كلام الله وأزليته جرّهم إلى معتقدات مُضحكة كقدم جلد القرآن.

٤ ـ اضطرّ جماعة من الأشاعرة ، ممن كانوا يُدركون هذه المسائل ، إلى طرح مسألة (الكلام النفسي) ، الكلام الذي يُمكن أن يكون قديماً وقائماً بذات الله ، وقد تمسّك هؤلاء لإثبات هذا المطلب بالآية القرآنية التالية التي تتحدّث عن جماعة من المنافقين : (وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِم لَولَا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِمَا نَقُولُ). (المجادلة / ٨)

أو بالشعر المعروف عن (الأخطل) أحد شعراء العصر الأموي :

إنّ الكلام لَفي الفؤاد وإنّما

جُعِلَ اللسان على الفؤاد دليلاً

وأرادوا بهذا التخلُّص من التّضادّ الموجود بين حدوث كلام الله وقِدَم صفاته.

ولكنهم تورّطوا بهذا في مشكلةٍ أكبر ، وهي أنْ لو كان المقصود من الكلام النفسي هو (تصوير الألفاظ والجمل وإمرارها من الذهن والفكر) ، فإنّ هذه الأمور لا معنى لها بخصوص الله تعالى ، لأنّ ذاته المقدّسة ليست محلًّا لمثل هذه العوارض الجسمانيّة.

وإن كان المقصود منه علم الله الأزلي بمحتوى القرآن الكريم ، فلا ريب في أنّه تعالى قد أحاط علماً بجميع هذه الأمور منذ الأزل ، ولكن في هذه الحالة يعود الكلام النفسي إلى علم الله ولن يكون صفة مُستقلّة.

والخلاصة هي أنّ محتوى الكتب السماويّة كانت في علم الله دائماً (منذ الأزل) ، وهذا الشيء لا يخرج عن صفة (العلم) وأمّا عين الألفاظ والحروف فلا ريب من كونها حادثة ، ولا يوجد هنا شيء ثالث تحت عنوان (الكلام النفسي) ليكون قديماً ومغايراً لصفة (علم الله).

إنَّ هذه الأمور واضحة كلها ، لكنّه ومع الأسف الشديد فقد سوّدت النزاعات حول كون كلام الله قديماً أم حادثاً ، صفحات كثيرة من تاريخ الإسلام ، وسببت حوادث دامية.

فأحياناً مالت الحكومات إلى جماعة المعتزلة (كبعض خلفاء بني العباس) ، فأجبرت الجميع على الاعتقاد بحدوث كلام الله ، وضربوا أعناق البعض بسبب عدم اعترافهم بذلك.

٢٩٤

وفي المقابل ، كان الكثير من حكّام بني العبّاس يميلون إلى الأشاعرة ، ويضربون أعناق القائلين بحدوث كلام الله ، في حين أننا اليوم نعلم بأنّ كل هذه الأمور كانت ألاعيب سياسيّة ظهرت بشكل مسائل عقائدية ، وكان الحكّام الجبابرة آنذاك يلعبون بمعتقدات المسلمين من أجل بلوغ مقاصدهم المشؤومة ومواصلة تسلُّطهم على رقاب الناس.

* * *

٣ ـ (التكلُّم) في الروايات الإسلامية

نواصل هذا الكلام برواية منقولة عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، نقلها الشيخ الطوسي رحمه‌الله في (الأمالي) عن أبي بصير عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال :

«لم يزل الله جلّ اسمه عالماً بذاته ، ولا معلوم ، ولم يزل قادراً بذاته ولا مقدور ، قلتُ : جُعِلْتُ فداك : فلم يزل متكلّماً؟ قال : الكلامُ محدث ، كان الله عزوجل ليس بمتكلّم ثمّ أحدث الكلام» (١).

وقد نقل المرحوم الكليني قدس‌سره نفس هذا الحديث في الكافي مع تفاوُتٍ بسيط ، حيث ورد في ذيله بصراحة :

«إنَّ الكلام صفةٌ مُحدَثة ليستْ بأزليّة ، كان الله عزوجل ولا متكلّم» (٢).

تُبيّن هذه العبارات بوضوح الفرق الموجود بين (صفات الذات) و (صفات الفعل) ، صفات الذات التي كانت منذ الأزل كالعلم والقدرة ، ولا تحتاج (في تحقُّقها) إلى وجود المخلوقات ، أمّا (صفات الفعل) فهي صفات خارجة عن الذات الإلهيّة وقد انتزعها العقل عند صدور الأفعال من قِبَلِ الله تعالى ، ومنسوبة إليه (كالخالقيّة والرازقيّة) ، وصفة (التكلُّم) من هذا القبيل أيضاً لأنّها نوع من الفعل والحركة ، ونحن نعلم بأن ليس للحركة طريقٌ إلى الذات الإلهيّة المقدّسة.

* * *

__________________

(١) بحارالأنوار ، ج ٤ ، ص ٦٨ ، الباب ١ ، ح ١١ ،.

(٢) أصول الكافي ، ج ١ ، ص ١٠٧ (باب صفات الذات).

٢٩٥
٢٩٦

ب) الله عزوجل صادق

تمهيد :

بعد وصف الباري تعالى بصفة التكلُّم تتوجّه الأنظار إلى هذه الصفة وهي : «صدق الله» في كلامه.

إنّ هذه الصفة ، التي تعد من أهم الصفات الفعليّة ، تشكل العمود الأساس في الوثوق بدعوات الأنبياء ، لأنّه ـ نعوذ بالله ـ لو كان يُمكن تصور صدور الكذب عنه جلّ وعلا لما بقيت هنالك ثقة لا بمسألة الوحي ، ولا بالوعود الأخرويّة ، ولا بالأخبار التي تتحدث عن المعارف الدينيّة ، أو عن عوامل سعادة البشر وشقاوتهم ، وبتعبيرٍ آخر فإنّ أسس المسائل الدينيّة تنهار بصورة تامّة بنفي هذه الصفة.

ومن هنا يتضح مدى تأثير الإيمان بصدق الله في فهم حقائق الدين.

ولعل هذا هو السّر من ملاحظة وصف الباري في آيات قرآنية عديدة بالصادق وبتعابير متنوعة ومختلفة تماماً ، ومن زوايا متنوّعة.

بعد هذا التمهيد نعود إلى القرآن لنمعن خاشعين في الآيات القرآنية التالية :

١ ـ (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً). (النساء / ٨٧)

٢ ـ (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً). (النساء / ١٢٢)

٣ ـ (وَلَقَد صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ). (آل عمران / ١٥٢)

٤ ـ (قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) (١). (الأحزاب / ٢٢)

* * *

__________________

(١) وقد وردت نفس هذه المفاهيم في آيات قرآنية اخرى (كالذاريات ، ٥ ؛ الأنعام ، ١١٥ ؛ الزمر ، ٧٤ ؛ الفتح ، ٢٧ ؛ وكذا ورد تعبير «إنّا لصادقون» في الآية ١٤٦ من سورة الأنعام ؛ والآية ٦٤ من سورة الحجر).

٢٩٧

شرح المفردات :

إشتقتْ كلمة «صادق» من مادّة «صدق» ، وكما قال الراغب : إنّها ضدّ الكذب ، وبالأصل من أوصاف الكلام والأخبار ، فأحياناً صادقة وأحياناً كاذبة ، وأحياناً تُستعمل عرضاً في الإستفهام والأمر والدعاء أيضاً ، كأنّ يقول أحد : (أَفُلان في الدار) أي إنّه يقصد بأنّه لا يدري بوجود فلان في الدار أو عدم وجوده ، (لذا فقد نقول أحياناً : إنّه يكذب ، فهو يعلم بوجود فلان في الدار).

وَحقيقة الصدق هي تطابُق الحديث مع الأعتقاد والواقع ، لذا فلو تحدّث أحد طبق الواقع ولكن خلاف ما يعتَقِدُ به فهو كاذب ، كقول المنافقين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ» ، فقال تعالى ردّاً عليهم : (وَاللهُ يَشهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ). (المنافقون / ١)

وقد يُستعمل الكذب والصدق في مورد الأفعال والأعمال أيضاً ، فمن يؤدّي أعماله وفق وظيفته الواجبة يُدعى صادقاً ، وإذا عمل على خلافها يُدعى كاذباً ، فمثلاً يُقال لِمَن يؤدّي حق الحرب والقتال : (صدق في القتال) وإن لم يفعل يُقال (كذب في القتال) ، وآية : (لَقَد صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ) ، التي نزلت بشأن تحقق رؤيا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بخصوص فتح مكة ودخول المسلمين المسجد الحرام منتصرين ، نموذج على هذا المطلب (١).

وكلمة (صدقة) التي تُستعمل بخصوص الأموال التي يبذلها الإنسان في سبيل الله بقصد القربة ، إنّما سُميت بهذا الاسم لأنّ الإنسان يُصدّق بواسطتها إخلاصه بعمله ، وكذلك تسمية المهر (صداق) لأنّه دليل عمليٌّ على صدق الزوج إزاء زوجته.

ولكن ما قاله الراغب حول عناصر الصدق الأساسيّة ، ووجوب مطابقة الكلام للواقع ، واعتقاد المتكلّم ، محل اختلاف شديد بين العلماء ، فاعتقد البعض منهم كفاية تطابُقه مع المُعتَقد فقط ، واشترط البعض الآخر تطابُقه مع الواقع فقط ، ولا محل هنا لشرح ذلك.

هذا في حين اعتقد (ابن فارس) في (مقاييس اللغة» بأنّ أصل «الصدق) هو القوّة الموجودة في شيء وإنّما سُمي الكلام المطابق للواقع صدقاً بسبب قوّته ، لذا يُسمّى الرمح

__________________

(١) المفردات ، مادة (صدق) ، باختصار.

٢٩٨

القوي (رُمح صَدق) ، ومهر المرأة (صداق) لأنّه حق مفروض وذو قوّة.

ولكننا نعتقد بأنّ ما ورد في مفردات الراغب حول أصل هذه الكلمة أصَحّ.

ولسائر أرباب اللغة نفس هذا الرأي أيضاً ، ويُنقلُ في (شرح القاموس) عن (الخليل) أنّه قال : (الصدق) معناه : الكمال من كل شيء ، وأضاف قائلاً : إنّ إطلاق (صَدق) على الأشياء المستوية القويّة (كالرمح القوي) ينشأ من معنى الجَودة والقوّة (الصلابة) ، أي مايُقال بخصوص صلابته وجودته يُطابق الحقيقة ، وإذا كان الـ (صدق) يعني الصلابة والقوّة لأُطلق على كل شيءٍ قوي (صدق) ، في حين أنّه ليس كذلك.

«صدّيق» : معناه كثير الصدق أو من لا يكذب أبداً أو استحالة صدور الكذب منه لأنّه اعتاد على الصدق ، أو مَن يصدق في كُلٍّ من الإعتقاد والقول والعمل ، (كل هذا لكون كلمة صدّيق من صيغ المبالغة والتي يُمكن أن تكون في إحدى الأمور المختلفة المذكورة أعلاه).

ويُستعمل تعبير «لسان صدق» بخصوص الشخص الصالح من جميع النواحي ، وإن مُدِحَ وأُثنيَ عليه فهو عين الواقع.

وعلى أيّة حال ، فإنَّ وصف الباري بالصادق ينشأ من جهات متعددة : من جهة صدقه في أخباره ، وفي وعوده بإثابة المحسنين ومعاقبة المسيئين.

ومن جهة تنفيذه لجميع ما صرّح به في القرآن الكريم ، وسيأتي شرحه في تفسير آيات البحث.

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

تحدثت الآيتان الأولى والثانية حول أنّ الله سبحانه وتعالى أصدق كل شيء حيث قال تعالى وباستفهامٍ استنكاري : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) و (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) (١).

__________________

(١) قيل وقول : مصدر.

٢٩٩

وقد اعتقد بعض المفسّرين بأنّ التعبير بكلمة (أصدق) يخص الكميّة فقط (أي مَن هو أكثر صدقاً في الموارد) ، لا الكيفيّة ، لأنّ الكلام الصادق هو ما طابق الواقع وإلّا فهو كذب ، ولا يُمكن تصوُّر الزيادة والنقصان في كيفيته (١).

ولكن الحق هو إمكانية تصوُّر درجات مختلفة للصدق من حيث الكيفيّة ، وهو عندما يكون الواقع ذا أبعاد مختلفة ، فمن المسلَّم أنّ المتكلّم الذي يُطابق كلامه الواقع في جميع الأبعاد يُعتَبر أصدق ممن يُطابق كلامه الواقع في أبعاد مُعينَّة.

فمثلاً عندما يُشبّهُ مؤمنٌ (بسلمان الفارسي) ، والآخر يُشبَّهُ (بأبي ذر) ، فمن المسلَّم أن أصدقهما هو من أخذ بنظر الإعتبار في تشببهه أبعاداً أكثر.

والله أصدق حديثاً ممن سواه ، إنّما هو كذلك ، لكون منشأ الكذب إمّا من الجهل وعدم معرفة الواقع ، أو من الضعف والعجز والحاجة ، ولكون ذاته المقدّسة منزّهة عن جميع هذه الصفات ، فهو أصدق حديثاً.

وتحدثت الآيتان الثالثة والرابعة عن صدق الله في وعوده ، لكن الآية الثالثة تحدثت عن الوعد الإلهي حول النصر على الأعداء في معركة أُحد ، حيث انتصر المسلمون في البداية طبق هذا الوعد ، لكن تثاقل وعصيان جماعة منهم أدت إلى انكسارهم في نهاية الأمر ، قال تعالى : (وَلَقْدَ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) ، ولكن اختلافكم وتماهلكم وعصيانكم في نهاية الأمر أدّى إلى انكساركم ، والتقصير إنّما جاء من عندكم ، ولم يخلف اللهُ وعدَهُ.

وكان هذا ردّاً على من كانوا يعتقدون بأنّ هزيمتهم في معركة أُحد ، هي خلاف للوعد الإلهي.

أمّا الآية الرابعة فقد تحدثت عن لسان حال المؤمنين حول واقعة الأحزاب ، حيث إنّهم عندما وقفوا أمام جيش الأحزاب قالوا : (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ).

والكلام هنا يدور حول كُلّ مَن صدق الله وصدق رسوله الذي : (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى *

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٥ ، ص ٩٥ ، ذيل الآية ٨٧ من سورة النساء.

٣٠٠