نفحات القرآن - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-98-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٠٠

وأصل هذه الكلمة مأخوذ من «قَدْر وهو بمعنى مقياس شيء وكُنهه ونهايته ، والسّر في استعمال هذه الكلمة بخصوص الباري تعالى هو فعله كل مايريد وبأي مقدار كان ، واعطائه عبادَه أي مقدارٍ يريده هو سبحانه (١).

و «قدير» : و «قادر» كلاهما صفتان من صفات الله سبحانه ، وهما مأخوذان في الأصل من «التقدير» في الكميّة ، و «قادر» اسم فاعل ، و «قدير» صفة مشبّهة بالفعل أو صيغة مبالغة ، و «المقتدر» أبلغ منها (٢).

«يُعجِزُه» : في الأصل من مادّة «عَجُزْ» «بضم الجيم» ، وهي بمعنى ذيل الشيء و (عَجْز) على وزن «حَبْس» بمعنى التأخُّر عن شيء معين والوقوع في متابعة عملٍ ما ، وتأتي أيضاً بمعنى القصور والعجز عن أداء عملٍ ما في مقابل القدرة على ذلك العمل ، و «مُعْجِز» بمعنى الشخص أو الشيء الذي يُعجز الأخرين ، وإطلاق كلمة «عجوز» على المرأة المُسِنّة إنّما هو لعجزها وقصورها (ومن خلالِ تتبع مصادر اللغة المعروفة كمقاييس اللغة ومفردات الراغب نجد أنّ هذه الكلمة تُستعمل بخصوص النساء المُسِنّات فحسب) (٣).

«واسع» : من مادّة «سعة» ، و «وَسْع» وهي بمعنى السعة في مُقابل الضيق وتُسْتعمل بخصوص الأمكنة والحالات والأفعال ، لذا يُطلق على القدرة والتمكّن والإيجاد «الوُسعة».

أمّا سعة الله تعالى فهي إما أن تكون نابعة من سعة رزقه ورحمته التي وسعت كُلّ شيء ، أو من إحاطته تعالى بكل شيءٍ علماً ، أو من إحاطته الوجوديّة بجميع الأشياء ، يعني كثير العطايا وكثير العلم أيضاً. و «الواسع» كما ورد تعبير الـ «موسع» أيضاً في القرآن الكريم بخصوص الباري ، والذي فسرّه بعض أرباب اللغة أيضاً بمعنى القادر والغني (٤). وهنالك تفسير آخر لهذه الكلمة يخرج عن موضوع هذا البحث (٥).

__________________

(١) مقاييس اللغة ، مادة (قدر).

(٢) لسان العرب ، مادة (قدر).

(٣) مقاييس اللغة ؛ مفردات الراغب ؛ ولسان العرب.

(٤) المصادر السابقة.

(٥) راجع التفسير الأمثل ، ذيل الآية ٤٧ من سورة الذاريات.

١٢١

جمع الآيات وتفسيرها

إنّهُ عَلى كُلِّ شيءٍ قَدير :

بعد أنّ أشارت الآية الاولى إلى الملك الإلهي الأبدي وتسلطه تعالى على جميع عالم الوجود ، أكدت على قدرته المطلقة : (تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِه الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَديرٌ). (الملك / ١)

«تبارك» : من مادة «برك» وهي في الأساس بمعنى صدر البعير ، لذا عندما يضع البعير صدره على الأرض يُقال : (برك البعير) ، وهذه الكلمة جاءت هنا بمعنى البقاء وعدم الزوال.

ويُطلق على النعمة الدائمة الباقية (النعمة المباركة) ، واطلاق هذه الصفة على الذات الإلهيّة المقدّسة لازليتها وأبديتها.

وجملة : «بيده الملك» تُفيد الحصر ، أي أنّ الملك ومُقّدرات عالم الوجود بيده تعالى فقط.

وجملة : «وهو على كل شيءٍ قدير» ذات مفهوم واسع وعميق جدّاً ، فهي تعني أن القدرة الإلهيّة تشمل جميع مايمكن أن يكون في عالم الإمكان.

والجدير بالذكر أنّ هذه الكلمة «شيء» تُطلق على المعدوم بالقياس لإمكانية وجوده ، لذا فقولنا بأنّ الله قادر على الشي الفلاني المعدوم فعلاً ، يعني قدرته تعالى على إيجاده ، وإلّا فالقدرة على المعدوم لا معنى لها.

ويستعمل الإنسان مفهوم القدرة في دائرة محدودة خاصّة ، نظراً لحياته المحدودة وافقه الفكري الضيّق ووقوعه في أسر الظروف التي تطبّع عليها ، في حين نجد أنّ الآية أعلاه قد كسرت جميع هذه القيود وبّينت امتداد وشمول قدرة الباري إلى ما وراء هذه القيود والظروف ، والشي الوحيد الخارج عن دائرة القدرة الالهيّة هو الامور المستحيلة فقط ، وذلك لأنّها بذاتها لا تقبل الوجود ، ولا يصح عادة استعمال لفظة القدرة بشأنها.

وقد تقدم في البحث اللغوي أنّ كلمة (قدير) ولكونها صفة مشبّهة أو من صيغ المبالغة ،

١٢٢

فهي تفيد المبالغة وذات مفهوم أوسع من مفهوم (قادر) ، ولعلّ هذا هو السر في استعمال أغلب الآيات القرآنية لهذه الكلمة عند وصف القدرة الإلهيّة.

لذا فقد تحدثت الآيات التي تلت هذه الآية عن خلق الإنسان ، والموت والحياة ، وخلق السموات السبع ، والنجوم ، ودفع الشياطين والتي تعتبر كل منها نموذجاً من عجائب عالم الوجود.

* * *

الهدف من خلق الكون هو معرفة قدرته سبحانه :

بعد أن ذكرت الآية الثانية خلق السموات والأرض ، بيّنت أنّ الهدف الأصلي من جميع ذلك هو إطلاع العباد على سعة قدرة الله وعلمه سبحانه : (اللهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا انَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَديرٌ). (الطلاق / ١٢)

وعليه فإنّ خلق السموات العريضة والأرضين الواسعة ، والتدبير الدائم والمستمر الموجود فيما بينها ، يُعتبر بحد ذاته أفضل دليلٍ على عموميّة وشموليّة القدرة الإلهيّة لكل شيء ، لأنّ هذه المجموعة المتنوعة تحتوي على كل ألوان الممكنات.

وهناك بحوث كثيرة حول معنى السموات السبع ، والأرضين السبع ، ذكرناها في التفسير الأمثل (١).

* * *

بيده الحياة والموت :

أمّا الآية الثالثة ، فعلاوة على طرحها مسألة اختصاص تلك السموات والأرض بالباري تعالى ، ذكرت استمرار ظاهرتي حياة وموت الموجودات كواحدة من أدلة قدرته سبحانه :

__________________

(١) راجع التفسير الأمثل ذيل الآية ١٢ من سورة الطلاق.

١٢٣

(لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِى وَيُميْتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَديرٌ). (الحديد / ٢)

إنّ مسألة إيجاد الحياة والموت معقّدة وعجيبة إلى درجة أنّ القدرة عليها تعتبر دليلا" على اطلاق وعموميّة القدرة الإلهيّة.

أجَل ، هذه هي المسألة التي حارت فيها عقول العلماء ، وحاروا في معرفة القوانين المتحكمة بها لعلهم يتمكّنون من خلق خلية حيّة من الجمادات وبالإستعانة بوسائل معينة ، فى الوقت الذي نجد أنّهم توصّلوا إلى أسرار معقدة جدّاً من قبيل (غزو الفضاء والصناعات العظيمة وصناعة العقول الألكترونية الدقيقة).

أجَل ، فمن حولنا يوجد مئات الألوف بل الملايين من أنواع الكائنات الحيّة التي يَحارُ البشر آلاف السنين في فهم أسرار تركيب إحداها!

ألا تدل هذه الخلائق العجيبة على أنّ قدرة الباري مطلقة وغير محدوده؟!

* * *

تطورات الحياة دليلُ على قدرته تعالى :

تطرقت الآية الرابعة إلى هذه المسألة من طريقٍ آخر ، وضمن ذكرها لحالات الإنسان المختلفة ، وانتقاله من حالٍ إلى آخر بإذن الله تعالى ، وذكرها لخلق مختلف المخلوقات ، فقد بيّنت عموميّة القدرة والعلم الإلهي : (اللهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَليمُ الْقَديرُ). (الروم / ٥٤)

حقاً ، إنّ ملاحظة تطوّرات الجنين ومراحل حياة الإنسان المختلفة ومنحني قدرته التصاعدي والتنازلي الذي يبدأ من نطفة ويصل في قمة المنحني إلى إنسان قوي ومتفكّر وذكي ذي قدرة على تخيّل وإنجاز مسائل كثيرة ، ثم ينزل حتّى يصير موجوداً عاجزاً حتى أعجز من الطفل أحياناً من حيث القدرة الجسميّة والفكريّة ، وملاحظة جميع هذه التحوّلات السريعة العجيبة ، يوحي ويحكي عن قدرته تعالى على كل شيء.

لذا نجد أنّ القرآن الكريم ومن أجل إثبات عموميّة العلم الإلهي والقدرة الإلهيّة ، قد دعا

١٢٤

الإنسان للتفكّر في السموات العلى تارةً ، وللتفكر في وجوده الشخصي والتحوّلات العظيمة التي تُلازمه منذ انعقاد النطفة إلى حين الموت تارةً أُخرى.

وتعبيره بعبارة (خلقكُم من ضعفٍ) بدرجة من المتانة حتى كأنّ الإنسان مخلوق من مادتي الضعف والعجز! والحق كذلك ، فنطفة الإنسان بدرجة من الضعف بحيث تفنى لأدنى سبب.

ولكن أرجع البصر وانظر إلى حقيقة ذلك الموجود القوي الذي ينشأ من هذه النطفة الحقيرة ، ويطوي آفاق السماء والأرض ، ولا يقنع بحدّ معينٍ من القدرة والتطوّر العلمي والصناعي ، وعندما يطوي المرحلة التنازلية من منحني القدرة ، يعود إلى نفس ذلك الضعف البدائي!

إنّ كلَّ هذا يدل على قدرة ذلك الخالق الحكيم اللامحدودة.

* * *

المالكية والقدرة :

وفى الآية الخامسة يُلاحظ بعد ذكرها مالكيّة وحاكميّة الباري على السموات والأرض وما فيهنّ ، بيّنت أنّه سبحانه على كُلّ شيءٍ قدير :

(للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ). (المائدة / ١٢٠) وبديهي أنّ سبب هذه الحاكميّة والمالكية هو خالقيته تعالى ، وقطعاً أنّ من خلق جميع هذه المخلوقات المتنوّعة هو على كُلّ شيء قدير ، وبالحقيقة أنّ صدر الآية دليلٌ على ذيلها.

ويحتمل أن يكون هذا التعبير لقطع أمل المشركين بالأصنام وهدايتهم إلى الباري ، ليعلموا أنّ مقدَّرات جميع الأمور ومقاليدها بيده تعالى ، أو لنفي ودحض عقيدة المسيحيين فى تأليه عيسى عليه‌السلام ، والتي ورد ذكرها في الآيات السابقة لهذه الآية من نفس السورة.

وعلى أيّة حال فهو أساس لقلع جذور الشرك بجميع أشكاله.

١٢٥

ويجدر الإلتفات إلى أنّ كلمة «مِلك» ـ بكسر الميم ـ تعني سلطة الإنسان على شيء معين ، و «مُلك» ـ بضم الميم ـ تعني التحكُّم بنظام اجتماعي معين ، وبتعبيرٍ آخر فالمصطلح الأول له حالة فردية والثاني له حالة اجتماعية وهو نفس ما يَرِدُ في تعابيرنا اليومية عندما نعبّر عنه ب (المالك) و (الحاكم).

* * *

قدرته تعالى على اعادة الخَلق :

أشارت الآية السادسة إلى مسألة «المعاد» وقدرة الباري على إحياء الموتى في الآخرة ، لتكون ردّاً على من شكّكوا في المعاد الجسماني وورد ذكرهم في الآية السابقة لهذه الآية في قوله تعالى : (ذَلِكَ جَزَاؤُهُم بِأَنَّهُم كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُواءَإِذَا كُنَّا عِظَامَاً وَرُفَاتاًءَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) فأجابهم القرآن في قوله تعالى : (اوَلَمْ يَرَوا انَّ اللهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى انْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ). (الاسراء / ٩٨ ـ ٩٩)

جملة (أو لم يَرَوا) بمعنى (أولم يعلموا؟) باعتبار أنّ المقصود من الرؤية المذكورة فيها هو الرؤية القلبية ، ومصدر هذا العلم والإطلاع هو نفس تلك القاعدة العقلية التي تقول : (حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لايجوز واحد) ، أي أنّ الموضوعات المتشابهة لها حكم واحد دائماً ، فإن كان أحدها ممكناً فانّه يسري على سائر الموضوعات فتكون ممكنة جميعاً ، وإن كان محالاً فالجميع محال.

* * *

قدرته تعالى على إحياء الموتى :

بعد أن أشارت الآية السابعة إلى قدرة الله تعالى على إحياء الموتى في عالم الآخرة ، ذكرت هذا المعنى بتعبير آخر حيث قال تعالى : (اوَلَمْ يَرَوا انَّ اللهَ الَّذى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى انْ يُحْىَ الْمَوْتى بَلَى انَّهُ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ) (١). (الأحقاف / ٣٣)

__________________

(١) «يعي» من مادة «عي» بمعنى العجز عن أداء عمل ما ، وتطلق هذه اللفظة على حالة العجز عن الكلام أيضاً.

١٢٦

أكدت هذه الآية أيضاً على أنّ خلق السموات والأرض بعظمتها وتنوّعها دليلٌ على قدرة الباري على إحياء الموتى من جهة ، وقدرته على كل شيء من جهةٍ اخرى ، لأنّ جميع ما يمكننا تصوّره إنما هي نماذج في عالم الوجود. والموت والحياة ، وكذلك الكائنات المجهرية والمخلوقات العظيمة جدّاً بكل أبعادها ومن كل شكلٍ ولونٍ ونوع وجنس ، فخلقها من قبل الباري تعالى ، يُعد أفضل دليل على شمولية وهيمنة القدرة الإلهيّة.

* * *

قدرته تعالى على تبديل الأقوام :

ذكرت الآية الثامنة مسألة القدرة الإلهيّة بقَسَم إلهي عميق المغزى ، قال تعالى : (فَلَا اقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ). (المعارج / ٤٠)

قد يُشكِل ذوي الملاحظة السطحية ويقولون : كيف يصح إثبات القدرة الإلهيّة بقَسمِهِ سبحانه؟ ويتضح الجواب عن هذا السؤال من محتوى القسَم) ربّ المشارق والمغارب) ، لأّن (المشارق والمغارب) إشارة غنيّة جدّاً إلى خلق العالم العظيم بنظامه الدقيق ، ففي كلّ يوم تشرق الشمس من مشرق جديد وتغرب في مغربٍ جديد ، واستمرار هذه العملية على مدى ملايين السنين ، وخلق الشمس بعظمتها هذه ، وخلق الكرة الأرضية بكل أسرارها ، والنظام الدقيق الذي يتحكم في حركتهما ، لَخَيْر دليلٍ على شمول القدرة الإلهيّة لكُلّ شيء ، ومنها تبديل جماعة من الكفار المعاندين بأُناسٍ خيرٍ منهم.

هذا فيما إذا فسّرنا القَسَم الوارد في هذه الآية بأنّهُ يتعلِّق بمشارق الأرض ومغاربها طبعاً ، أمّا إذا فسّرناه بمشارق ومغارب الكرات والمنظومات الشمسيّة الفضائية ، لاتضح سعة معناه بصورة أفضل.

والنكتة اللطيفة في أنّ الله تعالى يُقسم نيابة عنهم برب المشارق والمغارب بأنّه قادر على تبديل الأقوام بآخرين خيرٍ منهم ، هي التنبيه إلى أنّ القادر على إخفاء هذه الشمس العظيمة في افق المغرب وإظهارها في اليوم التالي من مشرقٍ جديد ، لَقادر على تبديل هؤلاء القوم بخيرٍ منهم.

١٢٧

وما كان الله ليعجزه من شيء :

طرحت الآية التاسعة مسألة عموميّة القدرة الإلهيّة في بُعدين :

الأول : نفي كل ألوان العجز عنه سبحانه ، والثاني : قدرته على كُلّ شيءليكون المعاندون على بصيرةٍ من أمرهم من هذه الناحية ، قال تعالى : (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شِىءٍ في السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ انَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً). (فاطر / ٤٤)

وفى هذه الآية لا نجد استدلالاً صريحاً على قدرة الله تعالى في أيّ من جملتي هذه الآية ، لكن الإشارة الإجمالية إلى السموات والأرض والنظام الدقيق الموجود فيهنّ ، بمثابة دليل على علم الله سبحانه وقدرته المطلقة.

والهدف من ذكر هذا الموضوع في الآية الشريفة وبقرينة صدر الآية ، هو تحذير المشركين ، والمعاندين والظالمين ، وإعلامهم بأن سلب قوتهم وقدرتهم لَيَسير جدّاً على الله تعالى كما حصل في الأمم السابقة.

وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن منشأ العجز عن شيءٍ إمّا الجهل الذي يسلب من الشخص القدرة على مواجهة الحوادث ، وإمّا الضعف وعدم القدرة ، أَما العالم القادر فلا يغفل عن الحوادث ولا يعجز عن مواجهتها.

* * *

هو الوهاب القدير :

وبالتالي فقد طرحت الآية العاشرة والأخيرة من بحثنا نفس هذا المعنى بشكل آخر ، وبدون أن تذكر مصطلح القدرة أو تنفي العجز عن الله تعالى ، قال سبحانه : (قُلْ انَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ). (آل عمران / ٧٣)

مع أنّ أكثر المفسّرين قالوا : إنّ كلمة (واسع) هنا تُشير إلى سعة الرحمة الإلهيّة ، أو سعة قدرته ، أو كرمه ووجوده سبحانه ، ولكن من المسلَّم أن تفسيراً كهذا يحتاج إلى تقدير شيءمحذوف ، في حين أنّ الحذف والتقدير على خلاف القاعدة ولا يصح بدون قرينة.

١٢٨

فظاهر الآية يوحي أنّها تتحدث عن سعة وجود الباري تعالى ، وطبعاً أنّ سعة وجوده تضمُّ كافّة هذه المعاني والمفاهيم ، من قدرته المطلقه ورحمته الواسعة وكرمه اللامحدود.

لذا قال الفخر الرازي في تفسيره : لأنّ كونه واسعاً يدل على كمال القدرة ، وكونه عليماً على كمال العلم ، فيصح منه لمكان القدرة أن يتفضل على أي عبد شاء بأي تفضل شاء ، ويصح منه لمكان كمال العلم أن لا يكون شيء من أفعاله إلّاعلى وجه الحكمة والصواب (١).

* * *

نتيجة البحث :

يُمكن الاستنتاج من مجموع الآيات السابقة أنّ القدرة الإلهيّة لا تعرف أيّ لونٍ من التحديد والتحجيم ، وخلق السموات والأرض وأنواع الموجودات وخصوصاً مسألة الحياة والموت ، خيرُ دليلٍ على هذا المفهوم.

والغاية من تأكيد الآيات القرآنية على هذه المسألة هي إثبات المعاد والحياة بعد الموت تارةً ، ولتحذير المغرورين الأنانيين تارةً اخرى ، وكذلك لزرع الاطمئنان في قلوب الصالحين والمؤمنين ليسألوه حلّ مشاكلهم ويلتجئوا إليه في امورهم ، ويخشونه ولا يخشون أحداً غيره.

* * *

توضيح

الأدلة على القدرة الإلهيّة المطلقة :

هنالك أدلة مختلفة لاثبات هذه المسألة بعضها علمية ، والاخرى فلسفيّة :

١ ـ الدليل العلمي : (والمقصود من العلم هنا هو العلوم التجريبية) : عندما نجلس في بيتنا ونفكّر في محيطنا المحدود الضيّق فقط ، نجد أنّ الدنيا صغيرة وبسيطة. ولكن لو خرجنا من هذه الدائرة الضيّقة وذهبنا إلى الغابات والمزارع والحقول ، وقمم الجبال

__________________

(١) التفسير الكبير ، ج ٨ ، ص ١٠٥.

١٢٩

الشاهقة ، وأعماق البحار الواسعة ، ولو طرنا بأجنحة الخيال وتصورنا عظمة الفضاء والكواكب السيارة ، ثم نزلنا وتوغّلنا في أعماق الذرّة وأسرارها لَتجسَّمت لنا عظمة الوجود العجيب.

فهنالك آلاف الأنواع من النباتات المختلفة في التركيب بصورة تامّة ولها خواص متنوعة ، ابتداءً من النباتات المجهريّة السابحة في أمواج البحار ، وانتهاءً بالأشجار التي يبلغ طولها خمسين متراً أو أكثر! ومن قصب السُّكر الحلو وحتى الحنظل المُر ، ومن العقاقير الحياتية المودعة في أوراقها وأزهارها وجذورها إلى أنواع السموم القاتلة.

وكذلك ملايين الأنواع من الحيوانات والحشرات والأحياء التي تبلغ من الصِغر أحياناً بحيث لا يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة ، ومن الكبر أحياناً اخرى بحيث يتعدى طول بعضها الثلاثين متراً (كبعض الحيتان التي تعتبر اكبر الحيوانات على الأرض).

وقد بلغ وزن القلب لدى بعضها ألف كيلو غرام! في حين أنّه أصغر من حبّة الحمّص في البعض الآخر.

وبعضها بدرجة من الخفّة بحيث تحلّق في جو السماء بسرعة ، وبعضها الآخر أقوى من الفولاذ بحيث تتحمل ضغط الماء العظيم في أعماق البحار.

وهنالك نجوم متفاوتة مع بعضها من حيث الكبر والصغر ، والبعد والقرب ، والوزن وسرعة الحركة وبقية الصفات الاخرى ، وكل واحدة ذات عالمٍ خاص.

وكذلك تركيب الخلايا والذرّات ونظامها العجيب المذهل ، فكل واحدة منها تُجسّمُ لنا عالماً جديداً.

والألطف من جميع ذلك هو أنّ جميع هذه الموجودات العجيبة الموجودة في عالم الوجود مركّبة من أصلٍ واحد ، والكائنات الحيّة مركّبة جميعها من الخلايا الصغيرة ، وكل عالم المادة مركب من وحدات صغيرة تُدعى الذرّة!

إنّ هذا التنوع البسيط والمحكَم في نفس الوقت الذي نراه في الكتاب التكويني يشبه بالضبط ذلك النوع الملحوظ في الكتاب التدويني أي (القرآن الكريم) ، فكل تلك

١٣٠

المحتويات والمعارف الإلهيّة العظيمة مصبوبة في قالب ألفاظٍ مركّبة من هذه الحروف الأبجدّية البسيطة!

ومن مطالعة مجموع هذه المسائل ، نتوصل إلى أن مُبدي عالم الوجود ذو قدرة لامحدودة ، ولا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض.

٢ ـ برهان الوجوب والامكان (برهان فلسفي) : عرفنا في بحث إثبات وجود الله أنّ الوجود لا يتعدى إحدى حالتَين : إما مستقلّ بالذات ويُدعى (واجب الوجود) ، أو محتاج إلى غيره ويدعى (ممكن الوجود).

وكذلك ثبت في بحث التوحيد ووحدة الذات الإلهيّة المقدّسة بأنّ (واجب الوجود) في هذا العالم واحد لا أكثر ، وكل ما سواه (ممكن الوجود) ، وجميع الممكنات محتاجة إليه تعالى لا في بداية إيجادها فحسب ، بل في بقائها واستمرارها. وهذا بحد ذاته مظهر وبرهان على قدرة الله على كل شيء (فتأمل جيداً).

٣ ـ برهان سعة الوجود (برهان فلسفي) : من المؤكد أنّ سبب عجزنا عن إنجاز عملٍ معين هو نقصنا ، فمثلا لو عجزنا عن زراعة أرض معينة فالسبب في ذلك إمّا لكون مساحة الأرض أكبر من قدرتنا وطاقاتنا ، أو لعدم امتلاكنا الوسائل اللازمة لزراعتها ، أو لأنّ الأرض سبخة وليس بمقدورنا تحويلها إلى أرض زراعيّة.

لذا فلو كانت قدرتنا على الزراعة مطلقة ، وكانت الأرض بالنسبة لنا صالحة للزراعة مهما كانت مساحتها ، وكنّا في غنىً عن الوسائل الزراعية لاستطعنا زراعة أي أرضٍ وبدون استثناء.

لذا فأي مشكلة تحدث في طريقنا هي في الواقع تنبع من محدودية وجودنا.

اذن ، كيف يُمكن أن يعجز الوجود المطلق من كل ناحية عن شيء معيّن!؟ وبتعبيرٍ آ خر إنّ الله سبحانه حاضر في كل مكان وبيده مقدّرات جميع الأمور ، لذا فهو قادر على ازالة كافّة الموانع ، وهذا دليل قدرته على كل شيء.

٤ ـ الله قادر مختار : كما أشرنا سابقاً إلى أنّ المقصود بالقدرة الإلهيّة هي القدرة المقرونة مع الاختيار.

١٣١

وقد استدل الفلاسفة وعلماء الكلام على كون الله تعالى فاعلاً مختاراً بأنّ الفاعل على نوعين : إمّا (مخيّر) ، وإمّا (مُسيَّر) كتأثير الشمس في المنظومة الشمسيّة وموجوداتها.

فلو قلنا : إنّ خالق العالم فاعل مسيّر ، لوجب التسليم بأحد الأمرين : إمّا بأنّ الوجود قديم ، وإمّا بأنّ الذات الإلهيّة حادثة ، لأنّ الفاعل المسيَّر لا ينفصل عن فعله أبداً.

أمّا كون هذا العالم أزلي فغير ممكن ، لأننا عرفنا دلائل حدوث العالم في بحث وجود الله سبحانه.

والقول بحدوث الذات الإلهيّة المقدّسة يستلزم إنكار وجوده تعالى ، لأنّها لو كانت حادثة لاحتاجت إلى علّة ، إذن فهو ليس بواجب الوجود والحالة هذه.

وبتعبير آخر لو كانت خالقية الباري كأشعة الشمس لاستلزم أن يكون هذا الكون قديماً وازلياً ، لأنّ إرسال الشمس لأشعتها لا إراديّ وهو ملازم لوجودها دائماً وأبداً.

لذا نستنتج بأنّ الله تعالى فاعل مختار ، وأنّ ذاته المقدّسة أزلية وفعله حادث ، وكلما أراد شيئاً يتحقق بدون فاصلة زمنية.

سؤال : من المعلوم أنّ كلمة الفاعل المختار تعني المريد ، ونعلم أنّ الإرادة كيفيّة نفسانية تَعرض على صاحبها ، وهذا المفهوم يتعارض مع حقيقة ذات الباري تعالى ، لأنّ ذاته لا تقع محلاً للحوادث ، فكيف نفسّر إرادة الله تعالى؟

الجواب : بالرجوع إلى ما ذكرناه في بحث الإرادة الإلهيّة (في ذيل صفة علم الله تعالى) يتضح جواب هذا السؤال ، وهو عدم إمكانية تطبيق ومقايسة مفهوم الإرادة الذي نجده في أنفسنا مع مفهومها بالنسبة للذات الإلهيّة ، كما هو الحال في صفة العلم ، فالعلم الحصولي الموجود فينا والحادث بالنسبة لنا لا معنى له أبداً بخصوص الذات الإلهيّة المقدّسة.

والإرادة الإلهيّة الذاتية ـ كما شرحنا ذلك سابقاً تتشعَّب من علمه سبحانه ، وهي عبارة عن (علمه بالنظام التكويني الأحسن) الذي هو علّة خلق الأشياء والأحداث الواقعة في الأزمنة المختلفة.

١٣٢

إذن إرادته أزليّة وآثارها تدريجيّة (تمعّن بدقة).

ولزيادة الإطلاع حول هذا الموضوع ، وحول التفاوت الموجود بين الإرادة الإلهيّة «الذاتية» و «الفعلية» راجع بحث الإرادة في نفس هذا الجزء.

٥ ـ المخالفون لشمول القدرة الإلهيّة : في نفس الوقت الذي أقرّ بعض الفلاسفة والمتكلمين بالقدرة الإلهيّة بدون أي مناقشة ، نجدهم قد توقفوا في مسألة عموميّتها ـ بسبب مواجهتهم لبعض الإشكالات التي عجزوا عن حلّها ، ومن جملة هؤلاء :

١ ـ الفلاسفة والمتكلمين المجوس : ومن المعلوم أنهم قسّموا جميع موجودات العالم إلى مجموعتين : (الخير) و (الشر) ، واعتقدوا بأنّ لكل واحدة منها خالقاً خاصاً ، فخالق الخير لا يُمكن أن يخلق الشّر ، والعكس صحيح ، لذا فقد اعتقدوا بتعدُّد المبدي : إله الخير (يزدان) ، وإله الشّر (أهريمن) ، بَيدَ أن خطأهم الفادح ناجم من تقسيم الموجودات منذ البداية إلى مجموعتي الخير والشر ، لأنّ التحقيقات الدقيقة تُشير إلى عدم وجود (الشر المطلق) في عالم الوجود ، بل مانسميّه نحن بالشر قد يكون ذا جنبة عدميّة كالفقر والجهل ، فالأول بمعنى عدم المال والثروة ، والثاني بمعنى عدم العلم ، ونحن نعلم بأنّ العدم ليس شيئاً يحتاج إلى خالق.

وأمّا ما كان ذا جنبة نسبية كلسعة الحشرات التي تعتبر شرّاً بالنسبة للشخص الملسوع فهي في الحقيقة وسيلة دفاعية بالنسبة للحشرات اللاسعة ، وتعتبر خيراً لأنّها وسيلة لتأمين بقائها.

علاوة على أنّ الكثير من الأمور الوجوديّة نعتبرها شرّاً بسبب جهلنا لأسرارها ، لذا وبعد حصول التطور العلمي واكتشاف أسرارها نُقرُّ بضرورتها ، كالعواصف الثلجية الباردة التي تقضي على الكثير من الآفات النباتية ، أو الحّر الشديد الذي يؤدّي إلى نمو أنواع النباتات وتبخُّر كمياتِ كبيرة من مياه البحار الذي يؤدّي بالتالي إلى هطول الأمطار المفيدة وما شاكل ذلك. لذا فعندما ننزع نظارات الشّر عن أنظارنا ، وننظر إلى الوجود بنظرة خير ينتفي موضوع هذه العقيدة الثنوية ، وهناك توضيحات أوسع حول هذا الموضوع سنطرحها في

١٣٣

بحث العدل الإلهي إن شاء الله تعالى.

٢ ـ المفوّضة : قالت هذه الجماعة : إنّ الله سبحانه ليست له قدرة على أعمالنا ، أو بعبارة اخرى : إنّ أفعال الإنسان خارجة عن دائرة قدرته تعالى ، وإلّا لزم (الجبر) ، لأنّ أفعال الإنسان لو كانت في دائرة القدرة الإلهيّة لحصل التضاد ، حيث يحتمل أن يريد الله تعالى فعلاً معيناً ، ويريد عبادُهُ غير ذلك!.

وخطأ هذه الجماعة ينشأ من اعتقادهم بأنّ قدرة الله تعالى على أفعالنا تتعارض مع قدرتنا على أساس أنّهما في عرض واحد ، غافلين عن أن هاتين القدرتين تقعان في طول واحد.

توضيح ذلك : إنّ الله تعالى قد خلق البشر ومنحهم الحريّة والقدرة على اتخاذ القرار ، وقادر على سلبها منهم متى شاء ، لذا فانّه سبحانه هو الذي أراد أن يكونوا فاعلين مختارين ، وعليه فإنّ أفعالهم غير خارجة عن دائرة قدرته ، لأنّ هذه الحريّة من عطائه ومتطابقة مع إرادته ومشيئته سبحانه.

وسيأتي توضيح أكثر حول هذا الموضوع في بحث الجبر والتفويض.

٣ ـ إعتقد بعض أهل السُّنة : (جماعة النَظّام) بأنّ الله تعالى غير قادر على فعل القبيح ، لأنّ الأفعال القبيحة إمّا أن تكون بسبب الجهل ، وإمّا بسبب الحاجات الكاذبة ، وبما أنّ الله تعالى منزّه عن الجهل والحاجة ، لذا فهو غير قادر على فعل القبيح أبداً!

والخطأ الذي وقعت فيه هذه الجماعة ينشأ من عدم تمييزهم بين (الإمكان الذاتي) و (الإمكان الوقوعي).

توضيح ذلك : إنّ بعض الأمور مستحيلة ذاتاً كاجتماع الضدين ، أو النقيضين ، وهو الجمع بين الوجود والعدم في حالة واحدة ، ويُطلق على هذا النوع بالمستحيل الذاتي.

أمّا الأمور غير المستحيلة ذاتاً لكنها لا تصدر من حكيمٍ كالباري تعالى مثل الظلم والفساد والأفعال القبيحة الأُخرى ، فيطلق عليها بالمستحيل الوقوعي.

ومن المسلّم به هو أنّ الله تعالى قادر على الظلم لكن حكمته تمنعه من ذلك.

١٣٤

وقد يصدق هذا الكلام بخصوصنا أحياناً ، فنحن نستطيع أن نلقي بأنفسنا في النار ، أو نضع جذوة من النار في أفواهنا ، أو عيوننا ، ولسنا بعاجزين عن القيام بهذا الفعل ، لكننا لانقوم به أبداً ، لأنّ عقولنا لا تسمح لنا بمثل ذلك ، فهذا مستحيل وقوعي لا ذاتي.

٤ ـ اعتقد بعض الفلاسفة : بأنّ الذات الإلهيّة المقدّسة ، ولكونها واحدة من كل ناحية ولا تقبل الكثرة والتعدُّد ، فلا يصدر منها سوى مخلوق مجرّد واحد رفيع جدّاً سموه «العقل الأول» ، واستندوا في معتقدهم هذا على القاعدة المعروفة التي تقول «الواحِدُ لا يصدُر منه إلّا الواحد».

لذا فهم يقولون : إنّ المخلوق الإلهي الوحيد هو ذلك الموجود المجرّد الأول ، لذا ومن حيث إنّ «العقل الأول» ذو جهات متعددة (له وجود من جهة ، وماهيّة من جهةٍ اخرى ، ذاتاً «ممكن الوجود» من جهة ، و «واجب الوجود» بالعرض من جهة اخرى) ، فبسبب جهات الكثرة هذه ، نشأت منه معلولات مختلفة ، لذا فمنشأ الكثرة في عالم الوجود هي الكثرة الموجودة في العقل الأول والمراتب البعدية حاصلة منه.

وقد اعتمدوا لإثبات القاعدة أعلاه على مسألة «السنخيّة بين العلّة والمعلول» ، وقالوا : لولا ضرورة السنخيّة بين العلّة والمعلول ، لأمكن أن يكون كل موجودٍ علّةً لأي معلول ، لكن لزوم السنخيّة يحول دون هذا الأمر ، وعندما نقر بوجوب السنخيّة بين العلّة والمعلول ، يجب علينا أن نقر بأنّ العلّة الواحدة من كل ناحية تستلزم أن لا يكون لها أكثر من معلولٍ واحد. (تأمّل جيّداً) (١).

ويُمكن الرد على هؤلاء بعّدة طرق :

أ) على فرض صحة هذا الاستدلال ، فإنّه لا يُفهم منه محدوديّة القدرة الإلهيّة ، بل هو على كُلّ شيء قدير ، لكن قدرته بالنسبة «للعقل الأول» بدون واسطة ، وبالنسبة للموجودات الاخرى مع وجود واسطة ، وكلاهما يعتبران في حدود المقدور ، فما الفرق بين أن يُباشر الإنسان عملاً معيناً بيده ، أو بوسيلة وأداة معينة من صنعه؟ فالفعل فعله في كلتا الحالتين.

__________________

(١) تلخيص من نهاية الحكمة ، ص ١٦٦.

١٣٥

ب) ما قيل بخصوص قاعدة (الواحد لا يصدر منه إلّاالواحد) لا يصح تطبيقه على الفاعل المختار بنظر بعض المحققين.

لذا فقد طرح المرحوم «العلّامة الحُلي رحمه‌الله» هذه المسألة في «كشف المراد» بشكل أمر بديهي وقال : «المؤثّر إن كان مختاراً جاز أن يتكثّر أثره مع وحدته ، وإن كان موجباً فذهب الأكثر إلى استحالة تكثُّر معلوله» (١).

وعليه فقد جعل (الفاعل الموجَب) مركز بحثه لا (الفاعل المختار) ، ثم نقل استدلال القائلين بوحدة الأثر في الفاعل الموجب ورَدّهُ (٢).

والحقيقة أنّه لا يوجد أي دليل على شمول القاعدة المذكورة للفاعل المختار ، فهو مجرّد ادعاء محض.

ج) بغض النظر عن جميع ذلك فإنّ قانون «السنخيّة بين العلّة والمعلول» محل إشكال حتّى في غير الفاعل المختار ، لأنّه لو كان المراد من السنخية هو السنخّية والتشابه من جميع الجهات ، فهو مستحيل التحقق بين «واجب الوجود» و «ممكن الوجود» ، فالممكنات مهما تكن فهي متباينة مع واجب الوجود في جهات كثيرة ، فلو اشترطنا السنخيّة التامّة وفي جميع الجهات ، فكيف يمكن أن يخلق وجود غير مادي موجودات ماديّة؟

ولو كان المراد منها السنخيّة الإجماليّة ، فهي متحققة بين الخالق والموجودات المتكثّرة والمتعددة ، لأنّها جميعاً تشترك في الوجود والكمال النوعي الذي يُعَدُّ قطرةً من بحر كمال الله اللامحدود.

د) علاوة على جميع ما ذكرنا يُمكن القول : إنّ الكون نسخ واحدٌ لا أكثر على الرغم من احتوائه ظاهراً على موجودات متعددة ومتكثّرة ، وبتعبيرٍ آخر ، فإنّ عالم التكوين كبحر عظيم لامحدود توجد على سطحه أمواج ، وهذه الأمواج والتعرجات بمثابة تلك الموجودات المتعددة والمتكثّرة ، والمقصود هنا عالم الوجود ، لا الذات الإلهيّة المقدّسة.

__________________

(١) كشف المراد ، ص ٨٤.

(٢) المصدر السابق.

١٣٦

وباختصار فإننا لو أمعنا النظر لعلمنا بأنّ مجموع عالم الوجود موجود واحد متصل ومترابط ، وعلى الرغم من كل تنوعاته وكثرة قوانينه المؤثرة فيه فهو واحد ، وهذا الموجود الواحد يفيض من الوجود الإلهي الواحد ، وهذا المخلوق الواحد له خالق واحد.

والبعض الآخر الذين شكّكوا في شمول القدرة الإلهيّة قالوا : لو افترضنا أنّ الله تعالى على كل شيء قدير ، لواجهنا تعارضاً في بعض الحالات لا نستطيع حلّه.

فمثلاً تساءَل البعض : هل يستطيع الله تعالى أن يخلق موجوداً مثله!؟ فإن قلتم : نعم ، لكان تعدد الآلهة ممكناً! وإن قلتم : لا ، فقدرته محدودة!.

أو يتساءل : هل يقدر الله تعالى أن يُدخل جميع هذا العالم الواسع ، وبجميع كراته وكواكبه في بيضة ، من غير أن يصغر العالم أو تكبرُ البيضة؟! فإن قلتم : بلى ، فغير مقبول ، وإن قلتم : لا ، فقد أقررتم بعجزه ـ سبحانه ـ.

أو : هل يستطيع الله تعالى أن يخلق موجوداً لا يقدر على إفنائه!؟ أيَّما الطريقين انتخبتم فقد أقررتم بعجزه ، والكثير من هذه الأسئلة.

إنّ مصدر اشتباه هؤلاء هو عدم إلمامهم بالمسائل الفلسفية ، وغفلتهم عن هذه الحقيقة الواضحة ، وهو أنّه عندما يدور الحديث حول «القدرة» ، فمعناه القدرة على الامور الممكنة ، لأنّ القدرة لا تشمل المستحيلات لأنّها لا شيء.

توضيح ذلك : إنّ معنى تساؤلنا عن اقتدار الله تعالى على شيء معين أحياناً ، هو كون ذلك الشي من الممكنات ، وقصدنا إكساؤه حُلة الوجود بالقدرة الإلهيّة ، أمّا لو كان ذلك الشي مستحيلاً ذاتاً فإن تساؤلنا عن إمكانية إيجاده غير صحيح بتاتاً ، ولا معنى له أبداً. وهذا مايُسمَّى بالسؤال المتناقض.

كأن يكون لدينا عشرون برتقالة ونريد توزيعها على أربعين شخصاً ، بحيث يحصل كل واحدٍ منهم على واحدة!؟ فهل يُمكن ذلك؟

فالسؤال المطروح متناقض بحدّ ذاته وغير صحيح ، لأنّ قولنا عشرون برتقالة يعني أنّها ليست أربعيناً ، وقولنا : إنّ أربعين شخصاً يحصل كل واحدٍ منهم على برتقالة ، معناه وجود

١٣٧

أربعين برتقالة ، ممّا يلزم تحقق العددين عشرين وأربعين في نفس الكمية من البرتقال وفي آنٍ واحد! وبديهي أنّه لا يوجد إنسان عاقل يتفوّه بمثل هذا الكلام.

وبعد التحقيق في جميع الأسئلة التي ذكرناها يتضح أنّها من هذا القبيل ، أي أنّها متناقضة وغير مقبولة ، لذا ينتفي جوابها.

فمثلاً عندما نقول : هل يستطيع الله تعالى أن يخلق إلهاً آخر مثله؟ معناه أنّ ذلك الإله غير مخلوق ، فيصبح السؤال متناقضاً ، لأنّه سؤال عن خلق شيء لا يُمكن أن يكون مخلوقاً ، وبمجرّد أن يخلق الله سبحانه شيئاً فهو مخلوق ، ولا يمكن أن يكون إلهاً.

وهكذا عندما يُقال : هل يستطيع الله تعالى أن يُدخل الدنيا في مكان صغير من غير أن تصغر الدنيا أو يكبر ذلك المكان ، فمعناه أن يكون العالم صغيراً وكبيراً جدّاً في آنٍ واحد ، وهذا شيء متناقض.

واللطيف أنّ رجُلاً سأل أمير المؤمنين عليه‌السلام نفس هذا السؤال : «هل يقدر ربُّك أن يُدخل الدُّنيا في بيضة من غير أن تصُغر أو تكبر البيضة)؟ فأجابه الإمام عليه‌السلام : «إنّ الله تبارك وتعالى لا يُنسب إلى العجز والذي سألتني لا يكون» (١).

وما نجده في الرواية المنقولة عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام عندما يجيب على هذا السؤال فيقول عليه‌السلام : «نعم وقد جعلها في عينك وهي أقلُّ من البيضة» (٢) ، فهو في الحقيقة جواب إقناعيّ ، وذلك لأنّ السائل لم يكن ذا قدرةٍ على تحليل مثل هذه المسائل ، وقد أجابه الإمام عليه‌السلام بهذه الطريقة مراعاةً لحاله من الفهم ، وإلّا فالجواب الأصلي على هذا السؤال هو نفس ماورد في كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام.

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٤ ، ص ١٤٣ ، ح ١٠.

(٢) المصدر السابق.

١٣٨

٣ و ٤ ـ أزليّة وأبديّة الله تعالى

تمهيد :

يعتقد جميع من يؤمن بوجود الله تعالى بأزليته وأبديته سبحانه ، وهاتان الصفتان عين بعضهما ، لأنّ الوجود الأزلي لا يمكن أن يكون ذا عمرٍ وزمانٍ محدود ، وإلّا لما كان أزليّاً ، وعندما يكون الوجود غير محدد بزمان فذلك يعني أبديته أيضاً.

وبتعبيرٍ آخر ، إنّ جميع الأدلّة الموجودة على إثبات وجود الله تعالى تدل بصورة مباشرة أو غير مباشرة على كونه سبحانه وتعالى واجب الوجود.

وبديهي أنّ واجب الوجود الذي وجوده عين ذاته لابدّ وأن يكون أزلياً وأبدياً ، فالممكنات هي الحادثة ، أي أنّها لم تكن في زمان معين ثم وُجدت وستفنى بعد مدّة ، وواجب الوجود منزّه عن الحدوث كليّاً.

بعد هذا التمهيد نعود إلى القرآن الكريم لنتأمل في الآيات المباركة التالية ونصغي إليها بأسماع قلوبنا :

١ ـ (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَىءٍ عَلِيمٌ). (الحديد / ٣)

٢ ـ (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* ويَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُوالْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ). (الرحمن / ٢٦ ـ ٢٧)

٣ ـ (وَاللهُ خَيْرٌ وَابْقَى). (طه / ٧٣)

٤ ـ (كُلُّ شَىءٍ هَالِكٌ الَّا وَجْهَهُ). (القصص / ٨٨)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

يُلاحَظ في بداية سورة الحديد «آيات ستّ» اجتمعت فيها الكثير من الصفات الإلهيّة

١٣٩

وبتعابير غنيّة وعميقة ، لذا فقد ورد في بعض الأحاديث الإسلامية المنقولة عن الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام ، أنَّهُ سُئِلَ عن التوحيد فقال : «إنّ الله عزوجل علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون ، فأنزل الله تعالى : سورة «قل هوالله أحد» ، والآيات من سورة الحديد إلى قوله : «وهو عليم بذات الصدور» (١).

والآية التي يدور بحثنا حولها هي إحدى الآيات الست المذكورة.

قال تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَىءٍ عَلِيمٌ).

اختلف المفسرون حول المقصود من (الأول) و (الآخر) ، ولكن تعابيرهم قريبة من بعضها :

فقد قال البعض : هو الأول من غير ابتداء ، والآخر من غير انتهاء.

وقال البعض الآخر : هو الأول في التكوين ، والآخر في اعطاء الرزق.

وقال جماعة : هو أوّلُ الأولين ، وآخر الآخرين.

وقال آخرون : هو الأول بأزليته ، والآخر بأبديته.

وقال البعض الآخر : هو الأول بالخير والإحسان ، والآخر بالعفو والمغفرة (٢).

ولكن على أيّة حال فإنّ مفهوم الآية واضح ، والمقصود من الأول هو كونه أزلياً ، ومن الآخر هو كونه أبديّاً ، لذا فقد ورد في نهج البلاغة : «لم يزل أوّلاً قبل الأشياء بلا أوليّة ، وآخراً بعد الأشياء بلا نهاية» (٣).

وكذلك ورد في خطبة الأشباح : «الأول الذي لم يكن له قبلُ فيكون شيء قبلهُ والآخر الذي ليس له بَعدُ فيكون شيء بعدَهُ» (٤).

وفي حديثٍ نبوي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء» (٥).

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ١ ، ص ٩١ باب النسبة ، ح ٣.

(٢) تفسير مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٣٠.

(٣) نهج البلاغة ؛ عن تفسير نور الثقلَين ، ج ٥ ، ص ٢٣٧. ويحتمل أن يكون في بعض النسخ الخطية.

(٤) نهج البلاغة ، الخطبة ٩١.

(٥) تفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٠٦.

١٤٠