نفحات القرآن - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-98-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٠٠

إنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى) ، وقوله قول الله ، ووعده وعد الله أيضاً.

وهنالك عدّة احتمالات حول ما وعد به الله ورسوله المؤمنين وتحقق عند مشاهدتهم جيش الأحزاب : الأول : إنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد قال لهم : ستقصدكم جيوش الأحزاب بعد تسعة أو عشرة أيّام ، فعندما حضرت جيوش الأحزاب في الموعد المقرر قال المؤمنون قولهم هذا : (هَذَا مَا وَعَدَنا الله وَرَسُولُه) (١). (النجم / ٣ ـ ٤)

والأمر الآخر هو أنّه تعالى قال مُخاطباً المسلمين : (أَمْ حَسِبتُم أَن تَدخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصرَ اللهِ قَرِيبٌ). (البقرة / ٢١٤)

وجدوا أنفسهم مقابل ذلك الجيش العظيم عرفوا تحقق الوعد الإلهي وإشرافهم على دخول امتحانٍ عظيم (٢).

وقال البعض أيضاً : إنَّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد بشّر المؤمنين بالنصر بعد محاصرتهم من قبل جيش الأحزاب ، وانتشار الإسلام في أرجاء العالم وسقوط قصور (الحيرة) و (المدائن) و (كسرى) في أيدي المسلمين فيما بعد.

فعندما رأى المسلمون القسم الأول من هذا الوعد فرحوا وقالوا : أبشروا بالنصر النهائي (٣).

* * *

توضيح

دلائل صدق الله :

قال علماء العقائد : إنَّ جميع المسلمين يتفقون على مسألة صدق الله ، لكن الأشاعرة

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٢١ ، ص ١٥١.

(٢) تفسير الميزان ، ج ١٦ ، ص ٣٠٦ ، وقد ورد نفس هذا التفسير في تفسير الكبير بشكل مختصر.

(٣) تفسير القرطبي ، ج ٨ ، ص ٥٢٣٩.

٣٠١

الذين لا يعتقدون (بالحسن والقُبح) يعجزون عن إثبات هذه المسألة ، لأنّه لا ينفع معهم الدليل العقلي ، والدليل النقلي ينفع في بحثنا هذا ، لأنّهم إن يستندوا على الآيات القرآنيّة الدّالة على صدق الله يجر الكلام حتى يصلَ إلى هذه الآيات. وبعبارة اخرى فإنّ الاستدلال بالآيات يستلزم الدور (تأمل جيداً).

وهنا يعجزون عن الجواب وإثبات مدّعاهم.

وبما أنَّ مسألة الحسُن والقُبح العقليّين ـ بغض النظر عن التعصّب والأذواق المنحرفة ـ من المُسَلَّمات ، فإنّ أفضل طريق لإثبات صدق الله هو هذه المسألة.

يُعد الكذب ، حتى من قِبَلِ الإنسان العادي ، من أقبح الأعمال ، بل يعتبر بؤرة أغلب القبائح ، ودليلاً بارزاً على انحطاط الشخصيّة ، فمن المسلَّم به قُبح مثل هذا العمل من كلّ ناحية بالنسبة إلى الباري تعالى ، أي أن يكذب سبحانه أو يَعِدَ كذباً ـ معاذ الله.

وإن احتمل أحد مثل هذا الإحتمال اللامعقول بالنسبة إلى الذات الإلهيّة المقدّسة لتهدمت جميع مباني معتقداته ، لأنّ القسم الرئيس من هذه المباني مأخوذ عن الوحي ، وَلَو وُجد احتمال الكذب ومخالفة الواقع إليه سبيلاً ، لما بقيت هنالك ثقة بالوحي ، والأخبار الإلهيّة ، والوعد والوعيد ، ولتزلزلت جميع المعتقدات الدينية وتعرضت للعدم ، وهذه المسألة من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى توضيح.

وقد أشرنا سابقاً إلى أنّ عوامل الكذب أي (الجهل) و (الحاجة) ليس لها إلى ذات الباري من سبيل ، وهذا بحد ذاته دليلُ آخر.

* * *

آخر الكلام حول الصفات الإلهيّة :

لا ريب أنّ لبحث صفات الله طابعاً عقائدياً ، والهدف منه هو تكميل المعارف الإلهيّة ، ولكن ينبغي أن لا يُغفلَ عن أثره التربوي في تكامل النفوس الإنسانية ، وغالباً ما كان هذا هو هدف القرآن من طرح هذه الصفات.

٣٠٢

فعندما نصف الله بالذات الكاملة ، وبأنّه سبحانه أمل جميع العباد ، وتبذل جميع الجهود والمساعي من أجل التقرُّب منه ، وإليه تنتهي جميع الخطوط التكاملية ، فإنّ من الواضح أنّ هذا البحث يقول للإنسان بكل صراحة وجزم : (إنّك ستنتصر وتنجح في جهودك ومساعيك ، وستبلغ السعادة عندما تستطيع أن توهِّج نوراً في قلبك من صفات الجلال والجمال الإلهيّة تلك).

أو بتعبير آخر ، فإنّك تصير مظهراً لأسماء الله وصفاته وتطغى عليك صبغته ، وتصير روحك ونفسك مرآةً لأسمائه ، ومظهراً لصفات جلاله وجماله.

وأن تحاول التشبُّه به من حيث العلم ، القدرة ، الإرادة والمشيئة ، المديريّة والربوبيّة ، والرحمانيّة والرحيميّة ، و... ، ولو بمقدار قليل.

ويُلاحظ وجود إشارت لطيفة إلى هذه المسألة التربويّة المهمّة وردت في الأحاديث الإسلامية ، ومن جُملتها ما ورد في (تنبيه الخواطر) عن الرسول الأكرم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «جعل الله سبحانه وتعالى مكارم الأخلاق صلةً بينَهُ وبين عباده فحسبُ أحدكم أن يتمسك بخلقٍ متّصلٍ بالله» (١).

وفي حديثٍ آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «تخلّقوا بأخلاق الله» (٢).

* * *

__________________

(١) تنبه الخواطر ، ص ٢ و ٣ ، طبق ماورد في ميزان الحكمة ، ج ٣ ، ص ١٤٩.

(٢) زبدة المعارف في أصول العقائد ، ص ٨٧ ، المحقق اللاهيجي.

٣٠٣
٣٠٤

العدل الإلهي

٣٠٥
٣٠٦

تمهيد :

إنّ لصفة (العدالة) خصوصيات خاصّة من بين صفات الفعل الإلهي ، ممّا حدى بعلماء العقائد إلى بحثها بالتفصيل وبصورة مستقلّة ، إلى الدرجة التي نلاحظ استقلالها من بين أصول الدين ، وأنّها ذُكِرَت كأحد أصول الدين العقائدية الخمسة ، في حين أنّها لا تتفاوت عن بقية الصفات حسب الظاهر ، وينبغي دمجها في مباحث معرفة الله ، في بحث (الأسماء والصفات).

إنّ شرح هذه الخصوصيّات قبل البحث حول أصل المسألة غير ممكن ، لذا سوف نوكله إلى ما بعد ، ونكتفي هنا بالقول : إنَّ لمسألة العدل الإلهي علاقة بأصل الإيمان بوجود الله من جهة ، وبمسألة المعاد من جهةٍ اخرى ، وبمسألة النبّوة من جهةٍ ثالثة ، وبمسائل من قبيل ، الثواب والعقاب ، الجبر والتفويض ، التوحيد والثنويّة ، فلسفة الأحكام ، وغيرها ، من جهة رابعة ، لذا فقد يُمكن أن يُغيّر الإعتقاد بهذا الأصل أو نفيهُ شكل جميع المعارف والعقائد الدينيّة.

إضافةً إلى هذا فإنّ أثر العدل الإلهي في المجتمع البشري ، في مسألة العدالة الاجتماعية ، والعدالة الأخلاقية والمسائل التربويّة ، غير قابل للإنكار.

وبسبب المسائل التي ذكرناها أعلاه ، فإننا أيضاً نبحث هذه الصفة على حِدة وأكثر تفصيلاً ، ولكن ، وكما يستوجب اسلوب التفسير الموضوعي ، ينبغي علينا قبل كلّ شيء أن نتعرض إلى الآيات القرآنية الواردة في هذا المجال ، لنستنير بها في طريق حل المشاكل المعقّدة لهذه المسألة المهمّة ، بعد هذا التمهيد نمعن خاشعين في الآيات القرآنية التالية.

١ ـ (إِنَّ اللهَ لَايَظْلِمُ النَّاسَ شَيئاً وَلَكنَّ النَّاسَ انفُسَهُم يَظلِمُونَ). (يونس / ٤٤)

٢ ـ (وَلَا يَظلِمُ رَبُّكَ احَداً). (الكهف / ٤٩)

٣٠٧

٣ ـ (فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظلِمَهُم وَلَكِن كَانُوا انفُسَهُمْ يَظلِمُونَ). (التوبة / ٧٠) (الروم / ٩)

٤ ـ (فَاليَومَ لَاتُظلَمُ نَفسٌ شَيئاً وَلَا تُجزَونَ إِلّا مَا كُنتُم تَعمَلوُنَ). (يس / ٥٤)

٥ ـ (وَمَا تُنْفِقُوا مِن خَيرٍ ... يُوَفَّ الَيكُم وَانتُم لَاتُظلَمُونَ). (البقرة / ٢٧٢)

٦ ـ (بَلِ اللهُ يُزَكِّى مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظلَمُونَ فَتِيلاً). (النساء / ٤٩)

٧ ـ (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلماً لِّلعَالَمِينَ). (آل عمران / ١٠٨)

٨ ـ (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَاإِلَهَ إِلّا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُوا العِلمِ قَائِماً بِالقِسطِ). (آل عمران / ١٨)

٩ ـ (انَّهُ يَبدَؤُا الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجزِىَ الَّذِينَ آمنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالقِسطِ). (يونس / ٤)

١٠ ـ (وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسطَ لِيَومِ القِيَامَةِ فَلَا تُظلَمُ نَفسٌ شَيئاً). (الأنبياء / ٤٧)

١١ ـ (وَمَا رَبُّكَ بِظَلّامِ لِّلعَبِيدِ). (فصلت / ٤٦)

١٢ ـ (ام نَجعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفسِدِينَ فِى الأَرضِ أَم نَجعَلُ المُتَّقِينَ كَالفُجَّارِ). (١) (ص / ٢٨)

شرح المفردات :

إِنَّ كلمة (ظلم) ـ كما ورد في مقاييس اللغة ـ في الأصل ذات معنيين مُتفاوتَين : أحدهما (الظُلمة) ، والآخر : (وضع الشيء في غير محلّه) ، وفي مقابله (العدل) وهو وضع الشيء في محلّه المناسب.

__________________

(١) وردت آيات قرآنية كثيرة اخرى بصدد هذا المجال ، وقد انتخبنا من الآيات ذات المضمون الواحد ولكن بعبارتين متفاوتتين ، ونموذجاً من الآيات ذات العبارات المتشابهة ، من جملتها الآيات التالية : «النساء ، ٤٠ و ٧٧ ؛ العنكبوت ، ٤٠ ؛ الأنفال ، ٦٠ ؛ البقرة ، ٢٨١ (إضافة إلى أربع عشرة آيةً تحتوي كل منها على تعبير (لا يُظلمون) ، وتشير بدون استثناء إلى نفي الظلم عن الله تعالى) ويونس ، ٤٧ و ٥٤.

٣٠٨

ويُحتَملُ أن يعود كلا المعنيين إلى أصلٍ واحد لأنّ الظلم (ضد العدالة) سبب الظُّلمة أينما كان ، ولعل هذا هو السبب الذي دفع بالراغب في مفرداته ، إلى اعتبار(الظُّلمة) أصل هذه الكلمة.

وقد وردت في لسان العرب أنّ أصل الظُّلم هو : «الجور والتجاوُز عن الحد) ، وأضاف في تعبير آخر : الظلم معناه : (الانحراف عن الحد المتوسط).

طبعاً : إنّ هذه المعاني الثلاثة للظلم أي (وضع الشيء في غير محله) و (التجاوز عن الحد) و (الانحراف عن الحد المتوسّط) ، تعود إلى أصل واحد).

وقد قسّم بعض العلماء الظلمَ إلى ثلاثة أقسام : ظلم الإنسان ربَّهُ ، وأظهر مصاديقه الكفر والشرك والنفاق ، وظلم الإنسان الآخرين ، وظُلمه نفسَهُ ، وذكروا لكلٍّ منها شواهد قرآنية ، ولكن من زاوية معينة نرى أنّ الأقسام الثلاثة تعود إلى أصل ظُلم النفس ، لأنّ الإنسان منذ اللحظة الأولى من تصميمه على الظلم يوجّه الضربة الأولى إلى نفسه ، كما قال تعالى : (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا انفُسَهُم يَظلِمُونَ). (الأعراف / ١٦٠)

وضّد الظلم (العدل) ، وقد ذكروا له معنيَين متضادّين هما :

الأول : هو معناه المعروف أي وضع الشيء في محلّه المناسب ، ولهذا المفهوم الواسع مصاديق كثيرة من جملتها العدالد بمعنى الإعتدال ، العدالة بمعنى رعاية المساواة ونفي كل ألوان (التمييز) ، العدالة بمعنى رعاية حقوق الآخرين ، والعدالة بمعنى رعاية الحقوق والإستحقاقات ، وأخيراً العدالة بمعنى التزكية والتطهير.

وإن استعملها القرآن الكريم أحياناً بمعنى الشرك فسببه أن المشرك يتخذ لله ندّاً وعديلاً ، قال تعالى في الآية الأولى من سورة الأنعام : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِهِم يَعْدِلُونَ).

الثاني : كما ورد في المقاييس : هو الإعوجاج والانحراف.

وقال بعض أرباب اللغة : إنّه يعني الظلم (أي) أنّ العدل من الألفاظ التي لها معنيان متضادّان ، لذا يُطلق على الانحراف عن شيء (عدول).

وكلمة (قسط) في الأصل تعني الحصّة والنصيب العادل ، ولذلك فإنّها قد تأتي أحياناً

٣٠٩

بمعنى (العدالة) ، وهو عندما يُعطى نصيب كل واحد بالعدل ، وأحياناً اخرى تأتي بمعنى (الظلم) ، وهو عندما يُسلب منه نصيبه العادل.

ويُستعمل الأول عادةًبصيغة (افعال) ، لذا فقد سُمي الله باسم (المُقسِط) ، والثاني بلفظة (قِسط) (من الثلاثي المجرّد) لذا فالقاسط يعني (الظالِم) ، قال تعالى : (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً ...). (١) (الجن / ١٥)

وكذلك قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقسِطِينَ ...). (المائدة / ٤٢)

ويجدر ذكر هذه المسألة أيضاً وهي أنّ كلمتي (القسط) و (العدل) كلمتان قد تُستعملان أحياناً بصورة منفصلة وبمفهومَين متقابلين مع بعضهما تقريباً ، ولكن تستعملان أحياناً اخرى في موضعٍ واحد ، كالحديث الشهير المنقول عن مصادر الشيعة وأهل السُّنة.

عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : (لو لم يبق من الدنيا إلّايوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرح رجل من وُلدي فيملأها عَدلاً وقسِطاً كما مُلِئَت جَوراً وظُلما) (٢).

فقد ذُكرَ (العدل) و (القسط) إلى جوار بعضهما في هذه الرواية ، كما هو حال كلمتي (الجور) و (الظلم).

وحول ماهية التفاوت الموجود بين هذين التعبيرين؟

يُمكن القول : إنّ (القسط) ـ كما ذكرنا هذا في تفسير مفهومه اللغوي ـ معناه التقسيم العادل وضدّه (التمييز) ، وعليه فإنّ القسط معناه اعطاء كل ذي حقٍّ حقه لا غير.

لكن العدالة ضدّ الجور والتجاوز على حقوق الآخرين ، كأن يغصب أحد حقَّ الغَير ويستولي عليه ، ونحن نعلم بأنّ العدالة الكاملة في المجتمع البشري تتحقق عندما لا يكون هنالك تجاوز من قبل أحد على حقوق الآخرين ، ولا يُعطى حق أحدٍ لغيره.

ويُستنتج (تباينٌ) آخر أيضاً من التعبير الوارد في بعض الأحاديث وهو كون العدالة

__________________

(١) لسان العرب ، مفردات الراغب ؛ مقاييس اللغة ؛ ومجمع البحرين.

(٢) منتخب الأثر ، ص ٢٤٧ ؛ وقد نُقل في هذا الكتاب ١٢٣ حديثاً بهذا المضمون (مع تفاوتٍ قليل) ، وقد ورد هذا المضمون أيضاً في كتاب نور الأبصار للكاتب محمد الشبلنجي ، من خلال روايات متعددة ، ص ١٨٧ ـ ١٨٩.

٣١٠

تخص الحكم والقضاء والقسط يخصّ تقسيم الحقوق ، وقد ورد في لسان العرب نقلاً عن بعض الأحاديث «إذا حكموا عدلوا وإذا قسّموا أقسطوا» (١).

ويُحتمل أيضاً أن يكون العدل ذا مفهومٍ أوسع وأعمق من القسط ، لأنّ القسط يُستعمل بخصوص التقسيم ، والعدل يُستعمل فيه وفي موارد اخرى.

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

إنّ الله لا يظلم أحداً :

الجدير بالانتباه هو استعمال القرآن الكريم كلمة (العدل) في المواضع المتعلّقة بوظيفة العباد ، وعدم استعماله هذه الكلمة بخصوص الباري تعالى ، وبالمقابل يلاحظ تعبير (نفي الظلم) عن الله بكثرة ، وتعبير إقامة الله القسط ليس بقليلٍ أيضاً.

وأمّا ترك استعمال كلمة (عدل) بخصوص الذات الإلهيّة المقدّسة فيُحتملُ أن يكون سببه هو ما أشرنا إليه سابقاً وهو كون كلمة (العدل) قد تُعطي معنى (الشرك) أحياناً ، (أي اتخاذ الكفوء والند لله تعالى) ، فما أراد سبحانه أن يُستعملَ هذا اللفظ المشترك بخصوص ذاته المقدّسة!

وعلى أيّة حال فقد قال تعالى في الآية الأولى من البحث : (إِنَّ اللهَ لَايَظْلِمُ النَّاسَ شَيئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ انْفُسَهُم يَظلِمُونَ).

يُمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى الكلام الذي ورد في الآيات التي سبقتها ، من قوله تعالى : (وَمِنهُم مَّنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيكَ أَفَأَنتَ تُسمِعُ الصُّمَّ وَلَو كَانُوا لَايَعقِلُونَ* وَمِنهُم مَّنْ يَنظُرُ إِلَيكَ أَفَأَنتَ تَهدِى العُمْىَ وَلَو كَانُوا لَايُبصِرُونَ* إِنَّ اللهَ لَايَظلِمُ النَّاسَ شَيئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ انفُسَهُم يَظلِمُونَ).

وبتعبير آخر : إنّها سنّةٌ إلهيّة أن لو لم تُستعمل الأبصار والأسماع السليمة في الأتجاه

__________________

(١) لسان العرب ، ج ٧ ، مادة (قسط).

٣١١

المخلوقة من أجله لفقدت قدراتها ، لذا فلو لم ينتبه أحدٌ إلى مثل هذه الحالة لكان قد ظلم نفسه بنفسه ، لا مظلوماً من قبل الله تعالى.

وقد أيدّ الكثير من المفسّرين هذا التفسير ، ولكن العجب من ترك البعض الآخر منهم (كالفخر الرازي) هذا المطلب الواضح وانصياعهم لعصبيّتهم المذهبية في مسألة العدالة ، فقالوا : (لأنّ كل ما في الوجود ملكٌ له ، فكل ما يعمله ليس بظلمٍ).

في حين أنّ الآية تشير بدقّة إلى خلاف هذا المطلب ، فظاهر الآية يُفهم منه انتفاء تصوُّر الظلم بشأنه جلّ وعلا ، بل إنّه لن يظلم أحداً في نفس الوقت الذي يقدر فيه على ذلك.

ومن قبيل هذا التعبير كثير ، فلو قيل : إِنّ الطبيب الفلاني ، لم يُعالج المريض الفلاني فإنّه يعني ، أَنّه كان قادراً على علاجه ، لكنّه لم يفعل ، فلا يُقال أبداً : إِنّ الأُميّ الفلاني لم يُعالج فلاناً من الناس.

* * *

أمّا الآية الثانية فقد أشارت إلى هذا المعنى بتعبيرٍ آخر ، حيث قالت : (وَلَا يَظْلِمُ رَبِّكَ أَحَداً) ويُمكن أن يكون ذكر تعبير (رب) إشارة إلى رعايته تعالى للإنسان بالتربية والتكامل ، لا الظلم والجور الذي يؤدّي إلى النقصان والتخلُّف (الذي هو خلاف اصول الربوبيّة).

وقد ذكرت هذه الجملة بعد بيان حال المجرمين في القيامة ، عندما يرون كُتبهم فيقولون : (يَاوَيْلَتَنَا مَال هَذَا الكِتَابِ لَايُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً). (الكهف / ٤١)

لذا فإنّهم هم الذين ظلموا أنفسهم لا الله سبحانه وتعالى ، وتتضح مسألة انتفاء الظلم عن الله سبحانه وتعالى نهائياً من خلال تصريحِهِ تعالى في القرآن بتجسُّم أعمالهم هناك (أي يوم القيامة).

* * *

٣١٢

وأشارت الآية الثالثة إلى العذاب الدنيوي الذي أصابَ ستةً من الأقوام السالفة بسبب طغيانهم وظُلمهم وعنادهم (١) ، قال تعالى : (فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا انفُسَهُمْ يَظلِمُونَ).

لقد منَّ الله عليهم بالعقل والفهم والمعرفة ، وأرسل إليهم الأنبياء والكتب السماويّة الواحد تلوَ الآخر ، وحذّرهم مِراراً ، فعندما لم ينفع معهم أي واحدٍ من هذه الأمور ، أنزل عليهم العذاب وأهلكهم ، فمنهم من أغرقه بالماء ، ومنهم بالريح العاصفة ، ومنهم بالزلزلة ، ومنهم من أخذته الصيحة.

وهذا الكلام تحذيرٌ ضمنيٌّ للأقوام الحاليّة ، والطغاة ، والمتمردين العصاة ، ليكونوا على وجل لئلّا يحطّموا أنفسهم بأيديهم ويُحرقوا حاصل حياتهم بنار أعمالهم.

وجملة : (فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) ، التي اجتمع فيها الفعل الماضي (كان) والمضارع (ليظلمهم) ، تشير إلى نفي ظلم الله لأي أحدٍ وفي أيٍّ من الأزمنة الماضية ، واستمرار هذه الصفة والسُّنة الإلهيّة وثباتها وعدم كونها أمراً مقطعيّاً مؤقتاً وعابراً.

* * *

أمّا الآية الرابعة فقد أشارت إلى الجزاء الأخرويّ وأحوال يوم القيامة ، حيث قال تعالى : (فَاليَومَ لَاتُظلَمُ نَفسٌ شَيئاً وَلَا تُجزَونَ إِلَّا مَا كُنتُم تَعمَلُونَ).

مع أنّ فعل (تُظلَمُ) في هذه الآية قد ذُكِرَ بصيغة المجهول ، لكنّه من الواضح أنّ الحاكم الوحيد في محكمة القيامة هو الله سبحانه وتعالى ، إذن يُعتبر نفي الظُّلم في هذه الآية نفياً للظلم عن ساحة قُدسه تعالى ، وعليه فإنّه لا يرتضي الظُّلم لأحد لا في الدنيا ولا في الآخرة ، إنّها أعمال الناس التي سوف تتجسّم أمامهم هناك وترافقهم ، فإن كانت صالحة منحتهم اللّذة والنشاط والبهجة ، وإن كانت طالحة صارت سبب عذابهم وأذاهم ، لذا قال سبحانه : (وَلَا تُجزَونَ إِلَّا مَا كُنتُم تَعمَلُونَ).

* * *

__________________

(١) قوم نوحٍ وعادٍ وثمودَ وقوم ابراهيم وقوم شعيب وقوم لوط.

٣١٣

وقالت الآية الخامسة بصراحة ـ والتي وردت بخصوص حالة خاصّة وهي الأنِفاق ـ (وَمَا تُنفِقُوا مِن خَيرٍ ... يُوَفَّ الَيكُمْ وَانتُم لَاتُظلَمُونَ).

فسّر جماعة من المفسّرين (الظلم) هنا بمعنى النقصان ، (أي لا تُنقَصون) ، ولكن يبدو بأنّ (الظلم) هنا له نفس ذلك المعنى الواسع على الرغم من كون مصداقه هنا النقصان الكمّي أو الكيفي.

والملفت للإنتباه هو أنّ ـ كما لوّح به صدر الآية ، وصرّح به شأن النزول ـ هذه الآية نزلت بخصوص الإنفاق حتى على فقراء الكفّار ، فشوّق القرآن جميع المسلمين لينفقوا عليهم أيضاً عند حاجتهم ، إنّهم غير مسؤولين عن إيمان الكفّار ، فهدايتهم وتوفيقهم للإسلام بيد الله ، فليطمئن المسلمون بأنّ كل انفاقٍ خالص لمساعدة الفقراء الحقيقيين سيوفّى إلى المُنفقين يوماً ما ويعود إلى حوزتهم.

أمّا في الدنيا فلأنّه (أي الإنفاق) يؤمّنُ ويحفظ أموالهم ، حيث عندما يضغط الفقر على طائفة من المجتمع فستسودهُ الفوضى ، وينعدم الأمن في المجتمع ، وستتعرض الأموال للتلف ليست لوحدها فقط ، بل الأرواح أيضاً.

أمّا في الآخرة فانهم سيحصلون على أضعافه المضاعفة من الرحمة الإلهيّة والثواب العظيم.

وبالمناسبة إنّ هذا التعبير يُعَدُّ ترغيباً للمُنفقين لإنفاق أفضل مقدار ونوعٍ من أموالهم في سبيل الله ، لأنّه سيوفَّى إليهم ، فهل يُحبّ أحدٌ أن يسترجع ثياباً رثّةً أو أموالاً غثة؟ إذن يجب أن لا يكون سعيه الوحيد هو إنفاق أمواله الحقيرة في سبيل الله.

* * *

وتحدثت الآية السادسة عن الذين كانوا يزكّون أنفسهم ويعتقدون بأفضليتهم على من سواهم ، كاليهود الذين قالوا : نحن أبناء الله ، وكانوا يعتقدون بأنّ الله يغفر في الليل ما يرتكبونه من الخطايا في النهار ، ويغفر في النهار ما يرتكبونه من الخطايا في الليل! أو

٣١٤

النصارى الذين كانوا يعتقدون لأنفسهم من قبيل هذه الأمور (حول شأن نزول هذه الآية ، أشار الكثير من المفسّرين إلى إدعاءات هاتين الفئتين).

فالقرآن يقول (إنّ هذه التزكية الناشئة من التعصُّب والعُجب والغرور ، لا قيمة لها ، إنّما القيمة في تزكية الله من يشاء من عباده) ، قال تعالى : (بِلِ اللهُ يُزَكّى مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظلَمُونَ فَتِيلاً).

أجَل ، إنّ علمه بجميع وجود الإنسان ، ظاهره وباطنه ، خلقه وطبعه ، أعماله السريّة والعلنية ، يؤدّي إلى أن تكون تزكيته لفردٍ ما حقانية ، أي لا أقل ولا أكثر من اللازم ، في حين أنّ تزكية الآخرين مشوبة بالجهل في أبعاد مختلفة ، ومصحوبة بأنواع الحب والبغض والغفلة والغرور.

وعليه فانَّ الكلام في هذه الآية يدور فقط حول الظلم وتجاوز الحد بالنسبة إلى تزكية الأشخاص من قِبلِ الله سبحانه وتعالى ، ولكن يُحتمل أيضاً أن تكون هذه الجملة إشارة إلى الذنب الكبير الذي كان يرتكبه المزكّون أنفسهم بسبب عجبهم ، لأنّهم كانوا يعتقدون بخصوصيّتهم عن غيرهم واستحقاقهم لكل ألوان الكرم الإلهي.

فالقرآن يقول : إنّ من وراء هذا الكلام عقوبة ثقيلة ولكن لا ظُلم فيها.

ولكن يبدو أنّ التفسير الأول أقرب إلى المعنى.

أمّا مادّة (فتْل) على وزن (قتل) فهي تعني البرم ، لذا فإنّ (فتيل) يعني الحبل المبروم ، وتُطلق عادةً على ذلك (الخيط) الرقيق الموجود في شق نواة التمر ، وهو كناية عن الشيء القليل جدّاً.

* * *

ويُلاحظ في الآية السابعة نفس هذا المعنى بتعبيرٍ جديد ، فإن كانت الآيات الاخرى قد نفت ظلم الله لعباده ، فهذه الآية نفت ظلمه للعالمين جميعاً ، فليس فقط لا يظلم ، بل حتى لا تتعلق إرادته بالظلم ، قال سبحانه : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلماً لِّلعَالَمِينَ).

٣١٥

ولو اعتبرنا كلمة (عالمين) جمع عاقل ، لشملت جميع الموجودات العاقلة في الوجود ، من الناس ، والجن والملائكة ، وإن حملناها على (التغليب) لشملت جميع موجودات عالم الوجود ، من العاقلة وغير العاقلة ، ومن الحيّة وغير الحيّة (الجمادات) ، ولأثبتت العدل الإلهي بخصوصها جميعاً (أي وضع كل شيء في محلّه المناسب).

والتعبير بكلمة (ظُلماً) وبصيغة المفرد النكرة وسبقه بالنفي ، إنّما هو من أجل التعميم ، ويشمل أدنى وأقلَّ ظُلمٍ وجَور.

وقد ورد في تفسير الميزان أَنّ التعبير بكلمة (العالمين) يُشير إلى هذه الحقيقة ، وهو : انعكاس أثر الظلم في جميع العالم بأي مقدارٍ كان ومن أي إنسان صَدَر. (لأنّ العالم وحدة مترابطة) (١).

والجدير بالإلتفات هو أنّ جماعةً من العلماء توسّلوا بهذه الآية لإبطال مذهب الجبر وما يتفرع منه ، فقالوا : إذا كانت أعمال العباد من فعل الله وصادرة من ذاته المقدّسة ، لا ستوجب أن يكون ظلمهم بعضهم أو أنفسهم من فعله تعالى ، ولكن الآية المذكورة أعلاه عندما نفت أي ظُلمٍ من قبل الله للعالمين فإنّها تدلّ على انتفاء كون هذه المظالم من فعله تعالى ، بل هي من أنفسهم ، لأنّها لو كانت من فِعله لتعلقت بها الإرادة الإلهيّة ، وقوله : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلماً) يدّل على نزاهة ذاته المقدّسة عن هذه المظالم.

والعجيب هو أنّ الفخر الرازي قد نقل هذا الكلام في تفسيره من دون أن يكون له جواب عنه ، على الرغم من تعارُضه مع عقيدته حول الجبر والتفويض (٢).

وعلى أيّة حال ، إنّ هذه الآية لها صيغة تعميمية من ثلاث جهات : (العالمين) و (الظلم) و (الإرادة) وتُعَدُّ من أجمع آيات نفي الظلم عن الله تعالى.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٣ ، ص ١٤١٤ (مع شيءٍ من الإقتباس).

(٢) تفسير الكبير ، ج ٨ ، ص ١٧٤.

٣١٦

أمّا الآية الثامنة فعلى خلاف الآيات السابقة ، التي كانت تتحدث عن نفي الظلم ، أكّدت إثبات القِسط والعدل كسُنّة دائميّة وأبديّة ، قال تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُوا العِلمِ قَائِماً بِالقِسطِ).

والجدير بالإنتباه هو كون العدالة الإلهيّة من أحد شروط (الشهادة) ، وعدالته شرطٌ لمنع عباده عن أي انحرافٍ عن طريق الحق ، وتمّ التأكيد هنا على عدالة الله لتكميل شهادته ، وهذه العدالة تثبت بوضوح بنظرةٍ عميقةٍ واحدة إلى عالم الوجود ، لأننا نرى كُلّ شيءٍ في محلّه ، ونشاهد منتهى الدقة والإستحكام في النظام الموجود في الوجود ، وإذا لاحظنا وجود بعض العيوب في بعض حوادث وأشياء العالم ، فإنّها تتضح لنا شيئاً فشيئاً بزيادة التدقيق والتطور العلمي ، وإن بقيت حالات نادرة في قيد الإبهام ، فإننا وبأخذنا بنظر الاعتبار الحوادث المكتشَفة في العالَم ، سنعلم بأنّ سبب بقاء إبهامها هو جهلنا وقلّة علمنا.

ومن جهةٍ اخرى ، إنّ عدالة الله دليل أيضاً على وحدانيته ، لأنّه لو كان هنالك خالقٌ وحاكمٌ في الوجود سواه لأدّى إلى حدوث اختلاف في التدبير والفساد بالنتيجة ، وعليه فإنّ النظم الموجودة ، ووحدة التدبير خيرُ دليلٍ على وحدانيتة.

وبهذا فإنّ وحدانيته تدل على عدله ، وعدله يدل على وحدانيته ، وهذا مطلب ظريف يُستحصَلُ من الآية أعلاه (١).

والظريف (هو استدلال الزمخشري في الكشاف بهذه الآية على نفي الجبر ، لأنّ الجبر يتنافى مع عدالة الله).

وهذا مطلب واضح سنتطرق إليه في البحوث القادمة إن شاء الله ، فأي ظُلمٍ أكبر من أن يجبر شخصٌ أحداً على فعلٍ معين ثم يؤاخذه عليه ويعاقبه؟

لكن الفخر الرازي ، وانطلاقاً من تعصُّبه الخاص حول هذه المسألة ، تهجمّ بشّدة على صاحب الكشّاف ووصفه عدّة مرّات بالمسكين أو بغير المحيط بجميع رموز العلم ، وتوسّل بالإشكال الشهير المعروف (بعلم الله) في مسألة الجبر ، وهو إن لم يعصِ المذنبون ولم

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٣ ، ص ١١٩ (مع شيء من الأقتباس).

٣١٧

يرتكبوا الذنوب الموجودة في علم الله منذ الأزل ، لصار علم الله جهلاً! (١)

في حين أنّ الرد على هذا الإشكال من البساطة والوضوح بحيث يعلمه جميع من لهم أدنى اطلاع حول مسألة الجبر والتفويض ، وسيأتي شرحه في البحوث القادمة إن شاء الله تعالى.

* * *

وأمّا الآية التاسعة فقد أشارت أيضاً إلى مسألة عدالة الله في القيامة في مسألة الثواب والعقاب ، وأكّدت على كلمة (القِسط) ، قال تعالى : (إِنَّهُ يَبدَؤُا الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجزِىَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالقِسطِ).

وهذه الآية بالواقع تشير إلى كُلٍّ من الدليل العقلي على إمكان المعاد ، ودليل وقوعه ، أمّا إمكانه فلأنّ مَنْ بدَء الخلق قادر قطعاً على إعادته وإحيائه من جديد.

أمّا وقوعه ، فلو لم يكُن (المعاد) لما تحقق القسط والعدل ، فهنالك الكثير من المحسنين ممن لم يحصلوا في هذه الدنيا على ثواب عملهم ، ومن المسيئين الذين لم يذوقوا ـ في هذه الحياة الدنيا ـ قصاص أعمالهم ، فلولا المعاد لما تحقق العدل والقِسْط.

والجدير بالإنتباه هو أَنّ الآية قد أشارت في نهايتها إلى العذاب الأليم الذي سيلقاه الكافرون في الآخرة : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُم شَرَابٌ مِّن حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكفُرُونَ). (يونس / ٤)

دون أن تتطرّق إلى مسألة القسط والعدل ، والسبب في هذا هو أنّ إجراء القسط والعدل في جزاء الكافرين واضح من قرينة بداية الآية ، علاوةً على كون جملة : (بما كانوا يكفرون) دليلاً واضحاً على كون ما يلقونه من العذاب جزاء ولقاء ما كانوا يعملون ، وكأنّ المقصود من ذكر (القسط) بعد جزاء الصالحين هو بيان كونه الهدف الأصلي للخلق والإيجاد ، وما يوم القيامة والحساب إلّالأجلهم وله حالة تبعيّة تخصّ الآخرين.

واحتمل بعض المفسّرين حول تفسير هذه الآية أنّ القسط هنا يخص أعمال المؤمنين ،

__________________

(١) تفسير الكبير ، ٧ ، ص ٢٠٦.

٣١٨

أي : إنّ الله سيجزي المؤمنين في يوم القيامة لقيامهم بالعدل والقسط الذي يقتضيه الإيمان(١).

لكن المفسّر هذا لم ينتبه إلى هذه الحقيقة وهي كون (العمل الصالح) يتماشى مع أُسس العدالة ، ولا تحتاج إلى قيدٍ أو شرط ، إلّاأن يكون ذا حالة تأكيديّة ، ونحن نعلم بأنّ حمل الكلام على التأكيد خلاف الظاهر ويحتاج إلى قرينة.

* * *

وأشارت الآية العاشرة إلى نفس هذا المعنى مع وجود هذا التفاوت ، وهو بَيانها القسط والعدل كصفتين لموازين الأعمال ، ونحن نعلم بأنّ مُقيم هذه الموازين هو الله العادل ، إذن لابدّ من التسليم بأنّها من صفات ذاته المقدّسة.

والتفاوت الآخر في هذه الآية عن الآية السابقة هو كون مفهوم هذه الآية عامّاً ، ويشمل كلاً من المؤمن والكافر ، لأنّ (ميزان القسط) لا يزن إلّاقِسْطاً وعدلاً ، ولا يظلمُ أحداً. قال تعالى : (وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسطَ لِيَومِ القِيَامَةِ فَلَا تُظلَمُ نَفسٌ شَيئاً).

والظريف هو وصفه تعالى هذه الموازين (بالقسط) ـ (العدل بالمعنى المصدري) ـ وقوله : إنّ هذه الموازين عين العدل ، ممّا يعكس نهاية التأكيد كقولنا : (زيدٌ عدلٌ) ، أي أنّه عين العدل ، فعليه لا حاجة في هذه الآية إلى التقدير.

وسيأتي هذا المطلب في المجلد الخامس من هذا التفسير في بحوث المعاد إن شاء الله ، وهو كون المقصود من (الميزان) هنا شيئاً مماثلاً للموازين الماديّة ليصير مجالاً لطرح هذا الإشكال ، وهو كون أعمال الإنسان ليست ذات وزنٍ يُذكَرُ ، فكيف يمكن وزنها بهذه الموازين؟ فنضطر إلى القول كما قال الفخر الرازي : إنّ المقصود منها وزن كتب الأعمال!

أو الحسنات تتجسّم بشكل جواهر بيضاء نورانية! والسيئات تتجسّم بشكل جواهر سوداء ظلمانية! (٢)

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ١١ ، ص ٢٩٩.

(٢) تفسير الكبير ، ج ٢٢ ، ص ١٧٦.

٣١٩

بل المقصود من (الموازين) هو وسيلة القياس ، وكما نعلم أنّ وسيلة قياس كل شيءٍ تتناسب مع ماهية ذلك الشيء ، كقياس الوزن ، قياس الحرارة ، وقياس ضغط الدم ، و... ، لذا فإنّ وسيلة قياس الأعمال أيضاً هي تلك المعايير الخاصّة التي تُقاس بواسطتها ، كما ورد في زيارة أمير المؤمنين عليه‌السلام : «السلام على ميزان الأعمال!».

أجل ، إنّ الإنسان الكامل ميزان قياس أعمال مختلَف الأفراد ، لأنّ وزن كُل انسانٍ يُعادل نظيره!

والظريف هو ما ورد في بعض التفاسير بأَنّ داود عليه‌السلام طلب من الله أن يُريه (ميزان الأعمال) ، فعندما رآه صُعِقَ! فلمّا أفاق قال : إلهي ميزانٌ بهذه العظمة!؟ مَنْ ذا الذي يقدر أن يملأ كفّته بالحسنات؟ فقال سبحانه وتعالى مخاطباً إيّاه : «يا داود إِذَا رَضِيتُ عَن عَبدِي مَلأَتها بِتَمرةٍ!».

(أجل إنّ المعيار هناك هو نوعيّة العمل لا كميّته) (١).

* * *

ما الله بظلّامٍ :

استعملت الآية الحادية عشر مصطلح (ظلّام) الذي هو من صيَغِ المبالغة ، ويعني كثير الظلم ، قال تعالى : (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامِ لِّلعَبِيدِ).

ذكر القرآن هذه الجملة بعد أن أخبر بأنّ كل انسانٍ مرتَهَنٌ بعمله ، إن عمل صالحاً فلنفسه وإن أساء فعليها ، وإن تورّط الناس بعواقب مشؤومة فبما كسبت أيديهم ، وأنّ الله ليس بظالمٍ لهم.

ونفي صفة (ظلّام) ـ كثير الظلم ـ عن الله تعالى ـ مع كونه لا يظلم أحداً أدنى شيء ـ فيه كلام ، فقد قال البعض : إنّ صدور (ادنى شيء من الظلم) ممن يعلم بقباحته وليس له أي حاجةٍ إليه ، يُعَدُّ ظُلماً عظيماً (٢).

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ٢٢ ، ص ١٧٦.

(٢) تفسير مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ١٨.

٣٢٠