نفحات القرآن - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-98-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٠٠

مكان معين يحدّه ، وأن وجوده فوق الزمان والمكان ، ولكون جميع الموجودات تستمد وجودها من وجوده ، ولا تستغني عنه أبداً ، فإنّه تعالى يُحيط بجميع موجودات العالَم إحاطة وجوديّة ، هي عين إحاطته الربوبية والقيّوميّة. (فتأمل جيداً).

توضيحات

١ ـ الله عزوجل فوق المكان والزمان

للفلاسفة بحوث عديدة حول حقيقة (المكان) و (الزمان) ، وبالرغم من أنّ هذا الموضوع من المواضيع التي تلازمنا دائماً إلّاأنّ معرفة حقيقتهما لا تزال من المشكلات حتى بالنسبة للفلاسفة! وهذه من العجائب.

فقد اعتقد جماعة بأنّ المكان ـ والذي يعطي معنى الفضاء ، أو هو بُعد خاص تسبح فيه الأجسام ، ـ موجود مخلوق قبل الجسم ، وكُلّ جسم بحاجة إليه.

وقال آخرون : إنّ الفضاء الخالي من كُلّ شيء ليس إلّاوهمٌ وخيالٌ ، وبالأساس ، فإنّ عدم وجود الجسم يعني عدم وجود المكان ، وبتعبيرٍ آخر : المكان يوجد بعد الجسم لا قبله ، ويُنتزَع من مقايسة جسمَين مع بعضهما ، وكيفية استقرارهما ، وليس من المناسب هنا انتقاد هاتين النظريتين الفلسفيتين وتحليلهما ، بل يجب القول : إنّ المكان بأي واحدٍ من هَذين المفهومين ، محال بالنسبة إلى الله عزوجل.

لأنّه لايمكن أن يكون هناك موجود قبل الله ، وفق التفسير الأول ، القائل : إنّ (المكان موجود يسبق وجود الجسم) ، وإذا قطعنا بأنّ الاجسام تحتاج إلى مكان ، فهل يُمكن أن يحتاج واجب الوجود الغني عن الوجود إلى شيءٍ آخر؟

وعليه يتضح استحالة تحقق مفهوم المكان طبق التفسير الأول بخصوص الباري الغني عن كلّ شيء والمنشىء لجميع الوجودات ، وأمّا وفق التفسير الثاني فهو يستلزم وجود النظير الكفؤ لله تعالى ليُقاس به ، ويُنتزع المكان من قياس هذين الإثنين مع بعضهما ، في حين أننا عرفنا في مباحث التوحيد أنّه تعالى ليس له كفؤ ابداً.

٢٠١

ومن جهة اخرى ، لا يمكن تصور المكان بدون محدوديّة ، لأنّه ينبغي تصور جسمين بصورة منفصلة عن بعضهما ليتّضح مفهوم المكان من مقايسَتهما مع بعضهما ، لذا يقول هؤلاء الفلاسفة : إنّ كُلّ العالم ليس له مكان لأنّه لا يوجد شيء خارج عنه ليُقاس به ، أمّا المكان فلأجزاء العالم فقط.

ومن جهةٍثالثة إذا كان لله مكان لاستلزم أن يكون له أعضاء وأجزاء ، لأنّ ذرات الجسم ـ بالقياس مع بعضها ـ تمتلك أمكنة مختلفة ، كأن تكون إحداها في الأعلى والاخرى في الأسفل ، إحداها في جهة اليمين والاخرى في جهة اليسار ، وإذا اعتقدنا بتركيب الله تعالى فستبرز مسألة حاجته إلى هذه الأجزاء والتي لاتتناسب مع وجوب وجوده.

ونفس هذا البحث يرد في مفهوم الزمان ، فالذين يعتقدون بأنّ الزمان ظرف مخلوق قبل الأشياء ، والأشياء الماديّة تدخله بعد الخلق والتكوُّن وتحتاج إليه ، وبتعبيرٍ آخر : الزمان حقيقة مستقلّة سيّالة مخلوقة قبل جميع الأشياء الماديّة ، ويُمكن أن يكون موجوداً حتّى بعد فنائها ، في هذه الحالة يتّضح عدم إحاطة الزمان بالله تعالى ، لأنّه يستلزم الحاجة إلى شيء وهو الغني عن كُلّ شيء.

وإن اعتقدنا ، ـ طبقاً لنظرية الفلاسفة المتأخرين ، ـ بأنّه وليد حركة أشياء العالَم أو الحركة الجوهريّة للأشياء ، فإنّه محال بشأن الباري ، لأنّه وجود كامل وغير محدود من كل ناحية ، ووجود كهذا لا يمكن تصور الحركة بشأنه (أي لا مفهوم لها) ، إذن لا يسعه الزمان.

٢ ـ لا يحلُّ الله في شيء

يعتقد جماعة من المسيحيين بأن الله تعالى قد حل في المسيح عليه‌السلام ، واعتقد جماعة من المتصوّفة بمثل ذلك في أقطابهم ، إذ قالوا إنّ الله تعالى قد حلَّ في وجودهم.

وكما قال العلّامة المرحوم الحلّي رحمه‌الله في (كشف المُراد) : «لا ريب في سخافة وزيف هذه العقيدة ، لأنّ ما يُمكن تصوُّره من الحلول هو : أنّ يحل موجود قائم في موجودٍ آخر ـ كقولنا : حلّ العطر في الورد ـ وهذا المعنى لا يُمكن تَصوره بخصوص الله ، لأنّه يسْتلزم اشغال حيزّ

٢٠٢

من المكان والحاجة إليه ، وهو أمر محال بالنسبة لواجب الوجود ، والذين يعتقدون بحلول الله في شيء سيتورطون بنوع من الشرك ، وهم خارجون عن سلك الموحدين» (١).

* * *

٣ ـ معنى حضور الله تعالى في كُلّ مكان!

يُمكن أن يتصور البعض حضور الله سبحانه في كل مكان كوجود قوة الجاذبّية أو وجود الأثير وهي موجات مفترضة ليس لها وزن ولا لون تملأ الوجود بأكمله وموجودة حتى في الفراغ) ، في حين أن جميع هذه الامور هي من قبيل الوجود في مكان ، أي وجود قسم من أمواج الجاذبية أو امواج الأثير في كل زاوية من زوايا العالَمْ ، وهذا الموضوع يَستلزم : وجود الأجزاء المركّبة من ناحيه ، والحاجة إلى المكان من ناحيةٍ اخرى.

في حين أنّ مفهوم وجود الله سبحانه في كل مكان هو أنّه تعالى فوق المكان ، لذا فلا معنى للبعد والقرب عنده ، وإذا أردنا أن نتصّور مثالاً ـ مع أنّه لا يفي بالغرض ـ حول هذا المفهوم ، يجب أن نشبه حضوره بحضور المعادلات العلميّة ، والمسائل العقليّة في كُلّ مكان ، كقولنا : الكل أكبر من الجزء ، واستحالة اجتماع النقيضين ، و ٢* ٢ / ٤.

وتصدق مثل هذه الأمور في الكرة الأرضية ، وفي كوكب القمر ، وفي كوكب المريخ ، وفي ما وراء المجّرات ، فالكل أكبر من الجزء في جميع هذه الأمكنة ، واجتماع النقيضين محال فيها أيضاً ، في حين أنّه لا يوجد مكان ومحل معين لهما.

ومن الأهميّة بمكان الالتفات إلى هذه الصفة الإلهيّة : وهي مثول العالم بأكمله بين يدي الله سبحانه له تأثير تربويٌ عميق في نفس الإنسان ، فكيف يُمكن أن يكون لأحدٍ إيمانٌ بمثل هذا الأمر ويرى حضور مولاه العظيم الحكيم وولي نعمته ، ويسلك طريق الخطايا ويلوّث نفسه بالذنوب المشينة ويعصي أوامره!؟

واللطيف هو أن الآيات التي ذكرناها بخصوص حضور الله تعالى في كل مكان ، تؤكّد

__________________

(١) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد للعلّامة الحلي ، ص ٢٢٧.

٢٠٣

غالباً على نفس هذا الأثر التربوي ، لذلك فقد ورد في بعضها : (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ، وفي البعض الأخر : (وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ).

فليس الحضور الإلهي خارج وجودنا فقط ، فهو تعالى موجودٌ في نفوسنا وقلوبنا وأعماق أرواحنا أيضاً ، كما قال مولى المتقين علي عليه‌السلام ، في وصف الله عزوجل «الباطن لكل خفيّة ، والحاضر لكُلّ سريرة ، العالمُ بما تكنُّ الصدور وما تخون العيون» (١).

وقال عليه‌السلام في خطبةٍ أخرى : «فاتقوا الله الذي أنتم بعينه ، ونواصيكُم بيده ، وتقلبكم في قبضته ، إن أسررتُم علمهُ ، وإن أعلنتم كتبَهُ» (٢).

* * *

٤ ـ لماذا نرفع أيدينا إلى السماء أثناء الدعاء؟

غالباً ما يُطرح هذا السؤال من قبل عامّة النّاس وهو : إذا لم يكن لله تعالى مكانٌ معيّنٌ فلماذا ننظر إلى السماء أثناء الدعاء؟ ونرفع أيدينا نحو السماء؟ فهل هو سبحانه موجودٌ في السماء «والعياذ بالله»؟

وقد طُرح هذا السؤال في زمان الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام أيضاً ، فقد روى «هشام بن الحكم» أنّ زنديقاً دخل على الإمام الصادق عليه‌السلام وسأله عن آية (الرحمن على العرش استوى).

فأجابه الإمام عليه‌السلام موضحّاً : «.... ونفينا أن يكون العرش أو الكرسي حاوياً له ، وأن يكون عزوجل محتاجاً إلى شيء مما خلق ، بل خلقه محتاجون إليه».

فقال السائل : إذن ، لا فرق في أن ترفعوا أيديكم أثناء الدعاء إلى السماء أو تنزلوها إلى الأرض!

فقال الإمام عليه‌السلام : «ذلك في علمه واحاطته وقدرته سواء ، ولكنه عزوجل أمر أولياءه

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٣٢.

(٢) المصدر السابق ، الخطبة ١٨٣.

٢٠٤

وعباده برفع أيديهم إلى السماء نحو العرش ، لأنّه جعله معدن الرزق ، فثبتنا ما ثبته القرآن والأخبار عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال : ارفعوا أيديكم إلى الله عزوجل ، وهذا يجمع عليه فرق الأمة كلها» (١).

ورد في الخصال عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، في حديثٍ آخر أنّه قال : «إذا فرغ أحدكم من الصلوة فليرفع يديه إلى السماء ، ولينصبّ في الدعاء. فقال ابن سبأ : ياأمير المؤمنين أليس الله عزوجل في كل مكان؟ قال : بلى ، قال : فلم يرفع يديه إلى السماء؟ فقال : أو ما تقرأ : وفي السماء رزقكم وما توعدون فمن أين تطلب الرزق إلّامن موضع الرزق وما وعد الله عزوجل في السماء» (٢).

وطبقاً لما جاء في هذه الروايات فإنّ أغلب أرزاق الناس تنزل من السماء ، (فالمطر الذي يُحيي الأرض الميتة ينزلُ من السماء ، ونور الشمس الذي يُعَدُّ منبعاً للحياة ، يشعُ من السماء ، والهواء الذي يُعد العامل المهم الثالث للحياة ، موجود في السماء ، فإنّ السماء عُرفَتْ كمعدنٍ للبركات والأرزاق الإلهيّة ، وتُرفَعُ الأيدي نحوها عند الدعاء طلباً ورجاءً من خالق ومالك كل تلك الأرزاق في حل المعضلات.

ويُستنتج من بعض الأخبار أيضاً أنّ هذا المفهوم لاينحصر بالمسلمين فقط ، بل كان موجوداً في بقية الأُمم كذلك ، كما نقل المرحوم (الفيض الكاشاني) في كتاب المحجّة البيضاء عن (مالك بن دينار) أنّه قال : أصاب الناس من بني اسرائيل قحط ، فخرجوا مراراً فأوحى الله تعالى إلى نبيّهم أن أخبرهم : «إنّما تخرجون إليَّ بأبدان نجسه ، وترفعون إليَّ اكفّاً قد سفكتم بها الدماء ، وملأتم بطونكم من الحرام الآن قد اشتد غضبي عليكم ولن تزدادوا منّي إلّابعداً» (٣).

ويستنتج من بعض الروايات وجود فلسفة اخرى لهذا العمل وهو إظهار الخضوع

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ٣٣٠ ؛ توحيد الصدوق ، ج ١ ، ص ٢٤٨ ، الباب ٣٦.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٩٠ ، ص ٣٠٨ ، ح ٧ ، وقد ورد الحديثان السابقان في تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٣) المحجة البيضاء ، ج ٢ ، ص ٢٩٨.

٢٠٥

والتذَلُّل للباري ، لأنّ الإنسان يرفع يديه حينما يظهر خضوعه واستسلامه لشخص أو شيء معين.

وفي حديثٍ للإمام الباقر عليه‌السلام في تفسير آية (فما استكانوا لربّهم وما يتضرّعون).

فقال عليه‌السلام : «الاستكانة هو الخضوع ، والتضرع هو رفع اليدين والتضرع بهما»(١).

٥ ـ نفي المكانية عن الله في الروايات الإسلامية

طُرحت هذه المسألة بشكل واسعٍ في الروايات الإسلاميّة في : أصول الكافي ، بحار الأنوار ، نهج البلاغة ، توحيد الصدوق ، وغيرها ، وذِكْرُها جميعاً لا يتناسب مع طريقة اختصار الكتاب ، لذا نكتفي بنفحات منها :

١ ـ عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله تبارك وتعالى لا يوصف بزمان ، ولا مكان ، ولا حركة ، ولا انتقال ، ولا سكون ؛ بل هو خالق الزمان والمكان والحركة والسكون والانتقال ، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً» (٢).

٢ ـ وجاء في حديث آخر أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام سمع رجلاً يقول : «والذي احتجب بسبع طباق ؛ فعلاه بالدرّه ، ثم قال له : ياويلك إنّ الله أجلَّ من أن يحتجب عن شيء ، أو يحتجب عنه شيء سبحان الذي لا يحويه مكان ، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ؛ فقال الرجل : أفأكفّر عن يميني ياأمير المؤمنين؟ قال : لا لم تحلف بالله فيلزمك الكفارة ، وإنّما حلفت بغيره» (٣).

٣ ـ وورد في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «إنّ سليمان بن مهران سأله هل يجوز أن نقول : إنّ الله عزوجل في مكان؟ فقال : سبحان الله وتعالى عن ذلك إنّه لو كان في مكان لكان مُحْدَثاً ، لأنّ الكائن في مكان محتاج إلى المكان والاحتياج من صفات المحدث لا من صفات القديم» (٤).

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٧٩ (باب الرغبة والرجعة) ح ٢.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ٣٠٩.

(٣) المصدر السابق ، ج ٣ ، ص ٣١٠.

(٤) التوحيد للصدوق ، ص ١٧٨ ، ح ١١.

٢٠٦

٤ ـ سُئل أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أين كان ربّنا قبل أن يخلق سماءً وأرضاً؟ فقال عليه‌السلام : (اين) سؤال عن مكان ، وكان الله ولا مكان» (١).

٥ ـ وجاء في حديث عن الإمام موسى بن جعفر عليهما‌السلام أنّه قال : «إنّ الله تبارك وتعالى كان لم يزل بلا زمان ولا مكان وهو الآن كما كان ، لا يخلو منه مكان ولايشغل به مكان ، ولا يحل في مكان ، ما يكون من نجوى ثلاثة إلّاهو رابعهم ولا خمسة إلّاوهو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلّاهو معهم اينما كانوا ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه ، احتجب بغير حجاب محجوب ، واستتر بغير ستر مستور لا إله إلّاهو الكبير المتعال» (٢).

تدل هذه الأحاديث بمنتهى الوضوح على أنّ كل مَن سأل الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام عن مكان الله ، سمع رداً سلبياً وتعابير متناغمة ، غنية صريحة ، وواضحة تدفع كل ابهام في هذا المجال عن قلوب المشتاقين.

٦ ـ ورد في (الإرشاد) و (الاحتجاج) : «أنّ اثنين من أحبار اليهود دخلا المدينة وسألا عن الخليفة ، فأرشِدا إلى أبي بكر ، فلمّا نظرا إليه قالا : ليس هذا صاحبنا ، ثم قالا له : ما قرابتك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّي رجل من عشيرته ، وهو زوج ابنتي عائشة ، قالا : هل غير هذا؟ قال : لا ، قالا : ليست هذه بقرابة ، قالا : فأخبرنا أين ربّك؟ قال فوق سبع سموات ، قالا : هل غير هذا؟ قال : لا ، قالا : دُلّنا على من هو أعلم منك؟ فانّك أنت لست بالرجل الذي نجد صفته في التوراة أنّه وصي هذا النبي وخليفته! قال : فتغيّظ من قولهما وهمّ بهما ، ثم أرشدهماإلى عمر ، وذلك أنّه عرف من عمر أنّهما إن استقبلاه بشيء بطش بهما ، فلما أتياه قالا : ما قرابتك من هذا النبي؟ قال : أنا من عشيرته ، وهو زوج ابنتي حفصة ، قالا : هل غير هذا؟ قال : لا ، قالا : ليست هذه بقرابة ، وليست هذه الصفة التي نجدها في التوراة! ثم قالا : فاين ربك؟ قال : فوق سبع سموات ، قالا : هل غير هذا؟ قال : لا ، قالا : دُلّنا على من هو أعلم منك؟ فأرشدهما إلى علي عليه‌السلام ، فلما جاءاه فنظرا إليه قال أحدهما لصاحبه : إنّه الرجل

__________________

(١) توحيد الصدوق ، ص ١٧٥ ، ح ٤.

(٢) المصدر السابق ، ص ١٧٨ ، ح ١٢.

٢٠٧

الذي نجد صفته في التوراة : أنّه وصي هذا النبي وخليفته وزوج ابنته وأبو السبطين والقائم بالحق من بعده ، ثم قالا لعلي عليه‌السلام : أيّها الرجل ما قرابتك من رسول الله؟ قال : هو أخي، وأنا وارثه ووصيه وأول من آمن به وأنا زوج ابنته فاطمة ، قالا له : هذه القرابة الفاخرة والمنزلة القريبة ، وهذه الصفة التي نجدها في التوارة ثم قالا له : فاين ربّك عزوجل؟ قال لهما علي عليه‌السلام : إن شئتما أنبأتكما بالذي كان على عهد نبيّكما موسى عليه‌السلام وإن شئتما انبئتكما بالذي كان على عهد نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قالا : أنبئنا بالذي كان على عهد نبيّنا موسى عليه‌السلام؟ قال علي عليه‌السلام : أقبل أربعة أملاك : ملك من المشرق ، وملك من المغرب ، وملك من السماء ، وملك من الأرض ، فقال صاحب المشرق لصاحب المغرب : من أين أقبلت؟ قال : أقبلت من عند ربّي ، وقال صاحب المغرب لصاحب المشرق : من أين أقبلت؟ قال : أقبلت من عند ربي ، وقال النازل من السماء للخارج من الأرض : من أين أقبلت؟ قال : أقبلت من عند ربي ، وقال الخارج من الأرض للنازل من السماء : من أين أقبلت؟ قال : أقبلت من عند ربي ، فهذا ماكان على عهد نبيّكما موسى عليه‌السلام .... قال اليهوديان : ما منع صاحبيك أن يكونا جعلاك في موضعك الذي أنت أهله؟! فوالذي أنزل التوراة على موسى أنّك لأنت الخليفة حقاً نجد صفتك في كتبنا ونقرأُه في كنائسنا ، وأنّك لأحق لهذا الأمر وأولى به ممن قد غلبك عليه ، فقال علي عليه‌السلام : قدّما واخّرا وحسابهما على الله عزوجل يوقفان ويُسألان» (١).

٧ ـ نختتم هذا البحث بجُمل واضحة من نهج البلاغة عن أمير المؤمنين الإمام علي عليه‌السلام : قال عليه‌السلام في الخطبة ١٧٨ من نهج البلاغة : «لا يغيّره زمان ، ولا يحويه مكان ، ولا يصفه لسان».

وقال عليه‌السلام في الخطبة ١٨٦ من نهج البلاغه : «وإنّ الله سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده ، لا شيء معه ، كما كان قبل ابتدائها .... بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان».

وفي الخطبة ٤٩ من نهج البلاغة قال عليه‌السلام : «سبق في العلو فلا شيء أعلى منه ، وقرب في الدنو فلا شيء أقرب منه ، فلا استعلاؤُه باعده عن شيء من خلقه ، ولا قربه ساواهم في المكان به».

__________________

(١) كتاب التوحيد للصدوق ، ص ١٨٠ ، ح ١٥.

٢٠٨

هذا هو ما وصلنا من المنطق الصحيح والمعارف الحقة لأهل البيت عليهم‌السلام حول الله سبحانه وتعالى.

* * *

٦ ـ تبريرات المخالفين

أثبت تاريخ العقائد الإسلاميّة بأنّ المنحرفين عن أصول الدين المعروفة كانوا يسْتعينون بالآيات المتشابهة لإثبات مقاصدهم دون أن يلتفتوا إلى القانون الذي طرحهُ القرآن في هذا المجال ، وهو تفسير المتشابهات في ظل المحكمات.

وقد لجأ القائلون بوجود مكان لله تعالى ، والقائلون بوجود جسم له أيضاً إلى بعض الآيات المتشابهات واعتبروها كافيةً لإثبات ادّعائهم بصورة منفصلة عن بقية الآيات القرآنية ، إليكم أهمها :

١ ـ (الرَّحْمَنُ عَلى العَرشِ اسْتَوَى). (طه / ٥)

تصور هؤلاء بأنّ (العرش) سريرٌ في أعلى السموات ، يجلس الله عليه ، ويصدر أوامره إلى الملائكة!

فهم يتغافلون عن أنّ هذا تعبيرٌ كنائي يُستعمل في الكثير من العبارات المتداولة ، وهو كناية عن السلطة والقدرة.

ويجدر التوضيح بأنّ الملوك القدماء كانوا يمتلكون نوعين من العرش :

الأول : مرتفع يطلق عليه العرب إسم (العرش) ، يجلس عليه الملك في الأيام الخاصّة ذات الطابع الرسمي.

والثاني : منخفض ، يأتي إليه الملك كل يوم ويجلس عليه في الحالات الطبيعية ليمارس عمله ويصدر أحكامه وأوامره ويدبّر أمور البلاد ، ويُطلق عليه العرب (الكرسي).

واستُعملت كلمتا (العرش) و (الكرسي) رويداً رويداً كرمزين وكنايتين عن السلطة ، وهذا المفهوم واضح في التعابير التالية :

٢٠٩

يقال : نَحَّوا الشخص الفلاني عن عرشه أي سُلبَت سلطتُهُ. أو فلانٌ فُلَّ عرشُهُ ، أي انتهت حكومته ، أو إنَّ الحادثة الفلانية هزَّتْ أركان عرشِ فلان أي زلزلت سلطتهُ ، ومن قبيل هذه التعابير.

وَعليه فعرش الله معناه العالم العلوي ، وكرسيُّهُ معناه العالم السفلي ، أو إنّ العرش إشارة إلى عالم ما وراء الطبيعة والمجرّدات ، والكرسي إشارة إلى عالم المادّة ، والشاهد على هذا الكلام آية : (وَسِعَ كُرسِيُّهُ السَّمَواتِ وَالأَرضَ). (البقرة / ٢٥٥)

فعندما يكون كُرسي الله قد وسع جميع السموات والأرض فإنّه يعني أنّ عرشه ما وراء السموات والأرض ، أي ما وراء عالم الطبيعة (١).

بناءً على ذلك فحينما يُقال : الرحمن على العرش استوى ، فالمقصود منه أنّ حاكميته ، ومالكيته ، وسلطته شملت العالم العلوي بوسعه ، والعالم السفلي بتمامه.

وهذا الأمر واضحٌ جدّاً ، ويُمكن للآيات القرآنية التي تنفي وجود مكان لله (وأوردناها في بداية الكلام) ، أن تكون خير دليلٍ على تفسير هذا الأمر.

ورد في تفسير الميزان أنّ الآية التي تلت هذه الآية (طه / ٦) تقول : (لَهُ مَا فِى السَّماوَاتِ وَمَا فِى الأَرضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحتَ الثَّرَى) ، وهي قرينة واضحة لتفسيرها (٢).

وردَّ الفخر الرازي في تفسيره على استدلال المشبِّهة ، بهذه الآية على جلوس الله على عرشه ، بعشر أدلة عقليّة ونقليّة ، من جملتها : إنّ الله كان موجوداً قبل خَلق العرش أو أي مكانٍ آخر ، فهو لم يكُن محتاجاً إلى المكان منذ الأزل ، فكيف يُمكن أن يحتاج إلى مكان بعد خلق العرش؟!

والآخر هو : لو أنّ الله تعالى جالسٌ على عرشه وفقاً لتصور هذه الجماعة لاستلزم أن يكون جزء من وجوده الكائن على يمين العرش غير الجزء الموجود على يساره! ولاستلزم

__________________

(١) لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك ممّا يردف الملك ، جعلوه كنايةً عن الملك فقالوا : استوى فلان على العرش يريدون مُلك وإن لم يقعد على السرير البتة ، الكشاف ج ٣ ، ص ٥٢.

(٢) تفسير الميزان ، ج ١٤ ، ص ١٣١.

٢١٠

التركيب ، والأخير يحتاج إلى الأجزاء بدوره ، (وهذا محال).

والآخر هو قول القرآن عن إبراهيم عليه‌السلام : (لَآأُحِبُّ الآفِلِينَ). (الأنعام / ٧٦)

يُشير إلى حضوره تعالى في كل مكان ، فلو كان جالساً على عرشه للزم أن يكون غائباً ومختفياً دائماً ، وهذا عين الأفول!

ومن جهةٍ اخرى يشير القرآن الكريم في الآية ١٧ من سورة الحاقّة إلى حملة العرش من الملائكة ، وبناءً على معتَقد جماعة (المشبّهة) يستلزم أن يكون الله بحاجة إلى ملائكة العرش ليحفظوه! في حين أنّ الله على كل شيءٍ حفيظ.

علاوةً على كون جميع آيات التوحيد ونفي التشبيه من المحكمات ، ونحن نعلم بأنّ ما يلزم التوحيد ونفي الكفؤ عنه تعالى هو نفي الجزئية عنه بكل ألوانها ، وهذا لايتناسب مع استقراره في مكان معين .... (ودلائل اخرى) (١).

ومن جملة الآيات التي استعان بها هؤلاء الجماعة ، هي الآية ٢٢ من سورة الفجر ، فبعد أن شرح سبحانه حوادث نهاية الدنيا وقيام القيامة قال : (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا).

طبعاً ، كما قال أكثر المفسّرين : إنّ المقصود من الآية هو مجي الأمر الإلهي لمحاسبة الناس ، أو حلول آيات عظمته ، لأنّ هذه الآيات والدلائل عظيمة لدرجة بحيث وكأنّ مجيئها يُعبّر عن مجي الذات الإلهيّة المقدّسة وتجلو كل أنواع الريب والشك من القلوب (٢).

من هنا فقد ورد بصريح العبارة في الآيات التي قرأناها سابقاً أنّ الله موجود في كل مكان ، ولا يخلو مكانٌ من ذاته المقدّسة ، ولا يسعه مكان في نفس الوقت : (وَهُوَ مَعَكُم أَيْنَ مَا كُنْتُم).

مع هذا فكيف يُمكن أن ينتقل من محلٍ لآخر ، كما استنتج (جماعة المشبهّة) من ظاهر كلمة (جاء) منها : (وَهُوَ مَعَكُم أَيْنَ مَا كُنتُم). (الحديد / ٤)

ومنها : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيهِ مِن حَبلِ الوَرِيدِ). (ق / ١٦)

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ٢٢ ، ص ٥.

(٢) تفاسير ، مجمع البيان ، الميزان ، القرطبي ، روح الجنان وغيرها.

٢١١

ومنها : (فَأَينَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجهُ اللهِ). (البقرة / ١١٥)

ومنها : (هُوَ الَّذِى فِى السَّمَاءِ الَهٌ وَفِى الأَرضِ إِلَهٌ). (الزخرف / ٨٤)

كيف يُتصوَّر انتقالُه من مكانٍ لآخر؟

علاوةً على أنّ التغيير ، والزوال ، والغروب ، والأفول ، والحاجة إلى المكان ، تعتبر من لوازم الانتقال.

والشاهد على هذا التفسير ، قوله تعالى : (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ المَلَائِكةُ أَو يَأتِىَ أَمرُ رَبِّكَ). (أي الموت أو العذاب الإلهي). (النحل / ٣٣)

ولكن تُلاحظ تعابير من هذا القبيل في بعض الآيات القرآنية أيضاً مثل : (إِلَيهِ يَصعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ). (فاطر / ١٠)

و : (تَعْرُجُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيهِ). (المعارج / ٤)

و : (لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَآؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقوَى مِنكُم). (الحج / ٣٧)

ومن المسلَّم به أنّ جميع هذه التعابير تُشير إلى الصعود المعنوي ، والعروج الروحي ، والقرب الباطني ، بقرائن نفس الآيات ، لأنّ العمل ليس بالشيء الذي يصعد إلى السموات الظاهريّة ، وكذلك التقوى ليس لها عروج جِسْمانيّ ، (تأمل جيداً).

لكن الذين لاينتبهون إلى هذه الحقائق ويتقيّدون بالألفاظ فقط يسلكون طريق الخرافات ظنّاً بأنّهم يرون الحقيقة.

وقد وردت تعابير في بعض الآيات أيضاً تبيّن في الواقع عقيدة الكافرين ، لكن الجهلاء اتخذوها مبرراً للقول بوجود جسمٍ ومكانٍ لله تعالى من دون الإنتباه إلى ذلك ، فمثلاً نقرأ في قوله تعالى : (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأتِيهُمُ اللهُ فِى ظُلَلٍ مِّنَ الغَمَامِ وَالمَلَائِكَةُ). (البقرة / ٢١٠)

(ماأسخفه من مُعتقَد وتصورٍ ساذجٍ).

وعليه فإنّ الإستفهام الموجود في الآية هو بالحقيقة استفهامٌ إستنكاري ، أي عدم إمكانية تحققُ مثل هذا الشيء (١).

__________________

(١) فسّر بعض المفسّرين الاستفهام الموجود في الآية بأنّه استفهام تحذيري ، وقدّروا كلمة (أمر) محذوفة كما مرّ ـ

٢١٢

وخلاصة الكلام هو أنّ وضوح تفسير مثل هذه الآيات موقوف على قليل من الدقّة ، والرجوع إلى الآيات المحكمات بالنسبة إلى نفي الجسم ، والمكان ، والزمان لله سبحانه وتعالى ، فلا يبقى محلٌ للاشتباه والشك والريب.

* * *

٧ ـ المتصوّفة ومسألة الحلول

قال العلّامة الحلّي رحمه‌الله في كتاب نهج الحق : «إنّ إتحاد الله مع غيره بحيث يصيران شيئاً واحداً باطل ، بل وبطلانه يُعَدُّ من البديهيات ، ، ثم أضاف قائلاً : رفض جماعة من متصوفة أهل السُّنة هذه الحقيقة وقالوا : إنّ الله يتحد مع بدن العرفاء ويصيرا شيئاً واحداً!! وحتى قال بعضهم : الله عين الموجودات وكل موجودٍ هو الله ، إشارة إلى مسألة وحدة الوجود المصداقيّة ، ثم قال : هذا عين الكفر والإلحاد ، والحمد لله الذي أبعدنا عن أصحاب هذه العقائد الباطلة ببركة الإلتزام بمذهب أئمة أهل البيت عليهم‌السلام.

وقال في بحث الحلول : من المسائل المسلَّم بها أنّ أيّ موجودٍ يريد أن يحلّ في آخر يحتاج إلى مكان ، ولأنّ الله واجب الوجود ولا يحتاج إلى شيء ، إذن فحلوله في الأشياء مُحال.

ثم أضاف قائلاً : «رفض متصوفة أهل السُّنَة هذه المسألة واعتقدوا بإمكانية حلول الله في بدن العرفاء» ، ثمَّ ذمَّ هذه الجماعة بشدة وقال : ولقد شاهدتُ جماعة من الصوفية في حضرة الإمام الحسين عليه‌السلام وقد صلّوا صلاة المغرب سوى شخصٍ واحدٍ منهم كان جالساً لم يُصلِّ ، ثم صلّوا بعد ساعةٍ صلاة العشاء سوى ذلك الشخص الذي ظلّ جالساً!.

فسألتُ بعضهم عن ترك صلاة ذلك الشخص فقال : ما حاجة هذا إلى الصلاة وقد وصل! أَفهل يجوز أن يجْعلَ بينه وبين الله تعالى حاجباً؟ فقلتُ : لا ، فقال : الصلاة حاجب بين العبد وربّه!» (١).

__________________

ـ في بعض الآيات السابقة ، وقالوا : إنّ على هذه الجماعة من الكفار أن ينتظروا مجي أمر الله بالعذاب ومجي ملائكة الحساب لمحاسبتهم.

(١) نهج الحق ، ص ٥٨ و ٥٩.

٢١٣

وقد ورد نفس هذا المفهوم في مقدمة الدفتر الخامس لكتاب المثنوي بنحوٍ آخر ، يقول : «يصح ذلك إذا بلغت المقصود ، لذا فقد قالوا : لوظهرت الحقائق بطلت الشرائع! ، وشبّه الشريعة بعلم الكيمياء (العلم الذي يمكن بواسطته استخلاص الذهب من النحاس) فقال : ماحاجة الذهب الأصيل ، أو الذهب المستخلَص إلى علم الكيمياء!؟ فكما قالوا : طلب الدليل بعد الوصول إلى المدلول قبيح!» (١).

وقد نُقلَ عن (صاحب المواقف) في كتاب (دلائل الصدق) في شرح (نهج الحق) قوله بأنّ نفي (الحلول) و (الإتحاد) ثلاث طوائف ، واعتبر بعضَ المتصوّفة من الجماعة الثانية وقال : إنّ كلامهم متذبذب بين الحلول والإتحاد (يُقصد بالحلول نفوذ الله في الأشياء ويُقصد بالإتحاد الوحدة بينه وبين الأشياء).

ثم أضاف قائلاً : رأيتُ بعض (المتصوّفة الوجوديين) يُنكرون الحلول والإتحاد ، ويقولون : توحي هاتان الكلمتان بمغايرة الله للمخلوقين ، ونحن لا نؤمن بذلك! فنحن نقول : (ليس في دار الوجود غيره ديّار)!!

وهنا يقول صاحب المواقف : إنّ هذا العذر أقبح من الذنب (٢).

وبالطبع فإنّ للمتصوفة الكثير من قبيل هذا الكلام الذي لا يتناسب مع الموازين ومنطق العقل ، ولا مع منطق الشرع.

وعلى أيّة حال فإنّ الأتحاد الحقيقي بين شيئين محالٌ ، كما ورد في كلام المرحوم العلّامة ، لأنّ هذا الكلام عين التّضاد ، فكيف يُمكن لشيئين أن يصيرا شيئاً واحداً ، إضافةً إلى ذلك فلو اعتقد أحدٌ باتحاد الله مع جميع المخلوقات أو خواص العرفاء والواصلين ، لاستلزم أن يتصف بصفات الممكنات كالزمان ، والمكان ، والتغيُّر ، وما شاكل ذلك.

وأمّا بخصوص (الحلول) ، أي نفوذ الله في الأشياء ، فيستلزم خضوعه للمكان ، وهذا

__________________

(١) دفتر المثنوي الخامس ، ص ٨١٨.

(٢) دلائل الصدوق ، ج ١ ، ص ١٣٧.

٢١٤

شيءٌ لا يتناسب أبداً مع وجوب وجود الله سبحانه وتعالى (١).

والخلاصة أنّ الصوفيين يعتقدون بعدم إمكانية إثبات مثل هذه الإدّعاءات بالأدلة العقليّة ، وغالباً ما يفصلون طريقهم عن طريق العقل ، ويستعينون بسلسلة من المسائل الذوقيّة الخياليّة التي يسمّونها (طريق القلب) ، ومن المسلم به أنّه لايُمكن التوقُّع ممن يرفض منطق العقل سوى هذا الكلام المتناقض.

ولذلك فقد ابتعد عنهم كبار العلماء وطردوهم دائماً وفي جميع العصور.

فالقرآن الكريم يستند في الكثير من آياته إلى العقل والبرهان ويعدّهما طريقاً لمعرفة الله.

وبهذا الكلام ، وبالبحوث التي أوردناها بصدد (نفي الشريك والشبه) ، و (نفي الصفات الزائدة عن الذات الإلهيّة المقدّسة) ، نصل إلى نهاية بحث (صفات جلال الله) بصورة كليّة وأساسيّة ، وقد اتضحت لنا جزئياته في ظل الأصول التي ذُكرت ، بصورة جيدة.

ولنبحث الآن صفات الفعل الإلهي بعونه تعالى.

* * *

__________________

(١) يجدر الأنتباه إلى أنّ نفس هذا المفهوم بخصوص بُطلان الحلول والإتحاد قد ورد في شرح تجريد العقائد للعلّامة الحلّي باستدلالٍ مفصَّل. (كشف المراد ، ص ٢٢٧ ، باب أنّه تعالى ليس بحالّ في غيره ونفي الإتّحاد عنه).

٢١٥
٢١٦

٢ ـ صفات فعل الله

٢١٧
٢١٨

تمهيد :

يُعد تقسيم صفات الله إلى صفات الذات وصفات الفعل من أشهر تقسيمات بحث الصفات ، وقد ذكرنا ذلك سابقاً.

فـ (صفات الذات) وهي الصفات التي هي نفس الذات الإلهيّة المقدّسة كانت ثابتة لله حتى قبل صدور الأفعال منه تعالى ، كأزليته وأبديته وعلمه وسلطانه.

أمّا (صفات الفعل) فهي الصفات التي تُطلق عليه بملاحظة صدور فعل معين من ذاته المقدّسة كالخالق والرازق ، فمن المسلَّم أنّ هذه الصفة لم تكن لتُطلَق عليه قبل أن يخلق مخلوقاً ويرزقه ، وبالطبع فقد كانت له القدرة على الخلق والرزق ، إلّاأنّ صفة الخالق والرازق لم تكن تصدق عليه.

وعليه فصفات الفعل حادثة ، وهي ليست نفس ذات الله طبعاً ، وبالحقيقة هي مفاهيم موجودة في أذهاننا.

فما هو موجودٌ في الخارج هو الذات الإلهيّة المقدّسة والأفعال الإلهيّة ، وعندما نلاحظ صدور هذه الأفعال من الذات المقدّسة ننتزع هذه الصفات في أذهاننا ـ بتعبير علمائنا الكبار ـ ونقول هو الخالق والرازق والمحيي والمميت ، (وسنوضح ذلك فيما بعد).

ولأنّ أفعال الله غير محدودة ، فإنّ صفاته الفعلية غير محدودة كذلك. أمّا أهم الصفات الفعليّة التي وصف القرآن الكريم الذات الإلهيّة المقدّسة بها والتي لها آثار تربوية عميقة جدّاً على حياة البشر علاوةً على اكمال معرفتهم بالله ، وكلٌّ منها تهدي الإنسان وتعينه على سلوك مراحل تكامل الصفات الإنسانية ، هي مايلي : ١ ـ الخالق ، ٢ ـ الخلّاق ، ٣ ـ أحسن الخالقين ، ٤ ـ الفاطر ، ٥ ـ البارئ ، ٦ ـ الفالق ، ٧ ـ البديع ، ٨ ـ المصور ، ٩ ـ المالك ، ١٠ ـ الملك ، ١١ ـ الحاكم ، ١٢ ـ الحكيم ، ١٣ ـ الرب ، ١٤ ـ الولي ، ١٥ ـ الوالي ، ١٦ ـ المولى ،

٢١٩

١٧ ـ الحافظ ، ١٨ ـ الحفيظ ، ١٩ ـ الرقيب ، ٢٠ ـ المهيمن ، ٢١ ـ الرازق ، ٢٢ ـ الرزاق ، ٢٣ ـ الكريم ، ٢٤ ـ الحميد ، ٢٥ ـ الفتاح ، ٢٦ ـ الرحمن ، ٢٧ ـ الرحيم ، ٢٨ ـ ارحم الراحمين ، ٢٩ ـ الودود ، ٣٠ ـ الرؤوف ، ٣١ ـ اللطيف ، ٣٢ ـ الحفيّ ، ٣٣ ـ الغافر ، ٣٤ ـ الغفور ، ٣٥ ـ الغفار ، ٣٦ ـ العفو ، ٣٧ ـ التوّاب ، ٣٨ ـ الجبار ، ٣٩ ـ الشكور ، ٤٠ ـ الشاكر ، ٤١ ـ الشفيع ، ٤٢ ـ الوكيل ، ٤٣ ـ الكافي ، ٤٤ ـ الحسيب ، ٤٥ ـ سريع الحساب ، ٤٦ ـ اسرع الحاسبين ، ٤٧ ـ سريع العقاب ، ٤٨ ـ شديد العقاب ، ٤٩ ـ النصير ، ٥٠ ـ نعم النصير ، ٥١ ـ خير الناصرين ، ٥٢ ـ القاهر ، ٥٣ ـ القهار ، ٥٤ ـ الغالب ، ٥٥ ـ السلام ، ٥٦ ـ المؤمن ، ٥٧ ـ المحي ، ٥٨ ـ الشهيد ، ٥٩ ـ الهادي و ٦٠ ـ الخير.

ويجدر الإنتباه أيضاً إلى هذه المسألة وهي : إنّ الصفات الستّين المذكورة أعلاه والتي وردت في الآيات القرآنية المختلفة ذات مفاهيم قريبة من بعضها ، لذا سنبحث كل مجموعة متقاربة في فصلٍ خاصٍ.

وهنالك بعض الصفات أيضاً ذات مفهومَيْن متفاوتَيْن ، تبعاً لإرجاعها إلى (صفات الذات) و (صفات الفعل) كما سنتطرّق إلى ذلك في قسم التوضيحات إن شاء الله.

* * *

١ ـ الخالق ٢ ـ الخلّاق ٣ ـ أحسن الخالقين

وردت هذه الصفات في آيات قرآنية عديدة وفي حالات مختلفة :

١ ـ (قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شىءٍ). (الرعد / ١٦)

فالآية أعلاه تشير إلى خلق جميع موجودات عالم الوجود.

٢ ـ (إِنِّى خَالِقُ بَشَراً مِّن طِينٍ). (ص / ٧١)

تُشير هذه الآية إلى خلق الإنسان ـ الذي يعتبر أفضل مافي عالم الوجود ـ من موجودٍ حقير كالطين.

٣ ـ (هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ). (الحشر / ٢٤)

٢٢٠