نفحات القرآن - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-98-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٠٠

الزوجين وحق أولادهما ، وصان الزواج من أي لون من التلوث بالاستفادة من سنة أحكام اللِّعان الحكيمة هذه).

* * *

هو الحكيم الحميد :

يلاحظ في الآية الخامسة اقتران صفة «الحكيم» بصفة «الحميد» ، بعد أن بَّينت الآية عظمة القرآن الكريم ، قال تعالى : (لَّايَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيْلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).

وردت تفاسير عديدة حول معنى كلمة «الباطل» وجملة «من بين يديه ومن خلفه» ، لكن الظاهر هو أنّ «الباطل» يشمل كل مايُبطل ويسقط هذا الكتاب السماوي من الاعتبار ، وجملة «من بين يديه ومن خلفه» كناية عن جميع الجهات ، أي أنّ غبار البطلان لن يترسب على هذا الكتاب السماوي ، لا من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى ، سواء كان في الكتب السابقة أم المقالات اللاحقة.

والدليل على ذلك هو أنّه تنزيل من لدن ربّ حكيم يحيط بجميع أسرار خلق الإنسان والكون ، والهدف منه هو الامتنان على الإنسان بأكبر النعم الإلهيّة ، نعمة تستحق أعلى مراتب الحمد ، لذا فقد وردت صفة الحميد بعد صفة الحكيم.

ولهذا لا يمكن أن نجد نقطة ضعف في مضمونه ولا في معاينه ولا تستبدل بمرور الزمان ، أو يستطيع أحدٌ تحريفه أو تغيير محتوياته.

* * *

إنَّهُ علىٌّ حَكِيمٌ :

بعد أن أشارت الآية الخامسة إلى مسألة الوحي وارتباط الأنبياء مع الذات الإلهيّة المقدّسة بطرق مختلفة (الالهام القلبي ، التكليم بايجاد أمواج صوتيّة أو إرسال الوحي)

١٠١

قالت الآية السادسة : (إِنَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ).

إنَّ علوّه تعالى يستوجب أن لا يتصل مع عباده الذين هم موجودات جسمانية ومخلوقات إمكانية ، إلّابالطرق التي ذكرناها ، وحكمته تستوجب أن يفيض الوحي بالمعارف والتعاليم التي تعبّد طريق الإنسان إلى الله تعالى.

هنا تتضح الآصرة الوثيقة الموجودة بين هاتين الصفتين ، ويتضح محتوى الآية.

* * *

الطلاق نابع من الحكمة الإلهيّة :

وبالتالي فالآية السابعة والأخيرة من بحثنا ، بعد أن سمحت للزوج والزوجة بالطلاق عند فقدان الالفة ، أمّلتهما بالحياة المستقبليّة لكي لا ييأسا ويسلكا طريق المعاصي. قال تعالى : (وَانْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِّنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعاً حَكِيْماً).

فمن جهة يبشّرهما تعالى بالغنى من فضله وكرمه (وهذا يتناسب مع وصفه تعالى بالواسع) ، ومن جهة اخرى فقد شرّع الطلاق وسمح للزوجين بالافتراق في حالات خاصّة (وهذا مقتضى حكمته سبحانه) ، لأنّه لو لم يشرع قانون الطلاق ـ كما في القوانين المسيحية المشرَّعة في عصرنا الحاضر ـ لواجه الزوجان طريقاً مسدوداً في حالات الطلاق الضرورية ، ولتورّطا بنارٍ محرقة لامفرّ منها ، ولتهيأت الأرضية لوقوع كل ألوان الإنحرافات الأخلاقية والجرائم وتضييع حقوق الزوجين وأبنائهما.

نتيجة البحث :

يستنتج من مجموع الآيات المذكورة بوضوح أن حكمة الله تعالى التي هي إحدى فروع علمه ، تدل على أنّ الوجود بكل أبعاده قائم على أساس نظام وحساب دقيق وقوانين موزونة ومنسجمة ، وأنّ أفعال الله تعالى بكل أبعادها مقرونة بالحكمة ، وهذا هو مايعبر عنه بالنظام الأحسن في بعض الأحيان.

١٠٢

وهذا النظام الأحسن قد تجلى في عالم التشريع والتقنين والأحكام الشرعية ، وفي طيات تشريع هذه القوانين والاحكام أسرارٌ وفلسفات لايعلمها إلّاالله الحكيم الذي أرانا قسماً منها أيضاً.

* * *

توضيحان

١ ـ الأدلة على حكمة الله تعالى

لم يكن اتصاف الله تعالى بالحكمة مستنبطاً من عشرات الآيات القرآنية ، التي وصفته بالحكيم فحسب ، بل يمكن إثباته بالأدلة العقليّة أيضاً.

لأنّه وكما أشرنا سابقاً فإنّ صفة الحكيم تطلق على من يؤدّي افعاله بأفضل وجه ، وأقرب طريق ، ويتحرز عن أي عملٍ غير موزون وغير صالح. وبالحقيقة أنّ الحكمة تشمل الحالات العملية في الغالب ، بينما نجد أنّ العلم يشمل الحالات النظرية.

لذا فإنّ جميع الأدلة التي تثبت علم الله تعالى ، أثبتت حكمته أيضاً ، ولكن يجدر الالتفات إلى التفاوت الموجود بين وصف الباري بالحكيم والإنسان بنفس هذه الصفة ، فالأخير هو من تنسجم أعماله مع قوانين عالم الوجود ، لكن قولنا : الله حكيم ، يعني الذي أوجد القوانين التي هي مصداق للنظام الأحسن ، وبتعبير أدق : إنّ الله تعالى هو الذي يقنن القانون ويشرِّعه ونحن نطبقه.

ومن جهة اخرى فإنّ نظرةً واحدةً إلى عالم الوجود ـ من المنظومات الشمسية والكواكب والنجوم ، حتى مكوّنات الذرة ، ومن الكائنات الحية الاحادية الخلية ، وحتى الحيوانات العملاقة ، والأشجار العظيمة ـ كافية لإدراك حكمة الخالق ومؤسس هذا البناء البديع.

إنّ جميع الكتب التي كتبت حول العلوم الطبيعية ، والفيزياء ، والكيمياء ، والتشريع ، وعلم الحيوان ، والنبات ، وعلم الفلك والنجوم ، هي في الأساس تشرح حكمة الله تعالى ، وكما قال العلماء : إنّ جميع هذه العلوم هي في الواقع ورقة واحدة من كتاب أسرار عالم الوجود العظيم.

١٠٣

وهذا بحد ذاته أفضل دليلٍ على حكمته سبحانه.

وبتعبير آخر : فكما أنّ برهان النظم يثبت وجود الله سبحانه وتعالى ، فهو يثبت علمه وحكمته أيضاً.

والجدير بالذكر أنّ روايات كثيرة ، ومن جملتها رواية «توحيد المفضل» المعروفة ، تحتوي على إشارات قيِّمة كثيرة حول حكمة الله تعالى في خلق الإنسان ، والحيوان ، والطيور ، والأسماك ، والسماء ، والشمس والقمر والنجوم ، والماء والنار ، والمعادن ، والنباتات ، والأشجار ، وغيرها ، وقد وضَّحت بأجمعها ما قلناه.

* * *

٢ ـ الآثار التربويّة لمعرفة حكمة الله تعالى

غالباً مايُنظر إلى صفات الله تعالى من بعد «معرفة الله» ، وهذا صحيح في محله طبعاً ، لكن القرآن الكريم استعمل هنا نقطة ظريفة اخرى وهي استعانته بهذه الصفات لتربية الإنسان في الغالب ، والتي تجلت نماذج منها في الآيات التي ذكرناها ، لذا يجب أن نعمل بهذا الكتاب الإلهي ، ونتخذ من معرفة صفات الله تعالى أساساً لتهذيب نفوسنا وتكامل عقولنا.

إنّ للإيمان بحكمة الله تعالى انعكاسات وآثار تربوية في نفس الإنسان ، وهذه الآثار هي كالتالي :

أ) الإيمان بحكمته تعالى يمكنه أن يترك آثاراً بليغة في التطورات العلمية للإنسان ومعرفته بأسرار عالم الوجود ، ويزيد في سرعة العلم البشري بالسير إلى الأمام قُدُماً.

لأننا عندما نعلم أن صانع هذا البناء البديع العظيم معمار ماهر ، وأودع كل موضع منه أسرار الحكمة ، فإننا سوف لا ننظر إلى موجودات وحوادث هذا العالم بنظرة عادية ، بل سوف نتعمق في كل ظاهرة كموضوع مهم ، بحيث نتوصل إلى اكتشاف قانون الجاذبية العام المهم جداً ، وقوانين مهمّة اخرى بمجرّد سقوط تفاحة من شجرة ما.

١٠٤

ولا تعجب عند سماعك بأنّ (إنشتاين) كان يعتقد بأنّ العلماء والمكتشفين العظام كانوا جميعاً يؤمنون نوعاً ما بوجود المبدئ العليم ، وبحكمة الوجود ، وهذا الأمر هو الذي كان يشجعهم على بذل مساعٍ أكبر.

ب) إنّ الاعتقاد بحكمة الله تعالى في التشريع والتقنين يهوّن الصّعاب الموجودة في تعاليم تلك الشرائع ، ويلتذ الإنسان في تحمل الشدائد في طريق امتثال أوامره سبحانه ، لأنّه يدرك بأنّ جميع هذه البرامج والقوانين صادرة من ذلك الحكيم العظيم. فتجويزه سبحانه وتعالى دواءً مُراً مثلاً ، إنّما هو لدور ذلك الدواء في شفاء الإنسان ، وتشريعه لتكليف شاق معين ، إنّما هو من أجل سعادة الإنسان وتكامله المترتبة عليه.

ج) إيمان الإنسان بهذه الصفة الإلهيّة يزيد من صبره وتحمله وقدرته ، ومقاومته في مواجهة المصائب والحوادث المرة ، وذلك لأنّه يدرك وجود حكمة معينة في كل واحدة منها ، وهذا الاحساس يعينه في التغلب على المشاكل المذهلة ، لأننا نعلم بأنّ الشرط الأول للتغلب على المشاكل هو التمتع بالمعنوية العالية ، والتي لا تتحقق إلّافي ظل معرفة حكمة الله تعالى.

د) وكما نعلم أنّ افضل مقام مرموق يبلغه الإنسان هو وصوله إلى مقام القرب منه تعالى ، ولا يتحقق القرب منه سبحانه إلّابالتخلق بأخلاقه تعالى والاقتباس من نور صفاته. والإيمان بحكمة الله تعالى يدعو الإنسان إلى سلوك طريق العلم والحكمة والتخلق بالأخلاق الإلهيّة ، ولعل هذا هو السر في تعبير القرآن عن الحكمة بعبارة (خيراً كثيراً) حيث قال : (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ اوْتِىَ خَيْراً كَثِيراً). (البقرة / ٢٦٩)

ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام قوله : «الحكمة ضياء المعرفة وميراث التقوى وثمرة الصدق وما أنعم الله على عبدٍ من عباده نعمة أنعم وأعظم وأرّفعَ وأجْزلَ وأبْهى من الحكمة» (١).

ونختم كلامنا هذا بكلام العلّامة المجلسي رحمه‌الله ، والذي يوضح البحوث السابقة وخصوصاً البحث الأخير.

__________________

(١) بحار الانوار ، ج ١ ، ص ٢١٥ ، ح ٢٦.

١٠٥

فقد نقل العلامة المجلسي رحمه‌الله معنى الحكمة عن العلماء بأنّهم قالوا : الحكمة تحقيق العلم وإتقان العمل ، وقيل : مايمنع من الجهل ، وقيل : هي الإجابة في القول ، وقيل : هي طاعة الله ، وقيل : هي الفقه في الدين ، وقال ابن دريد : كل ما يؤدّي إلى مكرمة ، أو يمنع من قبيح ، وقيل : مايتضمن صلاح النشأتين (١).

* * *

__________________

(١) بحارالانوار ، ج ١ ، ص ٢١٥ ، ح ٢٦.

١٠٦

د) إرادة الله ومشيئته

تمهيد :

هناك آيات قرآنية كثيرة تحدثت عن إرادة الله سبحانه سواءً في عالم الخلق والوجود ، أو في تشريع القوانين والأحكام وتكاليف العباد ومصيرهم.

لا ريب في أن لله تعالى إرادتين ، تكوينية وتشريعية ، وظهور الحوادث المختلفة في أوقات مختلفة يُعد دليلاً واضحاً على إرادته في إيجاد موجود أو حادثة ما في يوم كذا ، لا قبله ولا بعده.

وهكذا فإنّه تعالى أراد أن يؤدّي عباده الطاعة الفلانية ويتركوا المسائل الاخرى.

لكن ماهو معنى وحقيقة إرادة الله تعالى؟

تُعدّ هذه المسألة من أعقد المسائل الكلامية والعقائدية والفلسفية ، ولكن بعد التحليل النهائي سنتوصل إلى أنّ إرادة الله تعالى ومشيئته فرعٌ من فروع علمه سبحانه. أما كيف؟ فهذا ما سنعرفه بعد تتبع الآيات القرآنية التي وردت حول إرادته ومشيئته تعالى.

ولنتأمل خاشعين في الآيات الكريمة التالية :

١ ـ (انَّمَا قَوْلُنَا لِشَىءٍ اذَا ارَدْنَاهُ انْ نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). (النحل / ٤٠)

٢ ـ (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ اللهِ شَيْئاً انْ ارَادَ بِكُمْ ضَرًّا اوْ ارَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً). (الفتح / ١١)

٣ ـ (وَنُرِيدُ انْ نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الْارْضِ وَنَجْعَلَهُمْ ائِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ). (القصص / ٥)

٤ ـ (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ). (البقرة / ١٨٥)

١٠٧

٥ ـ (يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ انَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَديرٌ). (النور / ٤٥)

٦ ـ (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَىءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً* الّا انْ يَشَاءَاللهُ). (الكهف / ٢٣ / ٢٤)

٧ ـ (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ انْ يُكَلِّمَهُ اللهُ الَّا وَحْيًا اوْ مِنْ وَرَاءِى حِجَابٍ اوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فيُوحِىَ بِاذْنِهِ مَا يَشَاءُ انَّهُ عَلىٌّ حَكيمٌ). (١) (الشورى / ٥١)

شرح المفردات :

«الإرادة» : من مادّة (رَوْد) (على وزن مَوْج) ، وهي في الأصل بمعنى التردُّد المصحوب بالهدوء لتحصيل شيء ، وتُطلق على الذي يبحث عن مرتع لرعي المواشي.

وكلمة (الإرادة) المأخوذة من هذا الأصل هي بالواقع مركّبة من ثلاثة عناصر : «إرادةالشيء عن رغبة» و «مع الأصل في الوصول إليه» و «الأمر بفعله من قبله أو الآخرين» (٢).

يعتقد الكثير من الغويين والمتكلمين أنّ «المشيئة» تعني «الإرادة» ، لذا فقد قال الراغب في المفردات : يعتقد أكثر المتكلمين أنّ المشيئة تعني «الإرادة» تماماً ، واعتقد البعض منهم أنّ المشيئة تعني إيجاد الشيء والوصول إليه ، ولو أنّها حلّت محل الإرادة في الاستعمالات المتعارفة ، وعلى هذا تكون المشيئة بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى بمعنى الإيجاد ، وبالنسبة إلى الناس بمعنى الوصول إلى شيء معين (٣).

لكنه ورد في بعض كتب اللغة أنّ «المشيئة» غير «الإرادة» ، فالمشيئة هي المَيْل الذي يحصل للإنسان بعد التصوُّر والتصديق ، ثم يصل بعدها العزم والتصميم ، ثم تتحقق الإرادة (وعليه فإنّ المشيئة) تُطلَقُ على المراحل الأولى ، و «الإرادة» على المرحلة الأخيرة وتتصل بالفعل (٤).

__________________

(١) وهناك آيات اخرى تتضمن هذا المعنى وهي : المائدة ، ١٧ ؛ الرعد ، ١١ ؛ الكهف ، ٨٢ ؛ الاحزاب ، ١٧ و ٣٣ و ٣٨ ؛ الاسراء ، ١٦ ؛ الانعام ، ١٢٥ ؛ البقرة ، ١٨٥ ؛ آل عمران ، ١٧٦ ؛ النساء ، ٢٦ و ٢٧ و ٢٨ ؛ المائدة ، ١ و ٦ و ٤١ ؛ الانفال ، ٧ ؛ التوبة ، ٥٥ ؛ هود ، ١٠٧ ؛ الحج ، ١٤ و ١٦ ؛ فاطر ، ١٠ ؛ البروج ، ١٦.

(٢) مفردات الراغب ؛ مقاييس اللغة ؛ لسان العرب.

(٣) مفردات الراغب ؛ ونهاية ابن الأثير ؛ ومصباح اللغة ؛ وصحاح اللغة ؛ ولسان العرب ؛ ومجمع البحرين.

(٤) التحقيق في كلمات القرآن الكريم.

١٠٨

وقد ورد في الروايات الإسلاميّة أيضاً أنّ «المشيئة» مرحلة قبل «الإرادة» ، وسيأتي شرح ذلك في قسم التوضيحات إن شاء الله.

جمع الآيات وتفسيرها

إرادته نافذة في كل شيء :

أخبرت الآية الأولى بحقيقة عدم انفصال إرادة الله تعالى عن وجود الأشياء ، فبمجرّد قوله سبحانه للشي الذي يريده ، كُنْ ، فإنّه سيتحقق : (انَّمَا قَوْلُنَا لِشَىءٍ اذَا ارَدْنَاهُ انْ نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

وطبعاً إنّ هذا الكلام لايعني وجود الحوادث والموجودات في لحظة واحدة ، بل يعني وجودها وحدوثها وفق الإرادة الإلهيّة والأمر الإلهي بدون تقديم أو تأخير حتى ولو لحظة واحدة.

أي إذا أراد الله تعالى أن يبقى جنين في بطن امه تسعة أشهر وتسعة أيام بالضبط ، فإنّه سيولد في الموعد المحدَّد وبدون لحظة من التقديم أو التأخير ، وهكذا إذا أراد سبحانه أن يمكث هذا الجنين أقل أو أكثر من هذه المدّة ، وإذا أراد الله إيجاد منظومة كالمنظومة الشمسية ، أو عالم عظيم آخر كالعالم الحالي فإنّه سوف يوجد على الفور.

والتعبير بكلمة (كن) أيضاً إنّما جاء بسبب عجز اللفظ عن بيان المعنى ، أي أنّه تعبير كنائي وإلّا فلا توجد فاصلة بين إرادة الله تعالى وتحقق الشيء المراد.

والعجيب هو أن بعض المفسّرين القدماء فسّروا كلمة (كن) كأمر صادر من الله تعالى ، فواجهوا هذا السؤال : مَن هو المخاطب؟ أيمكن مخاطبة العدم؟

وعليه اضطروا لتوجيه مخاطبة العدم ، أو القول بوجود المعدومات ، أو الاستدلال بالآية على كون كلام الله تعالى قديماً.

في حين أنّ هذا الكلام كلّه خاطي ، وتشير القرائن إلى كون هذه الجملة كناية عن عدم وجود فاصلة بين إرادة الله وتحقق الشي المراد.

١٠٩

وبالحقيقة فإنّ الآية قد تحدثت عن إرادة الله تعالى وإيجاد الأشياء لا غير ، وكما سنعلم فإنّ إرادة الله تعالى تكون على معنيين ، فمن جهة تكون عين ذاته ، ومن جهة اخرى تكون عين فعله أيضاً ، (فتأمل جيداً).

وقد ورد شيء من هذا القبيل في الآيات : ١١٧ من سورة البقرة ، ٨٢ من سورة يس ، ٥٩ و ٤٧ من سورة آل عمران ، ٣٥ من سورة مريم ، ٦٨ من سورة غافر.

ويجدر الالتفات إلى أن بعض الآيات المذكورة قد نزلت بخصوص منكري المعاد لتذكيرهم بعدم وجود شيء يصعب على الإرادة الإلهيّة إيجاده. (كالآية ٨٢ من سورة يس ، والآية المذكورة في بحثنا).

وبعضها نزلت بخصوص خلق آدم عليه‌السلام من التراب (كالآية ٥٩ من سورة آل عمران).

أو خلق المسيح من دون أب (كالآية ٤٧ من سورة آل عمران ، والآية ٣٥ من سورة مريم).

أو بخصوص الابداع في خلق السموات والأرض (كالآية ١١٧ من سورة البقرة).

لا شيء يحول بينه وبين إرادته تعالى :

تحدثت الآية الثانية عن إرادة الله في الثواب والعقاب ومصير الناس ، وأشارت إلى هذه الحقيقة التي تفصح عن عدم وجود شيء يمنعه عن إمضاء إرادته بخصوص مكافأة ومعاقبة عباده ، قال تعالى : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ اللهِ شَيْئاً انْ ارَادَ بِكُمْ ضَرًّا اوْ ارَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً).

إنّ سبب تقاعسكم عن الجهاد هو إمّا لتوقي الحوادث المؤلمة لكم ولأهليكم ، وإمّا للحصول على منافع مادية وحفظ الأموال ، وجميع هذه الامور ترتبط بإرادة الله ومشيئته ، ولا أحد يملك لكم من الله شيئاً.

إنّ رسوخ هذه العقيدة في قلب الإنسان يؤدّي إلى ممارسته الأوامر الإلهيّة من دون الخوف من ضرر معين أو فوت منفعة وما شاكل ذلك ، لأنّ مقاليد جميع هذه الامور بيده تعالى.

١١٠

وعليه يتضح لنا أثر الإيمان بالإرادة والمشيئة الإلهيّة على أعمال الإنسان واستعداده لأداء التكاليف الإلهيّة.

وعلى أيّة حال فالحديث هنا يدور حول الإرادة التكوينية أيضاً.

إرادته سبحانه في نُصرة المستضعفين :

تحدثت الآية الثالثة عن أثر الإرادة الإلهيّة في مصير الأقوام ، وأنارت بصيص الأمل في نفوس الامم المظلومة ، قال تعالى : (وَنُرِيدُ انْ نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الْارْضِ وَنَجْعَلَهُمْ ائِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).

إنّ التعبير بالفعل المضارع «نريد» الذي يدل على الاستمرار هو للدلالة على ديمومة وخلود هذه السُنة الإلهيّة المت«مثلة بتسلط المستضعفين وسيطرتهم على زمام الامور في الأرض واندحار الطواغيت المستكبرين.

ولكن يجب الالتفات إلى أنّ الآية قد تحدثت عن «المستضعفين» لا «الضعفاء» ، أي عن الذين يجاهدون ويقاتلون دوماً ؛ وقد استضعِفوا من قبل أعدائهم لا عن الذين استسلموا للذلة والضعف.

وبضم هذه الآية إلى الآية من سورة الأنبياء : (أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ) نستنتج بأنّ المستضعفين هم اولئك الصالحون المؤمنون المجاهدون.

ويجب الالتفات إلى أنّ كلمة «نمنُّ» مشتقة من أصل «منّ» وهو في الأساس بمعنى الوزن الثقيل ، ثم اطلق على النّعم ذات الأهميّة ، واستعمال هذا التعبير بخصوص الباري عزوجل يدل على اعطائه عزوجل للنعم الثقيلة العظيمة بدون عوض ، أمّا عندما يستعمل بخصوص العباد فهو يعني التذكير بالنعم بقصد المنّ.

وطبعاً هنالك بحوث كثيرة حول هذه السنّة الإلهيّة ، أي حكومة المستضعفين ، وسنذكرها في محلها إن شاء الله تعالى ، والجدير بالذكر هنا هو أنّ للإيمان بإرادة الله التكونية أثراً تربوياً عميقاً يلهم المؤمنين الصالحين القوة والأمل والاقتدار ، ويزيدهم في مواجهة الظالمين رسوخاً وقوة.

١١١

يريد الله بكم اليسر :

تحدثت الآية الرابعة عن إرادة الله تعالى التشريعية ، والتي وردت في مواضع عديدة من القرآن ، أي إرادته في التقنين ، فبعد الحديث عن فريضة الصيام في شهر رمضان واستثناء المسافرين والمرضى من هذا الحكم ، قال تعالى : (يُريْدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُريدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).

وتعدّ هذه الآية من الآيات التي نفت التكاليف التي لاتطاق و «التكاليف الشاقة» في نفس الوقت ، وماقاله الفخر الرازي في عدم دلالة ذيل الآية على العموم اشتباه محض ، لأنّ الألف واللام الواردة في كلمتي «اليسر» و «العسر» للجنس ، تدل في مثل هذه الحالات على العموم.

ويمكن طبعاً أن يكون هنالك استثناءات معينة في هذا القانون ، كبقية القوانين الاخرى ، مثل الأمر بالجهاد وماشاكله ، فالجهاد ضدّ الخنوع والذل تحت سلطة الأعداء ، يُعدّ من مصاديق اليسر أيضاً لا العسر.

فبعد أن ذكر سبحانه وتعالى نوعين من الأحكام الإلهيّة في الآية الاولى من سورة المائدة ، في مجال الالتزام بجميع العقود والمواثيق ، وحليّة أكل لحوم المواشي حيث قال : (إنّ اللهَ يَحكُمُ ما يُريدُ) وهذا التعبير يوضح شمول الإرادة الإلهيّة التشريعية لكل الأشياء.

وبخصوص جزاء الأعمال ، نلاحظ أنّه تعالى بعد أن ذكر دخول المؤمنين الصالحين الجنّة ، قال : (انَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُريدُ). (الحج / ١٤)

وبديهي أنّ شمولية إرادة الله في التشريع ، وفي الأثابة والمعاقبة ، وهكذا في عالم الوجود ، لا تعني انفصال إرادته عن حكمته سبحانه ، أو أن يكون خلقه أو محاكمته أو إثابته بدون حكمة ومصلحة.

إنّ الله يخلق مايشاء :

تحدثت الآية الخامسة عن المشيئة الإلهيّة وشمولها لكافة مخلوقات عالم الوجود

١١٢

(المشيئة الإلهيّة العامة التكوينية) ، قال تعالى : (يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ انَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَديرٌ).

وردت هذه الجملة في القرآن الكريم بعد أن أشار تعالى إلى خلق مختلف أنواع الدواب من ماء ، فمنهم من يمشي على بطنه ، ومنهم من يمشي على رجلين ، ومنهم من يمشي على أربع ، ونحن نعلم بأنّ تنوع الاحياء بلغ من الكثرة والتشعب بحيث يتجاوز عدد أنواع الحشرات التي درسها العلماء عدّة ملايين ، وهكذا بالنسبة لأنواع النباتات بتركيباتها وخصائصها المتفاوتة ، فإنّ أنواعها بلغت مئات الآلاف ، ممّا تدل بأجمعها على سعة مفهوم الآية المذكورة أعلاه.

والجدير بالذكر أنّ هنالك أنواعاً جديدة من الأحياء تكتشف بمرور الزمان لم تكن موجودة سابقاً ، أي أنّ إيجاد وخلق الحيوانات والنباتات لايتعطل حتى ولا لحظة واحدة! وأساساً أنّ تنوع الظواهر يعدُّ دليلاً على إرادة ومشيئة المظهر المبدي ، لأنّ الصانع العديم الإرادة يخلق اموراً متساوية ومتشابهة ، بينما كلما حلت الإرادة في موضع اصطحبت معها التنوع (١).

المشيئة الإلهيّة :

والآية السادسة تحدثت عن المشيئة الإلهيّة أيضاً ، والحديث هذه المرّة يدور حول مصير العباد وأعمالهم ، فالتفت عزوجل بالخطاب إلى رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَىءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً* الَّا انْ يَشَاءَ اللهُ). أي عندما تتحدث عن عزمك بالقيام بعملٍ مافي المستقبل فتوكل على المشيئة الإلهيّة دائماً وقل : «إن شاء الله». وهذه الجملة تدلّ على تقدم مشيئة الله على بقية المشيئات وعدم وقوع أي شيء دون مشيئته سبحانه.

وواضح أنّ هذا الكلام لايشير أدنى إشارة إلى مسألة الجبر ، بل يشير إلى غلبة المشيئة

__________________

(١) أشار القرطبي في تفسيره ج ٧ ، ص ٤٧٤ إلى هذا الموضوع.

١١٣

الإلهيّة التي لايستطيع أيّ فرد بلوغ هدفه بدونها ، وما الحرية التي منحها الله للإنسان إلّا لاختباره وتربيته والعروج به في سُلم الكمال ، وحرية الإرادة الإنسانية لا تعني سلب القدرة الإلهيّة.

إضافة إلى هذا فإنّ إرادة ومشيئة الإنسان هي احدى عوامل وصوله وبلوغه أهدافه ، وهنالك مئات من العوامل الاخرى ، خارجة عن قدرته ، ولا ترتبط إلّابالله تعالى.

ومن هنا فإنّ أدب الكلام والخضوع للأمر الواقع يفرض على الإنسان أن لا ينسى عبارة : «إن شاء الله» في برامجه الخاصّة أبداً.

وجاء التأكيد هنا أيضاً على أثر «المعرفة» على أعمال الإنسان ، فإيمانه بالإرتباط بالمشيئة الإلهيّة يجعله يشعر دائماً بالفقر إلى الله وعدم الاستقلال عنه سبحانه ، فلا يصيبه الغرور أبداً ، ولا يركب مركب الأنانية ، ويزيده استقامة وصلابة في مواجهة الصعاب والمشاكل ، وينقذه من الوقوع في مخالب اليأس والقنوط لأنّه يعلم أنّ مشيئة الله أكبر من كلَ شيء.

الوحي والمشيئة الإلهيّة :

وأخيراً تحدثت الآية السابعة والأخيرة من بحثنا عن المشيئة الإلهيّة التشريعية وبصورة ظريفة ، ومن الضروري الالتفات إلى أنّ القرآن الكريم قد استعمل كلمة «الإرادة» في التكوين والتشريع بكثرة ، لكن استعمل كلمة (المشيئة) في المسائل التكوينية عادةً ، وقد استعملها في مجال التشريع والتقنين بندرة ممّا يدلّ على شمول مفهوم المشيئة للجانب التكويني بصورة أكثر). قال تعالى : (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ انْ يُكَلِّمَهُ اللهُ الَّا) بثلاثة طرق) وَحْياً اوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ (كما تحدث مع موسى في جبل طور ، والحجاب هنا بمعنى حجاب المادة) اوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فيُوحِىَ بِاذْنِهِ مَا يَشَاءُ انَّهُ عَلىٌّ حَكيمٌ» ، فسموّه يقتضي أن لا يُرى أو يكلمه بشر ، وحكمته تقتضي أن يرسل الرسل لهداية الخلق ، ويرتبط برسله بالطرق الثلاثة المذكورة في الآية أعلاه.

* * *

١١٤

يستنتج من مجموع الآيات المذكورة بأنّ إرادة الله سبحانه التكوينية والتشريعية تشمل جميع الممكنات ، كل ماتقتضيه حكمته.

وإن كان للانسان إرادة لعمل شيء معين فانّما هي بإذن الله.

ولا شيء يمنع عن تحقق إرادته سبحانه ، ومشيئته غير منفصلة عن خلق الأشياء.

ومصيرنا جميعاً بيده سبحانه ، فالخير والفائدة والسعادة كلها هي فيض من وجودهعزوجل.

فبالاعتماد على إرادة الله ومشيئته تهون علينا الحوادث الصعبة.

هذا ماتفيضه علينا هذه الصفات الإلهيّة من معطيات.

* * *

توضيحات

١ ـ الدلائل العقلية على الإرادة الإلهيّة

عندما ننظر إلى عالم التكوين نجد أن في كل يوم يحدث أمر جديد ، ولكل موجود ظاهرة وتاريخ معين ، بل العالم بذاته يمثل مجموعة من الظواهر والحوادث.

وهنا يطرح هذا السؤال : بما أنّ الله عالم لأنّه علة العلل لجميع الكائنات ، فهو قديم وأزلي ، إذن كيف يمكن أن يوجد كل موجود في زمان معين أو أن تقع كل حادثة في زمان معين؟

والجواب على هذا السؤال هو أنّ الله فاعلٌ غير مجبور ، بل فاعلٌ لما يريد ومايشاء ، وما انفصال الكرة الأرضية عن الشمس قبل خمسة ملياردات سنة مثلاً ، أو ظهور الأحياء على سطح الكرة الأرضية قبل عدة ملايين من السنين ، أو دخول الإنسان إلى عالم الوجود قبل آلاف السنين ، إلّاامتثالاً لإرادته المتميزة سبحانه.

وخلاصة الكلام هو أنّ وجود بعض الممكنات وعدم وجود بعضها الآخر ، أو حدوثها في موعدٍ محددٍ (مع أنّ الله قادرٌ على كلّ شيء بصورة متساوية) يدلّ على اتصاف ذاته المقدّسة بصفة اخرى غير القدرة ، وهي الإرادة والمشيئة الإلهيّة.

١١٥

٢ ـ مامعنى إرادة الله سبحانه؟

لا شك في عدم إمكانية مقايسة مفهوم إرادة الإنسان بالإرادة الإلهيّة ، لأنّ الإنسان يتصور الفعل في البداية (مثل شرب الماء) ، ثم فوائده ، ثم يعتقد بفوائده ، ثم يشتاق ويرغب إلى القيام بذلك الفعل ، فعندما يصل شوقه هذا مراحله النهائية يصدر أوامره إلى العضلات ، فيتحرك الإنسان لانجاز هذا العمل.

لكننا نعلم أنّ كل هذه المفاهيم (التصور والاعتقاد ، والشوق والامور وحركة العضلات) لا معنى لها بخصوص الباري ، لأنّها جميعاً حادثة ، فأين إرادته منها إذن؟

من أجل هذا ذهب علماء الكلام والفلاسفة المسلمون ـ صوب مفهوم يتناسب مع الوجود البسيط المجرد ، وبنفس الوقت يتناسب مع أي نوع من أنواع التعبير الحاصل لدى الله تعالى ، فقالوا : إنّ إرادة الله تعالى على نوعين :

١ ـ الإرادة الذاتية.

٢ ـ الإرادة الفعلية.

١ ـ الإرادة الإلهيّة الذاتية : هي علمه بالنظام الاصلح لعالم التكوين ، وعلمه بخير وصلاح العباد في الأحكام والقوانين الشرعية.

إنّه يعلم أيّ نظامٍ أفضل وأصلح لعالم الوجود ، ويعلم أفضل الأوقات المناسبة لايجاد الموجودات ، وهذا العلم منبع تحقق الموجودات وحدوث الظواهر في الأزمنة المختلفة.

وكذلك فانّه سبحانه وتعالى يعلم مصلحة عباده الكامنة في هذه القوانين والأحكام ، وأنّ روح هذه القوانين والأحكام هي علمه بالمصالح والمفاسد.

٢ ـ إرادته الفعلية عين الايجاد وتعدّ من صفاته الفعلية لذا فإنّ إرادته في خلق السموات والأرض هي عين حدوثها ، وإرادته في فرض الصلاة هي عين وجوبها وفي تحريم الكذب هي عين حرمته.

وخلاصة الكلام هي أنّ إرادة الله الذاتية عين علمه ، وعين ذاته ، لذلك اعتبرناها من فروع العلم وإرادته الفعلية عين الإيجاد والتحقق.

١١٦

وسيتضح الموضوع بصورة أفضل عند نقل بعض الأحاديث الشريفة الواردة في هذا المجال ، إن شاء الله تعالى.

* * *

٣ ـ الإرادة الإلهيّة التكوينية والتشريعية

كما ذكرنا آنفاً بأنّ المقصود من الإرادة التكوينية هي الإرادة التي يفيض منها وجود جميع الكائنات والموجودات ، أو بتعبير آخر عين إيجادها جميعاً.

أمّا الإرادة التشريعية فهي الإرادة التي تفيض منها جميع الأوامر والنواهي الإلهيّة ، وجميع الأحكام والقوانين الشرعية ، وبتعبير آخر عين هذه الأحكام والقوانين.

ومن خلال متابعة الآيات القرآنية يتضح بأنّ كلمة (إرادة) مستعملة بكلا المعنيين بشكل واسع ، في حين نجد أنّ (المشيئة) مستعملة في مجال الخلق والتكوين في الغالب ، أمّا في مجال التشريع فيندر مجيئها ، ممّا يدل على كون (المشيئة) أقرب إلى مفهوم التكوين.

* * *

٤ ـ الإرادة الالهيّة في الروايات الإسلامية

وردت في روايات أهل البيت ايضاحات كثيرة في هذا المجال ، نذكر مجموعة منها كنموذج :

١ ـ ورد في توحيد الصدوق و «عيون اخبار الرضا» عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام جوابه عن سؤال حول إرادة الله تعالى في خلقه أنّه قال : «الإرادة من المخلوق الضمير وما يبدو له بعد ذلك من الفعل ، وأمّا من الله عزوجل فارادته احداثه لا غير ذلك لأنّه لا يُروّي ولا يهمّ ولا يتفكر ، وهذه الصفات منفية عنه ، وهي من صفات الخلق ، فارادة الله هي الفعل لا غير ذلك. يقول له كن فيكون بلا لفظ ، ولا نطقٍ بلسان ، ولا همةٍ ولا تفكر ولا كيفٍ لذلك ، كما أنّه بلا كيف» (١).

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٤ ، ص ١٣٧ ، ح ٤.

١١٧

وقد أورد هذا الحديث الشريف المرحوم الكليني في «اصول الكافي» (١). ومن الواضح أنّ هذا الحديث يشير إلى إرادة الله الفعلية وأمّا الإرادة الذاتية فهي علمه بالنظام الأحسن كما مر بيانه.

٢ ـ وقد ورد أيضاً في هذا الكتاب عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام أنّه قال : «المشيئة والإرادة من صفات الأفعال ، فمن زعم أنّ الله تعالى لم يزل مريداً شائياً فليس بموحد» (٢).

ومن الواضح أيضاً أنّ هذا الحديث ناظر إلى الإرادة الفعلية ، التي تقدم بيانها ، فعندما ينفي «الإرادة الازلية» فالمقصود هو نفي مقالة من يقول : إن الإرادة زائدة على الذات وإنّها أزلية ، فيكون مفهومها تعدد الوجود الازلي إلى اثنين أو أكثر ، وهذا المعنى لا يتلائم مع التوحيد.

أمّا الإرادة الذاتية التي هي عين العلم ، والعلم بدوره عين الذات المقدّسة فهو عين التوحيد لا الشرك «فتأمل جيداً».

٣ ـ ورد في كتاب الكافي حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام جاء فيه : «قال الله : يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء وبقوتي أدّيت فرائضي ، وبنعمتي قويت على معصيتي جعلتك سميعاً بصيراً قوياً ما أصابك من حسنةٍ فمن الله ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك» (٣).

وهذا الحديث ناظر إلى الإرادة التكوينية لله تعالى المتعلقة باختيار وحرية إرادة الإنسان والتي جعلت الإنسان حاكماً على مقدراته ، غاية الأمر أنّ الإنسان يُسيء الاستفادة منها في بعض الاحيان ، ويستعمل نعم الله تعالى في معصيته ، وهذا من عمل الإنسان نفسه ، أمّا حسن الاستفادة من نعم الله تعالى فهو من توفيق الله ومعونته لعبده.

* * *

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ١ ، ص ١٠٩ باب الإرادة أنّها من صفات الفعل وسائر صفات الفعل ، ح ٣.

(٢) توحيد الصدوق ، ص ٣٣٧ باب المشيئة والإرادة ، ح ٥.

(٣) اصول الكافي ، ج ١ ، ص ١٥٢ باب المشيئة والإرادة ، ح ٦.

١١٨

٤ ـ القدرة الإلهيّة المطلقة

تمهيد :

يعتبر موضوع القدرة الإلهيّة من أهم مباحث صفات الكمال والجمال الإلهيّة بعد بحث العلم ، تلك القدرة اللامحدودة من كل ناحية والشاملة لجميع الممكنات والملازمة للإرادة والمشيئة ، فهو سبحانه وتعالى يفعل مايريد ويمحو مايشاء في أى وقت وزمان.

والوجود بأكمله بمظاهره العظيمة المذهلة وبدقائقه الظريفة ، يدلُّ على القدرة الإلهيّة المطلقة.

وللدخول في صُلب الموضوع ينبغي طي المراحل التالية :

١ ـ دلائل القدرة الإلهيّة المطلقة.

٢ ـ الله فاعل ومختار.

٣ ـ رأى الذين أشكلوا على تعميم القدرة الإلهيّة.

٤ ـ عدم شمول القدرة الإلهيّة للمستحيلات.

لندخل الآن في بحث الموضوع الأول ونتمعن خاشعين في الآيات القرآنية الشريفة:

١ ـ (تَبَارَكَ الَّذى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَديرٌ). (الملك / ١)

٢ ـ (اللهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا انَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَديرٌ). (الطلاق / ١٢)

٣ ـ (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِى وَيُميْتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىءٍقَديرٌ). (الحديد / ٢)

٤ ـ (... يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ). (الروم / ٥٤)

٥ ـ (للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ). (المائده / ١٢٠)

١١٩

٦ ـ (اوَلَمْ يَرَوا انَّ اللهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى انْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ). (الاسراء / ٩٩)

٧ ـ (اوَلَمْ يَرَوا انَّ اللهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى انْ يُحْىَ الْمَوْتى بَلَى انَّهُ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَديرٌ). (الاحقاف / ٣٣)

٨ ـ (فَلا اقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ). (المعارج / ٤٠)

٩ ـ (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شِىءٍ فِى السَّمَاواتِ وَلَا فِى الْأَرْضِ انَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً) (١). (فاطر / ٤٤)

١٠ ـ (قُلْ انَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ). (آل عمران / ٧٣)

شرح المفردات :

لفظ «قدير» : من مادّة «قدرة» ، بمعنى من يفعل كل مايريده بمقتضى حكمته ، لا أقل ولا أكثر من ذلك ، لذا فإنّ هذه الصفة لا يوصف بها إلّاالله تعالى ، وأساساً إنّ صفة القدرة المطلقة لا يجوز استعمالها إلّافي وصف قدرة الله تعالى ، وكُلّما اسْتُعمِلَتْ مع غيره فإنّها ينبغي أن تكون محدودة ومقيّدة ، لأنّ غيره لوكان قادراً من جهة معينة فهو عاجزٌ من جهةٍ اخرى (٢).

__________________

(١) يجب الالتفات إلى أنّ صفة (القدير) وردت في القرآن المجيد (٤٥) مرة تقريبا بالنسبة إلى الله تعالى ، فتارة بشكل : «إنّ الله على كل شيء قدير».

وتارة : «والله على كل شى قدير».

وتارة : «انك على كل شى قدير».

وتارة : «وهو على كل شى قدير».

وتارة : «وان الله على نصرهم لقدير».

وتارة : «وهو على جمعهم إذا يشاء قدير. وتعابير اخرى.

وقد وردت كلمة «القادر» سبع مرات ، ويلاحظ أيضاً في بعض الآيات «قادرون» و «قادرين» بالنسبة إلى الله تعالى ، وكذلك ورد نفى العجز عن الله تعالى والقدرة الواسعة له عزوجل والمأخوذة من مادة «القدرة والعجز والسعة» وهي مذكورة في معاجم اللغة ، وما ذكر من الآيات العشر إنّما هي تعابير جامعة للاقسام الثلاثة.

(٢) مفردات الراغب ، مادة (قدر).

١٢٠