حاشية فرائد الأصول

الشيخ آقا رضا الهمداني

حاشية فرائد الأصول

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: محمّد رضا الأنصاري القمّي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٨

وعدمه ، وإلّا فالمدار في التعارض إنّما هو بأن يكون الخبران لدى العرف على وجه لو سمع أهل العرف نظيرهما ، ممّن يجوّزون في حقّه الخطأ أو المناقضة بين كلماته ، لعدّوهما من الأخبار المتناقضة. ومن هنا فقد يتّجه الحكم بخروج الأخبار المعارضة بالعموم والخصوص من وجه ـ كالعام والخاص المطلق ـ عن موضوع الاخبار المتعارضة ، كما سيأتي لذلك مزيد توضيح في محلّه إن شاء الله.

قوله قدس‌سره : انحصر وجه الجمع في التبعيض فيهما من حيث التصديق ... الخ (١).

أقول : ليس المراد بقاعدة «الجمع مهما أمكن أولى من الطرح» الإمكان الذّاتي ، بل الإمكان الوقوعي ، فإمكان الجمع بهذه الكيفية ، بل وكذا بسائر الكيفيات ، موقوف على الأمرين.

أحدهما : احتمال صدق كلّ من المتعارضين في الجملة ، وعدم مخالفته للواقع رأسا ، فالدليلان المعلوم إجمالا كذب أحدهما خارجان عن موضوع هذه القاعدة ، إذ لا يعقل الأمر بتصديق ما علم كذبه.

نعم ، في تبيين المتعارضين المعلوم إجمالا كذب إحداهما ، يمكن الالتزام باندراجهما في موضوع هذه القاعدة ، بناء على اعتبارهما من باب السببية ، وعدم كون العلم الإجمالي بكذب أحدهما مانعا عن وجوب تصديق كلّ منهما مع الإمكان ، كما لعلّه هو الأقوى بالنسبة إلى الحاكم في مقام فصل الخصومات.

اما الثاني : أن يكون الجمع محتمل الإصابة ، فالجمع المعلوم مخالفته للواقع جمع غير ممكن ، فالحكم بأنّ قيمة نصف هذا الشيء كذا عملا بقول أحد

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٣٧ سطر ٦ ، ٤ / ٣٠.

٥٠١

المقوّمين الذين اختلفا في قيمته ، ونصفه الآخر كذا عملا بقول الآخر ، جمع غير ممكن ، بعد العلم بعدم اختلافهما في القيمة ، وكذا الحكم بأنّ نصف الدار لزيد ونصفه لعمرو ، بعد العلم بعدم كونها في الواقع كذلك ، ومخالفته لصريح كلام البينتين جمع غير ممكن ، فانّه ليس جمعا بين كلاميهما بإرجاع بعضه إلى ما لا ينافي الآخر ، ولا بين مدلوليهما بتصديق كلّ منهما في بعضه الذي يمكن صدقه فيه ، فالحقّ أنّ الحكم بالتنصيف عند اختلاف البينتين في أنّ الدار لهذا أو لهذا ليس متفرّعا على قاعدة الجمع بين الدليلين ، ولا من باب الجمع بين الحقّين ، إذ المفروض العلم بعدم كون كلّ منهما صاحب حقّ ، بل هو نوع مصالحة بما يساعد عليه العرف في نظائر المقام ممّا تردّد الحقّ بين شخصين ، ولم يكن لأحدهما مرجّح ، كما في مسألة ما لو تلف أحد الدراهم عند الودعي.

نعم ، لو احتمل صدق كلّ من البينتين في البعض وخطائه في البعض الآخر ، كما لو كان مرجع شهادة كلّ منهما بالنسبة إلى نصفه إلى أمر حسّي وفي الكلّ حدسيا ، أمكن العمل بكلّ منهما فيما يخبر عن حسّ وجعل خبره دليلا لتخطئة الآخر في حدسه ، ومن هذا القبيل الجمع بين قول المقومين ، فإذا قال أحدهما إنّ قيمة هذا الشيء عشرة ، وقال الآخر عشرون ، يصدّقان معا في موضع وفاقهم وهو أنّ قيمته لا تزيد عن العشرين ولا تنقص عن العشرة ، ويجعل قول كلّ منهما دليلا على خطأ الآخر فيما به التفاوت ، بمقدار لا يكون نسبة الخطأ في ذلك المقدار إلى صاحبه في الزيادة أو النقص أولى من نسبته إلى نفسه ، فيحكم أنّ قيمته مثلا خمسة عشر أو نصف مجموع القيمتين.

والحاصل : إنّ الجمع بين قول المقوّمين من هذا الباب لا من باب تصديق كلّ منهما في قيمة نصفه ، كما لا يخفى ذلك على من راجع وجدانه الحاكم بهذا النحو من الجمع في نظائر المقام ، والله الهادي.

٥٠٢

قوله قدس‌سره : منضمّا إلى نصفه الآخر ... الخ (١).

أقول : احتراز عمّا لو لوحظ النصف منفردا غير منضمّ إلى النصف الآخر ، فانّ الحكم بكون قيمته نصف قيمة المجموع قد لا يكون تصديقا للمقوّم في شيء ، فانّه ربّما يختلف قيمة الجزء منفردا ومنضمّا كمصراع الباب وفردة الخفّ ، كما لا يخفى.

قوله قدس‌سره : بمعنى أنّ الشارع لاحظ الواقع وأمر بالتوصّل إليه من هذا الطريق ... الخ (٢).

أقول : حال أمر الشارع بسلوك هذا الطريق ، حال حكم العقل بوجوب سلوك الطّرق الظنّية من باب الإرشاد ، عند انسداد باب العلم ، وتنجّز التكليف بالأحكام الواقعية وعدم التمكّن من الاحتياط ، أو حكمه بسؤال أهل الخبرة في المقاصد العقلائية ، كسلوك طريق عند إرادة السير إلى بلد والجهل بطريقه ، فلو سئل شخصا يثق بخبره وخبرته بطريق ذلك البلد فدلّه على جهة وجب عليه العمل بقوله ، ولكن لو سأل شخصا آخر مثله ، ودلّه على خلاف تلك الجهة لم يجز له العمل بشيء منهما ، بل وجب عليه التوقّف والرجوع إلى الاصول الجارية في ذلك المورد ، فلو سلك إحدى الجهتين أخذا بأحد القولين وتخلّف عن الواقع ، ليس له الاعتذار لدى العقل والعقلاء بكونه عاملا بقول أهل الخبرة ، فانّ جواز العمل بقول أهل الخبرة لدى العقل والعقلاء مقيّد بعدم معارضته بمثله ، إذ المعارضة توجب القطع بمخالفة أحدهما للواقع ، فلا يعقل جواز العمل بذلك الخبر المعلوم مخالفته للواقع من باب الطريقية.

وكون ذلك الخبر الذي علم إجمالا مخالفته للواقع هذا دون ذاك ليس بأولى من عكسه ، فلا يبقى للعقل مجال للأمر بسلوك كليهما من باب الطريقية ، بعد العلم بمخالفة

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٣٧ سطر ٨ ، ٤ / ٣٠.

(٢) فرائد الاصول : ص ٤٣٩ سطر ٧ ، ٤ / ٣٨.

٥٠٣

أحدهما للواقع ، ولا بسلوك أحدهما عينا ولا تخييرا.

امّا الأوّل فواضح ، وكذلك الثاني لكونه ترجيحا من غير مرجّح ، وامّا الثالث ، فلأنّه انّما يصحّ للعقل الحكم بالتخيير ، فيما لو تحقّق مناط حكمه في كلّ واحد منهما على البدل ، وهو ليس كذلك ، لأنّ أحدهما مخالف للواقع ، فلا يعقل أن يحكم العقل ـ عند إرادة إحراز الواقع ـ بكونه مخيّرا بين هذا وذاك ، مع العلم بتخطّي أحدهما عن الواقع.

نعم ، قد يحكم العقل بالتخيير في مثل هذه الموارد عند تنجّز التكليف بالواقع ، وعدم التمكّن من الاحتياط ، لا لكون أحدهما المخيّر طريقا معتبرا لإثبات مؤدّاه ، بل لكونه أصلا عمليا يرجع إليه في مثل المقام ، لما فيه من الموافقة الاحتمالية التي هي أولى من المخالفة القطعية في مقام الإطاعة ، كما في دوران الأمر بين المحذورين.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ ما ذكرناه من تساقط الدليلين عن الاعتبار لدى المعارضة ـ لو كان اعتبارهما من باب الطريقية ـ إنّما هو بالنسبة إلى خصوص مؤداهما لا مطلقا ، كي يجوز له الرجوع إلى ثالث ، كما لا يخفى على من راجع العرف والعقلاء في المثال المفروض ، وسرّه أنّ القدر المتيقّن في مثل الفرض إنّما هو كذب أحد الخبرين لا كليهما ، فليس له تكذيب كليهما ، بل عليه تصديق أحدهما على سبيل الإجمال والإبهام لا الترديد ، فما دلّ على وجوب تصديق العادل ، وإن امتنع أن يعمّ كلا المتعارضين أو أحدهما عينا أو تخييرا ، ولكن لا مانع من أن يعمّ أحدهما الذي لا يعلم بكذبه على سبيل الإجمال ، بأن يلتزم بمطابقة أحدهما للواقع إجمالا من غير أن يكون له طريق إلى تشخيصه ، فإذا أخبره عادلان أحدهما بأنّ هذا الشيء واجب والآخر بأنّه مستحبّ ، وجب عليه الالتزام بصدق أحد الخبرين إجمالا ، فيصير حاله بعد التعبّد بصدق أحد الخبرين ، حال ما لو علم إجمالا بأنّ هذا الشيء إمّا واجب أو مستحبّ ، في عدم جواز الرجوع إلى اصالة الاباحة أو غيرها من

٥٠٤

الاصول المنافية ، لما علمه بالإجمال.

ولا تتوهّم : إنّه بعد أن وجب عليه تصديق أحد الخبرين إجمالا ، يصير المتعارضان بمنزلة ما لو اشتبه خبر صحيح بين خبرين ، أي من قبيل اشتباه الحجّة باللّاحجّة.

إذ المتعارضان متكافئان فيما هو مناط الحجّية ، وليس لأحدهما خصوصية واقعية تخصّصه بالحجّية كما في الخبر الصحيح المشتبه بغيره ، وكون احدهما في الواقع غير معلوم الكذب ليس من الخصوصيات المميّزة له عن الآخر المقطوع بكذبه ، فانّ كلّا منهما إذا لوحظ بنفسه محتمل الصدق ، وإذا لوحظ مع الآخر علم إجمالا بكذب أحدهما ، لا بوصف زائد يميّزه عمّا ليس للآخر.

نعم ، لو علم بصدق الآخر ، أي علم إجمالا بأنّ أحدهما صادق والآخر كاذب أمكن جعله من باب اشتباه الحجّة باللّاحجة ، وأنّما علم إجمالا صدقه له امتياز واقعي كالخبر الصحيح.

ولكن عدّ هذا أيضا من هذا القبيل لا يخلو عن مسامحة ، حيث أنّ وجوب اتّباع ما علم صدقه ذاتي ، فهو خارج عن محلّ الكلام ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : ومقتضاه الرجوع إلى الاصول العملية (١).

أقول : يعني الاصول العملية المسانخة للتعبّد بصدق أحدهما على سبيل الإجمال ، أي الغير المستلزمة لطرحهما رأسا.

قوله قدس‌سره : يتساقطان (٢).

أقول : من حيث الطّريقية الى مؤداهما بخصوصه لا مطلقا ، حتّى بالنسبة إلى

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٣٩ سطر ١٥ ، ٤ / ٣٨.

(٢) فرائد الاصول : ص ٤٣٩ سطر ١٦ ، ٤ / ٣٩.

٥٠٥

نفي الثالث ، فانّه ينافي التوقّف على ما فسّره في صدر المبحث.

قوله قدس‌سره : من حيث أنّ التوقّف في الفتوى يستلزم الاحتياط في العمل (١).

أقول : قد يناقش في الملازمة بأنّ ترك الفتوى بمضمون شيء من الخبرين المتعارضين ، الدالّ أحدهما على إباحة شيء ، والآخر على حرمته مثلا ، لا ينافي ارتكابه في مقام عمله تعويلا على قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ويدفعه : أن ليس المقصود بالتوقّف في الفتوى ترك الافتاء بمضمون الخبرين ، فانّ هذا المعنى من حيث هو أجنبي عن مفاد أخبار التوقّف ، بل المقصود به عدم جواز الأخذ بشيء من الخبرين ، أو طرح شيء منهما لا في مقام عمله ، ولا في مقام الفتوى ، الذي هو أيضا نوع من عمله ، كما أنّ التوقّف بهذا المعنى هو المراد باخبار التوقّف ، ويلزمه الاحتياط في كلا المقامين.

فالتعبير عن «التوقّف» ـ الذي هو مفاد الأخبار الآمرة بالتوقّف في الخبرين المتعارضين ، بالتوقّف في الفتوى ، مع أنّه أعمّ للإشارة إلى أنّ مفاد هذه الأخبار أوّلا وبالذّات هو التوقّف في المسألة الاصولية ، أي في مقام الاستنباط المستلزم للاحتياط في مقام العمل ، لا التوقّف في المسألة الفرعية الذي هو عبارة اخرى عن الاحتياط وترك المضي في الشبهات ، كما هو المراد ببعض الأخبار المتقدّمة في مبحث أصل البراءة الآمرة بالوقوف عند الشّبهات ، فلاحظ وتدبّر.

قوله قدس‌سره : لقوّة احتمال أن يكون التخيير حكما ظاهريا ... الخ (٢).

أقول : كحكم العقل بالتخيير في دوران الأمر بين المحذورين ، أو الشرع في

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٣٩ سطر ٢٣ ، ٤ / ٤٠.

(٢) فرائد الاصول : ص ٤٤٠ سطر ١ ، ٤ / ٤٠.

٥٠٦

بعض الموارد التي اشتبه فيها الواجب بغير الحرام ، واكتفى الشارع فيها بالموافقة الاحتمالية لقاعدة نفي الحرج أو غيرها من القواعد ، فانّ التخيير ، في مثل هذه الموارد حكم ظاهري عملي جعل في موارد الاشتباه ، فيمكن أن يكون حكم الشارع بالتخيير في تعارض الخبرين من هذا الباب ، أي من باب الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية.

بل يمكن أن يكون التخيير في تعارض الخبرين واقعيّا ، ناشئا من محبوبية الأخذ بأحد الخبرين ، الغير المعلوم مخالفته للواقع ، من باب التسليم والانقياد ، لا من حيث الطريقية إلى خصوص مؤدّاه ، كما يستشعر ذلك من بعض الأخبار ، وهذه الحيثية وإن اقتضت كون حجّية الأخبار من باب السببيّة مطلقا ، ولكن الشارع لم يعتبرها في سائر المقامات من هذه الجهة ، بل من حيث الطّريقية كما يظهر ذلك من أدلّته ، فلاحظ وتدبّر.

قوله قدس‌سره : وإن كان وجه المشهور أقوى (١).

أقول : بل هو المتعيّن ، لأنّ الذي يجب اتّباعه إنّما هو رأي المجتهد ، أي ما استنبطه المجتهد من الأدلّة الشرعيّة ، لا ما اختاره في مقام عمله ، فإذا رأى المجتهد تكافؤ الخبرين ، وأنّ الحكم عند تكافؤ الخبرين جواز الأخذ بمضمون كلّ منهما ، واطّلع المقلّد على ذلك ، جاز له تطبيق عمله على ما يراه في الواقع ، وإن لم يخبره بذلك أو أخبره بخلافه.

والحاصل : إنّه لا دليل على أنّ اختيار المجتهد بمنزلة طريق تعبّدي لإثبات متعلّقه ، وصيرورته بالنسبة إليه تكليفا تعيينيا منجّزا ، مع أنّ المجتهد لا يراه في الواقع كذلك.

وببيان أوفى : إنّ حال المجتهد بالنسبة إلى مقلّديه ، ليس إلّا حال المترجم

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٤٠ سطر ١٤ ، ٤ / ٤٢.

٥٠٧

العارف بلغة المجتهد في استخراج فتاواه من رسالته ، وبحال الوسائط الذين ينقلون فتاواه إليه ، فإذا كان فتوى المجتهد حجّية ظواهر عبائره المدوّنة في رسالته ، أو قول العادل الناقل لفتواه ، وأنّ الحكم لدى معارضة حجّة بمثلها هو التخيير ، كما في تعارض الخبرين ، ليس للمترجم القادر على فهم رسالته ، أو تحقيق حال الوسائط الناقلين لفتواه ، إلزام سائر العوام الذين يرجعون إليه ويعوّلون على فهمه ، لكونه عندهم من أهل الخبرة في هذا الفن بمضمون أحد المتعارضين ، بل عليه إمّا شرح الحال ، أو اخبارهم إجمالا بكونهم مخيّرين في العمل بمفاد الخبرين ، ولا ينافيه كون التخيير أوّلا وبالذّات في المسألة الاصولية ـ أي الأخذ بأحد الخبرين ـ لا في الحكم الفرعي ، إذ المقلّد لدى التحليل معوّل في تخييره على ما يراه مجتهده وجها له ، فلا فرق لدى التحقيق بين ما لو ترجّح أحد الخبرين بنظر المجتهد يرى وجوب العمل به عينا ، أو تكافئا فرأى جواز الأخذ بكلّ منهما ، فكما أنّ تعيّن الأخذ بالراجح أوّلا وبالذّات هو وظيفة المجتهد ، الذي ترجّح أحد الخبرين بنظره ، كذلك التخيير عند تكافئهما ، ولكن نظره في الترجيح والتخيير قائم مقام نظر كلّ من يعتمد عليه ويعوّل على نظره ، فلاحظ وتدبّر فانّه لا يخلو عن دقّة.

قوله قدس‌سره : فالظّاهر أنّها مسوقة لبيان وظيفة المتحيّر في ابتداء الأمر ... الخ (١).

أقول : بل هي بحسب الظّاهر مسوقة لبيان حكم المتحيّر من حيث هو ، كما أنّ ما دلّ على الترجيح ، مسوق لبيان حكمه عند ترجّح أحد الخبرين لديه بشيء من المرجّحات ، من غير فرق بين كون ذلك في ابتداء أمره أو بعده ، إن كان آخذا بأحد الخبرين إمّا لجهله بالمعارض أو لكونه أرجح لديه.

والحاصل : إنّ دعوى كونها مسوقة لبيان حكم المتحيّر في ابتداء الأمر ، غير

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٤٠ سطر ٢٠ ، ٤ / ٤٣.

٥٠٨

مسموعة ، ولو سلّم انصرافها إليه فهو بدويّ ، منشؤه بعض المناسبات المغروسة في الذّهن ، كما في موارد الترجيح ، ولكن لا يجدي ذلك في ثبوت التخيير الاستمراري إذا كان مدركه الاخبار ، إذ ليس لها إطلاق احوالي كي يتمسّك بإطلاقها لإثبات التخيير على الإطلاق.

اللهمّ إلّا أن يدّعي ظهوره ، مثل قوله عليه‌السلام في بعض تلك الأخبار : «بأيّهما اخذت من باب التسليم وسعك» في الإطلاق كما ليس بالبعيد.

وملخّص الكلام : إنّه إن كان إجمال في المقام ، فمنشؤه إجمال الحكم وتردّده بين ثبوته على الإطلاق أو في الجملة ، لا اختصاص الموضوع بالمتحيّر في ابتداء الأمر ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : فتأمّل (١).

أقول : لعلّه إشارة إلى أنّ عدم قيام احتمال تعيّن الأخذ بما اختاره أوّلا في التخيير الواقعي ، الناشئ عن تزاحم الواجبين ، إنّما هو فيما اذا كان الحاكم به العقل محضا ، وإلّا فربّما يقوم احتمال تعيّن الأخذ به أو بأحدهما المعيّن تعبّدا.

ولكن لا يعتني بهذا الاحتمال ما لم يتحقّق ، كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله.

قوله قدس‌سره : فاثباته لمن اختار والتزم ... الخ (٢).

أقول : هذا إنّما يتّجه لو قلنا بالرجوع إلى العقل في تشخيص الموضوع في باب الاستصحاب ، وامّا بناء على الرجوع إلى عناوين الأدلّة السمعية أو العرفية ، كما قوّاه المصنّف رحمه‌الله في محلّه فلا ، كما لا يخفى على من راجعهما ، فالأولى المناقشة في هذا

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٤٠ سطر ٢٤ ، ٤ / ٤٤.

(٢) فرائد الاصول : ص ٤٤٠ سطر ٢٥ ، ٤ / ٤٤.

٥٠٩

الاستصحاب بكونه من قبيل الشكّ في المقتضي ، وهو ليس بحجّة كما تقدّم تحقيقه فيما سبق.

قوله قدس‌سره : وبعض المعاصرين رحمهم‌الله استجود هنا كلام العلّامة قدس‌سره (١).

أقول : كان مستنده فيما استجوده هنا من التخيير الاستمراري ، دعوى استفادته من إطلاق بعض الأخبار الدالّة عليه ، الواردة في تعارض الخبرين ، فيتّجه حينئذ منعه عن العدول عن مجتهد إلى آخر ، وعن امارة إلى اخرى من الامارات ، التي لم يرد فيها دليل لفظي دال على التخيير بينها لدى المعارضة ، بل فهم ذلك بالنسبة إليها من إجماع ونحوه من الأدلّة القاصرة عن إثباته في ابتداء الأمر ، فمراده من الامارات التي منع من العدول عنها إلى امارة اخرى ما عدا الأخبار ، والله العالم.

قوله قدس‌سره : لأنّ مأخذ التخيير إن كان هو العقل ... الخ (٢).

أقول : ملخّصه إنّه إن كان مستند الحكم بالتخيير العقل ، فالعقل ـ على تقدير حكمه به ، كما لو كان اعتبارهما من باب السببيّة ، أو من باب الطريقيّة ـ بعد أن علم بدليل خارجي أنّه يجب العمل بأحدهما في الجملة ، فانّما يحكم به بعد إحراز تكافئهما ، وعدم اشتمال شيء منهما على شيء من المزايا التي اعتبرها الشارع مرجّحا لبعضها على بعض ، إمّا بالعلم أو ما قام مقامه من الأمارات المعتبرة شرعا ، فلا يستقل به قبل الفحص عن تلك المرجّحات.

ولا يصحّ إحراز عدمها باجراء اصالة العدم ، فانّها مع أنّها لا تجري إلّا بعد الفحص ، لا تجدي في إثبات تكافؤهما وخلوّهما عنها في الواقع ، كي يستقلّ العقل

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٤٠ سطر ٢٥ ، ٤ / ٤٤.

(٢) فرائد الاصول : ص ٤٤١ سطر ٨ ، ٤ / ٤٥.

٥١٠

بحكمهما ، إذ لا اعتداد بالاصول المثبتة ، فلاحظ وتدبّر.

قوله قدس‌سره : ومرجع التوقّف أيضا إلى التخيير (١).

أقول : يعني بعد أن علم من الخارج ـ ولو بواسطة الأدلّة السّمعية ـ أنّ الحكم في الخبرين المتعادلين هو التخيير ـ سواء كان اعتبارهما من باب السببية أو الطريقية ، لا الاحتياط ـ أو الرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما ، فالفرق بين التخييرين أنّه على الأوّل واقعي وعلى الثاني قاعدة عملية يرجع إليه المتحيّر بعد تكافؤ الدليلين وتساقطهما ، من حيث جواز العمل بكلّ منهما في خصوص مؤدّاه.

قوله قدس‌سره : وإنّما يحكم بالتخيير بضميمة أنّ تعيين أحدهما ... الخ (٢).

أقول : الحكم بالتخيير في الواجبين المتزاحمين ـ كما سيصرّح به المصنّف رحمه‌الله في ذيل العبارة ـ لا يتوقّف على هذه المقدّمة ، كي يتوقّف العقل عن حكمه عند الشكّ في المرجّح ، إذ كما يستفيد من إطلاق وجوبهما وعدم اشتراطهما ـ إلّا بالقدرة العقلية ـ عدم جواز طرح كليهما ، كذلك يستفيد منه وجوب الإتيان بكلّ منهما في حدّ ذاته ، وصيرورته معذورا بفعله في ترك امتثال الآخر ، حيث أنّ كلّا منهما من حيث هو مقدور ، فيجب الإتيان به ، ومعه يمتنع فعل الآخر ، فيقبح العقاب عليه ، وهذا هو مناط حكومة العقل بالتخيير ، ومرجعه لدى التحليل إلى معذورية المكلّف في مخالفة أحدهما الذي عجز عن الخروج عن عهدته ، وهو ما عدا ما اختار فعله امتثالا لأمره.

والمصحّح لجواز إخبار كلّ منهما ، المستلزم لعجزه عن امتثال الآخر ، إطلاق طلبه المفروض عدم اشتراطه إلّا بالقدرة العقلية ، إذ لو وجب عليه اختيار أحدهما

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٤١ سطر ٢٥ ، ٤ / ٤٨.

(٢) فرائد الاصول : ص ٤٤٢ سطر ٧ ، ٤ / ٤٩.

٥١١

عينا ، للزم أن لا يكون مجرّد القدرة على الآخر كافيا في تنجّز التكليف به ، بل مشروطا بأمر وراء ذلك ، وإلّا لم يعقل الفرق بينهما من حيث التنجّز وعدمه ، فالعقل بعد أن أدرك عدم اشتراط شيء من الواجبين المتزاحمين ـ على حسب ما يقتضيه إطلاق دليلهما ، إلّا بالقدرة العقلية ـ استقل بعدم الفرق بينهما في وجوب الإتيان به ، وصيرورته معذورا بفعله في ترك الآخر.

ولا يعتني باحتمال أهمّية أحد الواجبين لدى الشارع ، أو احتمال اعتبار الشارع ما فيه من المزية مرجّحا له في مقام المعارضة تعبّدا ، لمخالفته لما يقتضيه إطلاق دليل الآخر ، من عدم اشتراطه إلّا بالقدرة العقلية ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : والتحقيق إنّا إن قلنا بأنّ العمل بأحد المتعارضين ... الخ (١).

أقول ملخّص مرامه : إنّه إن بنينا على قصور ما دلّ على حجّية الخبر ، عن إفادة وجوب العمل بشيء من المتعارضين ، وعدم جواز طرحهما رأسا ، وإنّما استفيد ذلك من حكم الشارع به بدليل الإجماع والأخبار العلاجية ، وإلّا لكان مقتضى الأصل فيهما التساقط ، وفرض وجودهما كأن لم يكونا ، وجب حينئذ الالتزام بالرّاجح ، وطرح المرجوح ، كما تبيّن وجهه فيما سبق.

وإن قلنا بأنّه يستفاد ذلك من نفس أدلّة العمل بالأخبار :

فامّا أن نقول بأنّ مفاد تلك الأدلّة اعتبار الأخبار من باب السببيّة والموضوعيّة ، فهي تدلّ على هذا التقدير على وجوب العمل بكلّ خبر مع الإمكان ، والمتعارضان ـ حيث لا يمكن العمل بهما معا ـ يجب الأخذ بأحدهما ، لأنّه هو القدر الممكن ، فيستنتج العقل من هذا الحكم ، بالتخيير ، كما تقدّم توضيحه آنفا.

وامّا أن نقول بدلالتها على اعتبار الأخبار من باب الطريقية ، وأنّ عمومها

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٤٢ سطر ٢٠ ، ٤ / ٥٠.

٥١٢

لا يقصر عن شمول حدّ المتعارضين الغير المعلوم مخالفته للواقع ، فيستفاد منها عدم جواز طرح المتعارضين رأسا وفرضهما كالعدم ، بل وجوب تصديق أحدهما على سبيل الإجمال والإبهام ، أي الالتزام بعدم خروج الواقع عن مؤدّى كلا الخبرين ، لا التعبّد بصدق أحدهما عينا أو تخييرا كما عرفته بحقيقته فيما سبق ، وعلمت أنّ هذا هو الحقّ ، ولذا التزمنا بأنّ الأصل في الخبرين المتعارضين هو التوقّف ، والرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما ، لا التساقط أو التخيير.

فالذي يقتضيه التحقيق ، بناء على ما اخترناه من أنّ الأصل فيهما التوقّف والرجوع إلى الاصول الموجودة

في تلك المسألة ، عدم الاعتناء بمزية لم يثبت اعتبارها ، إذ لا يجوز رفع اليد عمّا يقتضيه الاصول بمزية غير ثابتة الاعتبار.

قوله قدس‌سره : استقلّ العقل عند التزاحم بوجوب ترك غيره (١).

أقول : أي بوجوب اختيار الأهم ، المستلزم لترك غيره ، وإلّا فلا يصير فعل الغير الأهمّ منهيّا عنه لدى تنجيز التكليف بضدّه ، كما يوهمه ظاهر العبارة على ما تقرّر في محلّه.

قوله قدس‌سره : وكذا لو احتمل الأهميّة في أحدهما ... الخ (٢).

أقول : قد سبق آنفا أنّ احتمال الأهميّة لا يكفي في تعيينه ، فراجع.

قوله قدس‌سره : وما نحن فيه ليس كذلك قطعا (٣).

أقول : كون الأخبار طريقا ظنّيا للوصول إلى الأحكام الواقعيّة ، إن لم يكن

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٤٣ سطر ١٦ ، ٤ / ٥٢.

(٢) فرائد الاصول : ص ٤٤٣ سطر ١٧ ، ٤ / ٥٣.

(٣) فرائد الاصول : ص ٤٤٣ سطر ١٧ ، ٤ / ٥٣.

٥١٣

هو السبب التام للأمر بسلوكها ، فلا أقلّ من مدخليته في ذلك ، أو سببيّته لتأكّد المصلحة المقتضية للأمر به ، فكيف يصحّ مع ذلك دعوى القطع بأنّ المزايا الموجبة لأقربية أحدها إلى الواقع غير موجبة لتأكّد طلبه ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : إلّا أن يرد عليه إطلاقات التخيير ... الخ (١).

أقول : بعد فرض الإطلاق لأدلّة التخيير ، لا يستقيم الأصل الثانوي الذي أصّله ، إذ المرجع حينئذ لدى الشكّ في جواز العمل بالمرجوح اصالة الإطلاق لا الاصول العملية ، فلا يرفع اليد عنه إلّا أن يدلّ دليل على وجوب الترجيح بالمزيّة الموجودة في أحد الخبرين ، فيرفع اليد عمّا يقتضيه اصالة الإطلاق بمقدار دلالة الدليل المقيّد ، وفي موارد الشكّ يعمل بأصالة الإطلاق ، وفي الشبهات المصداقيّة يرجع الى الحكم العام بناء على جواز التمسّك بالعموم والإطلاق في الشّبهات المصداقية ، والاقتصار في التقييد والتخصيص على المخصّص المعلوم ، وإلّا فإلى الاصول العملية كما هو التحقيق.

قوله قدس‌سره : ومرجع الأخير إلى أنّه لو لا الإجماع ... الخ (٢).

أقول : سوق الاستدلال وإن اقتضى ذلك ، وكون تسليمه عدم الترجيح في البيّنات للدليل الذي ذكره فارقا بين المقامين وهو الإجماع ، إلّا أنّ الغرض المستدلّ بحسب الظاهر ، إثبات وجوب الترجيح في المقلّد وجوبا لا بعدمه في البيّنة ، فانّه لم يدّع الإجماع على العدم في البيّنة حتّى يستدلّ به ، بل احتمل كونه مذهب الأكثر ، فكأنّه قال حيث لا إجماع على الترجيح في البيّنة ، فلا مقتضى له ، بخلاف ما نحن فيه

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٤٣ سطر ٢٤ ، ٤ / ٥٣.

(٢) فرائد الاصول : ص ٤٤٤ سطر ٧ ، ٤ / ٥٤.

٥١٤

حيث أنّ الترجيح فيه مذهب الكلّ ، فلا يجوز مخالفتهم ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : إلى التخيير أو التوقّف والاحتياط (١).

أقول : التعبير وقع مسامحة ومن سهو القلم ، إذ لا يظهر من العبارة أنّ الشيخ حكاها عن السيّد الشارح ل «الوافية» الترديد بين التخيير والتوقّف ، بل المصرّح به في كلامه أنّ الأصل التوقّف في الفتوى والتخيير في العمل.

قوله قدس‌سره : فتأمّل (٢).

أقول : لعلّه إشارة إلى أنّ المخالفة التي اريد بهذه الروايات ، هي المخالفة التي لو لم يكن للخبر المخالف تعارض لكنّا نعمل به ، لأنّ السؤال إنّما ورد في مثل هذا الفرض. كما يفصح عن ذلك ، مضافا إلى وضوحه ـ تقديم بعض المرجّحات في المقبولة وغيرها على موافقة الكتاب ، ومن المعلوم أنّ العمل بالخبر الظنّي في مقابل النصّ القطعي غير جائز ، فالمراد بالمخالفة ما إذا كان مخالفا لإطلاق الكتاب أو عمومه أو غيرها ممّا يقتضيه اصالة الحقيقة ، ولا ريب في أنّ موافقة الكتاب أيضا ـ في مثل الفرض ـ ليس إلّا كسائر المرجّحات ، التي يمكن الالتزام بكون الترجيح بها على سبيل الفضل والأولوية لا الواجب بعد مساعدة الدليل عليه.

قوله قدس‌سره : وهذه الرواية الشريفة وإن لم يخل عن الإشكال بل الإشكالات ... الخ (٣).

أقول : فيرتفع جلّ هذا الإشكالات بحمل قوله «فان كان كلّ رجل يختار

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٤٤ سطر ١٣ ، ٤ / ٥٥.

(٢) فرائد الاصول : ص ٤٤٤ سطر ١٩ ، ٤ / ٥٦.

(٣) فرائد الاصول : ص ٤٤٥ سطر ١٦ ، ٤ / ٥٩.

٥١٥

رجلا من أصحابنا» على إرادة الرجوع إليه ، والعمل بما يؤدّي إليه نظره في أمرهما من حيث الفتوى ، كما أنّ هذا هو الشأن فيما لو كان المتخاصمان عدلين لا يريد أحدهما الجور على صاحبه ، فانّهما لا يحتاجان حينئذ في ارتفاع خصومتهما إلى أزيد من شرح حالهما لمن يقلّدانه ، واستكشاف رأيه في أمرهما ، فالرواية على هذا تدلّ على عدم جواز تقليد غير الأعلم ، مع العلم بمخالفته للأعلم.

اللهمّ إلّا أن يقال : بأنّ هذا لعلّه لخصوصية المورد ، الذي لا بدّ فيه من موافقة أحدهما للآخر فيمن يرجع إليه ، حسما للنزاع ، فلا تدلّ عليه في غير مثل المورد.

ويمكن دفعه : بأنّ النزاع ينحسم بحكم الحاكم الذي يختار المدّعي رفع أمره إليه ، لا بموافقة الآخر له في التقليد ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : مع أن أفقهية الحاكم بإحدى الروايتين ... الخ (١).

أقول : لا يعتبر في كون الأفقهيّة كاشفة عن قدح في الرواية ، المشهورة أفقهية جميع رواتها من رواة تلك الرواية المشهورة ، بل العبرة بأفقهية من غيره ممّن عوّل على تلك الرواية ، من رواتها وغيرهم ، لا مساويا ولا مفضولا من واحد منهم ، لا الوسائط التي وصل إليه بواسطتهم هذا الخبر.

نعم ، يعتبر في الترجيح بالأعدلية والأصدقية ، عدم كون أحد من الوسائط مفضولا بالنسبة إلى رواة الاخرى ، وإلّا فالنتيجة تتّبع أخسّ مقدّماتها ، وكذا لو كان واحد منها ضعيفا يلحق الخبر به ، وإن كان من عداه جميعا عدولا.

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٤٦ سطر ٣ ، ٤ / ٦١.

٥١٦

قوله قدس‌سره : لا يقدح في ظهور الرواية ، بل صراحتها في وجوب الترجيح بصفات الراوي (١).

أقول : ظاهر الرواية أنّ أفضلية أحدهما من الآخر في الأوصاف المذكورة ، موجبة لترجيح حكمه من حيث هو ، كما سيأتي في كلام المصنّف رحمه‌الله الإشارة إليه عند إرادة الجمع بين الأخبار ، فلا دلالة في هذا الخبر على وجوب ترجيح إحدى الروايتين على الاخرى بالأوصاف ، فضلا عن صراحتها في ذلك.

نعم ، هي صريحة في الترجيح بالشهرة ، وبموافقة الكتاب ومخالفة العامة ، ولكنّها وردت في المتخاصمين ، فيمكن أن يكون ذلك لخصوصية موردها ، كما تقدّمت الإشارة إليه آنفا ، إلّا أنّ ما فيها من التعليل والاستشهاد بحديث التثليث يبعّد هذا الاحتمال ويجعلها كالنصّ في العموم ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : الثالث ما رواه الصدوق ... الخ (٢).

أقول : هذه الرواية مفادها لدى التأمّل ، وجوب التوقّف في المتعارضين الواردين في مورد لا يمكن استفادة حكمه من الكتاب والسنّة ، ولكن موردها صورة التمكّن من تحصيل العلم بالرجوع إلى الإمام عليه‌السلام ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : والمراد بالمتشابه بقرينة قوله قدس‌سره : «ولا تتّبعوا ...» الخ (٣).

أقول : اتّباع المتشابه قد يتحقّق بابتغاء تأويله ، وصرفه إلى بعض محتملاته ، ببعض القياسات والمناسبات الذوقية ، من غير قرينة عقلية أو نقلية مرشدة إليه ، فلا

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٤٦ سطر ٥ ، ٤ / ٦١.

(٢) فرائد الاصول : ص ٤٤٦ سطر ١٥ ، ٤ / ٦٣.

(٣) فرائد الاصول : ص ٤٤٨ سطر ٢٤ ، ٤ / ٧٢.

٥١٧

ينافي ذلك كونه في حدّ ذاته مجملا ، فيمكن أن يكون المراد بالنهي عن اتّباع المتشابه ، النّهي عن حمل الكلمة التي تنصرف على وجوه ، على بعض جهاته ببعض المناسبات أو الدواعي النفسانية ، من غير قرينة عقلية أو نقلية دالّة عليه ، كما أنّ هذه لعلّه هو المراد باتّباع المتشابه في قوله تعالى :

(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ)(١) ولكن الظّاهر أنّ المقصود بالروايتين التنبيه على أنّ الأخبار الصّادرة منهم ربّما اريد منها خلاف ظاهرها ، فلا يجوز المبادرة إلى اتّباع ما يتراءى من شيء منها في بادئ الرأي ، قبل الفحص وبذل الجهد في استكشاف مرادهم ، بالتدبّر والالتفات إلى سائر كلماتهم ، وغيرها من القرائن والشواهد العقلية أو النقلية الكاشفة عمّا أرادوه بهذا الظاهر ، كما نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله في ذيل العبارة ، فالمقصود في مثل هذه الروايات الحثّ على استفراغ الوسع في فهم معاني الروايات الصادرة ، عنهم ، لا الحثّ على عدم المبادرة إلى طرح بعض الروايات ، كي يختصّ موردها بغير معلوم الصدور ، فلاحظ وتدبّر.

قوله قدس‌سره : واعلم أنّ حاصل ما يستفاد من مجموع الأخبار ... الخ (٢).

أقول : امّا الترجيح بالأعلمية والأوثقية ، فلا يستفاد من شيء منها ، عدا مرفوعة زرارة ، وهي قاصرة سندا كما نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله مرارا ، وإلّا لوجب الترجيح بالأحوطية أيضا.

فالحقّ أنّ المدار في تعارض الخبرين كون رواتهما من الثقات الغير المتّهمين بالكذب ، كما في بعض الأخبار المتقدّمة أيضا الإشارة إليه.

__________________

(١) سورة آل عمران : آية ٣.

(٢) فرائد الاصول : ص ٤٤٩ سطر ٦ ، ٤ / ٧٣.

٥١٨

نعم ، لو بنينا على التعدّي عن المرجّحات المنصوصة ـ كما هو الأظهر ـ اتّجه الأخذ بأوثق الخبرين ، سواء نشأ ذلك من أوثقية راويه وأضبطيته ، أو أضبطية كتابه ، أو غير ذلك من الأسباب المورثة للأوثقية ، بخلاف ما إذا لم يكن أحدهما أوثق من الآخر ، فلا ترجيح حينئذ وإن كان راوي أحدهما في حدّ ذاته أعدل وأصدق ، إذ المدار حينئذ على أوثقيّة الرواية.

بل الذي يقوى في النظر ، أنّ بناء العرف والشرع في باب التراجيح على هذا ، وما ذكر في الروايات من المرجّحات المنصوصة من باب التنبيه على الامور المورثة للأوثقية ، بكون مضمون أحد الخبرين هو الحكم الشرعي الواقعي.

ثمّ ، إنّا لو قلنا بوجوب الترجيح بالأعدلية ونحوها من صفات الراوي ، فلا يكاد يمكننا الترجيح بهذا المرجّح في شيء من الأخبار ، فانّه موقوف وجهه على إحراز هذه الصّفة في مجموع سلسلة الرواية ، بالمقايسة إلى ما يقابله كما لا يخفى وجهه ، وهذا ممّا لا طريق لنا إليه كما هو واضح.

وكيف كان ، ففي جملة من الأخبار جعل أحدثية أحد الخبرين من المرجّحات ، ولم يتعرّض له المصنّف رحمه‌الله ، كما أنّ الأصحاب أيضا لم يلتفتوا إليه في مقام الترجيح ، وسرّه أنّ هذا مخصوص بمن ألقي إليه الخبر المتأخّر ، حيث أنّ تكليفه العمل به كيفما كان ، كما أنّ في بعض تلك الأخبار إشارة إلى ذلك ، حيث قال عليه‌السلام : «إنّا والله لا ندخلنّكم إلّا فيما يسعكم» فمتى أمرنا بشيء يجب علينا اتّباع أمره من غير اعتراض بمناقضته لكلامه السابق ، فانّه أعرف بحكم الله ، وما يقتضيه تكليفه وتكليفنا بحسب مصلحة الوقت ، ولكن سائر المكلّفين الذين يجب عليهم استفراغ الوسع في تمييز ما كان منهما مسوقا لبيان الحكم الواقعي عمّا عداه ، فليس عليهم الأخذ بالأحدث ، بل عليهم التحرّي والأخذ بما هو الأقرب إلى الواقع باستعمال سائر المرجّحات ، وكيف لا وإلّا لم يبق موقع للتراجيح المنصوصة في سائر الروايات ، كما لا يخفى.

٥١٩

قوله قدس‌سره : ولعلّه ترك الترجيح بالأعدلية والأوثقية ... الخ (١).

أقول : بل الظّاهر أنّ وجهه ما أشرنا إليه ، من أنّه لا يستفاد ذلك من الروايات التي عوّل عليها الكليني وما ودّعها في كتابه.

قوله قدس‌سره : امّا وجه كونه أحوط ... الخ (٢).

أقول : ما ذكره وجها له لا يخلو عن بعد ، فإنّ ترك العمل بالظّنون التي لم يثبت اعتبارها ، لا يجعل الأخذ بإطلاقات التوسعة والافتاء بمضمونها أو الأخذ بها في مقام العمل أحوط ، ضرورة أنّ الأحوط ترك الفتوى والاقتصار في مقام العمل على الأخذ بما يحتمل كونه أرجح لدى الشارع ، بل لا يبعد أن يكون الوجه ـ فيه على ما يستشعر من كلامه رحمه‌الله ـ انّه كبعض المتأخّرين الذي تقدّم نقل قوله في عبارة المصنّف رحمه‌الله ، يرى أنّ المكلّف في سعة من الأخذ بكلّ من الأخبار المختلفة ، وأنّ الترجيح بالمزايا المنصوصة من قبيل الأولوية والفضل ، والله العالم.

قوله قدس‌سره : منها الترجيح بالأصدقية في المقبولة (٣).

أقول : هذا ينافي اعترافه آنفا بأنّ الترجيح بها في المقبولة إنّما هو بين الحكمين مع قطع النظر عن مستندهما.

قوله قدس‌سره : ومعناه أنّ الريب المحتمل في الشّاذ غير محتمل فيه (٤).

أقول : بل معناه نفي الريب عنه مطلقا ، كما هو المتبادر من إطلاقه ، ولكن في

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٤٩ سطر ١٥ ، ٤ / ٧٤.

(٢) فرائد الاصول : ص ٤٤٩ سطر ١٩ ، ٤ / ٧٤.

(٣) فرائد الاصول : ص ٤٥٠ سطر ٨ ، ٤ / ٧٦.

(٤) فرائد الاصول : ص ٤٥٠ سطر ٢٣ ، ٤ / ٧٧.

٥٢٠