حاشية فرائد الأصول

الشيخ آقا رضا الهمداني

حاشية فرائد الأصول

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: محمّد رضا الأنصاري القمّي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٨

والامارات بأسرها حاكمة عليها ولو أغمض عن ذلك وقبل بأنّ ظاهر اخبارها لدى الجهل بحكم شيء مطلقا فاخبارها بظاهرها أعمّ مطلقا من أدلّة سائر الاصول أيضا كالاستصحاب فمقتضى القاعدة انّه إن أمكن تخصيصها بالجميع تعين وإلّا بأن استوعب التخصيص واستلزم تخصيص الأكثر المستهجن وقعت المعارضة بينها وبين أدلّة سائر الاصول من غير فرق بين أدلّة الاستصحاب وغيره فالفرق بين أدلّة الاستصحاب وغيره غير وجيه ، وليت شعري إذا جعل أدلّة القرعة حاكمة عليها هل يبقى لها مورد ينزل عليه تعبّد الشارع ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : فالأولى في الجواب ... الخ (١).

أقول : وبعبارة أوفى إنّ معنى «لا تنقض اليقين بالشكّ» وجوب إبقاء الحكم السابق إلى زمان الشكّ ، وتعميمه بالنسبة إليه حكما ، لتعذّر حقيقته ، ومعنى ابقائه وتعميمه بالنسبة إلى ذلك الشكّ ، ليس إلّا أنّ الشاك في بقاء الحكم السابق ليس له ترتيب أثر الشكّ ، بالرجوع إلى الاصول المقرّرة للشاكّ من البراءة والتخيير والاحتياط ، بل يتعيّن عليه الأخذ بحالته السابقة ، وتنزيل نفسه منزلة غير الشاكّ ، وهذا معنى الحكومة كما لا يخفى.

قوله قدس‌سره : فمجموع الرواية المذكورة ودليل الاستصحاب ... الخ (٢).

أقول : لو كان المجموع بمنزلة أن يقول «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» وكلّ نهي ورد في شيء فلا بدّ من تعميمه لجميع أزمنة احتماله ، لأشكل ادّعاء حكومة الاستصحاب على البراءة ، لأنّه إن اريد بورود النهي فيه وروده في الجملة ، ـ ولو

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٢٣ سطر ١٣ ، ٣ / ٣٨٩.

(٢) فرائد الاصول : ص ٤٢٣ سطر ١٥ ، ٣ / ٣٨٩.

٤٨١

بالنسبة إلى الزمان السابق ـ لكان مقتضاه القول الأوّل ، الذي بيّن المصنّف رحمه‌الله ضعفه بما لا مزيد عليه.

وإن اريد به ورود النهي فيه بالفعل ، بأن يكون المراد به أنّ مشكوك الحكم ما لم يعلم حرمته بالفعل فهو مباح ، سواء علم بكونه حراما في السابق أم لم يعلم ، كما هو مفاد أدلّة البراءة على ما صرّح به المصنّف آنفا ، فما دلّ على إبقاء النهي السابق إلى زمان الشكّ ينافيه ، ولكنّه أخصّ مطلقا لو كان الدليل واردا فيه بالخصوص.

إلّا أنّ دليل الاستصحاب ليس كذلك ، بل يعمّ الشّبهة الموضوعية والوجوبية ، وسائر موارد الشكّ في المكلّف به ممّا لا يعمّه أدلّة البراءة ، فهو أعمّ من وجه من أدلّة البراءة ، ولا حكومة لأحدهما على الآخر بمقتضى هذا التقرير ، بل هما حكمان متنافيان واردان على الموضوع المشكوك ، فيتعارضان في مورد الاجتماع ، فحكومة الاستصحاب على سائر الاصول إنّما هو بلحاظ أنّ مفاد دليله وجوب تنزيل الشاكّ نفسه منزلة المتيقّن ببقاء ما كان ، لا من حيث كونه تعميما للحكم السابق ، بل من حيث كونه تنزيلا للمشكوك منزلة المتيقّن في مقام العمل ، إذ لا معنى لذلك لدى التحليل إلّا المنع عن الرجوع إلى الاصول المقرّرة للشاكّ من حيث هو ، وهذا معنى الحكومة كما مرّ توضيحه مرارا ، فلاحظ.

قوله قدس‌سره : فانّه قد استدلّ بها جماعة كالعلّامة ... الخ (١).

أقول : قد تقدّم تقريب الاستدلال بها لأصل الإباحة في مبحث أصل البراءة ، واتّضح عدم منافاة الأمثلة المذكورة للدّلالة على المطلوب ، فراجع.

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٢٣ سطر ٢٤ ، ٣ / ٣٩٠.

٤٨٢

قوله قدس‌سره : فغير معقول (١).

أقول : لأنّه دور صريح كما هو ظاهر.

قوله قدس‌سره : وإن شئت قلت إنّ حكم العام ... الخ (٢).

أقول : هذا التقريب بمجرّده غير تام ، فانّ القضايا العامة أو المطلقة التي موضوعاتها الطبيعة المطلقة ، لا تقصر عن شمول شيء من مصاديق تلك الطبيعة ، وان فرض ترتّبها ذاتا أو وجودا ، ألا ترى أنّا لو فرضنا كون إنسان سببا لإنسان آخر ، ونار سببا لنار اخرى ، أو أربعة لأربعة ، كذلك يعمّ الجميع جميع الأحكام المحمولة على تلك الطبائع من حيث هي ، وكذا لو دلّ دليل على أنّه لا يجوز حمل مشكوك النجاسة في الصّلاة أو أكله وشربه ، لا يقصر عمومه أو إطلاقه عن شموله للشكّ السببي والمسبّبي معا ، وإنّما يقصر عن الشمول لها فيما هو مثل ما نحن فيه ، ممّا يمتنع شموله لهما فانّ شمول الحكم للمسبّب فرع تحقّق موضوعه ، وهو لا يتحقّق إلّا وقد استوفى السبب حظّه من العموم ، حيث أنّ وجود المسبّب واندراج السّبب في موضوع الحكم ـ أي ثبوت الحكم له ـ في مرتبة واحدة ، كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله ، فيمتنع أن يندرج المسبّب أيضا في موضوع ذلك العام بعد فرض التمانع بينهما في الحكم ، بخلاف ما لو فرض إمكان ثبوت الحكم للجميع ، كما في الأمثلة المزبورة ، فلاحظ وتدبّر.

قوله قدس‌سره : بناء على أنّ إجراء الاستصحاب في نفس تلك الآثار ... الخ (٣).

أقول : قد لا يكون المشكوك بالشكّ السببي ، من قبيل الموضوع الذي لا بدّ من إحرازه

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٢٤ سطر ٢٠ ، ٣ / ٣٩٣.

(٢) فرائد الاصول : ص ٤٢٦ سطر ٢ ، ٣ / ٣٩٨.

(٣) فرائد الاصول : ص ٤٢٦ سطر ١٠ ، ٣ / ٣٩٩.

٤٨٣

في إجراء الاستصحاب في المسبّبي ، وإن أمكن إطلاق الموضوع عليه ببعض الاعتبارات ، ألا ترى أنّه كثيرا ما يمتنع إجراء الاستصحاب في الشكّ بالسببي لأجل الابتلاء بالمعارض ، فيرجع إلى استصحاب المسبّب ، كما في ملاقي الشّبهة المحصورة ونظائره.

قوله قدس‌سره : بل أقبح من الترجيح بلا مرجّح (١).

أقول : وجه كونه أقبح ، اشتماله على قبح الترجيح بلا مرجّح ، والتعليل بما لا يصلح علّة للتقديم.

قوله قدس‌سره : فقد ذهب الشيخ في «المبسوط» إلى عدم وجوب فطرة العبد ... الخ (٢).

أقول : يمكن توجيه هذا القول بدعوى أنّ وجوب الفطرة متفرّع على عنوان وجودي ملازم للمستصحب ، وهو إدراكه هلال شوّال ، أي كونه حيّا في هذا الحين ، وهذا ممّا لا يثبت باستصحاب الحياة ، إلّا على القول بالأصل المثبت ، بخلاف جواز عتقه في الكفّارة ، فانّه ـ كوجوب الإنفاق على زوجته ـ من آثار مطلق حياته المحرزة بالاستصحاب ، إلّا الحياة المقيّدة بكونها في زمان خاصّ حتّى يشكل إثباتها بالاستصحاب ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : وحكى عن العلّامة رحمه‌الله في بعض كتبه الحكم بطهارة الماء القليل ... الخ (٣).

أقول : قد تقدّم في مبحث استصحاب الكلّي ، البحث عن حال اصالة عدم

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٢٦ سطر ١٩ ، ٣ / ٤٠٠.

(٢) فرائد الاصول : ص ٤٢٧ سطر ٥ ، ٣ / ٤٠١.

(٣) فرائد الاصول : ص ٤٢٧ سطر ٩ ، ٣ / ٤٠٢.

٤٨٤

التذكية ، وبيّنا في ذلك المبحث أنّ تفريع نجاسة الماء الملاقي له على هذا الأصل لا يخلو عن إشكال ، فراجع.

قوله قدس‌سره : وليت شعري هل نجاسة الماء ... الخ (١).

أقول : يعني تنجيس الماء الملاقي له من أحكام كونه ميتة ، وإلّا فالنجاسة المحمولة على الماء لا يصلح أن يعدّ من أحكام الميتة ، فانّها لا تحمل على الميتة ، بل تحمل على موضوع آخر ، ولكن حملها على ذلك الموضوع من فروع كون هذا الموضوع ميتة ، كما إليه ينظر كلام صاحب «الإيضاح».

فيتوجّه عليه أنّ تنجيس الملاقي ـ الذي هو من أحكام كونه ميتة ـ يثبت باصالة عدم التذكية بالاصالة ، فيمتنع التفكيك بأن يقال إنّه ينجس ملاقيه ، لكن الملاقي لا يتنجّس به ، لأنّ التأثير فرع التأثّر ، فتأمّل.

قوله قدس‌سره : هذا مع أنّ الاستصحاب في الشكّ السببي ... الخ (٢).

أقول : سوق التعبير مشعر بأنّ المقصود بهذا اعتراض آخر على الشيخ عليّ رحمه‌الله ، مع أنّه لم يظهر ممّا حكى عنه ما ينافيه ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : كما في الماء النجس المتمّم كرّا بماء طاهر ... الخ (٣).

أقول : يمكن أن يقال في هذا الفرض بنجاسة الماء ، لأجل استصحاب نجاسة الماء النجس ، وعدم معارضته باستصحاب طهارة الماء الطّاهر ، لأنّ من آثار الأوّل

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٢٧ سطر ٢٣ ، ٣ / ٤٠٤.

(٢) فرائد الاصول : ص ٤٢٨ سطر ١٠ ، ٣ / ٤٠٥.

(٣) فرائد الاصول : ص ٤٢٨ سطر ١٦ ، ٣ / ٤٠٦.

٤٨٥

تنجيس ملاقيه ، وامّا تطهير الملاقي فليس من آثار طهارة الماء القليل الطاهر من حيث هو ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : كما في استصحاب بقاء الحدث ... الخ (١).

أقول : وجه عدم استلزام إجراء الأصلين مخالفة عملية ، هو أنّه لو لم نقل بجريان الاستصحابين في المقام ، لوجب أيضا البناء في مقام العمل على طهارة البدن لقاعدتها ، ووجوب الوضوء لقاعدة الاشتغال.

قوله قدس‌سره : ومثله استصحاب طهارة كلّ من واجدي المني في الثوب المشترك (٢).

أقول : في جعله مثالا لما نحن فيه نظر بل ، هي من أمثلة الصورة الرابعة التي هي في الحقيقة خارجة عن مسألة تعارض الاستصحابين ، كما سينبّه عليه المصنّف رحمه‌الله عند البحث عن حكم هذه الصورة.

قوله قدس‌سره : إذا كان اعتبارهما من باب التعبّد ... الخ (٣).

أقول : يعني السببيّة التي هي قسم للطريقيّة ، وإلّا فكونه من باب التعبّد لا ينافي الطريقية ، كما لا يخفى.

قوله قدس‌سره : بالشرط المتقدّم (٤).

أقول : يعني إذا كان اعتباره من باب التعبّد لا الطريقية المحضة.

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٢٨ سطر ١٧ ، ٣ / ٤٠٦.

(٢) فرائد الاصول : ص ٤٢٨ سطر ١٧ ، ٣ / ٤٠٧.

(٣) فرائد الاصول : ص ٤٢٩ سطر ١٠ ، ٣ / ٤٠٩.

(٤) فرائد الاصول : ص ٤٢٩ سطر ١٨ ، ٣ / ٤١٠.

٤٨٦

قوله قدس‌سره : ويندفع هذا التوهّم ... الخ (١).

أقول : وسيأتي توضيح الاندفاع مفصّلا في مبحث التعادل.

قوله قدس‌سره : ونظير هذا كثير مثل أنّه علم إجمالا بحصول التوكيل ... الخ (٢).

أقول : الكلام في مثل هذه الموارد :

تارة : يقع فيما هو وظيفة الحاكم في مقام الترافع.

واخرى : فيما هو وظيفة كلّ منهما على تقدير التباس الأمر عليه.

وثالث : يترتّب على فعلهما أثر عملي متعلّق به.

امّا الحاكم فوظيفته الرجوع إلى الأصل الجاري في خصوص محلّ النزاع ، ولا يلتفت إلى سائر الاصول المنافية له الخارجة عن محلّ النزاع ، ففي مسألة ما لو ادّعى المشتري وكالته في شيء يقدّم قول البائع ، إذ الأصل عدم وكالته في ذلك الشيء ، ولا تعارضه اصالة عدم وكالته فيما يدّعيه الموكّل ، لا لمجرّد أنّه لا أثر لهذا الأصل ، بل لكونه أجنبيّا عن هذه الدعوى ، فلو كان ما يدّعيه الموكّل من توكيله في شراء شيء آخر أيضا دعوى مسموعة ، لاندرج المثال في مسألة التداعي.

فعلى الحاكم حينئذ تقديم قول المنكر في كلّ من الدّعويين ، تعويلا على اصالة عدم ما يدّعيه الآخر ، فيعمل الحاكم بكلا الأصلين في مقام التداعي ، من غير أن يرى المعارضة بينهما ، أو يلتفت إلى علمه الإجمالي بمخالفة أحدهما للواقع ، كما تقدّم التنبيه عليه في الكتاب.

وامّا من عداه من المتخاصمين أو الثالث ، فإن كان لكلّ من الأصلين بالنسبة إليه أثر عملي ، لم يعمل بشيء منهما لتساقطهما بالمعارضة ، وإلّا عمل بالأصل الذي

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٢٩ سطر ٢٠ ، ٣ / ٤١١.

(٢) فرائد الاصول : ص ٤٣١ سطر ١ ، ٣ / ٤١٤.

٤٨٧

يترتّب عليه في حقّه أثر عملي كما قرّره المصنّف رحمه‌الله ، وقد أسلفنا في مسألة أصالة الصحّة في عمل الغير بعض ما له ربط بالمقام ، فراجع.

قوله قدس‌سره : ولك أن تقول بتساقط الأصلين في هذه المقامات ... الخ (١).

أقول : كأنّه أراد بهذه التنبيه على عدم إناطة تساقط الأصلين ، بأن يكون للشيء المعلوم بالإجمال أثر عملي على كلّ تقدير ، بل المدار على ملحوظية العلم لدى الذهن عند التفاته إلى المشكوك ، بأن يراه طرفا لما علمه بالإجمال ، لا شيئا مستقلّا من حيث هو متعلّقا للشكّ كي يعمّه عمومات أدلّة الاصول ، فلا يتفاوت الحال حينئذ في سقوط الأصلين الجاريين في الامور الخارجية ، بين أن يكون الأثر لكلّ منهما أو لأحدهما ، فلو شكّ الموكّل في أنّه هل وكّله في شراء العبد كما يدّعيه الوكيل ، أو في شراء الجارية ، ليس له نفي ما يدّعيه الوكيل بالأصل ، بعد كونه بنظره طرفا للترديد الناشئ من علمه إجمالا ، بصدور وكالة منه مردّدة بينه وبين الطرف الآخر ، ولكن ينفي آثاره ـ وهو وجوب الوفاء بعقده ، واشتغال ذمّته بثمن العبد ـ بالأصل.

وليس الأمر كذلك في مسألة الجنابة المردّدة بينه وبين غيره ، أو النجاسة المردّدة بين وقوعها على ثوبه أو ثوب غيره ، حيث أنّ كون أحد طرفي المعلوم بالإجمال أجنبيّا عنه ، يجعل علمه كالعدم في عدم مانعيته عن ملاحظة الشكّ المتعلّق بمحلّ ابتلائه من حيث هو على سبيل الاستقلال.

ونظيره في الموضوعات الخارجية ما إذا علم شخص إجمالا بصدور وكالة إمّا منه أو من شخص آخر أجنبي عنه.

هذا ، ولكن لك أن تقول بأنّ الأصل لا يجري في مواقع الترديد ودوران الأمر

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٣١ سطر ٤ ، ٣ / ٤١٤.

٤٨٨

المعلوم بالإجمال بين كونه هذا أم ذاك مطلقا ، بل الأصل يجري في نفي أثر ذلك الشيء بالنسبة إلى مورد ابتلائه ، ففي مسألة الجنابة ، ونحوها أيضا استصحاب عدم جنابته ، أو طهارة بدنه وثوبه من قبيل الاستصحابات الجارية في آثار الموضوعات الخارجية ، بل هي هي بعينها ، حيث أنّ الشكّ فيها مسبّب عن الشكّ في كون المنيّ المعلوم خروجه من أحدهما الذي هو موضوع خارجي مردّدا بين خروجه منه أو من الشخص الآخر ، أو النجاسة المعلوم وقوعها على أحد الثوبين كذلك ، ولا يجري الأصل في نفي شيء منهما بعد كون كلّ منهما طرفا للعلم الإجمالي ، وإنّما يجري في نفي الأثر المترتّب على كلّ منهما عند سلامته عن معارض مكافئ بل لا معنى لإجراء الأصل بالنسبة إلى الشيء الواقع طرفا للترديد ، إذ لا يصلح أن يقال الأصل عدم خروج ذلك المني منّي ، أو عدم إصابة تلك النجاسة إلى ثوبي ، إذ ليس له حالة سابقة معلومة ، وانّما يجري الأصل في الشكّ الناشئ من هذا الترديد ، المتعلّق بآثاره ولوازمه ، كاستصحاب طهارة ثوبه ، أو عدم انفعاله بملاقاة النجس ، وغير ذلك ممّا هو من لوازم عدم وقوع تلك النجاسة على هذا الثوب ، فافهم وتأمّل فانّه لا يخلو عن دقّة.

قد تمّ ما علّقه على الاستصحاب ، أقلّ المحصّلين ، محمّد رضا الهمداني ، في شهر ذي القعدة من سنة ١٣٠٧ سبع وثلاثمائة بعد الألف.

* * *

٤٨٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على خير خلقه ، محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين ، إلى يوم الدين.

في التعادل والتراجيح

قوله قدس‌سره : وهو لغة من العرض بمعنى الاظهار (١).

أقول : لا يبعد أن يكون أخذه من «العرض» ـ الذي هو ضدّ الطول ـ السبب بمعناه الاصطلاحي ، فانّ العلاقة المصحّحة للاستعمال كون كلّ من المتعارضين في عرض الآخر من حيث الدليلية ، وربّما يطلق نظرا إلى هذه العلاقة على الاصول العملية أنّها ليست في عرض الأدلّة ، بل في طولها فلا يعارضها.

قوله قدس‌سره : وغلّب في الاصطلاح على تنافي الدليلين ... الخ (٢).

أقول : التنافي بين مدلولي الدليلين :

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٣١ سطر ١٧ ، ٤ / ٢٢.

(٢) فرائد الاصول : ص ٤٣١ سطر ١٨ ، ٤ / ١١.

٤٩٠

قد يكون ذاتيا لهما ، كما لو دلّ دليل على وجوب إكرام زيد في وقت خاص ودليل آخر على عدم وجوبه في ذلك الوقت ، أو على استحبابه ، فهما بذاتيهما متناقضان أو متضادّان.

وقد لا يكون كذلك ، ولكن يلزم من صدقهما معا حصول أمر محال ، كما لو دلّ دليل على وجوب إكرام زيد ، وآخر على وجوب إكرام عمرو ، ولم يتمكّن المكلّف من الإتيان بكليهما ، فانّه لا تنافي بين مدلوليهما ذاتا ، ولكن امتنع تواردهما على شخص واحد ، لاستلزامه التكليف بما لا يطاق ، أو علم إجمالا بحرمة أحد إناءين دلّ دليلان أو أصلان على إباحتهما ، فانّه يلزم من الرّخصة في ارتكاب كلّ منهما الاذن في ارتكاب الحرام المعلوم بالإجمال ، وهو ممتنع ، أو دلّ دليل على وجوب الظهر والآخر على وجوب الجمعة ، وعلم من الخارج بأنّ الواجب على المكلّف ليس إلّا أحدهما ، فيستلزم صدق كلّ منهما ـ بعد فرض وحدة التكليف ـ كذب الآخر ، فيئول الأمر بالنسبة إلى كلّ من الصّلاتين إلى اجتماع النقيضين كما لا يخفى.

قوله قدس‌سره : ومنه يعلم أنّه لا تعارض ... الخ (١).

أقول : محطّ النظر في هذا المبحث بيان أنّ الاصول العملية لا تعارض الأدلّة الاجتهادية ، حيث أنّ الاصول العملية عبارة عن القواعد العقلية أو النقلية أو المقرّرة للجاهل بالأحكام الشرعيّة الواقعيّة ، فهي لا تصلح معارضة للأدلّة الرافعة للجهل بالواقع حقيقة أو حكما ، كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله ، فما صدر من كثير من الأعلام في كثير من المقامات من جعل الاصول العملية معارضة للأدلّة الاجتهادية ، أو معاضدة لها ، امّا غفلة منهم ، أو مبنيّ على اعتبار الاصول لديهم من باب الظنّ ، أو غير ذلك من المحامل.

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٣١ سطر ٢٠ ، ٤ / ١١.

٤٩١

وكيف كان ، فقد ظهر بما أشرنا إليه في توضيح مرام المصنّف رحمه‌الله اندفاع ما قد يتوهّم من أنّه يرد عليه أنّ النسبة بين المتعارضين إنّما تلاحظ بين ذوات الأدلّة التي حصّلها المجتهد ، لا بوصف اطلاعه عليه ، لأنّ هذا الوصف لم يؤخذ قيدا في موضوع الأحكام الواقعيّة ، وحيث أنّ موضوعها أعمّ من صورتي العلم والجهل ، فلا يجدي تقييد موضوع الاصول بصورة الجهل في دفع المعارضة ، فإن حكم الشارع بحرمة العصير ونجاسته على الإطلاق ، يعارض حكمه بطهارته وحلّيته مع الجهل ، غاية الأمر أنّ أحد المتعارضين

أخصّ من الآخر ، وما لم يطّلع المجتهد على حكم الشارع بحرمته ونجاسته ، لا يعلم بأنّ كلّ شيء حلال وطاهر ما لم يعلم حرمته ونجاسته مبتلى بالتعارض في خصوص المورد ، وبعد الاطّلاع عليه يعلم بأن إطلاق الحكم الأوّل مع عموم الحكم الثاني متنافيان ، فلا بدّ في رفع المعارضة إمّا من الالتزام بعدم كون الأحكام الظاهرية أحكاما حقيقية ، بل هي من قبيل الأعذار العقلية ، أو التزام بعدم التضاد بين الأحكام مع اختلافها في المرتبة من حيث الفعلية والشأنية ، وتحقيقه موكول إلى محلّه ، وقد تقدّم بعض الكلام فيه فيما علّقناه على أوائل أصل البراءة فراجع.

والحاصل : إنّ تقييد موضوع الاصول بالجهل لا يجدي في رفع المعارضة بينها وبين الأحكام الواقعية المخالفة لها ، وإنّما المجدي إنكار المضادّة ، أو انكار كون الأحكام الظاهرية أحكاما حقيقة ، كما لا يخفى.

توضيح الاندفاع : إنّ المقصود بالبحث عنه في هذا المقام ، إنّما هو بيان النسبة بين المتعارضين من حيث الدليلية ، لا من حيث الدّلالة ، فلم يقصد المصنّف رحمه‌الله بهذا الكلام تصحيح اجتماع الأحكام الظاهرية والواقعية المخالفة لها بالالتزام بتغاير موضوعيهما ، حتّى يتوجّه عليه ما ذكر ، فانّ هذا أمر أجنبي عمّا تعلّق الغرض بالبحث عنه في هذا المبحث ، وإنّما المقصود في هذا المقام التنبيه على أنّ جعل الاصول معارضة

٤٩٢

للأدلّة في مقام الاستدلال خطأ ، لأنّه لا يجري الأصل بعد الاطلاع على الدليل.

وامّا أنّه كيف رخّص الشارع في ارتكاب مشكوك الحرمة ، مع كونه في الواقع حراما ، فلتحقيقه مقام آخر ، وقد نبّه في بعض الحواشي المنسوبة إليه على أنّ وجه عدم المعارضة بين الأحكام الواقعية والظاهرية إنّما هو اختلافهما في المرتبة من حيث الشأنية والفعلية ، لا باختلاف الموضوع ، فانّ موضوعهما واحد.

ثمّ إنّ تسمية الأحكام الواقعية أحكاما شأنية ، إنّما هي بمقايستها إلى الأحكام الفعلية المنجّزة على المكلّف ، التي لا يعذر في مخالفتها ، وإلّا فهي لدينا أحكام فعلية حقيقة ، ولكنّ المكلّف بواسطة جهله بها معذور في مخالفتها ما لم يكن عن تقصير ، كما لا يخفى.

قوله قدس‌سره : ثمّ الخاص إن كان قطعيا ... الخ (١).

أقول : يعني من حيث الادلة ، أي إذا كان نصّا في إرادة حكم مخالف لحكم العام ، تعيّن طرح العموم ، بخلاف ما لو لم يكن نصّا في التخصيص بل ظاهرا فيه ، كما لو ورد «يجب إكرام كلّ عالم» ، وورد أيضا «ينبغي إكرام زيد العالم» ، بناء على ظهور لفظ «ينبغي» في الاستحباب ، فيدور الأمر بين ارتكاب التجوّز في الخاص ، أو التخصيص في العام ، فلا بدّ حينئذ من مطالبة المرجّح لأحد الظاهرين على الآخر.

قوله قدس‌سره : هذا كلّه على تقدير كون اصالة الظهور من حيث اصالة عدم القرينة ... الخ (٢).

أقول : ينبغي تقييده بما إذا بنينا على أنّ اعتبار اصالة عدم القرينة من باب بناء

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٣٢ سطر ١٢ ، ٤ / ١٤.

(٢) فرائد الاصول : ص ٤٣٣ سطر ٣ ، ٤ / ١٦.

٤٩٣

العقلاء ، على عدم الاعتناء باحتمال القرينة ما لم يتحقّق ، كما هو الحقّ على ما عرفته في مبحث الاستصحاب.

وامّا إن قلنا بأنّ اعتبارها من باب الظنّ النوعي الحاصل في الاصول العدمية ، فحاله حال ما لو قلنا بأنّ اعتبار اصالة الظّهور من باب الظنّ النوعي الحاصل بإرادة الحقيقة ، في ورود النصّ عليه مطلقا ، كما لا يخفى.

قوله قدس‌سره : يكشف عمّا ذكرنا إنّا لم نجد ... الخ (١).

أقول : قد يقال إنّ عدم تقدّم الخاص في شيء من موارده ، لا يكشف عن كون حجّية ظهوره مقيّدة كما هو المدّعى ، كي يكون الخاص واردا عليه ، لجواز كون ظهور الخاص حاكما على ظهور العام ، فيتقدّم عليه حينئذ كما هو الشأن في كلّ حاكم.

وفيه : إنّه لا يعقل الحكومة في الفرض ، فانّ ما دلّ على حجّية الخاص لا يدلّ إلّا على وجوب الالتزام بمؤدّاه ، وعدم الاعتناء باحتمال عدم تحقّقه في الواقع ، ومعنى حجّية ظاهر العام من باب الظنّ ليس أيضا إلّا ذلك ، فيتزاحمان في مورد الاجتماع لا محالة بعد فرض عدم اختصاص أماريّة شيء من الأمارتين المتنافيتين أو اعتباره بعدم الاخرى ، فلا بدّ حينئذ من ملاحظة المرجّح ـ نظير الاستصحاب لو قلنا بحجّيته من باب الظنّ من دون تقييده بعدم امارة على خلافه ـ ، فلا يعقل حينئذ حكومة سائر الامارات المخالفة له عليه ، إذ الاستصحاب أيضا على هذا التقدير كإحدى الامارات التي لا معنى لحجّيتها إلّا الالتزام بثبوت مؤداها ، وعدم الاعتناء باحتمال تخطيها عن الواقع ، فيتزاحمان في مورد الاجتماع ، وهذا بخلاف ما لو جعلناه أصلا عمليّا يرجع إليه لدى الجهل بالواقع ، فانّ الرجوع إليه على هذا التقدير فرع

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٣٣ سطر ٧ ، ٤ / ١٧.

٤٩٤

الاعتناء باحتمال الخلاف ، وهو شيء نفاه دليل اعتبار الامارة المنافية له.

وهكذا الكلام في اصالة العموم ، فانّه إن جعلناها امارة يتحقّق المعارضة بينها وبين سائر الامارات المنافية له.

وإن جعلناها أصلا تكون الامارات المنافية له حاكمة عليه ، فلاحظ وتدبّر.

قوله قدس‌سره : واخرى بأنّ دلالة اللفظ ... الخ (١).

أقول : كأنّه أراد بتمام معناه مجموعه من حيث المجموع على سبيل الإجمال ، بحيث لا ينافيه عدم إرادة بعضه في مقام التفصيل ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : لكنّه فاسد من حيث إنّ ترك التعبّد ... الخ (٢).

أقول : لا يقال : إنّ هذا إنّما هو بعد فرض التعبّد بصدورهما ، فلا يستقيم ما ذكره وجها لفساد التخيّل المزبور.

لأنّنا نقول : لا عبرة بظهور الخبر الذي دار الأمر بين التعبّد بصدوره أو بظهور الآخر ، فانّ ظهوره إنّما يعتبر بعد الفراغ عن التعبّد بصدوره ، بشرط إمكان إرادة ظاهره ، ولا يمكن في المقام التعبّد بصدوره إلّا على تقدير أن لا يكون ظاهره مرادا ، فلا يلزم من التعبّد بصدوره طرح ظاهره ، بل يلزم منه التعبّد بصدور ما لا يمكن أن يكون ظاهره واجب الاتّباع ولا مانع عنه عدا معارضة دليله بما دلّ على وجوب التعبّد بظاهر الخبر الآخر ، فلا بدّ في الترجيح من وجود ما يرجّح أحد المتعارضين على الآخر.

وليس عدم إمكان التعبّد بظاهر الآخر أمرا مخالفا للأصل في مرتبة المتعارضين ،

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٣٤ سطر ٤ ، ٤ / ٢٠.

(٢) فرائد الاصول : ص ٤٣٤ سطر ١٥ ، ٤ / ٢١.

٤٩٥

حتّى يصلح أن يكون مرجّحا للطّرح على الجمع ، كما لا يخفى على المتأمّل.

قوله قدس‌سره : وفيما نحن فيه يكون وجوب التعبّد بالظّاهر ... الخ (١).

أقول : وجه المزاحمة أن ليس معنى وجوب التعبّد بسند الخبر ـ بمجرّد الالتزام بصدوره ـ الغير المنافي للحمل على تقية ونحوها ، بل الالتزام بمضمونه في مقام العمل ، وهذا ممّا لا يمكن اجتماعه مع التعبّد بظاهر الآخر فيما نحن فيه ، أي في الخبرين الذين لا يمكن الجمع بينهما إلّا بارتكاب التأويل فيهما.

قوله قدس‌سره : لأنّ الشكّ فيه مسبّب عن الشكّ في التعبّد بالنصّ (٢).

أقول : ربّما يقال بمثل ذلك في الظاهرين ، بدعوى أنّ الشكّ في إرادة خلاف الظاهر منهما كما في المتواترين ، فلا مانع عن الأخذ بعموم ما دلّ على اعتبار السند بالنسبة إليهما ، ومن آثار التعبّد بهما ارتكاب التأويل في ظاهريهما.

ومن المعلوم أنّه لا يجوز طرح السّند لأجل الفرار من التأويل ، كما في الخبر الذي لا معارض له ، وظاهره مخالف للإجماع.

ويدفعه : إنّ دعوى كون الشكّ في إرادة خلاف الظاهر من كلّ منهما مسبّبا عن الشكّ في صدور الآخر ، ليست بأولى من دعوى أنّ الشكّ في صدور الآخر مسبّب عن الشكّ في إرادة الظاهر من هذا الخبر ، فهذا يكشف عن أنّ الشكّ في كليهما مسبّب عن أمر ثالث ، وهو العلم بالتنافي بين الأمرين.

إن قلت : هب أنّ الأمر كذلك ، لكن لنا أن نقول بذلك في النصّ والظاهر ، إذ لو فرضنا القطع بإرادة الظاهر لبطل احتمال صدور النصّ ، فهذا أيضا ـ على ما ذكرت ـ

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٣٤ سطر ٢١ ، ٤ / ٢٢.

(٢) فرائد الاصول : ص ٤٣٥ سطر ٤ ، ٤ / ٢٣.

٤٩٦

يكشف عن أنّ الشكّين كليهما مسبّبان عن العلم بالتنافي بين الأمرين.

قلت : كأنّك غفلت عمّا نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله آنفا ، من أنّ الخاص إذا كان قطعيّا وارد على اصالة العموم ، وحاكم عليها على تقدير كونه ظنّيا ، فلا ينافي التعبّد بسند عموم ما دلّ على حجّية الظواهر ، وهذا بخلاف التعبّد بصدور أحد الظاهرين ، فكأنّك زعمت أنّ معنى الورود والحكومة ليس إلّا ارتفاع الشكّ عن أحدهما عند إحراز وجود الآخر ، فمتى احرز وجوده حقيقة ، يرتفع الشكّ حقيقة فهو الورود ، ومتى تعبّد فهو الحكومة ، فأجريتهما ، في تعارض الظّاهرين وغفلت من أنّ هذا سار في مطلق المتلازمين ، وإنّما المناط في الورود والحكومة أن يكون إجراء الأصل في الشكّ السببي موجبا لمعرفة حكم المسبّب ، بأن يكون حكمه متفرّعا على الأصل الجاري في الشكّ السببي ، بحيث لا يلزم من تفريعه عليه ، مخالفة الاصول المقتضية لخلافه بالنسبة إلى الشكّ المسبّبي من حيث هو ، وإلّا لوقعت المعارضة بين الاصول الجارية فيهما.

توضيح الفرق : إنّ الخاص القطعي السند والدّلالة ، من آثاره عند العرف تخصيص العام به ، فإذا ورد «أكرم العلماء» و «لا تكرم زيدا العالم» ، يكون لدى العرف بمنزلة ما لو قال «أكرم العلماء إلّا زيدا» ، فإذا احرز وجود الخاصّ بالقطع ، لا يبقى مجال للتشكيك في عدم شمول حكم العام له ، فلا يجري حينئذ أصالة العموم ، لأنّ مجراه الشكّ في التخصيص ، وحيث أنّ المفروض كونه قرينة لدى العرف في فهم التخصيص ، ينعقد للمجموع ظهور ثانوي في إرادة ما عدا مورد الخاص من الحكم العام ، فلا ينافيه عموم ما دلّ على حجّية الظواهر ، فلا يلزم من الأخذ به مخالفة شيء من اصالتي العموم وحجّية الظواهر ، فإذا كان صدوره ظنّيا ، ودلّ الدليل ـ ولو من حيث العموم ـ على حجّية الظنّ ، لا مانع من الأخذ به ، إذ بعد التعبّد بصدوره يكون بحكم المقطوع ، فلا يزاحمه شيء من الأصلين.

٤٩٧

وهذا بخلاف الظاهرين الذين لا يمكن الجمع بينهما إلّا بتأويلهما ، كما هو محلّ الكلام ، فانّ القطع بصدور كلّ منهما ، وإن كان موجبا للقطع بعدم إرادة الظاهر من الآخر ، لكنّه موجب لتخصيص ما دلّ على وجوب الأخذ بظاهر اللفظ ، حيث أنّه يفهم من ذلك أنّ المتكلّم ارتكب خلاف القاعدة المقرّرة عند أرباب اللسان لنكتة ، فيخصّص به عموم حجّية الظواهر ، هذا إذا كان قطعيا.

وامّا إذا كان ظنّيا ، ودلّ دليل بعمومه على حجّيته ، يدور الأمر بين ارتكاب خلاف الأصل في هذا الدليل ، بأن تخصّصه بما عدا هذا الفرد ، أو في الدليل الدال على حجّية ظواهر الألفاظ ، وليس أحدهما أولى من الآخر ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : بحيث لو اجتمعا في كلام واحد ... الخ (١).

أقول : سنشير إن شاء الله عند توجيه الجمع بين الأخبار ، إلى أن تنزيل الأخبار المتوجّهة إلى أشخاص متعدّدة ، خصوصا في أعصار متباعدة ، منزلة كلام واحد أو كلامين متّصلين لمتكلّم واحد ، في صلاحية بعضها قرينة لصرف بعض عن ظاهره ، لا يخلو عن إشكال ، حيث أنّ مثل هذه القرينة التي لا يعرفها المخاطب ، بل ربّما تتأخّر صدورها عن عصره ، لا يحسن توجيه الخطاب إليه بما له ظاهر ، مع إرادة خلافه.

والالتزام في مثل هذه الموارد ، بكون القرائن المنفصلة كاشفة عن احتفاف الكلام حال صدوره بقرائن حالية أو مقالية متّصلة ، مرشدة للمخاطبين إلى خلاف ظاهره ، مع مخالفته للأصل في غاية الإشكال ، بل لا ينبغي الارتياب في أنّ الأمر لم يكن كذلك في الغالب ، فيشكل حينئذ جعل النصوص الظنّية قرينة لصرف ظاهر الخطابات المتوجّهة إلى أشخاص آخرين ، كتخصيص عمومات الأخبار النبويّة أو

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٣٦ سطر ٢ ، ٤ / ٢٦.

٤٩٨

العلوية بالخاص المرويّ عن الصادقين عليهما‌السلام.

نعم ، لو كان الخاص قطعيّا ، يتعيّن تخصيص العام به ، لا لصلاحيّته بنفسه للقرينة لصرف الكلام عن ظاهره ، كما في «رأيت أسدا يرمي» ، بل للقطع بالواقع فلا يلتفت معه إلى الظّواهر المؤدّية لخلافه ، بل يحمل تلك الظّواهر على كونها تكليفا صوريا ، أو غير ذلك من المحامل التي يأتي الإشارة إليها في عبارة المصنّف رحمه‌الله.

وامّا إذا كان ظنّيا ، فيشكل رفع اليد عن بعض الظّواهر المنافية له بارتكاب مثل هذه المحامل ، لمخالفتها للاصول ، فيدور الأمر بين رفع اليد عن عموم ما دلّ على اعتبار هذا الظنّ ، أو طرح تلك الاصول التي هي مبنى اصالة الظّهور ، ولا دلالة لأحدهما على الآخر كما لا يخفى.

والذي يحسم مادّة هذا الإشكال ، أنّ العبرة في هذا الباب بكون الخبرين متعارضين لدى العرف والعرف ، لا يرون المعارضة بين دليلين ، إلّا إذا تكافئا من حيث الدلالة ، فإذا كان أحدهما أبلغ وأصرح في إفادة المراد ، لا يلتفت معه إلى ما يظهر منه خلافه ، فاعتبار اصالة الظهور لدى العرف مشروط بانتفاء ما يدلّ على خلافه ، فلا عبرة بظهور خبر معارض بخبر آخر أظهر منه في الدلالة ، فضلا عمّا لو كان نصّا في مدلوله ، لا من حيث صلاحيّة هذا الخبر من حيث هو تصرّف ذلك الكلام عن ظاهره ، كما في «رأيت أسدا يرمي» كي يتوجّه عليه الإشكال المزبور ، من أنّه كيف يعقل التعويل على هذه القرينة التي لم يطّلع عليها المخاطب في إرادة خلاف الظاهر من الخطاب المتوجّه إليه ، بل من حيث قصور ذلك الخطاب بعد أن تطرّق فيه احتمال لا يتطرّق ذلك الاحتمال في هذا الخبر عن المكافئة في مقام المعارضة ، فيصير هذا الكلام الذي هو نص أو كالنصّ من حيث أقوائيته في الدلالة ، بمنزلة الدليل المثبت للواقع الذي لا يلتفت معه إلى ظواهر الأخبار المنافية له ، حيث أنّ اعتبار اصالة الظّهور الراجعة لدى التحقيق إلى اصالة عدم القرينة أو التقيّة

٤٩٩

ونحوها من الامور المقتضية لإظهار خلاف الواقع ، مشروط بانتفاء ما يدلّ على خلافها ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : إذ لو جمع بينهما ... الخ (١).

أقول : ملخّصه أنّه لا يترتّب على التعبّد بصدور كلّ منهما أثر عملي أزيد من التعبّد بصدور أحدهما ، كي يعمّهما أدلّة حجّية الخبر ، حتّى يصحّ أن يقال إنّ الأصل في الدليلين الاعمال ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : وقد عرفت أنّ هذا هو الأقوى (٢).

أقول : لم يصرّح فيما سبق بأنّ هذا هو الأقوى ، ولكن فهم ذلك من كلامه ، حيث نبّه بقصور ما يقتضي أولوية الجمع ، وهو أنّ الأصل في الدليلين الأعمال عن شموله المقام ، فانّ معنى هذا الأصل هو أنّ قضيّة اعتبار كلّ منهما هو وجوب التعبّد بكلّ منهما مهما أمكن ، وهو ممّا لا يترتّب عليه أثر عملي في المقام ، كي يعمّهما دليل الحجّية فقوله «إنّه لا محصل للعمل بهما ... الخ» تفسير لما عرفت.

قوله قدس‌سره : بل يدلّ عليه أنّ الظاهر من العرف ... الخ (٣).

أقول : حكم العرف بالمناقضة بين الكلامين الموجبة لاندراجهما بنظرهم في موضوع الاخبار العلاجية ، هو العمدة في هذا الباب.

وامّا ما ذكرناه وجها لتقديم الجمع أو الطّرح ، من حكومة بعض الاصول أو معارضة بعضها لبعض ، إنّما هو من قبيل أنّ المناسبات المقتضية لقضاء العرف بالتنافي

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٣٦ سطر ٨ ، ٤ / ٢٧.

(٢) فرائد الاصول : ص ٤٣٦ سطر ١٣ ، ٤ / ٢٧.

(٣) فرائد الاصول : ص ٤٣٦ سطر ١٤ ، ٤ / ٢٨.

٥٠٠