حاشية فرائد الأصول

الشيخ آقا رضا الهمداني

حاشية فرائد الأصول

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: محمّد رضا الأنصاري القمّي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين ،

ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

وبعد : فيقول العبد الفقير إلى رحمة ربّه محمد رضا ابن الشيخ الفقيه الآقا محمد هادي الهمداني ، تغمّده الله برحمته ورضوانه ، هذه نبذة ممّا سنح لي حين تسريح النظر في رياض رسائل شيخ مشايخنا المرتضى ـ قدّس الله نفسه وطيّب رمسه ـ في كشف معضلاتها ، وحلّ مشكلاتها ، أسأل الله تعالى أن ينفع بها المحصّلين من اخواننا المؤمنين ، إنّه خير موفّق ومعين.

* * *

٢١
٢٢

[المقصد الأول في القطع]

قوله قدس‌سره : اعلم أنّ المكلّف ... إلخ (١).

أقول : قد يقال غير الملتفت غير مكلّف ، فالاشتراط مستدرك.

وفيه : إنّ الالتفات كالعلم شرط في تنجّز التكليف ، أي الزام العقل بالخروج عن عهدته ، وحسن المؤاخذة على مخالفته ، لا في صيرورة المكلّف مكلّفا ، أي مأمورا بالفعل أو الترك.

وإن شئت قلت : إنّ الغفلة عذر عقلي في ترك امتثال التكليف لا في توجّهه إلى المكلّف ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح عند البحث عن صحّة عقاب الجاهل المقصّر.

هذا ، مع أنّا لو قلنا بأنّ المكلّف اسم لمن تنجّز في حقّه التكليف ، لا مطلق من توجّه إليه الطّلب ، لصحّ أيضا إطلاق اسم المكلّف عليه ، بواسطة علمه الإجمالي بثبوت تكاليف في الشريعة ، الموجب لتنجّزها عليه ، وإن لم يلتفت إلى آحادها مفصّلة.

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢ ، سطر ١ ، ١ / ٣٥.

٢٣

قوله قدس‌سره : لأنّ الشكّ ... إلخ (١).

أقول : حاصل ما أفاده قدس‌سره في المتن أنّ الشكّ الملحوظ فيه الحالة السابقة ، مجرى الاستصحاب ، سواء كان شكّا في التكليف أو في المكلّف ، وهنا لم يلاحظ فيه الحالة السابقة ، سواء لم يكن له حالة سابقة أو كانت ولم تلاحظ ، امّا على سبيل الفرض أو لعدم المقتضى للملاحظة ، كما لو كان الشكّ في المقتضي ـ بناء على المختار ـ من عدم حجّية الاستصحاب فيه ، أو لوجود المانع ، كما لو علم إجمالا بارتفاع حكم معلوم في السابق وكان المشكوك من أطراف ما علم بالإجمال ، فانّ العلم الإجمالي مانع من إجراء حكم الشكّ في أطرافه بملاحظة حالتها السابقة (كما يأتي تحقيقه في محلّه إن شاء الله تعالى) ، فإن لم يمكن فيه الاحتياط ، فهو مجرى التخيير مطلقا ، وإن أمكن فيه الاحتياط ، فإن كان الشكّ فيه بأصل التكليف فهو مجرى البراءة ، وإن كان في المكلّف به فهو مجرى الاحتياط.

ويرد عليه : انّ مقتضى ما ذكره أنّه لو دار الأمر بين الحرمة والوجوب والإباحة ، أن يكون مجرى التخيير ، مع أنّه مورد البراءة ، وكذا لو دار الأمر بين الحرمة والوجوب ، لا لتعارض التعيّن ، فانّه قدس‌سره لم يستبعد في الفرض القول بالبراءة ما لم يستلزمه مخالفة عملية ، خصوصا إذا كانت الشبهة موضوعية كما ستعرف ، مع أنّ مقتضى ما ذكره أن يكون موردا للتخيير.

ودعوى رجوع التخيير إلى البراءة في مقام العمل ، هدم للأساس ، ولعلّه لأجل ما ذكر غيّر العبارة وأتى في الحاشية. وبعبارة اخرى أحسن ، لكن عدّها عبارة اخرى عمّا في المتن لا يخلو عن مسامحة ، فانّ مؤداهما متغايران. اللهمّ إلّا أن يلاحظ في ذلك اتحاد المطلب الذي تعلّق الغرض ببيانه بالعبارتين في الواقع ، وهو تشخيص مجاري الاصول على مختاره ، فعبّر عنه أوّلا بعبارة قابلة للنقض بما عرفت ، فلمّا رأى

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢ ، سطر ٣ ، ١ / ٢٥.

٢٤

ذلك عبّر عنه ثانيا بعبارة سالمة عن الانتقاض.

وكيف كان ، فلا يتوجّه على ما في الحاشية النقض بشيء من المثالين ، أمّا الأوّل فواضح ، لأنّه شكّ في التكليف ، والمرجع فيه البراءة مطلقا على ما في الحاشية ، والثاني أيضا كذلك ، بناء على أن يكون المراد من العلم بالتكليف ، العلم بنوعه لا جنسه ، كما صرّح بذلك في أوائل أصل البراءة ولكنّك ستعرف في أواخر المبحث ضعف هذا البناء ، وانّ العلم الإجمالي بجنس التكليف كالعلم بنوعه موجب لتنجّزه ، ووجوب الخروج عن عهدته بالاحتياط مع الإمكان ، كما لو دار الأمر بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر ، أو وجوب شيء في وقت وحرمته في وقت آخر ، وغير ذلك من الأمثلة التي ستسمع بعضها في أحكام الخنثى ، فالأولى حمل العلم بالتكليف على ما يعمّ العلم بجنسه ، كي لا يتوجّه عليه النقض بشيء من الموارد ، عدا ما سيذكره من الرجوع إلى البراءة في دوران الأمر بين المحذورين ما لم يستلزم مخالفة عملية ، وستعرف أنّ هذا لا يخلو عن نظر بل منع ، فانّ المتّجه فيه أيضا التخيير لا البراءة.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ حصر الاصول في الأربعة ليس عقليا بل هو ـ على مختاره ـ بحسب ما استفاده من الأدلّة العقلية والنقليّة ، فالحصر استقرائي لا عقليّ.

نعم ، حصر الحكم المشكوك فيه ، في كونه مجرى لشيء من هذه الاصول عقلي.

ثمّ أنّ المقصود في المقام إنّما هو بيان الاصول الأوّلية المعتبرة للشكّ التي يرجع إليها لو لم يدلّ دليل على خلافها ، فلا ينتقض ببعض الاصول الثانوية الثابتة في بعض الموارد بأدلّة خاصّة ، كقاعدة الشكّ بعد الفراغ ، واصالة الصحّة ، والبناء على الأكثر في باب الصلاة وغير ذلك.

هذا مع أنّ هذه الاصول ونظائرها اصول يرجع إليها في الشبهات الموضوعية ، وهي ممّا لم يتعلّق الغرض بالبحث عنها ، وذكرها في الكتاب استطرادي ، وإنّما

٢٥

المقصود في المقام بيان الاصول التي يرجع إليها عند الشكّ في الحكم الشرعيّ الكلّي الصادر من الشارع ، وهي منحصرة في الأربعة على ما هو التحقيق ، والله العالم.

تنبيه :

الأحكام الوضعية كالشرطيّة والسببيّة والمانعيّة ونحوها ـ بناء على كونها منتزعة من الأحكام التكليفيّة ، كما هو التحقيق ـ ليست هي بنفسها مجاري للاصول ، إذ لا تأصّل لها ، فهي تابعة لمنشا انتزاعها.

وأمّا على القول بكونها بذاتها مجعولة ، فالاصول الجارية فيها ليست إلّا الاستصحاب ، إذ لا معنى للتخيير أو الاحتياط في السببية ونحوها ، أو البراءة عنها ، ومتى جرى الاستصحاب فيها ، بأن كانت لها حالة سابقة ملحوظة ، لم يعارضه شيء من الاصول الجارية في الأحكام التكليفية ، فانّ الأصل الموضوعي حاكم على الأصل الحكمي ، وإن لم يكن لها حالة سابقة ملحوظة ، فلا أصل بالنسبة إليها ، فحينئذ يرجع في مقام العمل إلى الاصول الجارية في الأحكام التكليفية.

* * *

٢٦

[في القطع]

قوله قدس‌سره : وليس طريقيته قابلة لجعل الشارع ... الخ (١).

أقول : امّا نفيا فواضح ، للزوم التناقض كما حقّقه المصنّف ، وامّا إثباتا فلأن ما لا يمكن رفعه لا يمكن إثباته أيضا بجعل مستقل ، ضرورة كونه ضروريّ الثبوت في الفرض ، والجعل إنّما يتعلّق بالممكن لا بالواجب والممتنع ، فلوازم الشيء انّما ينجعل بجعل ذات الشيء ، لا بجعل على حدة ، وإلّا لخرج عن كونه لازما ، لجواز الانفكاك عند فرض عدم تعلّق الجعل به ، وهو ينافي اللزوم ، ولذا قيل : «إنّ الله تعالى ما جعل المشمش مشمشما بل أوجده» ، وهذا ظاهر بعد أدنى التفات.

والحاصل : إنّه متى اعتقد الشخص اعتقادا جزميا بكون هذا الشيء بولا ، بحيث لم يحتمل الخطأ ، وعلم انّ البول مطلقا نجس ، امتنع منعه عن ترتيب آثار النجس على ذلك الشيء ، فانّه يراه تفكيكا بين اللّازم وملزومه مع معلوميّة الملازمة ، وامّا لو لم يجزم بذلك واحتمل الخطأ ، بأن ظنّ بكونه بولا ، فلا يحكم عقله

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢ ، سطر ١١ ، ١ / ٢٩.

٢٧

بلزوم ترتيب أثر البول على ذلك الشيء ، فلو وجب عليه ذلك ، لوجب أن يكون بدليل تعبّدي.

فقد يكون مفاد ذلك الدليل التوسعة في الحكم الشرعي ، وتعميمه على وجه يعمّ مظنون البول.

وقد يكون مفاده التصرّف في الموضوع ، وتنزيل المظنون منزلة الواقع.

وقد يكون مفاده نصب الطريق ، والمنع عن الاعتناء باحتمال الخطأ ، من غير تصرّف في الحكم ولا في موضوعه.

ومرجع هذه التصرّفات بأسرها ، وإن كان لدى التحليل إلى إيجاب ترتيب أثر البول على المظنون ، لكن ربّما يترتّب على اختلاف متعلّق الجعل ثمرات في مقام الاستنباط ليس المقام مقام شرحها.

وكيف كان ، فمفاد أدلّة حجّية الأمارات إنّما هو القسم الأخير ، كما لا يخفى على المتأمّل.

قوله قدس‌سره : لأنّ الحجّة عبارة ... الخ (١).

أقول : إطلاق الحجّة على خصوص الأوسط ليس على مصطلح أهل الميزان ، لأنّ الحجّة والدّليل عندهم عبارة عن التّصديقات المعلومة الموصلة إلى تصديقات مجهولة ، ولكن الإطلاقين متقاربان ، بل يرجع كلّ منهما إلى الآخر بأدنى مسامحة ، كما سنشير إليه.

والظاهر أنّ الدليل في مصطلح الاصوليين ـ على ما عرّفوه بأنّه ما يمكن التوصّل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري ـ ينطبق على ذلك.

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢ ، سطر ١٢ ، ١ / ٢٩.

٢٨

نعم ، ذكر العضدي في «الشرح» ما ينافي بظاهره ذلك ، حيث قال بعد بيان الفرق بين الاصطلاحين :

«واعلم أنّ الحاصل أنّ الدليل عندنا على إثبات الصانع هو العالم ، وعندهم أنّ العالم حادث ، وكلّ حادث له صانع» انتهى.

وتبعه فيما أفاده بعض المحقّقين من المتأخّرين ، ولكنّك خبير بأنّ ذات العالم من حيث هي ليست ممّا يتوصّل بالنظر إليها إلى إثبات الصانع ، بل المتوصّل به إليه إنّما هو وصفه ، أعني حدوثه ، فتسميته العالم دليلا إمّا مسامحة أو اشتباه ، وكيف لا ، مع أنّ مصداق الدّليل عند الاصوليين إنّما هو الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، وهي أوساط لإثبات الأحكام الفرعيّة لموضوعاتها لا غير.

ويؤيّد ما ذكرنا ما علّقه بعض على بعض الكتب الاصولية الذي لم أعرف مصنّفه ما لفظه :

«وحيث كان المستلزم للعلم بالنتيجة هو العلم بالقياس ، كان هو الدليل ، كما عليه هل الميزان ، وامّا غيرهم من أهل المعقول ، فالدليل عندهم محمول الصغرى ، كالمتغيّر في قولنا «العالم متغيّر» والوجه هو الأوّل ، لأنّ العلم بالتغيّر إنّما يستلزم العلم بالحدوث بواسطة الكبرى القائلة «إنّ كلّ متغيّر حادث ، وكيف كان هو اصطلاح ولا مشاحة فيه» ، انتهى.

وقد أشرنا إلى أنّ اصطلاح الاصوليين أيضا ينطبق على هذا الاصطلاح ، كما هو ظاهر عبارة المصنّف قدس‌سره ، ويمكن الاعتذار عنهم عمّا أورده في المقام بأنّهم يعتبرون ذلك شرطا للتوصّل لا جزء للدليل ، إذ بدون العلم بذلك لا يتحقّق صحيح النظر ، فاعتباره وصفا للدليل مغن عن ذلك ، وقد صرّح المحقّق القمّي قدس‌سره في بعض حواشيه على القوانين بذلك فلاحظ.

هذا ، مع امكان أن يقال إنّ اصطلاح غير أهل الميزان أنسب من اصطلاحهم ،

٢٩

بالنظر إلى ما يساعد عليه اطلاقات العرف في محاوراتهم ، حيث يعلّلون الشيء بما يقع وسطا في القياس الاقتراني ، فيقال مثلا علّة تحريم هذا الشيء اسكاره ، أو نهي الشارع عنه ، وعلّة الحكم بحدوث العالم تغيّره وهكذا ، وهذا وإن كان مرجعه لدى التحليل إلى قضيّة خبرية ، وهي «أنّ هذا مسكر ، وكلّ مسكر حرام» ، لكن النسبة الخبرية التي تضمّنها الإضافة اسناد ناقص ، غير ملحوظ على سبيل الاستقلال ، فهي بالشرط أشبه ، كما يؤيّد ذلك أنّ المنطقيين مع ما هم عليه من الاصطلاح ، كثيرا ما يطلقون العلّة التي هي مساوقة للدليل والحجّة على الوسط ، فانّهم مثلا يقولون في مقام بيان الفرق بين البرهان اللّمي والإنّي ، إنّ اللّمي هو الذي يكون الحدّ الأوسط فيه علّة للنسبة في الذهن والعين ، والإنّي هو الذي يكون الحدّ الأوسط فيه علّة للنسبة في الذهن فقط. فظهر بما ذكرنا أنّ ما عليه أهل الميزان مجرّد اصطلاح ، وإلّا فلا مدخلية لذات الأصغر والأكبر في الإيصال من حيث ذاتهما ، وإنّما الموصل هو خصوص الأوسط بالنظر إلى عوارضه ، من حمله على شيء ووضعه لشيء ، فالحمل والوضع من شرائط الدلالة لا من مقوّمات الدليل ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : فقولنا الظنّ حجّة ... الخ (١).

أقول : يمكن المناقشة فيه ، بأنّ مفاد جعل الظنّ طريقا ، ليس إلّا إثبات نفس المتعلّق به أوّلا وبالذّات ـ كما تقدّمت الإشارة إليه ـ فيتبعه آثاره ، لا إثبات الآثار أولا وبالذّات حتى يكون الطريق واسطة في إثباتها ، فالطريق واسطة في إثبات نفس المتعلّق لا أحكامه ، فلا يطلق عليه الحجّة حقيقة بالتفسير المذكور.

ويتولّد من هذه المناقشة اخرى في قياسه ، حيث جعل قوله «يجب

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢ ، سطر ١٣ ، ١ / ٢٩.

٣٠

الاجتناب عنه» كبرى لقوله «هذا مظنون الخمريّة» مع أنّ كبراها على ما يقتضيه لسان دليل الطريق «وكلّ مظنون الخمرية خمر بحكم الشارع» ، ثمّ ينضمّ إلى هذه النتيجة كبرى اخرى شرعية وهي «كلّ خمر يجب الاجتناب عنه» ، فينتج وجوب الاجتناب عن متعلّق الظنّ.

ويمكن الذّب على المناقشة : بأنّ مفاد ظاهر دليل الجعل وإن كان ما ذكر ، إلّا أنّ الجعل انّما يتعلّق بالشيء بلحاظ آثاره ، فقولنا «صدق العادل في إخباره بأنّ هذا بول» وإن كان معناه الأوّلي اثبات وجود البول بقوله ، إلّا انّه بعد أن علم أنّ إيجاب تصديقه بمعنى الإذعان بقوله ، أو البناء على ثبوته بلحاظ آثاره الغير المجعولة ، غير معقول [أن] ينزل الكلام على إرادة تصديقه بلحاظ ترتيب آثاره المجعولة ، فقوله «صدّق العادل في إخباره بأنّه بول» وإن كان في بادئ النظر الأمر بالبناء على أنّه بول ، إلّا أنّه عند التحليل يئول إلى إيجاب ترتيب آثار البول على المخبر عنه لا غير.

هذا ، مع أنّ المناقشة الاولى ناشئة عن الغفلة عن فهم الحكم في المقام ، وتخصيصه بغير الوصف العنواني ، مع انّ المقصود بالحكم في قولنا «الوسط واسطة في اثبات حكم الأصغر له» أنّ به يثبت مفهوم المحمول الذي هو الأكبر لذات الموضوع الذي هو الأصغر ، فقولنا «هذا خمر» مثلا معناه أنّ الذات المشار إليها مندرجة تحت مفهوم الخمر ، فيصير المفهوم أثرا من آثار الذّات ، وعنوانا من عناوينها ، ومن المعلوم أنّ إثبات اتصاف المشار إليه بهذا الحكم يحتاج إلى وسط ، كقولنا «هذا الشيء مسكر مائع ، وكلّ مسكر مائع خمر» فقولنا «هذا مظنون الخمرية ، وكلّ مظنون الخمرية خمر بحكم الشارع» كالمثال المتقدّم برهان لإثبات الأكبر للأصغر ، ومعنى كونه خمرا بحكم الشارع ، التعبّد بعدم الاعتناء باحتمال خطأ الظنّ ، والبناء على كون الشيء مصداقا لمفهوم الخمر.

٣١

ولكنّك عرفت أنّ التعبّد بذلك من حيث البناء والاعتقاد غير معقول ، فلا بدّ من تنزيل حكمه بالتعبّد بذلك على إرادة ترتيب آثاره الشرعية في مقام العمل ، ولذا قال المصنّف قدس‌سره إنّها واسطة في ترتيب أحكام متعلّقه ، مشيرا إلى أنّ التعبّد بالخمرية ينحلّ إلى ذلك.

وبما ذكرنا ظهر أنّ جعل الظنّ طريقا إلى شيء ، يستلزم صحّة إطلاق الحجّة عليه ، ولا يحتاج في تقوّم صدق الحجّية إلى ثبوت حكم شرعي له زائدا على التعبّد بوصفه العنواني.

نعم ، ثبوت حكم شرعي له في الجملة للتعبد بالوصف ، لا لإطلاق الحجّة عليه ، فلا يتفاوت الحال بين أن يكون الظن طريقا صرفا ، أو يكون بعنوان طريقتيه إلى متعلّقه مأخوذا في موضوع حكم آخر ، كما سيأتي الإشارة إليه في عبارة المصنّف قدس‌سره ، لأنّ المصحّح لإطلاق الحجّة عليه مجرّد جعله طريقا معتبرا لإثبات متعلّقه ، سواء كان المقصود باثباته ترتيب آثار نفس المتعلّق ، أو حكم آخر يكون لثبوت المتعلّق دخل في تحقّق موضوع ذلك الحكم.

قوله قدس‌سره : والاصول العمليّة ... الخ (١).

أقول : يعني في الجملة ، كما سيشير إليه في عبارته الآتية.

قوله قدس‌سره : الاصول (٢).

أقول : كالاستصحاب وأصالة الصحّة ونحوها ، وامّا الاحتياط والتخيير فلا يصلحان لذلك كما هو واضح ، وامّا أصل البراءة فهو أيضا كذلك بناء على عدم

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٤ ، سطر ١ ، ١ / ٣٣.

(٢) فرائد الأصول : ص ٤ ، سطر ٢ ، ١ / ٣٣. وفي الأصل : (أو بعض الأصول).

٣٢

اعتباره من باب الظنّ كما هو التحقيق ، وامّا إن قلنا بأنّ اعتباره من حيث إفادته للظنّ ، فينوب مناب العلم كالاستصحاب ، بل يندرج على هذا التقدير في الامارات وان لم نسمّه باسمها اصطلاحا ، كما هو واضح.

بقي هنا إشكال وهو أنّ مقتضى ما ذكرنا من عدم معقولية نصب الطريق بالنسبة إلى ما لا أثر لمتعلّقه شرعا ، امتناع قيام الطرق المجعولة مقام العلم ، فيما أخذ العلم جزء للموضوع ولو بعنوان الطريقية ، ضرورة خلوّ المتعلّق عن الحكم على هذا التقدير ، فلا يعقل عموم دليل النصب لهذا المورد ، حتّى يصير المتعلّق بسببه ذا الطريق ، فكيف يثبت له الحكم الثابت لموضوع قام عليه طريق؟!

وبعبارة اخرى : الحكم المترتّب على الطريق باعتبار كونه جزء للموضوع ، لا يعقل أن يكون مقوّما لطريقية الطريق الذي هو جزء موضوعه ، لكونه دورا ظاهرا.

ويمكن التفصّي عنه ـ مضافا إلى ما سيذكره المصنّف جوابا عن نظير الإشكال في طيّ الاستدلال على حجّية خبر العادل ـ بأنّ ما ذكرنا من عدم المعقولية إنّما هو فيما إذا لم يكن له مدخلية في الأحكام الشرعية أصلا ، وامّا إذا كان له مدخلية في حكم شرعي كان جزء من موضوعه فلا ، وكيف لا وله على هذا التقدير حكم شرعي تقديري كسائر الأحكام الشرعية التقديرية ، فلا فرق بين ما لو حكم الشارع بنجاسة العصير على تقدير غليانه ، أو على تقدير ثبوته ، في كون كلّ منهما حكما شرعيا ثابتا لموضوع العصير ، فكما لا قصور فيما دلّ على حجّية البيّنة بلحاظ الحكم الأوّل ، فكذا بالنسبة إلى الثاني ، لكن التقدير الذي جعله الشارع شرطا لتنجّز الحكم ، يتحقّق في الثاني بنفس قيام الطريق ، وما ذكرنا من أنّ مرجع الأمر بتصديق العادل ، وعدم الاعتناء باحتمال كذبه ، إلى إيجاب ترتيب آثار المخبر عنه في مقام العمل ، فليس المقصود به رجوعه إلى ما يستظهر من عبارته حتّى يدّعي

٣٣

انصرافه عن مثل المقام ، بل المقصود أنّ المصحّح لنصب الطريق إنّما هو ملاحظة الآثار ، فينحل إليه بالتحليل العقلي ، ويكفي في الجواز عقلا مجرّد أثر ولو تقديري ، أو بوسائط امور عقلية أو عادية ، كما هو واضح.

وبهذا ظهر لك أيضا اندفاع ما قد يقال في تقرير الإشكال بتقريب آخر ، وهو أنّه يمتنع شمول دليل جعل الطريق لمّا كان مأخوذا في الموضوع ولو بعنوان الطريقية ، لأنّ الطريق المفروض إمّا أن يكون ملحوظا من حيث كونه مرآة إلى حكم المتعلّق ، أو من حيث نفسه ، وهاتان الملاحظتان ممّا لا يعقل اجتماعهما في استعمال واحد ، لتضادّهما ذاتا كالمعنى الاسمي والحرفي ، نظير ما لو قال «لا تنقض اليقين بالشك» ، فامّا أن يراد عدم نقض نفس اليقين من حيث هو ، فينطبق على قاعدة اليقين ، أو عدم نقض الشيء الذي احرز وجوده في السابق ، فينطبق على الاستصحاب ، ولا يمكن ارادتهما من عبارة واحدة كما ستعرفه في مبحث الاستصحاب.

توضيح الاندفاع : إنّ الطريق المنصوب إنّما لوحظت مرآة صرفا ، وطريقا محضا إلى ذات المتعلّق من حيث هي ، لا إلى حكمه حتّى يتوجّه هذا الإشكال ، مع أنّك عرفت أنّه لو فرض كون معناه ترتّب حكم المتعلّق أيضا لا يقصر عن الشمول ، بعد أن فرضنا له حكما تقديريا.

هذا ، مع إمكان الالتزام بإرادة ترتيب أثر الحجّية من حيث هو الذي هو ، بمنزلة المعنى الاسمي ، فيكون معنى «صدّق العادل» وجوب ترتيب أثر كون المخبر به ثابتا ، وهذا أعمّ من أن يكون الأثر الشرعي للمجموع المركّب أو لأجزائه ، فالأثر الشرعي الثابت لذات الشيء هو أثر هذا الشيء الثابت ، ألا ترى أنّا لو قلنا بأنّ المراد من اليقين في المثال هو نفس اليقين من حيث هو ، فنقضيه الذي تعلّق به النهي يشمل عدم الصّلاة مع الطّهارة التي كان على يقين منها ، مع كونها من آثار المتيقّن لا اليقين من حيث هو ، وبهذا ظهر لك أنّا وإن التزمنا بأنّ الملاحظتين

٣٤

لا يجتمعان ، فلا يمكن إرادة القاعدة والاستصحاب من المثال ، لكن آثار اليقين المحكوم بإبقائها حال الشكّ أعمّ ممّا كان ثابتا لنفس اليقين أو لمتعلّقه ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : فانّه يكفي في الوجوب الاستصحاب (١).

أقول : قد يناقش في ذلك بأنّ وجوب التصدّق ليس من الأحكام المجعولة لحياة زيد حتّى يترتّب على استصحابه ، بل الوجوب إنّما هو لأجل كون التصدّق من مصاديق الوفاء بالنذر ، فثبوت الوجوب فرع إحراز كون التصدّق وفاء بالنذر ، واحرازه من اللوازم العقلية للحياة ، فلا يترتّب احكامه على استصحاب الحياة ، إلّا بناء على اعتبار الاصول المثبتة التي لا نقولها ، تبعا لشيخنا المصنّف ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : فيقال حينئذ إنّه حجّة (٢).

أقول : امّا إطلاق الحجّة عليه ، فيما إذا كان مجعولا ، لإثبات حكم متعلّقه ، فقد عرفت وجهه.

وأمّا إطلاقها عليه فيما إذا كان مأخوذا في الموضوع بعنوان الطريقية لحكم آخر ، فانّما هو بلحاظ كونه وسطا في اعتبار نقس المتعلّق بلحاظ آثاره المترتّبة عليه ، التي هي عبارة عن الحكم التقديري ، حسبما أشرنا إليه فيما سبق ، وأمّا بملاحظة ذلك الحكم الآخر الذي جعل الطريق جزء من موضوعه ، فلا يطلق عليه الحجّة كالعلم ، إذ لا فرق من هذه الجهة بين العلم والطرق المجعولة ، وإنّما الفارق بينهما في كيفية الطريقية ، حيث أنّ العلم طريق بنفسه ، وغيره طريق بجعل الشارع ، وكونه طريقا مجعولا لا ملازم لصحّة إطلاق الحجّة عليه ، لكونه واسطة في إثبات المتعلّق ،

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٤ ، سطر ١٠ ، ١ / ٣٤.

(٢) فرائد الأصول : ص ٤ ، سطر ١٥ ، ١ / ٣٥.

٣٥

سواء كان لإثبات حكم نفسه أو لحكم آخر.

وأمّا إطلاق الحجّة عليه مع كونه واسطة في إثبات نفس المتعلّق لا حكمه ، فقد عرفت الجواب عنه فيما تقدّم.

قوله قدس‌سره : وقد يؤخذ موضوعا لا على وجه الطريقية ... الخ (١).

أقول : وجهه قد ظهر ممّا تقدّم ، حيث أنّه في الفرض لم يؤخذ طريقا شرعيا حتّى يكون واسطة في إثبات نفس المتعلّق ، كي يصحّ إطلاق الحجّة عليه بلحاظه.

وأمّا بملاحظة الحكم الذي اخذ جزء من موضوعه ، فقد عرفت أنّه كالعلم لا يتّصف بالحجيّة ، ولا فرق بينهما من هذه الجهة.

قوله قدس‌سره : لحكم متعلّقه (٢).

أقول : متعلّق بالطريقية ، فيكون قيدا للمنفي لا ب «موضوعا» بحكم الضّرر حتى يكون معنى العبارة أنّه قد يؤخذ الظنّ موضوعا لحكم متعلّقه ، أو لحكم آخر لا من حيث الطريقية ، فيفسد المعنى ، حيث أنّ الحكم الشخصي لا يعقل قيامه بموضوعين ، فحاصل المعنى من أوّل قوله «ثمّ» إلى آخره أنّه كما أنّ العلم قد يكون طريقا محضا لإثبات متعلّقه ، وقد يكون مأخوذا في موضوع الحكم إمّا بعنوان الطريقية ، أو بعنوان أنّه صفة خاصّة ، كذلك الظنّ يتصوّر فيه هذه الوجوه ، ولكن بينهما فرق ، وهو أنّ العلم طريق بنفسه فلا يتّصف بالحجّية أصلا ، وأمّا الظنّ المعتبر إذا اخذ بعنوان الطريقيّة يتّصف بالحجّية ، سواء كان أخذه طريقا إلى المتعلّق لإثبات حكم نفس المتعلّق ، أو لإثبات حكم آخر ثابت للمتعلّق الثابت بطريق ، وأمّا إذا لم

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٤ سطر ١٥ ، ١ / ٣٥.

(٢) فرائد الأصول : ص ٤ سطر ١٦ ، ١ / ٣٥.

٣٦

يؤخذ بعنوان الطريقيّة ، فلا يطلق عليه الحجّة ، فهو كالعلم حينئذ.

وقد يتوهّم تنزيل العبارة على معنى آخر بعيد غاية البعد ، استنادا إلى بعض القرائن ، مثل قوله «مأخوذا» حيث أنّ الظاهر منه إرادة القطع الذي اخذ جزء الموضوع ، وكذا قوله في أكثر النسخ بدل مجعولا لا على وجه الطريقية «موضوعا» إلى غير ذلك من المناسبات ، وهو أنّ غرضه تشبيه الظنّ الذي اخذ جزء الموضوع بكلا قسميه ، بالعلم الذي هو كذلك ، فعلى هذا لم يتعرّض لما اخذ طريقا صرفا.

فحاصل المعنى على هذا الاحتمال : إنّ الظنّ المعتبر طريق مجعول ، فهو وسط في ترتيب أحكام متعلّقه بالتقريب الذي تقدّم ، سواء كان أخذه موضوعا لحكم متعلّقه نوعا ، أو لحكم آخر ، مثلا الظنّ مأخوذ في موضوع الأحكام الظاهرية لكونه طريقا إلى الأحكام الواقعية ، فإن طابق الظنّ الواقع يتّحد الحكم الظاهري الواقعي نوعا ، امّا شخصا فغير معقول كما هو واضح ، وإن تخلّف عن الواقع ، فالحكم الظاهريّ حكم آخر مغاير لحكم المتعلّق الذي اخذ الظنّ طريقا إليه ، هذا إذا كان مأخوذا بعنوان الطريقيّة.

وامّا إذا اخذ من حيث أنّه صفة خاصّة ، فهو أيضا صالح لأن يكون موضوعا لحكم متعلّقه تعبّدا بحكم الضرر من دون ملاحظة الكشف فيه ، وقد يكون موضوعا لحكم آخر غير حكم المتعلّق ، وفيه ما لا يخفى من البعد ، وعدم صلاحيّة المناسبات المزبورة لحمل العبارة على إرادة هذا المعنى.

* * *

٣٧

[في التّجري]

قوله قدس‌سره : والمسألة عقليّة (١).

أقول : كأنّه أراد بذلك كونها عقلية بحسب المدرك ، حيث لم يستدلّ أحد فيها بالدليل السّمعي ، بل اعتمدوا في ذلك على حكم العقل ، وفي مثله يبعد استكشاف قول الإمام من قول العلماء بطريق القطع ، ولو كان اتفاقيا ، وليس غرضه أنّ المسألة عقلية محضة ، وإلّا لحصل التنافي بينه وبين تحريره لمحلّ النزاع ، كما لا يخفى.

قوله قدس‌سره : والحاصل أنّ الكلام ... الخ (٢).

أقول : ظاهر كلامه أنّ النزاع في التجرّي إنّما هو في ان غير المحرّم ذاتا ، هل يؤثر تعلّق الاعتقاد بحرمته في صيرورته حراما شرعيّا ، فيكون جهة من جهات الفعل التي يتعلّق بسببها الأحكام بمتعلّقاتها أم لا؟

ولا يخفى عليك أنّه لو كان النزاع على ما حرّره ، فالأقوى فيه المنع ، لعدم كون

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٥ ، سطر ٧ ، ١ / ٣٩.

(٢) فرائد الأصول : ص ٥ ، سطر ١٢ ، ١ / ٣٩.

٣٨

الفعل اختياريّا بعنوان ذاته ، ولا بعنوان كونه تجرّيا ، أي غير محرم اعتقد حرمته ، فيمتنع تعلّق النهي به بهذه الملاحظة ، وامّا بعنوان كونه شيئا اعتقد حرمته ، وإن كان فعلا اختياريّا ، أمكن أن يحكم عليه بحكم مماثل لحكم ذاته ، فيرى المعتقد أنّ اعتقاده جهة من الجهات التي يتأكّد بها مصلحة الواقع ومفسدته ، ولكنّه يرى الأمر به والنهي عنه بلحاظ هذه الجهة عبثا ، لكفاية الحكم الواقعي المتعلّق بالشيء في البعث على الإتيان ، أو التجنّب عن المعلوم ، إلّا أن يراد بهما صرف التأكيد ، وبيان تأكّد الوجوب والحرمة بسبب العلم ، وبقاء الحكم على تقدير عدم المصادفة ، وإن لم يحتمله في خصوص المورد لا على سبيل فرض يزعم عدم وقوعه ، هذا على تقدير تسليم إمكان كون معلوم الحرمة موضوعا آخر ، قابلا لتعلّق حرمة اخرى به ، غير حرمة ذات ما يتعلّق به العلم ، كما يتعقل ذلك بالنظر إلى الطرق المجعولة ، وإلّا فهذا بنفسه لا يخلو عن تأمّل ، نظر إلى أنّ وجوب اتّباع العلم أي الإتيان بما علم وجوبه ، والتجنّب عمّا علم حرمته ، كوجوب الإطاعة وحرمة المعصية من العقليات الغير القابلة لأن يتعلّق بها طلب شرعي مولوي ، فكلّما يتعلّق بها من الأوامر الشرعية لا يكون إلّا إرشاديا ، كما تقرّر في محلّه ، لكن يدفعه ما قرّرناه في باب الإطاعة من أنّ هذا مع اتّحاد جهة حكمي العقل والشرع ، وأمّا إن تعلّق الوجوب الشرعي بإطاعة الأمر ، من حيث كونها قيدا فيما تعلّق به الغرض من الأمر ـ كما في الواجبات التعبّدية ـ أو وجوب اتّباع العلم من حيث كونه بنفسه موضوعا للوجوب ـ كما هو المفروض في المقام ـ لا لكونه موجبا لتنجّز حكم المتعلّق ـ كما هو كذلك في نظر العقل ـ فلا يكون إلّا حكما شرعيا مولويّا لا دخل للعقل في إثباته من هذه الجهة.

نعم ، لا يلزم على هذا التقدير لو صدر خطاب شرعي متعلّق بمعلوم الحرمة من حيث كونه معلوم الحرمة ، الالتزام بتعدّد العقاب على تقدير المصادفة ، لإمكان التفصّي عن ذلك بكون الخطاب توطئة لبيان حكم المتجرّي في الواقع ، لو ساعده

٣٩

دليل على ذلك.

وكيف كان ، فهذا الكلام فرضيّ لا محصّل له ، إذ لم يصل إلينا دليل سمعي يفي بإثبات ذلك ، ولم يدّعه أحد ، وإنّما المدّعى إثباته بدلالة العقل ، وهي أيضا متيقّنة لما أشرنا إليه من أنّ الفعل بعنوان ذاته ، أو بعنوان كونه تجريا ليس فعلا اختياريّا ، فلا يتّصف الفعل بملاحظتهما بحسن أو قبح ، وأمّا بعنوان كونه معلوم الحرمة ، وإن كان فعلا اختياريا ، إلّا أنّ هذا العنوان ليس بنفسه ممّا يدرك العقل بملاحظته عروض جهة محسّنة أو مقبحة في متعلّقه غير قبيحة ، الناشئ عن المفسدة الثابتة في المتعلّق من حيث هو ، فليس للعقل طريق إلى إحراز حكم آخر لنفس العلم من حيث هو ، غير حكم المتعلّق الذي رآه منجرا على المكلّف بواسطة العلم.

وبالجملة ، إنّ القول بكون الاعتقاد من جهات الفعل التي يصير بسببها الفعل حراما شرعيّا ، ممّا لا تأمّل في ضعفه.

ولكن يمكن تحرير النزاع بوجه آخر وهو : إنّ الانقياد والتجري بنظر العقل والعقلاء في حكم الإطاعة والمعصية ، في استحقاق فاعلهما المدح والثواب والذمّ والعقاب ، أم لا بل الاستحقاق إنّما هو من آثار الإطاعة والمعصية الحقيقيتين؟

وعلى هذا التحرير لا يبعد القول بالاستحقاق وإن لم يتصف الانقياد بكونه واجبا شرعيا ، ولا التجرّي بكونه حراما شرعيّا ، كنفس الاطاعة والمعصية على ما تقرّر في محلّه ، نظرا إلى أنّ ترتيب المدح والثواب على فعل الواجبات ، ليس لأجل صدور ذات الواجب وتحقّقه في الخارج من حيث هي ، بل لا مدخلية لذلك في الاستحقاق أصلا ، حيث لا يعود نفعها الكامن فيها إلّا إلى نفس الفاعل ، كما لو أمر الأب ابنه بشرب دواء نافع له ، فانّه لا يستحق بسبب الشرب من حيث هو اجرا على الأب ، وإنّما يستحق المدح والإكرام بسبب إطاعة أمره من حيث هي.

٤٠