حاشية فرائد الأصول

الشيخ آقا رضا الهمداني

حاشية فرائد الأصول

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: محمّد رضا الأنصاري القمّي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٨

هذا ، مع أنّ العبد لا يستحقّ من سيّده اجرة العمل ، لكونه مملوكا له ، وإنّما يستحق الإكرام بواسطة صدقه في مقام العبودية ، وادائه لما عليه من حقّ المولى ، وكذا الكلام في المعصية فانّ استحقاق المذمّة عليها ليس لحصول ضرر من فعله ، بل لكونها خروجا عمّا يستحقه المولى من الطّاعة ، وحيث أنّ المناط في استحقاق الثواب والعقاب نفس الإطاعة والمعصية من حيث هما ، مع قطع النظر عن متعلّقهما ، أمكن أن يقال إنّ الإتيان بما اعتقد وجوبه بعنوان الإطاعة كنفس الاطاعة ، من حيث كونها موجبة للمدح والإكرام ، وكذا الإقدام على ما اعتقد حرمته ، كالاقدام على نفس الحرام ، في كونه موجبا لاستحقاق الإهانة والخذلان.

وببيان أوفى : إنّ في معصية العبد لسيّده جهات من القبح ، لو استقل كلّ منهما بالملاحظة لأثّر فيما تعلّق به نهيا شرعيّا ، كإساءة الأدب ، والجرأة على سيّده ، وانتهاك حرمته ، وعدم الاعتناء به ، والمبالات بأمره ، ونحو ذلك ، ومن الواضح أنّه لو أظهر شيئا من هذه العناوين بفعل أو قول ، كأن قال مثلا «أنا لا أعتني بقولك» أو «لا ابالي بمخالفتك» أو «لست أنت بنظري بمكان أوثر طاعتك على هواي» ، لو أظهر هذه المعاني بسائر أفعاله ، لقد فرّط في حق مولاه ، وفعل قبيحا بحكم العقل وشهادة العقلاء ، وهذه الجهات بأسرها منتزعة من ذات المعصية ، وهي بذاتها غير قابلة لأن يتعلّق بها نهي شرعي ، وعند عدم مصادفتها للواقع لا يتخلّف عنها إلّا بعض هذه الجهات ، وهي مخالفة النهي من حيث هي دون سائر الجهات ، وحيث أنّ فعله لم يتحقّق إلّا بعنوان المعصية ، لا يتنجّز عليه بحكم العقل إلّا النهي عن المعصية الذي هو إرشادي عقلي مصحّح للعقاب على الفعل المأتي به بهذا العنوان بجميع جهاته المقبحة له ، الحاصلة بوقوعه بهذا العنوان ، ومن هنا لا يبعد أن يدّعى أنّ عدم المصادفة يؤثر في قلّة ما يستحقّه من المؤاخذة ، لا نفيه رأسا ، فليتأمّل.

٤١

قوله قدس‌سره : قولك إنّ التفاوت ... الخ (١).

أقول : نسبة هذا الكلام إلى المستدلّ ـ مع عدم وقوع هذا التعبير في كلامه ـ لكونه محصّل مرامه ، كما هو واضح ، وإنّما عبّر المصنّف قدس‌سره بذلك توطئة للجواب.

ومحصّل الجواب : منع عدم التفاوت وعدم منافاته لمذهب العدلية ، وسند المنع أنّ استحقاق العقاب يجب أن يكون مسبّبا عن فعل اختياري ، لاستقلال العقل بقبح العقاب على أمر غير اختياري ، ويكفي في كون الفعل اختياريا انتهائه إلى مقدّمة اختياريّة ، ضرورة أنّه لا يشترط في اختياريّة الفعل كون جميع مقدّماته اختياريّة ، وإلّا فلا يكاد يوجد فعل اختياري ، فمن شرب الخمر وصادف قطعه الواقع ، فقد عصى اختيارا ، وامّا كون عدم الاستحقاق مسبّبا عن أمر غير اختياري ، فقبحه غير معلوم.

أقول : بل معلوم العدم ، فانّه يكفي في عدم الاستحقاق ، عدم حصول علّة الاستحقاق بفقد شيء من شرائطه الغير الاختياريّة التي لها دخل في اقتضاء المعصية ، أو مانع عن ارتكابها مع حصول المقتضي ، كما لا يخفى.

قوله قدس‌سره : كما يشهد به الأخبار ... الخ (٢).

أقول : أي يشهد بمنع عدم التفاوت ، يعني يشهد بالتفاوت الأخبار الواردة.

قوله قدس‌سره : فإنّ مقتضى الروايات ... الخ (٣).

أقول : توضيح الاستشهاد أنّ الروايات تدلّ على التفاوت في استحقاق

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٥ ، سطر ١٨ ، ١ / ٤٠.

(٢) فرائد الأصول : ص ٥ ، سطر ٢٠ ، ١ / ٤٠.

(٣) فرائد الأصول : ص ٥ ، سطر ٢٢ ، ١ / ٤١.

٤٢

الثواب والعقاب بأمر غير اختياري ، وهو قلّة العامل وكثرته ، وليس غرضه إثبات كون زيادة العقاب لأمر غير اختياري ـ كما يوهمه العبارة في بادئ الرأي ـ حتّى يتوجّه عليه أنّ زيادة الاستحقاق كنفس الاستحقاق يجب أن تكون مسبّبة عن أمر اختياري ، وإنّما يستحق العقاب الزائد بواسطة الأفعال المتولّدة عن فعله الاختياري ، كاحتراق حزمة حطب بإلقاء نار فيها بقصد إحراقها ، فهو فعل توليدي للمكلّف مسبّب عن اختيار وإرادة ، فيحسن مؤاخذته بجميع ما يحترق بناره ، إذا كان ملتفتا إلى ما يتفرّع على عمله ، ولو على سبيل الإجمال ، فتأسيس سنّة حسنة أو سيّئة مقتض لاستحقاق الثواب والعقاب زائدا على ما يستحقّه بواسطة نفس العمل ، ووجود العامل من الشرائط الغير الاختيارية التي لها دخل في تماميّة السبب.

قوله قدس‌سره : فتأمّل (١).

أقول : ولعلّه إشارة إلى أنّا نرى ذلك ولو بعد تخلية الذهن ، أو بالنظر إلى حال الغير الذي لا مدخلية له بعملها أصلا ، بل نرى في أنفسنا أنّه لو ارتكب شخص معصية ، فعرضه الندامة عليها ، ثمّ انكشف له عدم كون ما ارتكبه حراما في الواقع ، لسرّه ذلك ورأى أمره أهون ممّا لو كان حراما في الواقع ، فليتدبّر.

قوله قدس‌سره : وقد يظهر من بعض المعاصرين ... الخ (٢).

أقول : هذا التفصيل ممّا لا بدّ منه ، بعد البناء على كونه حراما شرعيّا ـ كما يقتضيه تحريره لمحلّ النزاع ـ لقبح صدور الخطاب من الشارع بوجوب قتل النبيّ أو الوصيّ الذي اعتقد أنّه واجب القتل ، ضرورة عدم مكافأة هذا الحسن العارضي

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٦ ، سطر ٣ ، ١ / ٤١.

(٢) فرائد الأصول : ص ٦ ، سطر ٣ ، ١ / ٤١.

٤٣

الخيالي لمفسدته الذاتية ، حتّى يحسن الفعل فيتبعه الأمر الشرعي ، وكذا لو اعتقد أنّ الشيء الفلاني نافع له ويجب شربه ، مع كونه في الواقع سمّا قاتلا له ، لا يجوز من الشارع أمره بشربه.

نعم ، هو بنفسه معذور في ارتكاب ما اعتقد بحكم العقل ، وامّا صحّة الخطاب الشرعي فهي دائرة مدار مصلحة ذات الشيء ، ولو بعد طروّ العنوان ، فهذا العنوان مثل سائر العناوين الطارئة ـ كإطاعة الوالد ونحوها ـ إنّما يؤثر في الموارد الخالية عن المصلحة الملزمة لا غير ، إن قلنا بأنّ الجهة الطارئة الخيالية لا تكافئ المصلحة الذاتية الملزمة ، بحيث تغلب عليها ، حتّى يظهر أثر العنوان الطارئ.

وإن قلنا بصلاحيتها للغلبة على بعض الذاتيات أيضا ، فيتبع الحكم الشرعي موارد الغلبة ولا يتعداها ، وهذا ظاهر.

ولكنّك خبير بأنّ ما ذكره من التفصيل ، وفاقا للمفصّل المذكور ، لا يتوجّه به كلامه بظاهره ، حيث أنّه قدس‌سره جعل قبح نفس التجرّي بالوجوه والاعتبار ، وهذا غير معقول ، لأنّه من جهات الفعل التي بسببها يعرضه القبح ، فلا يعقل أن تكون نفس الجهة أيضا قبحها عرضيا تابعا للموارد ، لأنّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذّات ، فيتوجّه عليه حينئذ ما ذكره المصنّف قدس‌سره من الاعتراضات.

إلّا أنّ الإنصاف غلبة الظنّ بإرادته من التجرّي في كلامه الفعل المتجرّى به لا نفس التجرّي فيندفع عنه الاعتراضات المذكورة ، لكن المبنى فاسد كما عرفت.

هذا ، مع أنّ ما ذكرناه وجها للتفصيل لا يخلو في حدّ ذاته من نظر ، لأنّ الحكم الفعلي يتبع الجهة التي يتنجّز بالنسبة إليه الخطاب ، وكون الفعل متضمّنا لمفسدة قاهرة غير مانع عن ذلك ، عند كون المكلّف معذورا من جهتها ، كما يأتي التنبيه على ذلك عند التكلّم في صحّة صلاة الجاهل بالغصب وناسيه في حواشي أصل البراءة ، فليتأمّل.

٤٤

قوله قدس‌سره : وعليه يمكن ابتناء ... الخ (١).

أقول : يعني لا يبعد أن يكون المنع السابق ناشئا من تأثير الأمر الغير الاختياري ، الذي هو عبارة عن المصادفة وعدمها في استحقاق الثواب والعقاب إثباتا ورفعا ، كما هو المدّعى في المقام.

وفي قوله «يمكن» إشارة إلى أنّ مبنى المنع السابق ليس ذلك ، بل المبنى الحقيقي في المنع المذكور إنّما هو حاجة الاستحقاق إلى علّة اختيارية ، وهي كون الفعل المحرّم والواقعي مأتيا به عن عزم وإرادة ، وبانتفاء أحد هذه القيود ينتفي الاستحقاق من دون أن يكون العدم محتاجا إلى علّة ، وتسميته مسبّبا عن عدم هذه الأشياء مسامحة في التعبير ـ كما تقرّر في محلّه ـ من أنّ الوجود يحتاج إلى المؤثر دون العدم ، فأين هذا من تأثير الأمر الغير الاختياري في رفع الاستحقاق الذي يقتضيه الفعل ، كما هو المطلوب!

قوله قدس‌سره : مضافا إلى الفرق ... الخ (٢).

أقول : الفرق بين المقامين امّا أوّلا : فبأنّ مجرّد الاحتمال يكفي في المقام الأوّل لكونه مانعا عن الحرمة ، بخلاف الثاني فانّ المفصل يحتاج إلى إثبات التأثير حتّى يتمّ مطلبه.

وأمّا ثانيا : فبأنّ الدفع أهون من الرفع ، فلا امتناع في تأثيره في الدفع دون الرفع.

قوله قدس‌سره : بأنّ العقل مستقل ... إلخ (٣).

أقول : بيان للدفع وتقريبه إنّا وإن سلّمنا ـ مماشاة مع الخصم ـ كون التجرّي

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٧ سطر ٣ ، ١ / ٤٤.

(٢) فرائد الأصول : ص ٧ ، سطر ٣ ، ١ / ٤٤.

(٣) فرائد الأصول : ص ٧ سطر ٤ ، ١ / ٤٤.

٤٥

كالكذب ممّا يمكن أن يرتفع قبحه بعروض جهة محسّنة له ، مكافئة لما يقتضيه من القبح ، لكن نقول بأنّ العقل مستقلّ في المثال بقبحه ، ضرورة عدم صلاحيّة العنوان الحسن الذي لم يقصده الفاعل في رفع صفة القبح ، عن فعل اختياري قبيح كالكذب ، المصادف لمصلحة راجحة غير مقصودة للفاعل ، أو الضرب بقصد الإيذاء والإهانة الذي قارنه التأدّب.

قوله قدس‌سره : ولم يعلم معنى محصّل لهذا الكلام (١).

أقول : ولعلّ غرضه من التداخل ، اجتماع العنوانين في التأثير مع وحدة الأثر ، كما تقول «لو وقع في البئر شاة وخنزير دفعة يتداخل مقدارهما» ، فلا يتوجّه على هذا التفسير لزوم الترجيح من دون مرجّح ، أو الالتزام بزيادة العقاب ، ولكن يتوجّه عليه أنّ اجتماع السببين لا يمنعهما عن تأثير كلّ منهما مستقلّا ، والمحلّ قابل للتأثير ، فيجب حصول أثريهما كسائر العناوين المحرّمة المتصادقة على موضوع واحد ، هذا كلّه بناء على كون معلوم الحرمة ، بنفسه موضوعا للحرمة الشرعية في عرض الواقع ، فيكون الحرام المعلوم مصداقا لكلا العنوانين.

وامّا لو قلنا بأنّ معلوم الحرمة ليس موضوعا للحرمة الشرعية ، وإنّما هو نفس متعلّقه لا غير ، وإنّما يحسن عقاب المتجرّي لا لارتكابه محرّما شرعيا ، بل لأجل كون التجرّي بحكم المعصية ، فلا يعقل اجتماعه مع المعصية الحقيقية ، حتّى يستحق عقابين ، فهو إمّا متجرّ أو عاص ، فلا يعقل تعدّد العقاب حتّى يقال بالتداخل أو عدمه ، كما هو ظاهر.

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٧ سطر ٧ ، ١ / ٤٥.

٤٦

قوله قدس‌سره : فتأمّل (١).

أقول : لعلّه إشارة إلى منع دلالة الآية على حرمة الأكل ، لأجل اعتقاد طلوع الفجر ، من حيث نفس الاعتقاد ، بل لأجل أنّه رأى الفجر وعلم به دون الآخر الذي لم يعتقد بطلوع الفجر ، فانّه يجوز له الأكل في الواقع ، لأنّ الجواز دائر مدار عدم حصول التبيّن له.

* * *

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١١ سطر ٦ ، ١ / ٥٨.

٤٧

[في المقدمات العقليّة]

قوله قدس‌سره : فإن قلت لعلّ نظر هؤلاء ... الخ (١).

أقول : حاصل التوجيه أنّ المستفاد من الأخبار ، إنّما هو تقييد وجوب إطاعة الشارع بما إذا كان الحجّة واسطة في تبليغ أوامره ونواهيه لا مطلقا.

قوله قدس‌سره : وممّا يشير إلى ما ذكرنا ... الخ (٢).

أقول : ما استظهره المصنّف قدس‌سره من عبارته ، أعني إرادته مدخلية تبليغ الحجّة في وجوب الإتيان والترك ، هو الظاهر منها ، واحتمال إرادته بيان كون التبليغ مأخوذا في موضوع الأحكام الواقعيّة ، فيكون مقصوده أنّ وجوب الامتنان مقيّد بالبلوغ مع الواسطة ، لا لأجل التقييد في الإطاعة ، بل لأجل أنّ المأتي به والمتروك وجوبهما مقيّد بذلك في غاية البعد ، فانّ صدور كلامه وإن كان قد يتراءى منه ذلك بعد ارتكاب التأويل في بعض ألفاظه ، إلّا أنّه ينافيه ما ذكره في ذيل كلامه بقوله «لا

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٧ ، سطر ٧ ، ١ / ٤٥.

(٢) فرائد الأصول : ص ١١ سطر ١٧ ، ١ / ٥٩.

٤٨

أنّه يجب فعله أو تركه ، أو لا يجب مع حصولهما من أيّ طريق» ، لأنّ ظاهره أنّ الأحكام الواقعية لو وصلت إلينا بواسطة الحجّة ، يجب امتثالها ، ولو حصل العلم بها من طريق آخر لم يجب. كما يؤيّد إرادته لذلك ما نقله المصنّف قدس‌سره عنه في صدر البحث ، من منع حجّية حكم العقل في الشرعيات لكثرة الخطأ فيه ، لا لادّعائه كون نفس الأحكام مشروطة بوصولها بطريق سمعي.

وكيف كان ، فإن أراد المعنى الأوّل كما هو الظاهر ، يتوجّه عليه ما أورده المصنّف قدس‌سره في الكتاب ، وإن أراد المعنى الثاني ـ وإن كان بعيدا ـ يتوجّه عليه أنّ ما التزمه تقييد في إطلاقات الأدلّة من دون مقيّد صالح لذلك ، مع أنّه إن أمكن الالتزام به ففي غير المستقلّات ، وأمّا فيها كوجوب مقدّمة الواجب ، أو حرمة الضدّ ـ على القول بهما ـ أو وجوب ردّ الوديعة ، وحرمة الظلم ، وغيرهما من الأحكام العقليّة فلا ، لعدم قابليتها للتقييد ، حيث أنّ مناطها بيد العقل ، فلا يجدي الالتزام به في الفرار عن حجّية حكم العقل في المستقلّات.

هذا ، مع أنّ غير المستقلّات أيضا ربّما لا تصلح للتقييد ، لاباء دليلها عن ذلك ، وظهور أدلّتها السمعية في كون متعلّقاتها هي الأحكام الواقعية ، وكون الأدلّة طريقا لها لا من مقوّمات موضوعها ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : قلت أوّلا ... الخ (١).

أقول : حاصل الجواب أنّ وجوب إطاعة الله تعالى من المستقلّات العقلية الغير القابلة للتخصيص ، وفي كلامه إشارة إلى أنّ المناط في وجوب الإطاعة ، وحرمة المعصية ، إنّما هو إحراز كون الشيء محبوبا عند الله تعالى ، بحيث لا يرضى

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١١٧ سطر ٢٠ ، ١ / ٦٠.

٤٩

بتركه ، أو كونه مبغوضا على وجه لا يرضى بفعله ، فيندفع بذلك ما قد يتوهّم ، من أنّ غاية ما يمكن ادّعائه ، إنّما هو إدراك العقل كون ما رآه حسنا أو قبيحا ، محبوبا أو مبغوضا عند الله تعالى ، وامّا أنّه صدر منه تعالى أمر أو نهي مولوي يجب إطاعته فلا ، لأنّ وجوب الإطاعة من آثار الالتزام بالفعل أو الترك بخطاب مولوي ، لا مجرّد المحبوبية والمبغوضية ، فمن الجائز أن لا يتحقّق إنشاء الحكم الذي هو عبارة عن الالتزام بالفعل أو الترك ، إلّا ببيان الحجج الذين ورد فيهم أنّهم لسان الله الناطق.

توضيح الاندفاع : إنّ وجوب إطاعة العبد لمولاه ، من آثار إرادته النفسانيّة المستكشفة بإنشاء الحكم ، لا من آثار نفس الإنشاء من حيث هو ، مع أنّ من يدّعي استكشاف الحكم الشرعي بواسطة العقل ، بقاعدة الملازمة ، إنّما يدّعى استكشاف صدور أمر مولوي من الشارع بقاعدة اللّطف.

وامّا الكلام في أنّ أمر الله تعالى الذي يجب على العباد امتثاله ، هل هو إرادته للفعل ، أو أمر وراء ذلك؟ فهو أجنبيّ عن المقام ، خصوصا بعد أن ثبت بالنصّ والإجماع أنّ لله تعالى في كلّ واقعة حكما ، حتّى أرش الخدش (١) ، فيجب على العباد اتّباعه بعد إحرازه بأي طريق كان ، سواء قلنا بأنّ تبليغ الحجج كان شرطا في تحقيقه أم لم نقل ، ضرورة أنّ ثبوت الحكم لكلّ واقعة فرع حصول شرطه ، فيكشف النصّ والإجماع الدالّان عليه أن تبليغ الحجّة ـ على تقدير كونه شرطا ـ كان حاصلا ، ولو

__________________

(١) إشارة منه قدس‌سره لصحيحة أبي بصير المروية في باب ٤٨ من كتاب الديات ، الحديث الأوّل من كتاب (وسائل الشيعة) وإليك نصّها :

محمّد بن يعقوب ، عن عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد ، عن عبد الله الحجّال ، عن أحمد بن عمر الحلبي ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث : «قال : إنّ عندنا الجامعة ، قلت : وما الجامعة؟ قال : صحيفة فيها كلّ حلال وحرام ، وكلّ شيء يحتاج إليه النّاس حتّى الأرش في الخدش ...».

٥٠

في ضمن خطابات مجملة لم نتعقل تفصيلها ، أو خطابات غير واصلة إلينا.

هذا ، مع أنّ كثيرا من العقليات الغير المبنية على قاعدة التحسين أو التقبيح ، بل أكثرها أحكام عدميّة تترتّب عليها آثار شرعيّة ، ولا يعقل إنشاء الحكم فيها ، كمسألة الضدّ ، واجتماع الأمر والنهي والنهي في العبادات ، ونظائرها ممّا يعمّ الابتلاء بها في المسائل الفقهية ، التي هي في الحقيقة مطرح أنظار المثبتين والنافين ، دون العقليات المبتنية على التحسين والتقبيح العقليين ، التي لم نعثر على مورد لها لم يف بإثبات حكمها دليل سمعي.

نعم ، كثيرا ما نستدلّ في بعض الموارد بأنّ هذا قبيح فهو حرام ، أو أنّ تركه كذلك ، لكن هذا إذا كان ذلك الشيء مندرجا في موضوع كلّي كالظّلم الذي حكمه ضروري عقلا ونقلا ، وتشخيص موضوع ذلك الحكم الكلّي بالعقل ، ليس إلّا كتشخيصه بغيره من الامور الخارجية ، ليس بيانها من وظيفة الشارع ، فليتدبّر.

ولقد أعجب بعض الأفاضل ـ فيما حكي عنه ـ في تعليقاته على الكتاب ، معترضا على المصنّف قدس‌سره بأنّ مذهبهم ـ أي الاخباريّين ـ مبنيّ على كون العلم المأخوذ في وجوب الامتثال وتنجزه ، إنّما هو العلم الموضوعي الخاص الذي يتبع في تعيين سببه وغيره من جهاته تعيين المولى وجعله ، وهم يدّعون تعيينه بالسّماع من الإمام عليه‌السلام ، كما يساعد عليه الاخبار ، وهذا أمر معقول لا إشكال فيه ، وشدّة إنكاره قدس‌سره عليهم مبنيّ على كونه طريقا ، بمعنى أنّ المعتبر فيه هو العلم بالتكليف من أيّ سبب كان ، ونسب إليه الغفلة عنه والمغالطة في هذا الإنكار!

وفيه ما لا يخفى ، فانّ وجوب الامتثال حكم عقلي ، وتنجّز التكاليف عبارة عن عدم معذورية المكلّف في المخالفة ، فهذا معنى تنجّزه ، وإن اريد به معنى آخر فلا دليل على اعتباره في وجوب امتثال الواجبات الواقعية ، بل العقل قاض بخلافه ، فشدّة الإنكار عليهم إنّما هو لزعمهم أنّ العلم المأخوذ في موضوع وجوب الإطاعة ،

٥١

هو العلم الحاصل من سبب خاص ، وهو غير معقول ، حيث أنّ العلم المأخوذ في موضوع حكم العقل بوجوب الامتثال ، هو العلم الطريقي المحض ، ولا يعقل أن يتصرّف الشارع في موضوع حكم العقل ، لأنّ مرجعه إلى التناقض بنظر القاطع ، كما عرفته في صدر المبحث ، وإنّما الممكن أن يأخذ الشارع العلم مطلقا ، أو على وجه خاص في موضوع حكمه الشرعي ، فكأنّ هذا الكلام نشأ عن الغفلة عن تشخيص الموضوع ، الذي يمكن أخذ العلم بعنوانه الظاهر قيدا فيه ، وعدم الالتفات إلى أن محطّ النظر في هذا الباب إنّما هو هدم هذا المبنى ، فجعل مدّعاه من وجوه الردّ على الدليل! ولم يصل إلى عين عبارته ، فيحتمل وقوع خلل في نقل مرامه ، ويكون غرضه إرجاع نزاع الاخباريّين إلى ادّعاء كون العلم الخاص في موضوع الحكم المنجّز الذي يجب امتثاله ـ أي الحكم الفعلي ـ لا في موضوع وجوب الامتثال ، الذي هو حكم عقلي ، فيكون محط نظره ما قرّره «صاحب الفصول» في تحرير محلّ النزاع ، حيث أنّه بعد أن ذكر اختلاف القائل بالتحسين والتقبيح في الملازمة بين حكمي العقل والشرع في مقامين.

قال : «المقام الثاني : إنّ عقولنا إذا أدركت الحكم الشرعي ، وجزمت به ، فهل يجوز لنا اتّباعها ، أو يثبت بذلك الحكم في حقّنا أو لا؟ وهذا النزاع إنّما يتصوّر إذا لم يقطع العقل بالحكم الفعليّ ، بل قطع بالحكم في الجملة ، بأن احتمل عنده اشتراط فعليّته باستفادته من طريق النقل ، وامّا لو قطع بالتكليف الفعليّ ، بأن أدركه مطلقا غير متوقّف على دلالة سمع عليه ، فالشكّ في ثبوته غير معقول ...» إلى أن قال :

«ولا يذهب عليك أنّ النزاع على التحرير الأخير ـ أي التحرير المزبور ـ يعمّ جميع ما يستقلّ بإدراكه العقل ، ممّا يبتني على قاعدة التحسين والتقبيح وممّا لا يبتني عليها» ، انتهى.

وفيه : إنّه كيف يعقل أن يدرك للظّلم أو الكفر ، أو تحصيل الأخلاق الذميمة

٥٢

التي هي محرّمات عقلية ، وكذا لحرمة الضدّ ، أو وجوب مقدّمة الواجب ، أو بطلان العبادة المنهيّ عنها ، ونظائرها أحكاما شرعية مجملة ، مردّدة بين مطلقها ومشروطها ، حتّى يتنازع في تنجّز التكليف بها وعدمه ، وعلى فرض تعقّله فلا نرى وجها لوجوب اتّباعه ، ما لم يحرز فعليته على المكلف.

وما يقال : من كفاية هذا المقدار من الإدراك العقلي في إثبات الفعليّة بقاعدة المقتضى.

ففيه : إنّه لو سلّم هذه القاعدة ، فهو فيما لو احرز المقتضي وشكّ في المانع ، لا فيما لو شكّ في كون تأثيره مشروطا بشرط كما هو واضح.

هذا ، مع أنّ النزاع على هذا التقدير ليس في وجوب متابعة القطع ، إذ المفروض أنّ القطع لم يتعلّق بحكم شرعيّ محقّق ، بل النزاع في أنّ إحراز بعض الجهات المقتضية للحكم ، يكفي في الحكم بثبوته أم لا؟ فالحقّ حينئذ مع المنكرين بلا شبهة.

هذا ، مع أنّك ستسمع في عبارة المصنّف عن «صاحب الفصول» إمكان ردع المولى عبده عن العمل بقطعه ، فاذا جاز ذلك ، فلم لا يجوز أن يكون نزاع الإخباري في عدم جواز اتّباع قطعه العقلي ، المتعلّق بالحكم الفعلي ، حتّى يتكلّف في صرف النزاع الى إرادة الحكم الشأني بالمعنى المتقدّم ، مع أنّ كلماتهم ناطقة بذلك ، وعمدة مستندهم في ذلك ظواهر الأخبار الناهية عن اتّباع العقول في الأحكام الشرعية ، فليتدبّر.

* * *

٥٣

[في حجّية قطع القطاع]

قوله قدس‌سره : لكن ظاهر كلام من ذكره ... إلخ (١).

أقول : منشأ الظهور شهادة السّياق باتّحاد مورد الحكمين ، وإرادة شيء واحد من لفظ «عدم الاعتناء» في كلا الموردين ، ومن المعلوم أنّ الموارد التي يحكم بعدم اعتبار شكّ كثير الشّك فيها ، كالوضوء والصلاة مثلا ، إنّما يراد بعدم الاعتناء بالشّك ، عدم ترتيب آثار الشّك ، وتنزيل نفسه منزلة المتيقّن بوجود المتعلّق في ترتيب أحكام المتعلّق ، إذا كان وجوده نافعا في صحّة العبادة ، أو بعدمه إذا كان الوجود مخلّا بها ، كما لو شكّ في زيادة ركن في الصلاة ، فانّه يبنى على عدمها ، بمعنى أنّه يترتّب على فعله آثار صحّته الواقعية ، وعدم زيادة الركن ، ولا معنى لعدم اعتبار القطع في هذه الموارد ، ضرورة أنّه لا يعقل أن يكلّف القاطع بأنّه لم يركع بالبناء على أنّه ركع ، أو القاطع بأنّه زاد في صلاته ، أو في الركوع بالبناء على عدمه ، إلّا أن يراد به بعض التوجيهات التي سيشير إليها المصنّف قدس‌سره. والظاهر أنّ مراده عدم

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٣ سطر ١٩ ، ١ / ٦٦.

٥٤

الاعتناء بقطعه الحاصل من أسباب غير متعارفة لا مطلقا ، وإلّا ففساده في غاية الوضوح.

قوله قدس‌سره : وفساده يظهر ممّا سبق ... الخ (١).

أقول : حاصل ما ظهر ممّا سبق ، امتناع منع المولى عن العمل بعلمه ، بعد فرض إناطة أحكامه بالواقع ، من حيث هو وعلم العبد بذلك ، كما هو المفروض ، حيث أنّ علمه على هذا التقدير بمنزلة المرآة آلة لملاحظة حال المتعلّق ، وليست واسطة في إثبات حكمه أو رفعه ، فمتى رأى بعلمه أنّ المتعلّق حكمه كذا ، لا يعقل أن يأمره المولى بعدم العمل بعلمه ، بعد اعترافه بإطلاق الحكم ، وكونه محمولا على الواقع من حيث هو ، فانّ العبد يرى المناقضة بين أمره بذلك ، وإطلاق حكمه الواقعي.

نعم ، له أن يأخذ السبب الخاص في موضوع حكمه ، بحيث لا يكون للواقع من حيث هو حكم ، فحينئذ يصحّ منعه عن العمل بعلمه ، بمعنى اظهاره له ، أنّه لا حكم له في غير المعلومات بعلمه الخاص ، وأنّ أوامره الواقعيّة التي أدركها العبد بعقله ـ لا من هذا السبب الخاصّ ـ أوامر صورية لا حقيقة لها ، كما أنّه يعقل أن يظهر للعبد هذا المعنى ، مع كون أحكامه في الواقع محمولة على ذوات موضوعاتها من حيث هي ، إذا علم بخطإ علوم العبد غالبا ، وكونه جهلا مركّبا في كثير من الموارد ، فيجوز حينئذ أن يظهر خلاف الواقع للعبد ، بأن يقول له (إنّ أوامري مقيّدة بهذا القيد ، فلا تعمل في غير موارد القيد) كما هو واضح.

* * *

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٤ ، سطر ١٥ ، ١ / ٦٧.

٥٥

[في العلم الإجمالي]

قوله قدس‌سره : والمتكفّل للتكلّم في المرتبة الثانية ... الخ (١).

أقول : وجهه أنّ المقصود بالبحث في المقام ، إنّما هو في أنّ العلم الإجمالي ، هل هو كالعلم التفصيلي موجب لتنجّز التكليف بالواقع المجمل أم لا؟

وأمّا أنّ هذا ـ أي تنجّز التكليف بالواقع على سبيل الإجمال ـ هل يقتضي الإتيان بجميع محتملات الواجب ، والاجتناب عن جميع محتملات الحرام ، من باب المقدّمة العلمية ودفع الضرر المحتمل ، أم لا يقتضي إلّا حرمة المخالفة القطعية؟ فهو أجنبيّ عمّا نحن فيه ، وإن كان له نوع تعلّق بكيفيّة اعتبار العلم ، ولذا جعل المصنف قدس‌سره حرمة المخالفة القطعية ، ووجوب الموافقة القطعية مرتبتين لاعتبار العلم ، بلحاظ أنّ الكلام في وجوب الموافقة القطعية وعدمه ، قد ينشأ من أن اعتباره هل هو على وجه لا يصلح أن يكون الجهل التفصيلي عذرا في مخالفة ما علم بالإجمال أصلا ، أو أنّه ليس بهذه المثابة ، بل هو عذر في الجملة؟ ولكن المقصود بالبحث في المقام ، التكلّم في أصل اعتباره إجمالا ، لا في كيفيّته ومقدار ما يقتضيه التأثير.

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٤ سطر ٢٢ ، ١ / ٧٠.

٥٦

قوله قدس‌سره : وامّا فيما لا يحتاج سقوط التكليف فيه إلى قصد الإطاعة ، ففي غاية الوضوح (١).

أقول : وليعلم أوّلا : إنّ وجوب إطاعة الشارع عقليّ ، ولا يعقل أن يكون شرعيا ، للزوم التسلسل ، فالعقل مستقل بوجوب الائتمار بما أمره الشارع ، والانتهاء عمّا نهى عنه ، بأن يكون أمره باعثا على الفعل ، ونهيه داعيا إلى الترك ، فيجب على العبد عقلا أن يأتي بما أمر به الشارع بداعي أمره ، ويترك ما نهاه عنه امتثالا لنهيه ، من غير فرق في ذلك بين أن يكون ما تعلّق به الأمر أو النهي توصّليا أو تعبّديا ، إلّا أنّه لمّا لم يتعلّق الغرض من الأمر التوصّلي إلّا بصرف حصول المتعلّق ، ومن النهي التوصّلي إلّا عدم اختياره الفعل عند الابتلاء ، فمتى حصل الفعل المأمور به في الخارج بأي نحو كان ، سواء كان بفعل غير المكلّف ، أو بفعل المكلّف بلا داع وشعور ، أو بداع آخر وراء امتثال التكليف ، فقد حصل الغرض ، وسقط الأمر ، فانتفى موضوع وجوب الامتثال ، كما لو أنّه ما لم يتحقّق دواعي ارتكاب المحرم ، ولم يتهيأ أسبابه ، لا يتنجّز في حقّه النهي ، كي يجب عليه امتثاله ، فهذا هو الفارق بين التوصّلي والتعبّدي ، لا أنّه لا تجب الإطاعة في التوصّليات ، كما قد يتوهّم.

وقد ظهر ممّا ذكر أنّ الإطاعة التي استقلّ العقل بوجوبها ، عبارة عن إتيان المأمور به بداعي الأمر ، وإن شئت قلت إنّها عبارة عن الإتيان بما تعلّقت به إرادة الشارع ، على حسب ما تعلّقت به إرادته ، لما سنشير إليه ، من أنّ العبرة بالخروج عمّا تعلّق به الغرض من الأمر ، لا بنفس الأمر من حيث هو.

وكيف كان ، فحيث لم يتعلّق غرض الشارع في الواجبات التوصليّة ، التي لا تتوقّف صحّتها على القصد ، إلّا بإيجاد ذات المأمور به من حيث هو ، فلا مجال

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٤ سطر ٢٥ ، ١ / ٧١.

٥٧

للارتياب في حصول إطاعة أوامرها ، بإيجاد متعلّقاتها في ضمن محتملاتها بقصد الامتثال ، من غير أن يتوقّف ذلك على معرفتها بالتفصيل ، بعد أن لم يتعلّق غرض الأمر بذلك ، كما هو المفروض.

قوله قدس‌سره : وامّا فيما يحتاج إلى قصد الإطاعة ... الخ (١).

أقول : قد عرفت فيما تقدّم أنّ الإطاعة التي يستقلّ بوجوبها العقل ، ليست إلّا عبارة عن باعثيّته للأمر على الفعل المأمور به ، بأن يؤتى به بداعي الأمر ، فعلى هذا لا مجال للارتياب في حصول الإطاعة وسقوط الأمر في هذا القسم أيضا ، إن لم يتعلّق غرض الأمر إلّا بصرف حصول المتعلّق بعنوان الإطاعة من حيث هي ، من غير اعتبار قيد زائد فيها ، بأن كان مقصوده الإطاعة بكيفية خاصّة ، بأن كان مثلا عارفا بوجهه ، جازما حال الفعل بكونه بعينه هو المأمور به ، أو نحو ذلك ، وإلّا فلا يتحقّق اطاعته ، إلّا إذا أتى به على نحو تعلّق به غرض الآمر ، فلا يكفي حينئذ مجرّد إيجاد المأمور به بداعي الأمر في تحقّق الإطاعة ، كما هو واضح ، فالجزم بحصول الإطاعة الموجبة لسقوط التكليف في هذا القسم من الواجب الذي نسمّيه بالواجب التعبّدي ، موقوف على إحراز أنّ الشارع لم يعتبر كيفية خاصة في الإطاعة ، التي اعتبرها شرطا في صحّة المأمور به ، عدا ما كان يصدق عليه اسم الإطاعة ، على تقدير كونه توصّليا ، أي صرف عنوان الإطاعة من حيث هي ، ولذا لم يدّع المصنّف قدس‌سره البداهة في هذا القسم ، كما ادّعى في القسم الأوّل ، بل عبّر بقوله «فالظاهر أيضا تحقّق الإطاعة ... الخ».

وكيف كان ، فالأظهر حصول إطاعة الأوامر التعبّدية أيضا ، بصرف حصول

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٤ سطر ٢٥ ، ١ / ٧١.

٥٨

متعلّقاتها بداعي الأمر مطلقا ، بل يكفي في صحّة العبادات ، وسقوط التكليف بها ، مجرّد حصولها لله تعالى ، لا لسائر الأغراض النفسانية ، وإن لم يكن بداعي أمره ، كي يصدق عليها اسم الإطاعة ، بل لسائر الغايات الموجبة للقرب إليه تعالى ، كتحصيل مرضاته والإتيان بمحبوبه ونحو ذلك ، إذ لا دليل على اعتبار أمر زائد على ذلك في ماهيّة العبادات ، ومقتضى الأصل عدمه وبراءة الذمّة عنه ؛ وشرح ذلك يتوقّف على بسط المقال في تحقيق ما يقتضيه الأصل ، عند دوران الواجب بين كونه تعبّديا أو توصّليا ، ثمّ التكلّم في أنّه بعد أن ثبت كونه تعبّديا بواسطة أصل أو دليل ، فلو شكّ في اعتبار شيء زائد عن عنوان الإطاعة التي استقلّ بوجوبها العقل ، كالجزم في النية ، أو معرفة الوجه ، فهل يجب الاحتياط أو يرجع إلى البراءة؟

فأقول مستعينا بالله : أمّا الكلام في المقام الأوّل ، فهو أنّهم اختلفوا في أنّ الأصل في الواجب كونه تعبّديا أو توصّليا على قولين ، أقواهما الأخير ، احتجّ للقول الأوّل بامور :

الأوّل : إنّ المتبادر من أمر المولى عبده بشيء ، إيجاب إيجاده ، لأجل أنّه أمره ، فحصول الإجزاء بمجرّد تحقّقه في الخارج لا بداعي الأمر خلاف ظاهر الأمر.

وفيه : إنّ دعوى استفادته من مدلول الخطاب فاسدة جدّا ، إذ المادّة في الطلبات موضوعة لمعانيها الواقعيّة ، والطلب إنّما تعلّق بإيجادها بعناوينها المخصوصة بها ، الواقعة في حيّز الطلب ، أمّا كونه بعنوان الإطاعة والامتثال فهو تقييد آخر في الواجب ، لا يستفاد من المادّة ولا من الهيئة ، فكيف تصح استناده إلى ظاهر الدليل ، بل لا يعقل استفادته من ذلك الخطاب ، لأنّ مرتبة الإطاعة متأخّرة عن الطّلب ، فلا يمكن أخذها قيدا في متعلّق الطلب ، كما لا يخفى.

وقد ظهر بذلك ما في عكس هذا التوهّم ، من الاستدلال بإطلاق الكلام لنفي اعتبار قصد الإطاعة ، وإثبات كون الأصل في الواجب كونه توصّليا.

٥٩

توضيح ما فيه : إنّ التمسّك بإطلاق الكلام فرع صلاحيته للتقييد ، حتّى يكون ترك القيد دليلا على إرادة عدمه ، وقد عرفت امتناع التقييد فلا يصحّ التمسّك بالإطلاق.

الثاني : حكم العقل بوجوب إطاعة الواجبات ، التي قد عرفت أنّها عبارة عن إتيان المأمور به بداعي الأمر.

وفيه : إنّ حكم العقل بوجوب الإطاعة فرع بقاء الوجوب ، وعدم سقوط الأمر بحصول ذات الواجب في الخارج ، وهذا مبنيّ على كون الإطاعة من حيث هي مقصودة للآمر في أوامره ، وكونها بهذه الصفة ممّا لا يدركه العقل ، وإنّما يحكم بوجوبها للتوصّل إلى اسقاط التكليف بإيجاد المكلّف به ، على نحو تعلّق به غرض الآمر ، ولذا لو علم بحصول غرضه في الخارج ولو من غير هذا الشخص ـ كما في التوصّليات ـ لا يحكم بوجوب الإطاعة ، لا لكونه تخصيصا في الحكم العقلي ، أعني وجوب الإطاعة بغير التوصّليات ، بل لكون حكم العقل بالوجوب مقدّميا ، فيرتفع عند حصول ذي المقدّمة ، والمفروض عدم دلالة الخطاب على وجوب ما عدا المادّة ، وعدم نهوض دليل آخر على اعتبار عنوان الإطاعة في قوام ماهيّة الواجب الواقعي ، الذي تعلّق غرض الآمر بتحقّقه في الخارج ، فالأصل عدم وجوبه واعتباره في ماهيّة الواجب ، ولا نعني بالأصل أصالة الإطلاق حتّى يتوجّه علينا فساده في حدّ ذاته أوّلا ـ كما عرفت ـ وفرض إهمال الدليل ثانيا ، بل المقصود اصالة براءة الذمة عن وجوب إتيان الواجب بهذا العنوان ، كغيره من الشرائط والاجزاء التي يشكّ في اعتبارها في الواجب ، لأنّ المناط في جريان أصل البراءة هو الشكّ في إيجاب الشارع أمرا بكون بيانه وظيفة له ، سواء كان الواجب نفسيّا أو غيريّا ، على ما تقرّر في محلّه ، وهذا المناط محقّق فيما نحن فيه ، لأنّ تعلّق غرض الآمر في أوامره بامتثال الأوامر على نحو تكون الإطاعة والامتثال فيها مقصودة بالذات ، لا لأجل

٦٠