حاشية فرائد الأصول

الشيخ آقا رضا الهمداني

حاشية فرائد الأصول

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: محمّد رضا الأنصاري القمّي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٨

من قبله ، غاية الأمر إنّا بنينا في ردّ من زعم اختصاص النتيجة بالظنّ في المسألة الاصولية ، أنّ الظّن باداء الواقع لا ينفكّ عن الظّن ببراءة الذمّة ، وخروج المكلّف عن عهدة التكاليف الواقعية ، كما أنّ القطع بادائها لا ينفكّ عن القطع بتفريغ الذمّة.

وليس التكليف بسلوك الطرق الظنّية تكليفا آخر في عرض الواقعيّات ، حتّى يعتبر الظّن بسلوك ما هو المنصوب شرعا.

وكيف كان فنقول في هذا المقام : إنّه إذا نهى الشارع عن العمل بالقياس ، وحصل الظّن من القياس بحكم فرعيّ توصّلي ، فلو عملنا بالقياس فلا محالة نظنّ ببراءة ذمّتنا عن التكليف الواقعي ، ولكنّا نقطع بعدم رضا الشارع بعملنا ، وعدم كوننا معذورين على تقدير التخلّف ، وهذا بخلاف ما لو تركنا العمل بالقياس اعتمادا على نهي الشارع ، فانّا نقطع بكوننا عاملين بما هو تكليفنا في مرحلة الظاهر ، وأنّه لا يترتّب على مخالفة الواقع المظنون مفسدته ، ومن المعلوم أنّ العقل في مثل المقام لا يلاحظ الواقع أصلا ، وإنّما يلزم المكلّف بترك العمل بالقياس لما فيه من القطع بالسّلامة ، هذا إذا كان النهي قطعيّا.

وامّا إذا كان ظنّيا ، فيظنّ بإدراك الواقع بسلوكه ، ولكنّه يظنّ بأنّ الشارع لا يرضى بهذا العمل ، ويظنّ بأنّ رضا الشارع في عدم الاعتناء ، وأنّ مفسدة فوته عند عدم الاعتناء متداركة ، ومن المعلوم أنّ المناط لدى العقل في باب الإطاعة إنّما هو الإتيان بما فيه رضا الشارع في مقام العمل ، من دون التفاته إلى المصلحة والمفسدة أصلا ، فإذا ظنّ بأنّ تكليفه الفعلي هو ترك الاعتناء بامارة في حال الانسداد ، لا يلتفت العقل إلى كون الحكم الواقعي مظنونا ، لأنّ تنجّزه في حقّه موهوم ، والمدار عليه لا على الواقعيّات من حيث هي ، ولذا لم يرخّصنا العقل في الاعتناء بما نعلم كونه منهيّا عنه ، ولو سمح في ذهنك بعض الإشكالات فمنشؤه إنّما هو الإشكال في توجيه أصل النهي عن الامارة في حال الانسداد ، وقد فرغنا عن هذا الإشكال

١٤١

ووجّهناه بالنسبة إلى القياس ، وحيث تعلقها بأصل المطلب ، فكما أنّ النهي إذا صار قطعيّا يوجب القطع بالحكم الظاهري الفعلي ، وعدم ملحوظية الواقع ، كذلك الظّن به يوجب الظّن بذلك ، والمدار في باب الإطاعة والمعصية على التكليف الفعلي ، فلاحظ وتدبّر.

قوله قدس‌سره : وفيه أوّلا إنّه لا يتمّ ... الخ (١).

أقول : التفكيك بين امارة متّحدة بالجنس بعيد ، إذا كان اعتبارها بالتعبّد الشرعي ، وامّا إذا كان الحاكم بحجّيتها العقل ، فقد تقدّم غير مرّة أنّه لا مدخلية للأسباب المفيدة للظّن من حيث هي في ذلك ، فلو قلنا بأنّ العقل لا يحكم إلّا بحجّية الظّن المانع دون الممنوع ، لا يتفاوت في حكمه بين كونهما من جنس امارة واحدة ، بل لا مانع من التفكيك في مفاد فرد من أفراد الشّهرة إذا لم يقتض الدليل العقلي إلّا حجّيتها في بعض مفادها ، كما لا يخفى.

قوله قدس‌سره : معارضة بانّا لا نجد من أنفسنا القطع ... الخ (٢).

أقول : ما ذكره قدس‌سره من عدم القطع بعد حصول الامتثال ، منشؤه أنّ دليل الانسداد يقتضي كفاية الامتثال الظنّي ، فحيثما حصل من الشّهرة الظّن بعدم اعتبار الأولوية ، يظنّ بأنّ الأفعال الصادرة منّا ، الناشئة من عدم الاعتناء بالأولوية مرضية لدى الشارع ، ولكنّا نحتمل أن يكون رضاء الشارع في العمل بمؤدّى الأولوية ، فلو عملنا بالأولوية لا يحصل لنا القطع بأنّ الشارع لا يرضى بفعلنا ، إذ ليس عدم اعتبارها قطعيّا بل نظنّ بذلك ، وحيث أنّ مفاد دليل الانسداد وجوب

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٦٢ سطر ٢٤ ، ١ / ٥٣٤.

(٢) فرائد الأصول : ص ١٦٣ سطر ٧ ، ١ / ٥٣٥.

١٤٢

العمل بما يظنّ بأنّ فيه رضا الشارع دون العمل بما يظنّ بأنّ رضا الشارع في طرحه يتعيّن الأخذ بالأوّل وطرح الثاني فيكون دليل الانسداد موجبا للقطع بمعذورية المكلّف في عدم الاعتناء باحتمال كون علمه مخالفا لما هو تكليفه في مرحلة الظاهر عند كون الاحتمال موهوما كما في الفرض لا القطع بعدم حصول الامتثال عند العمل بالاحتمال الموهوم ، فليتدبّر.

قوله قدس‌سره : ثمّ إنّ الدليل العقلي ... الخ (١).

أقول : بمنزلة التفريع على ما تقدّم ، فكأنّه بعد أن ادّعى عدم القطع باندراج شيء منهما بالخصوص في موضع حكم العقل ، أراد أن يبيّن ما هو المعيار في تشخيص المصاديق التي يستقل بحكمها العقل.

وحاصله : أنّ العقل لا يحكم بشيء إلّا بعد تشخيص موضوعه ، فلا يعقل تردّده في حكمه ، فالتردّد في حكم المصداق دليل على خروجه عن الموضوع الذي يستقل العقل بحكمه.

قوله قدس‌سره : إلّا أن يقال إنّ القطع بحجّية المانع ... الخ (٢).

أقول : لما يفرّق بين ما نحن فيه وبين مسألة الاستصحاب ، أراد أن يصحّح التشبيه بدعوى أنّ دخول الظّن المانع عين خروج الممنوع ، فإذا لاحظنا الظّن المانع ، فليس الظّن الممنوع فردا آخر بالنسبة إلى العامّ ، وامّا إذا لاحظنا الظّن الممنوع ، فالظنّ المانع فرد آخر يلزم خروجه عن موضوع الحكم ـ بسبب دخول الممنوع ـ ومن القاعدة المقرّرة أنّ كلّ فرد يستلزم دخوله خروج فرد آخر ، فهو بنفسه ليس

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٦٣ سطر ٩ ، ١ / ٥٣٥.

(٢) فرائد الأصول : ص ١٦٣ سطر ١٥ ، ١ / ٥٣٥.

١٤٣

بفرد للعام ، فهذا المعنى بالنسبة إلى الظّن الممنوع محقّق دون المانع ، فمن هنا ينقدح الخدشة فيما ذكره ثانيا ، من أنّ الظّن المانع إنّما يكون على فرض اعتباره دليلا على عدم اعتبار الممنوع ، حيث أنّ فرض اعتباره بنفسه عبارة اخرى عن فرض عدم اعتبار الممنوع ، لا أنّه دليل عليه ، فقوله «إلّا أن يقال» استثناء عمّا ذكر ، ومقتضاه اندفاع المناقشة الثانية.

ولكنّك خبير بأنّ مادّة الإشكال لا تنحسم بذلك بعد ، إذ ادّعى عدم القطع بشمول حكم العام للظنّ المانع ، لما عرفت من أنّ الترديد والتشكيك في موضع حكم العقل غير معقول ، ولذا قال «فالأولى أن يقال ... الخ».

أقول : يرد على هذا القول أوّلا :

المعارضة بمثل ما ذكره في الإيراد على القول بحجّية الظّن المانع ، من أنّه إذا حصل من الأولوية ظنّ بوجوب شيء ، وكان مقتضى الأصل حرمة ذلك الشيء ، فلو عملنا بالأولويّة ، لا يحصل لنا القطع بالخروج عن عهدة ما هو تكليفنا ـ بعد فرض حصول الظّن من الشهرة بعدم اعتبارها ـ وإن كان الظّن الحاصل من الشهرة أضعف من ظنّ الوجوب الحاصل من الأولويّة وإنّما فرضنا المثال من قبيل دوران الأمر بين المحذورين ، حتّى تمتاز الحجّة عن غير الحجّة ، إذ لو لم يكن الأمر دائرا بين المحذورين ، بل كان أحدهما موافقا للاحتياط ، لكان العمل به موجبا للقطع بفراغ الذمّة ، سواء كان هو الظّن المانع أو الممنوع ، لا من حيث كونه عملا بالظنّ ، بل لموافقته للاحتياط.

وثانيا : إنّ ما ذكره قدس‌سره لو تمّ ، فانّما هو على تقدير انحصار الوجه في توجيه خروج القياس باشتماله على المفسدة ، وقد عرفت منه المناقشة في هذا الوجه ، وأنّ العمدة في توجيه خروج القياس هو الوجه السابع ، فلا يستلزم الظّن بالمنع الظّن بالمفسدة ، حتّى يتفرّع عليه ما ذكره.

١٤٤

قوله قدس‌سره : فيدور الأمر بين المصلحة المظنونة والمفسدة المظنونة (١).

أقول : ولكن الفرق بينهما أنّ المصلحة المظنونة يظنّ تداركها ، وعدم ترتّب مفسدة على المكلّف في فوتها. وأمّا المفسدة المرتّبة على سلوك الطّريق الذي يظنّ منع الشارع عنه ، فلا يظنّ تداركها. ومن المعلوم أنّه عند الدوران مراعاة الثاني أولى بنظر العقل ، لأنّ احتمال ترتّب المفسدة على فوت الواقع موهوم ، وعلى سلوك الطريق مظنون كما هو ظاهر.

قوله قدس‌سره : فيلاحظ مرتبة هذا الظّن (٢).

أقول : بعد تسليم المقدّمات ، ودوران الأمر بين المصلحة المظنونة والمفسدة المظنونة ، التحرّز عن المفسدة أولى من جلب المصلحة ، إلّا أن تكون المصلحة ملزمة ، فيكون في فوتها مفسدة ، فحينئذ لا بدّ من مراعاة نفس المفسدتين أيضا ، لا مجرّد كون الظّن المتعلّق بإحداهما أقوى ، إذ ربّما تكون مفسدة إحداهما أشدّ ، بحيث يلزم العقل بالتحرّز عنه عند الدوران ، وإن كان احتماله أضعف من الآخر.

هذا كلّه بعد الإغماض عن أنّ الملحوظ في حكم العقل بالنسبة إلى الأحكام الشرعيّة أوّلا وبالذات إنّما هو الطّاعة والمعصية ، لا المصالح والمفاسد التي هي من خواصّ الأفعال.

وقد عرفت أنّه إذا كان مناط حكم العقل لزوم تحصيل ما فيه رضا الشارع ، فلا محالة يقدّم الظّن المانع ، حيث أنّه يظنّ فيه برضا الشارع ، وأنّه هو تكليفه الفعلي ، وإن ظنّ بكونه موجبا لفوات المصلحة الواقعية ، والله العالم.

* * *

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٦٣ سطر ٢١ ، ١ / ٥٣٦.

(٢) فرائد الأصول : ص ١٦٣ سطر ٢٢ ، ١ / ٥٣٦.

١٤٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصّلاة والسّلام على خير خلقه محمد وآله

الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

[في أصل البراءة]

قوله قدس‌سره : ألا ترى إنّه لا معارضة ولا تنافي بين كون حكم شرب التتن ...

الخ (١).

أقول : عدم التنافي والتعارض بين إباحة الشيء في حال الجهل ظاهرا ، وحرمته أو وجوبه في الواقع مسلّم ، إلّا أنّ كون وجهه أخذ الشّك في موضوع الحكم الظاهري غير مسلّم ، إذ لا يرتفع التنافي والتعارض بين الدليلين بمجرّد اعتبار قيد في موضوع أحد المتعارضين ، من دون تقييد موضوع الآخر بعدم هذا القيد ، ضرورة تحقّق التنافي بين قولك «أكرم جميع العلماء» و «لا تكرم العالم الفاسق» ما لم يتقيّد

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٩١ سطر ٦ ، ٢ / ١١.

١٤٦

موضوع وجوب الإكرام بما عدا الفاسق.

وحيث أنّ المفروض عدم اختصاص الأحكام الواقعية بالعالمين بها ، فلا محالة تجتمع الحرمة الواقعيّة ـ على تقدير ثبوتها لشرب التتن في الواقع ـ مع الإباحة الظاهرية في حقّ من جهل حكمه ، فلا بدّ في دفع التنافي من الالتزام بعدم التضادّ بين الحكمين ، إذا كان أحدهما منجزا والآخر غير منجّز ، لا بكون موضوع أحدهما مقيّدا بالجهل ، إذ لا أثر لذلك في رفع التنافي ، بعد تسليم إطلاق الموضوع في ذلك الآخر.

نعم ، تقييد موضوع أحدهما إنّما يؤثّر في خروج ما عدا مورد وجود القيد عمّا يتوهّم فيه المعارضة ، كما أنّه يؤثّر في كون إطلاق تخصيص الأصل بالدليل ونظائره مسامحة في التعبير ، وإنّما الإشكال في المقام إنّما هو في تصوّر الإباحة الظاهرية والحرمة الواقعية في موضوع واحد ، إذ كيف يعقل اجتماع طلب ترك الشيء طلبا حتميّا ، مع الرخصة في ارتكابه في مقام العمل؟

وكيف يجوز للشارع الحكيم أن يرخّصنا في ارتكاب ما فيه المفسدة؟

وكيف يمكن أن يوجب ارتكاب ما يبغضه ذاتا لو كان مؤدّى الاستصحاب وجوبه؟ بل كيف لم يوجب علينا الاحتياط في موارد الجهل ، مع أنّ في ترك إيجابه التفويت لما تعلّق به غرضه؟

وينحلّ الإشكال بالالتزام بأحد امور على سبيل منع الخلوّ :

أحدها : أن نلتزم بأنّ الأحكام الظاهرية من قبيل الأعذار العقليّة ، والشارع إنّما أمضاها لمصلحة ، ولم يوجب الاحتياط ومراعاة الواقع لما في إيجاب الاحتياط من المفسدة.

وهذا الجواب مع أنّه خلاف التحقيق ، لا يتمشّى إلّا في بعض الموارد ، كموارد أصل البراءة والتخيير ، دون الموارد التي أمرنا فيه بالأخذ بالحالة السابقة ، كما لا يخفى.

١٤٧

الثاني : أن يكون الأحكام الظاهرية في حدّ ذاتها مشتملة على مصلحة غالبة على مفسدة فوت الواقع أحيانا ، كما لو كان تصديق العادل ، أو الأخذ بالحالة السابقة ، أو الترخيص في المشكوكات ، والتوسعة على المكلّف في حدّ ذاته راجحا ، لكن لا في كلّ مورد مورد بحيث يكون الحرام الذي أخبر العادل بوجوبه ، مصلحة فعله بلحاظ جهة المعارضة له ، أقوى من تركه ، حتّى يلزمه التصويب ، بل بلحاظ كون نفس تصديق العادل ، على سبيل الإطلاق ، مصلحته أقوى من مفسدة مخالفة الواقع ، في صورة التخلّف ، ففي خصوص مورد المخالفة ليست مصلحته قابلة لمزاحمة مفسدته الذاتية ، لكن لو لوحظ هذا العنوان من حيث هو ، فهو شيء فيه خير كثير وشرّ قليل بلحاظ موارد التخلّف ، فيجوز الأمر به.

الثالث : أن لا يكون فيها في حدّ ذاتها مصلحة ، ولكن في ترك جعلها مرجعا وطريقا للمكلّف ، وإلزامه بإحراز الأحكام الواقعية بالاحتياط ، أو غيره من الطرق العلمية ، مفسدة غالبة على مفسدة مخالفة الواقع ، ككونه حرجا أو موجبا لحرمان المكلّف عن بعض الفيوضات التي لا يمكن إحرازها مع تحصيل العلم بالأحكام الواقعية ، والاحتياط في موارد الشبهة.

الرابع : أن لا يكون فيها في حدّ ذاتها مصلحة ، ولا في ترك جعلها طريقا مفسدة ، ولكن إصابتها للواقع أكثر من خطائها ، فحينئذ يجوز الأمر بسلوكها ، لكون خيرها أكثر من شرّها ، ولكن عند انسداد باب العلم وتعذّر الاحتياط.

ولتمام الكلام فيما يتوجّه على هذه الوجوه من النقض والإبرام مقام آخر ، وقد تقدّم بعض الكلام في ذلك في أوائل مبحث حجّية الظّن ، فراجع.

واعلم أنّ المناقشة في عبارة المصنّف بما ذكر هي التي سنحت بخاطري سابقا ، ولكن يتوجّه عليه أنّ تقييد موضوع أحد المتعارضين بحال الشّك ، ليس كتقييده بسائر القيود في عدم الجدوى به في رفع المعارضة ، ما لم يتقيّد موضع الآخر بما عدا

١٤٨

مورد القيد ، فإنّ التقيّد بالشكّ ، كما يجعل موضوع ما تقيّد به أخصّ من موضوع الآخر ، كذلك يدلّ على أنّ حكمه حكم ظاهري متأخّر عن الحكم المجعول لذلك الشيء من حيث هو في الرتبة ، والتنافي إنّما يندفع بمجموع هذين الأمرين ، حيث أنّه لدى تنجّز الحكم الواقعي ـ أي العلم به ـ لا موقع للأصل ، وبدونه لا منافاة بين الحكمين ، لاختلافهما في الرتبة ، فقوله قدس‌سره : «ألا ترى ... الخ» كأنّه إيكال إلى البديهة فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : لمناسبة مذكورة في تعريف الفقه والاجتهاد (١).

أقول : الأولى أن يعبّر هكذا «لمناسبتهما لما ذكر في تعريف الفقه والاجتهاد» ، لأنّ نفس المناسبة من حيث هي غير مذكورة في تعريفهما ، بل ما ذكره في تعريفهما يناسب هذين القيدين كما لا يخفى.

قوله قدس‌سره : بناء على كونه حكما ظاهريّا ... الخ (٢).

أقول : وكذلك لو قلنا بأنّه قاعدة عقلائيّة ، ثبت التعبّد به من باب بناء العقلاء ، لا لأجل إفادته الظّن ، كما سيتّضح لك في مبحث الاستصحاب تحقيقه.

قوله قدس‌سره : وفي دلالتها تأمّل ظاهر (٣).

أقول : فإنّ المقصود بها ـ على ما يظهر منها ـ أنّ غلبة المسلمين على الكفّار مع قلّة المسلمين وضعفهم لم تكن إلّا من الله تعالى ، على خلاف ما يقتضيه الأسباب

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٩١ سطر ٢ ، ٢ / ١٠.

(٢) فرائد الأصول : ص ١٩٢ سطر ٦ ، ٢ / ١٣.

(٣) فرائد الأصول : ص ١٩٢ سطر ١٣ ، ٢ / ٢٥.

١٤٩

العادية ، ليظهر الحقّ بهذه المعجزة ، ويهلك من هلك عن بيّنة ، ويحيي من حيّ عن بيّنة ، فهي أجنبية عن المقام ، كيف ولو جاز الاستدلال بها للمقام ، لجاز الاستدلال بفقرتها الثانية ، لعدم جواز الارتكاب إلّا عن بيّنة وعلم ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : ولكنّ الإنصاف أنّ غاية الأمر ... الخ (١).

أقول : بل الإنصاف عدم قصور الآية عن إثبات المدّعى ، لورود الآية تعريضا على من لم يعترف بنبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله ووحيه صلى‌الله‌عليه‌وآله أي اليهود ، حيث حرّموا على أنفسهم بعض ما رزقهم الله ، ومن المعلوم أنّ كون ما حرّموه معلوم الإباحة لدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا يجدي في مقام المحاجّة وإسكات اليهود ، وإنّما أورد عليهم بأنّ هذا الذي حرّمتموه على أنفسكم ممّا لا يعلم حرمته ، فالتزامكم بحرمته افتراء على الله ، والتعبير عن هذا المعنى بما عبّر مع أنّ اليهود يجحدون كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله ممّن يوحى إليه ، لعلّه للتنبيه على أنّ هذا هو طريقه الذي يعرف به الأحكام الإلهية ، وعدم تسليم الخصم له غير ضائر في الاحتجاج كما لا يخفى.

ويشهد لما ذكر الآيات المتقدّمة على هذه الآية ، كما انّه يتمّ بها بنفسها الاستدلال للمطلوب ، وهي قوله تعالى : (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* قُلْ لا أَجِدُ ...) الخ (٢) فانّ

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٩٤ سطر ٢٠ ، ٢ / ٢٦.

(٢) سورة الأنعام : آية ١٤٢ لغاية ١٤٥.

١٥٠

هذه الآيات كادت تكون صريحة في توبيخهم بتحريمهم على أنفسهم ما لم يعلموا حرمته.

ولا ريب أنّ حال اليهود في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان أسوأ من حالنا في هذه الأزمنة من حيث اندراس دينهم ، وانطماس كثير من أحكامهم ، فالاعتراض على الاستدلال بما سيذكره المصنّف قدس‌سره غير وجيه.

ثمّ لا يخفى عليك انّ قوله تعالى : (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) إلى آخر الآيات ، تدلّ على إباحة أكل ما لم يعلم حرمته ، وعدم وجوب التوقّف والاحتياط ، فلو دلّ دليل على وجوب التوقّف والاحتياط ، لكان معارضا لهذا الظاهر ، لا واردا عليه ، والله العالم.

قوله قدس‌سره : أمكن أن يقال أثر حرمة شرب التتن مثلا ... الخ (١).

أقول : فعلى هذا لا بدّ من تقدير هذا الأثر على وجه يناسب إرادة العموم من كلمة «ما» للشبهة الموضوعية والحكمية ، بأن يقال مثلا رفع عن امّتي سببية الشيء الذي لا يعلمونه للمؤاخذة.

قوله قدس‌سره : لكنّ الظاهر بناء على تقدير المؤاخذة (٢).

أقول : يعني بناء على أن يكون المؤاخذة هي الأثر الظّاهر ل «ما لا يعلمون» كاخواته ، فالظاهر كونها مقدّرة في الجميع على نسق واحد ، فيكون هي بنفسها متعلّقة للرفع ومنسوبة إلى نفس المذكورات ، فيختصّ بالشبهة الموضوعية.

ومحصّل مرامه كما فصّله بقوله «والحاصل ... الخ» :

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٩٥ سطر ١٨ ، ٢ / ٢٨.

(٢) فرائد الأصول : ص ١٩٥ سطر ١٨ ، ٢ / ٢٩.

١٥١

إنّه لمّا تعذّر حمل رفع هذه الأشياء على حقيقته ، وجب حمله على إرادة الرفع الحكمي ، فالمراد بها إمّا تنزيل متعلّقاتها منزلة العدم رأسا ، أي بالنظر إلى جميع آثارها ، وهذا أقرب إلى معناه الحقيقي ، أو بلحاظ ما يقتضيها من المؤاخذة عليها ، أو في كلّ منها بالنسبة إلى الأثر الظاهر فيه؟

وحيث أنّ المؤاخذة هي الأثر الظاهر الذي ينسبوه إلى الذهن إرادته في «ما لا يعلمون» أيضا كاخواته ، فيكون الفرق بين المعنيين الأخيرين في كيفيّة التقدير ، فتارة تقدّر على نسق واحد في الجميع فيقال «رفع عن امّتي المؤاخذة على هذه التسعة» ، وتارة تقدّر في كلّ منها بحسب ما يناسبه ، فيجعل متعلّق الرفع في «ما استكرهوا عليه ، وفيما اضطرّوا إليه» نفس المؤاخذة ، وفي «ما لا يعلمون» سببيته للمؤاخذة.

وهذا وإن كان أنسب بالنظر إلى كلّ منها من حيث هو ، ولكن المتبادر عرفا كون الرفع منسوبا إلى مجموع التسعة على نسق واحد.

هذا غاية ما أمكننا في تحصيل مرامه ، ويمكن أن يناقش فيه بوجوه :

امّا أوّلا : فبأنّ إرادة الموضوع من الرواية ـ بعد تسليمها ـ لا ينافي الاستدلال ، لأنّ معنى الرواية على هذا التقدير رفع عن امّتي الحرام الذي لا يعلمونه ، أي لا يعلمون كونه حراما ، وهذا أعمّ من أن يكون جهلهم بوصفه العنواني مسبّبا عن الجهل بذاته أو صفته.

والحاصل : إنّ المدار في اندراج الفعل في موضوع الرواية ، على الجهل بكونه حراما ـ سواء كان منشؤه الجهل بالحكم الشرعي ، أو اشتباه ـ الامور الخارجيّة دون سائر العناوين المتصادقة على الفعل ، فلو علم بحرمة فعل خاصّ ، لم يندرج في موضوع الرواية ، وإن جهل جميع عناوينه ، ولو عكس الأمر انعكس.

وثانيا : إنّه يمكن تقدير المؤاخذة في الجميع على النحو الذي يناسب عموم كلمة «ما» في «ما لا يعلمون» بأن نقول مثلا رفع عن هذه الأشياء سببيّتها للمؤاخذة.

١٥٢

وثالثا : إنّ المؤاخذة إنّما تترتّب على المخالفة ، فمعنى «رفع عن امّتي المؤاخذة على ما اضطرّوا إليه ... الخ». انّه رفع المؤاخذة على المخالفة الحاصلة عن اضطرار ، فمتعلّق الرفع في الجميع هو فعل المكلّف بعنوان وقوعه مخالفة للشارع ، فكأنّه قال في «ما لا يعلمون» رفع عن امّتي المؤاخذة على المخالفة الحاصلة عن عدم العلم ، وهو صادق على شرب التتن المجهول ، حكمه وعلى شرب الخمر الذي لا يعلم أنّه خمر.

ولكن يرد على هذا الوجه : إنّ الذي ينسبق إلى الذهن من الرواية وأشباهها ، أنّ المؤاخذة إنّما تتعلّق بالفعل بلحاظ المخالفة ، فالمخالفة آلة لتعقّل تعلّق المؤاخذة بالفعل ، لا أنّها معقولة بنفسها موضوعا للمؤاخذة ، فليتأمّل.

هذا كلّه على تقدير تسليم أنّ المتبادر من الرواية رفع خصوص المؤاخذة وهو محلّ تأمّل ، بل الظاهر أنّ المراد بها رفع مطلق الآثار ، لكن المراد بمطلق الآثار ـ بقرينة إطلاق الرفع ، وورود الرواية في مقام الامتنان ـ هي الآثار التي لو لا رفعها لوقع المكلّف من قبلها في كلفة ، دون الآثار التي لا يترتّب على وضعها كلفة وخسارة عليه ، فضلا عمّا لو كان ثبوتها أرفق بحال المكلّف ، كما لو اكره على اداء واجب ، أو أدّاه خطأ أو نسيانا ، فانّ الرواية لا تدلّ على فساده ، ولو على القول برفع جميع الآثار.

هذا ، ولكن لا يبعد دعوى انصراف مثل قوله «رفع عن امّتي ما لا يعلمون» إلى الجاهل الغافل أو المعتقد للخلاف. ولكن إثباتها بحيث يخلّ في التمسّك بالإطلاق مشكل ، خصوصا مع أنّ التعميم أنسب بالاختصاص بهذه الامّة ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : إذ لا يعقل رفع الآثار الشرعية المترتّبة على الخطأ ... الخ (١).

أقول : هذا إنّما هو في الآثار الثابتة لهذه العناوين من حيث هي على الإطلاق

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٩٦ سطر ٢٢ ، ٢ / ٣٢.

١٥٣

لرجوعه إلى التناقض ، وامّا الآثار الثابتة لها في الشريعة السابقة ، فيمكن رفعها عن هذه الامّة ، كما هو مفاد ظاهر الرواية.

فالأولى أن يقال في إثبات المدّعى : إنّ المراد برفع السهو مثلا أحد معان ثلاث :

الأوّل : أن يكون نفس السّهو من حيث هو ملغى في الشريعة ، بأن يكون وجوده كعدمه ، فيكون الفعل الصادر سهوا بمنزلة ما لو وقع لا عن سهو ، كما لو قال المولى لعبده «لا خطأ عندي» قاصدا بذلك أنّي لا أقبل الاعتذار بالخطإ في مخالفة أوامري ، فمعنى رفع السهو رفع قبول الاعتذار به ، وهذا المعنى غير مراد بالرواية بالضرورة ، ضرورة كونه منافيا للامتثال وضدّا للمقصود.

الثاني : أن يكون المراد به رفع الآثار الشرعية الثابتة لنفس السهو ، من حيث هو ، فمعنى رفع عن امّتي السهو ، أنّ السهو نزّل في هذه الشريعة منزلة العدم ، بلحاظ ما يقتضيه من الآثار الشرعية ، فمعناه أنّ الآثار الثابتة للفعل المعنون بهذا العنوان في الشرائع السابقة مرفوعة عن هذه الامّة ، فيكون على هذا التقدير ثبوت سجدتي السهو وكفّارة القتل الخطائي مثلا تخصيصا للرواية ، فعلى هذا يكون نفس السهو متعلّقا للرفع ، كما في الفرض السابق ، ولكن بلحاظ آثاره الشرعية.

والثالث : أن يراد برفع السهو ، رفع ما وقع سهوا ، أي رفع آثاره ، فمعناه أنّ الفعل الصادر سهوا لا يترتّب عليه آثاره الثابتة له من حيث هو ، وهذا المعنى هو المراد بالرواية كما يشهد به فهم الأصحاب ، مضافا إلى الرواية المتقدّمة عن «المحاسن» وغيرها. ولا يمكن الجمع بين إرادة هذا المعنى والمعنى الثاني لعدم الجامع بينهما ، فتأمّل.

١٥٤

قوله قدس‌سره : وامّا نفس المؤاخذة ، فليست من الآثار المجعولة الشرعية (١).

أقول : المراد بالأثر الشرعي ، مطلق الامور الراجعة إلى الشارع وضعا ورفعا ، القابلة لأن يتعلّق بها الرفع ، لا خصوص الأحكام التكليفية أو الوضعية.

ومن الواضح أنّ المؤاخذة من الآثار التي مرجعها إلى الشارع ، ويمكن أن يتعلّق بها الرفع. وكيف لا ، وقد تقدّم آنفا أنّها أظهر الآثار التي ادّعى المصنّف قدس‌سره ظهور الرواية في إرادتها بالخصوص.

لا يقال : سلّمنا أنّ المؤاخذة من الآثار القابلة للرفع ، ولكنّها متفرّعة على الاستحقاق الذي هو أثر عقلي ، فلا مانع عن تقدير المؤاخذة في الرواية ، وجعلها بنفسها متعلّقة للرفع ، وانّما الممتنع من حيث الدلالة اللفظية تعلّق الرفع بنفس الفعل ، وإرادة رفع ما هو أثر للازمه ، كما في الفرض.

لأنّا نقول : المؤاخذة إنّما هي على الفعل الموجب للاستحقاق ، لا على الاستحقاق ، فهي من آثار نفس الملزوم من حيث كونه موجبا للاستحقاق ، لا من آثار لازمه الذي هو الاستحقاق ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : فإذا فرضنا أنّه لا يقبح في العقل أن يوجّه التكليف بشرب الخمر على وجه يشمل صورة الشّك فيه ... الخ (٢).

أقول : يعني بتوجيه التكليف تنجيزه على المكلّف ، على وجه يوقعه في كلفة الاجتناب ، وإلّا فالخطابات الشرعيّة المثبتة للتكاليف الواقعية غير قاصرة عن الشمول لغير العالمين.

ولكن لا يخفى عليك ما في العبارة من المسامحة ، فانّ تنجيز التكليف إنّما هو من

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٩٧ سطر ٧ ، ٢ / ٣٣.

(٢) فرائد الأصول : ص ١٩٧ سطر ١٠ ، ٢ / ٣٣.

١٥٥

قبل العقل لا من الشارع. نعم للشارع أن يعمّم الموضوع الذي يراه العقل مورد التكليف ، منجز بإيجابه للاحتياط ، فيتنجّز حينئذ الواقعيّات المشكوكة التي لو لا إيجابه للاحتياط لكان العقل حاكما فيها بنفي التكليف ، تعويلا على قبح العقاب بلا بيان ، فنسبة التخصيص بالعالم إلى الشارع ، مع عموم الخطابات الشرعية الصادرة منه ، المتوجّه إلى المكلّفين الغير المقيّدة بالعلم والجهل لا يخلو عن مسامحة فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : فتأمّل (١).

أقول : لعلّه إشارة إلى ما سيذكره في تضعيف هذا الاستدلال في محلّه.

قوله قدس‌سره : وفيه أنّ الظّاهر ممّا حجب الله علمه ... الخ (٢).

أقول : إن اريد بما لم يبيّنه للعباد ما لم يبيّنه رأسا حتّى للنبي والوصي عليهم‌السلام ، فلا واقعية له كي يعقل أن يصير علمه محجوبا عن العباد إذ ما من حكم إلّا وبيّنه الله لنبيّه والنبيّ للوصي ، بل كيف يعقل أن يأمر الله عباده بشيء أو ينهاهم عن شيء ، ولم يبيّنه لهم أصلا؟ فالمراد ب «ما حجب الله علمه عن العباد» ليس إلّا الأحكام المبيّنة المعلومة لدى أهل العلم ، فاريد بالرواية بيان كونها موضوعة عمّن لم يقدر على معرفتها كما هو المطلوب ، فنسبة الحجب إلى الله تعالى كنسبة سائر الأشياء إليه نظير قوله عليه‌السلام : «ما غلب الله على عباده فهو أولى بالعذر» (٣) فتنظيرها على قوله عليه‌السلام : «إنّ الله سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا» (٤) في غير محلّه إذ لا تكليف في الواقع فيما سكت عنه. وهذا بخلاف المقام ، فانّ التكليف في الواقع محقّق ولكنّه حجب

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٩٧ سطر ٤٢ ، ٢ / ٣٥.

(٢) فرائد الأصول : ص ١٩٩ سطر ١٠ ، ٢ / ٤١.

(٣) بحار الأنوار : ج ٢ ، ص ٢٧٢.

(٤) وسائل الشيعة : ج ١٥ باب ٢٤ حديث ٢٠٤٥٢.

١٥٦

الله علمه عن العباد ، أي لم يوفّقهم لمعرفتها لا انّه لم يبيّنها أصلا فانّ هذا ينافي ثبوتها في الواقع فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : وفيه ما تقدّم في الآيات من أنّ الاخباريّين لا ينكرون ... الخ (١).

أقول : هذه الرواية أوضح دلالة على المدّعى من مرسلة الصدوق الآتية ، التي سيعترف المصنّف رحمه‌الله بدلالتها عليه ، لسلامتها عن المناقشة التي ستسمعها في تلك الرواية ، فانّ معنى قوله عليه‌السلام : «الناس في سعة ما لا يعلمون» بناء على كون كلمة «ما» موصولة ، أنّهم في سعة الشيء الذي لا يعلمونه ، فمن لم يعلم بحرمة شرب التتن مثلا فهو في سعة ، أي لا يجب عليه الاحتياط فيه ، وعلى تقدير كونها مصدرية ، فمعناها أنّهم في سعة مدّة جهلهم بشيء ، فما لم يعلموا بحرمة شرب التتن فهم في سعة منه.

ومحصّل المعنيين : إنّه لا يجب على الناس الاحتياط فيما لا يعلمون ، وهذا يناقض قول الأخباريين بوجوب الاحتياط فيما لا يعلمون.

لا يقال : بعد أن أمر الشارع بالتوقّف عند الشّبهة والاحتياط فيه ، يخرج شرب التتن المجهول الحكم عن موضوع هذه الرواية ، لصيرورة الحكم فيه معلوما.

لأنّا نقول : لنا قلب الدليل ، فنقول بعد أن حكم الشارع بأنّ الناس في سعة ما لا يعلمون ، يخرج شرب التتن عن كونه من مواقع الشبهة التي امرنا بالتوقّف فيها ، وحلّه أنّ الأمر بالتوقّف عند الشّبهة عبارة اخرى عن إيجاب الاحتياط فيما لا يعلمون ، وهذا يناقض قوله «الناس في سعة ما لا يعلمون» لأنّ الموضوع متّحد في القضيتين ، والحكمان متناقضان ، فلا بدّ فيهما من إعمال قاعدة الجمع أو الترجيح.

نعم لو كان المراد ب «ما لا يعلمون» ما لا يعلمون تكليفهم فيه في مقام العمل ، لاتّجه ما ذكره المصنّف من «أنّ الأخباريين لا ينكرون ... الخ» ، ولكنّه خلاف ظاهر

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٩٩ سطر ١٤ ، ٢ / ٤١.

١٥٧

الرواية ، فانّ المتبادر منها إرادة ما لا يعلمونه ، لا ما لا يعلمون تكليفهم بالنسبة إليه ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : ودلالته على المطلوب أوضح من الكلّ ... الخ (١).

أقول : ويمكن الخدشة في دلالته ، بأنّ مفاده ليس إلّا أنّ الأصل في الأشياء ـ قبل أن يرد فيها النهي ـ الإباحة لا الخطر ، وهذه مسألة اخرى أجنبية عمّا نحن فيه ، إذ المقصود في المقام إثبات الرخصة فيما شكّ في أنّه هل ورد فيه نهي واختفى علينا أم لا؟

ويمكن دفعها بأنّ المقصود بها بحسب الظاهر إرادة الحكم الفعلي ، عند عدم العلم بحرمة شيء ، فالمراد بعدم ورود النهي فيه ، عدم وصوله إلى المكلّف ، لا عدم وروده في الواقع ، وإلّا لكانت ثمرته علمية لا عمليّة ، وهو بعيد عن سوق الاخبار.

نعم ، لو كانت الرواية صادرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في صدر الشريعة قبل إكمالها ، لكان المتّجه حملها على إرادة المعنى المزبور ، حيث يترتّب عليها حينئذ ثمرة عملية ، وهذا بخلاف ما لو صدرت عن الأئمّة عليهم‌السلام بعد إكمال الشريعة وورود النهي في جميع المحرّمات الواقعية ، ووصوله إلى أهل العلم الذين لا يختفى عليهم شيء من النواهي الشرعيّة ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : إلّا أنّه إشكال يرد على الرواية على كلّ تقدير ... الخ (٢).

أقول : يعني سواء حملناها على الشّبهة الموضوعية أو الحكمية.

وتوضيح ما يرد على الرواية من الإشكال : إنّه إن اريد بالجهالة في قوله عليه‌السلام

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٩٩ سطر ٢٣ ، ٢ / ٤٣.

(٢) فرائد الأصول : ص ٢٠٠ سطر ١٣ ، ٢ / ٤٥.

١٥٨

«فقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك» الجاهل الغافل ، فلا يناسبه تخصيص التعليل بأنّه لا يقدر على الاحتياط الجاهل بالحرمة ، لأنّ الجاهل بالعدّة أيضا ـ بعد فرض كونه غافلا ـ لا يقدر على الاحتياط.

وإن اريد بها الجاهل المتردّد ، فلا يستقيم التعليل ، لأنّه لا يقدر على الاحتياط أيضا كالجاهل المتردّد في العدّة.

وإن اريد بها مطلق الجاهل الشامل لكلا القسمين ، فالمتردّد من كلّ منهما يقدر على الاحتياط ، والغافل منهما لا يقدر عليه ، فلم حكم بأهونية الجهل بالحرمة ، لأجل هذه العلّة الغير المطّردة ، المشتركة بين القسمين؟

ويندفع الإشكال : بأنّ المقصود بالجهالة ، هو مطلق الجهل الشامل للمتردّد والغافل ، فالمراد بالجاهل مقابل العالم ، غافلا كان أم متردّدا ، ولكنّ الجاهل بحرمة تزويج المرأة بعد وفاة زوجها ، ما دامت في العدّة ، لا يكاد يوجد له مصداق في الخارج ، إلّا على تقدير غفلته عن أصل شرعية العدّة وحكمها الذي هو حرمة التزويج ، وإلّا فحرمة تزويج المعتدّة من الضروريات التي لا تكاد تختفي على من التفت إليها ، أو إلى موضوعها ، أعني مشروعية العدّة في الجملة ، كي يبقى متردّدا في ذلك!

وهذا بخلاف الجاهل بأنّها في العدّة مع علمه بحرمة تزويج المعتدّة فانّه بعكس ذلك فانّ الشخص العالم بحرمة تزويج المعتدّة لا محالة عند إرادة تزويج امرأة يلتفت إلى ثيبوبتها وبكارتها وإلى كونها بلا مانع أو مع المانع فلا ينفك إرادة التزويج عادة عن الالتفات إلى كونها في العدّة فجهله بأنّها في العدّة غالبا يجامع التردّد دون الغفلة.

نعم قد يجامع اعتقاد الخلاف الذي هو بحكم الغافل لكن هذا أيضا فرض نادر والرواية منزلة على الغالب فتنزيل الجهل بالعدّة على المتردّد والجهل بالحرمة على الغافل ليس تفكيكا في الجهالة بل الجهل في كلا الموردين بمعنى عدم العلم ولكن الاختلاف نشأ من خصوصية الموردين فليتأمّل.

١٥٩

قوله قدس‌سره : وتقريب الاستدلال كما في شرح الوافية ... الخ (١).

أقول : ما ذكره في تقريب الاستدلال لا يخلو عن تشويش. وتوضيحه يحتاج إلى بيان محتملات الرواية.

فأقول : ما يحتمل أن يراد بالرواية أحد معان أربعة :

الأوّل : أن يراد من الشيء خصوص المشتبه ، ويراد من الضمائر الراجعة إليه ظاهرها من دون تصرّف فيها ، فتنطبق الرواية حينئذ على الشّبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ، محصورة أو غير محصورة.

وهذا المعنى في حدّ ذاته أوفق بظاهر الرواية ، فيتعيّن حملها على ما إذا لم يكن العلم الإجمالي منجزا للتكليف ، كالشبهة الغير المحصورة ، أو المحصورة التي بعض أطرافها خارج عن مورد ابتلاء المكلّف.

ولكن ربّما يعطى التدبّر فيها بلحاظ موردها ظهورها في المعنى الذي سيذكره المصنّف رحمه‌الله ، إذ الظاهر انّها رواية عبد الله بن سليمان.

قال : «سألت أبا جعفر عن الجبن؟

فقال : سألتني عن طعام يعجبني ، ثمّ أعطى الغلام درهما فقال يا غلام ابتع لنا جبنا.

ثمّ دعا بالغداء ، فتغدينا معه ، وأتى الجبن فأكل وأكلنا.

فلمّا فرغنا قلت : ما تقول في الجبن؟

قال : أو لم ترني آكله!

قلت : ولكن أحبّ أن أسمعه منك.

فقال : سأخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ ما كان فيه حلال وحرام فهو لك

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢٠٠ سطر ١٥ ، ٢ / ٤٥.

١٦٠